عقد المعتصِمُ للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال، ووجَّهه لحرب بابك الخرمي، فسار إليه، وكان ابتداءُ خروجِ بابك سنةَ إحدى ومائتين، ثمَّ إنَّ الأفشين سار إلى بلادِ بابك، فنزل برزند، وعسكَرَ بها وضبَطَ الطرق والحصونَ فيما بينه وبين أردبيل، وأنزل محمَّدَ بن يوسف بموضعٍ يقال له خش، فحفرَ خندقًا وأنزل الهيثمَ الغنوي برستاق أرشق، فأصلح حِصنَه، وحفَرَ خَندقَه، وأنزل علويه الأعور، من قوَّاد الأبناء، في حصنِ النَّهرِ ممَّا يلي أردبيل، فكانت القوافِلُ تخرج من أردبيل ومعها من يحميها، حتى تنزل بحصنِ النَّهر، ثم يُسَيِّرُها صاحبُ حِصنِ النَّهرِ إلى الهيثم الغنوي، فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحيةٍ في موضعٍ معروفٍ لا يتعَدَّاه أحَدُهم إذا وصل إليه، فإذا لَقِيَه أخذ ما معه، وسَلَّمَ إليه ما معه، ثم يسيرُ الهيثمُ بمن معه إلى أصحابِ أبي سعيد، فيلقونَه بمنتصف الطريق، ومعهم من خرجَ من العسكر، فيتسَلَّمون ما مع الهيثم ويُسلِّمونَ إليه ما معهم، وإذا سبق أحدُهم إلى المنتصف لا يتعدَّاه، ويسيرُ أبو سعيدٍ بمن معه إلى عسكر الأفشين، فيلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيتسَلَّمُهم منه، ويسَلِّمُ إليه مَن صَحِبَه من العسكر، فلم يزل الأمرُ على هذا. وكانوا إذا ظَفِروا بأحدٍ من الجواسيس حملوه إلى الأفشين، فكان يُحسِنُ إليهم، ويهَبُ لهم، ويسألُهم عن الذي يعطيهم بابك، فيُضَعِّفُه لهم، ويقول لهم: كونوا جواسيسَ لنا فكان ينتَفِعُ بهم.
بعد أن تمَّ القضاءُ على ثورةِ الزنج، بدأ بالظهورِ دَعوةٌ جديدة كان رائِدَها حمدانُ بن الأشعث المعروف بقَرمَط، جاء من خوزستان إلى الكوفةِ واستقَرَّ بمكانٍ يُسمَّى (النهرين)، وكان يُظهِرُ الزهدَ والتقشُّفَ ويسفُ الخُوصَ ويأكُلُ مِن كَسْبِ يَدِه، ويُكثِرُ الصلاة، فأقام على ذلك مدَّةً، فكان إذا قعد إليه رجلٌ ذاكَرَه في أمر الدينِ وزَهَّدَه في الدنيا وأعلَمَه أنَّ الصلاة المفروضةَ على الناسِ خمسونَ صلاةً في كلِّ يومٍ وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضِعِه، ثمَّ أعلَمَهم أنَّه يدعو إلى إمامٍ مِن آل بيتِ الرَّسولِ، فلم يزَلْ على ذلك حتى استجاب له جمعٌ كثيرٌ، وكان تأثَّرَ أصلًا بالحسين الأهوازي صاحب الإسماعيليِّين، واستلمَ الزَّعامة حمدانُ بعد موت الحسين، فابتنى دارًا لأتباعِه بالكوفة، وفرَضَ على أتباعه مبلغًا يدفعونَه ويَصرِفُه هو في الدَّعوة، كما جعل من أصحابِه اثني عشر نقيبًا، واشترى السلاحَ وأخافَ النَّاسَ فلَحِقَ به بعضُهم خوفًا، وكان القرامِطةُ دُعاةً للإسماعيليَّة في البداية، ثم انحرفوا عنهم بعد أن انحرَفَت الدعوة في السلميَّة- مقر الدَّعوة الإسماعيلية- ولم تعد لأولاد محمَّد بن إسماعيل بل لأولاد عبدالله بن ميمون القدَّاح- ابن مؤسِّس الدعوة- فبدأ بالدعوة بطريقٍ آخَرَ مخالِفًا عن الإسماعيليين؛ مما ولَّد الشقاق بينهم، وأصبحت كلُّ دعوةٍ مُستقلَّةً بنَفسِها، ومن المعروفِ أن هذه الدعوةَ فيها إسقاطٌ للفروضِ مِن الصلاةِ والصَّومِ والحَجِّ وغيرها من التعاليم.
هو أميرُ المؤمنينَ أبو محمَّد علي المكتفي باللهِ بنُ الخليفة المعتَضِد بن الأمير أبي أحمد الموفَّق بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد العباسي، وليس من الخلفاءِ مَن اسمُه عليٌّ سواه بعد عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وليس من الخُلَفاء مَن يُكنَّى بأبي محمَّد سوى الحسَنِ بن علي بن أبي طالب وهو، ولِدَ سنة 264، وكان يُضرَبُ المثَلُ بحُسنِه في زمانه. كان معتَدِلَ القامةِ، أسودَ الشَّعرِ، حسَنَ اللِّحيةِ، جميلَ الصورة. بويع بالخلافةِ عند موت والده في جمادى الأولى سنة 289، وفي أيَّامِه فُتِحَت أنطاكية وكان فيها من أُسارى المسلمين بشَرٌ كثيرٌ وجَمٌّ غفير، ولَمَّا حضرته الوفاةُ سأل عن أخيه أبي الفضلِ جعفرِ بنِ المعتضد، فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرةَ ليلةً خلت من ذي القعدة منها، وأحضَرَ القضاةَ وأشهدهم على نفسِه بأنَّه قد فوَّضَ أمرَ الخلافة إليه مِن بَعدِه، ولقبه بالمُقتَدِر بالله، ثم مات بعد عِدَّة أيام، وكانت خلافته سِتَّ سنين وستة أشهر وتسعة عشر يومًا. مات شابًّا في الثلاثين من عمُرِه، ثم تولى الخلافةَ المقتَدِرُ باللهِ أبو الفَضلِ جعفرُ بن المعتضد، فجُدِّدَت له البيعةُ بعد موت أخيه وقتَ السَّحَر لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من ذي القَعدةِ مِن هذه السنة، وعمُرُه إذ ذاك ثلاثَ عشرةَ سنةً وشهرٌ واحد وإحدى وعشرون يومًا، ولم يل الخلافةَ أحَدٌ قبله أصغَرُ منه.
هو الفقيهُ العابِدُ أبو محمَّدِ الحسَنُ بن علي بن خلف البربهاري، شيخُ الحنابلة في عصره، كان كبيرَ القَدرِ مُعَظَّمًا مُهابًا، له صِيتٌ عند السلطان وجلالةٌ، شديدًا على المبتدعة, عارفًا بالمذهب أصولًا وفروعًا. كان له فضلٌ كبير بالدعوة إلى الرجوعِ إلى منهج السلف في العقيدةِ، وإنكار البِدَع والخرافات، وله مواقِفُ شديدة على أهل البِدَع والفِرَق وخاصَّةً الشِّيعة، قال أبو الحُسَين بن الفراء: "كان للبربهاريِّ مُجالدات ومقامات في الدين كبيرة، وكان المخالِفونَ يغيظون قَلبَ السلطانِ عليه". وفي سنة 321 أرادوا حبسَه، فاستتَرَ وقُبِضَ على جماعة من كبار أصحابه، وحُملوا إلى البصرة، فعاقب اللهُ الوزيرَ ابنَ مقلة فسَخِطَ عليه الخليفةُ وأحرق دارَه، ثم سُمِلَت عينا الخليفةِ في جمادى الآخرة سنة 322. وأعاد اللهُ البربهاري إلى حِشمتِه وزادت، وكثُرَ أصحابه، ثم لم تَزَل المبتَدِعة يُوحشوا قلب الراضي بالله عليه, وثارت بسبَبِ البربهاري الحنابلةُ في بغداد أكثَرَ من مرة، واشتَدَّ أمرُهم حتى هدَّدَهم الخليفة ونودي في بغدادَ أنْ لا يجتَمِع من أصحابِ البربهاري نفسان. وأمر بملاحقةِ البربهاري الذي اختفى عند أخت توزون أميرِ الأمراءِ شهرًا، ثم مَرِضَ عندها وتوفي ودفَنَتْه في بيتها، وله من العُمُر ستٌّ وتسعون عامًا. قال ابن بطة: "إذا رأيتَ الرجُلَ البغداديَّ يحِبُّ أبا الحسن بنَ بشَّار، وأبا محمد البربهاري، فاعلم أنَّه صاحِبُ سُنَّة"
قيل في سَبَبِ خَلعِ الطائعِ وهو عبد الكريم أبو بكر عِدَّةُ أشياءَ؛ منها: أنَّه عجز عن دفع مصاريفِ الجُندِ، ومنها أنَّه بسَجنِه للشَّيخِ المفيدِ سَبَّبَ ذلك جفوةً بينه وبين بهاءِ الدَّولة، وقيل غيرُ ذلك، فكان خَلعُه حين جاء بهاءُ الدولة إلى دارِ الخلافة، وقد جلس الطائِعُ متقلِّدًا سيفًا، فلما قَرُب بهاءُ الدولة قبَّل الأرضَ، وتقَدَّمَ أصحابُه فجذبوا الطائِعَ بحَمائلِ سيفِه، وتكاثروا عليه ولَفُّوه في كساءٍ، وحُمِلَ في زبزب- نوع من السفن الشراعيَّة- في دجلة، وأُصعِدَ إلى دارِ الملك. وارتَجَّ البلَدُ، وظنَّ أكثَرُ النَّاسِ أنَّ القبضَ على بهاء الدولة، ونُهِبَت دار الخلافة، وماج النَّاسُ، إلى أن نودِيَ بخِلافةِ القادر. وكُتِبَ على الطائِعِ كِتابٌ بخَلعِ نَفسِه، وأنَّه سَلَّمَ الأمرَ إلى القادر بالله، فتشَغَّبَت الجندُ يَطلُبون رَسْمَ البيعة، وتردَّدَت الرسلُ بينهم وبين بهاء الدولة، ومَنَعوا الخطبةَ باسمِ القادرِ، ثمَّ أرضوهم وسَكَنوا، وأقيمَت الخطبةُ للقادر في الجمعة الآتية، والقادِرُ هذا ابنُ عَمِّ الطائِعِ المخلوع. وهو أبو العبَّاسِ أحمدُ بنُ الأمير إسحاق بن الخليفة جعفر المقتدر، ولَمَّا حُمِلَ الطائع إلى دارِ بهاء الدولة أشهَدَ عليه بالخَلعِ، وكان مُدَّة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وستة أيام، وحُمِلَ إلى القادر بالله لَمَّا وَلِيَ الخلافة، فبَقِيَ عنده إلى أن توفِّيَ سنة ثلاثٍ وتسعين وثلاثمائة، ليلةَ الفِطرِ، وصلَّى عليه القادِرُ بالله، وكبَّرَ عليه خمسًا.
هو مَلِكُ العِراقِ وفارس، سُلطانُ الدَّولة، أبو شُجاع، فناخِسرو بنُ بهاءِ الدَّولةِ خُرَّة فيروز بن عَضُد الدَّولة أبي شُجاع بن رُكنِ الدَّولة حسن بن بُوَيه الديلميُّ الشِّيعيُّ. وَلِيَ إمرةَ واسط لأبيه وبرَعَ في الأدبِ والأخبار والعربيَّة، وأكَبَّ على اللَّهوِ والخَلاعةِ. تملَّك بعد أبيه سنة 403، وهو صبيٌّ، فقُرئَ عَهدُ أبي شجاع من القادِرِ بالله، ولَقَّبه سُلطانَ الدَّولة, ثم أُحضِرَت الخِلَعُ وهي سبعٌ على العادة: عِمامةٌ سَوداءُ، وتاجٌ مُرصَّعٌ، وسَيفٌ، وسِواران، وطَوْق، وفَرَسان، ولِواءان عَقَدَهما القادِرُ بِيَدِه، وتلَفَّظَ بالحَلِفِ له بمَسمعٍ مِن الوزير أبي غالبٍ، وكبار الدَّولة, ووزَرَ لسُلطانِ الدَّولة فَخرُ الملك أبو غالب، واستخلَفَ ببغداد أخاه مُشرف الدَّولة أبا علي، وجعَلَ إليه إمارةَ الأتراك خاصَّةً، فحَسَّنوا له العِصيانَ، فاستولى مُشَرف الدَّولة على بغداد وواسط، وترَدَّد الأتراكُ إلى الديوان، فأمَرَ بقَطعِ الخُطبة لأخيه سُلطان الدَّولة، وأن يُخطَبَ له. ثمَّ تناقَضَت أمورٌ على سلطان الدَّولة، فكان يواصِلُ الشُّربَ حتى فسَدَ خُلُقُه، وطلب طبيبًا لفَصدِه، ففَصَده، ونَفذ قَضاءُ الله فيه، فمات بشيراز في شوال سنة 415 وله ثلاث وعشرون سنة، وكانت مُدَّة ملكه اثنتي عشرةَ سنة وأشهرًا, ولَمَّا مات، نَهَبَت الديلمُ ما قَدَروا عليه، وأشار عليهم الأوحَدُ بابنِه أبي كاليجار، فخُطِبَ له بخوزستان.
ثار الجُندُ الأتراكُ ببغداد على جَلالِ الدَّولة البُويهيِّ الشِّيعيِّ، وشَغَّبوا، وطالبوا الوزيرَ أبا علي بنَ ماكولا بما لهم من العلوفةِ والأدرار، ونَهَبوا دارَه ودُورَ كُتَّاب المَلِك وحواشيه، حتى المُغَنِّينَ والمُخَنَّثين، ونَهَبوا صياغاتٍ أخرَجَها جلالُ الدَّولة لتُضرَبَ دنانيرَ ودراهِمَ، وتُفَرَّق فيهم، وحَصَروا جلالَ الدَّولة في داره، ومَنَعوه الطَّعامَ والماءَ، حتى شَرِبَ أهلُه ماءَ البئر، وأكَلوا ثمرةَ البُستانِ، فسألهم أن يُمَكِّنوه من الانحدارِ، فاستأجروا له ولأهلِه وأثقالِه سُفُنًا، فجَعَل بين الدارِ والسُّفُن سُرادقًا لتجتازَ حَرَمُه فيه، لئلَّا يراهم العامَّةُ والأجنادُ، فقصَدَ بعضُ الأتراكِ السُّرادِقَ، فظَنَّ جلالُ الدَّولة أنَّهم يريدونَ الحَرَم، فصاح بهم يقولُ لهم: بلَغَ أمرُكم إلى الحَرَمِ! وتقَدَّم إليهم فصاح صِغارُ الغِلمانِ والعامَّة: جلالُ الدَّولة يا منصورُ، ونزل أحدُهم عن فَرَسِه وأركَبَه إيَّاه، وقَبَّلوا الأرضَ بين يَدَيه، فلمَّا رأى قُوَّادُ الأتراك ذلك هربوا إلى خيامِهم بالرَّملة، وخافوا على نُفوسِهم، وكان في الخِزانةِ سِلاحٌ كثيرٌ، فأعطاه جلالُ الدَّولة أصاغِرَ الغِلمانِ وجعَلَهم عنده، ثمَّ أرسل إلى الخليفةِ ليُصلِحَ الأمرَ مع أولئك القُوَّاد، فأرسَلَ إليهم الخليفةُ القادِرُ بالله، فأصلح بينهم وبين جلالِ الدَّولة، وحَلَفوا، فقَبَّلوا الأرضَ بينَ يَدَيه، ورَجَعوا إلى منازِلِهم، فلم يمضِ غيرُ أيَّامٍ حتى عادوا إلى الشَّغبِ، فباع جلالُ الدَّولةِ فُرُشَه وثيابَه وخِيَمَه وفَرَّقَ ثَمَنَه فيهم حتى سَكَنوا.
هو الفيلسوفُ أبو عليٍّ محمَّدُ بنُ الحَسَن بن الهيثم البصري أصلُه بصري، سكن الديارَ المصريَّةَ إلى أن مات. كان من أذكياءِ بني آدم، عديمَ النظيرِ في عَصرِه في العلمِ الرياضي. وكان متزهِّدًا زُهدَ الفلاسفة. لخَّص كثيرًا من كتُبِ جالينوس، وكثيرًا مِن كتب أرسطوطاليس. وكان رأسًا في أصول الطبِّ وكليَّاتِه. وكان قد وَزَر في أوَّل أمرِه، ثمَّ تزهَّد وأظهر الجنونَ، وكان مليحَ الخطِّ يَنسَخُ في بعضِ السَّنةِ ما يكفيه لعامِه من إقليدس والمجسطي. قال عنه الذهبي: "صاحِبُ المصنَّفات الكثيرةِ في علوم الأوائِلِ، وكان مقيمًا بالجامِعِ الأزهر, وهو على اعتقادِ الأوائِلِ لا رَحِمَهم الله, وقد صَرَّحَ بذلك نسألُ اللهَ العافيةَ" وله مُصَنَّفات كثيرة مُعظَمُها في الرياضيَّات والهندسة، وباقيها في الإلهيَّات، وعامتها مقالاتٌ صغار. قال ابن خلدون: " أشهَرُ مَن ألَّف في عِلمِ المناظرةِ مِن فروعِ الهندسة ابنُ الهيثم, وهو عِلمٌ يتبيَّنُ به أسبابُ الغلَطِ في الإدراك البصريِّ بمعرفةِ كيفيَّة وقوعِها بناءً على أنَّ إدراكَ البصر يكون بمخروط شعاعيٍّ رأسُه نقطةُ الباصِرِ وقاعدتُه المرئيُّ. ثمَّ يقع الغلَطُ كثيرًا في رؤية القريبِ كبيرًا والبعيدِ صغيرًا. وكذا رؤية الأشباح الصَّغيرة تحت الماء ووراء الأجسامِ الشَّفَّافةِ كبيرةً، ورؤيةُ النُّقطة النَّازلة من المطَرِ خطًّا مستقيمًا والسّلقة دائرة وأمثال ذلك. فيتبيَّنُ في هذا العلم أسبابُ ذلك وكيفيَّاته بالبراهينِ الهندسيَّة، ويتبيَّن به أيضًا اختلافُ المنظَرِ في القمَرِ باختلاف العَروضِ الذي يُبنى عليه معرفةُ رؤية الأهِلَّة وحصول الكُسوفات.".
لَمَّا توفِّي المَلِكُ جلال الدَّولة، راسل الجندُ، الملكَ أبا كاليجار مرزبان بنَ سلطان الدَّولة البويهي وخَطَبوا له. فلمَّا استَقَرَّت القواعِدُ بينه وبينهم أرسل أموالًا فُرِّقَت على الجُندِ ببغداد، وعلى أولادهم، وأرسل عشرةَ آلاف دينار للخليفةِ ومعها هدايا كثيرة، فخطبَ به ببغداد في صفر، وخَطَب له أيضًا أبو الشوك في بلادِه، ودبيس بن مزيد ببلادِه، ونصر الدَّولة بن مروان بديار بكرٍ، ولَقَّبَه الخليفةُ محيي الدِّينِ، وسار إلى بغدادَ في مِئَة فارسٍ مِن أصحابه لئلَّا تخافَه الأتراكُ، فلمَّا وصل إلى النُّعمانية لَقِيَه دبيس بن مزيد، ودخل إلى بغدادَ في شهرِ رمضان. ومعه وزيرُه ذو السَّعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس، ووعده الخليفةُ القائِمُ بأمر الله أن يستقبِلَه، فاستعفى من ذلك، وأخرج عميدَ الدَّولة أبا سعدِ بن عبد الرحيم وأخاه كمالَ الملك وزيرَي جلال الدَّولة من بغداد، فمضى أبو سعدٍ إلى تكريت، وزُيِّنَت بغداد لقدومه، وأمَرَ فخُلِعَ على أصحاب الجيوش، وهم: البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء، وجرى من ولاةِ العَرضِ تقديمٌ لبعض الجند وتأخير، فشَغَّب بعضهم، وقتلوا واحدًا من ولاة العرضِ بمرأًى من الملك أبي كاليجار، فنزل في سميرية- نوع من السفن- بكنكور، وانحدر خوفًا من انخراقِ الهَيبةِ.
كان الصليبيون هاجموا دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هُزموا، وأُسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا. بدعم من العُبيديين في أول الأمر لَمَّا وجدوا في الصليبيين حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومِهم، واتفقوا معهم على أن يحكموا شماليَّ بلاد الشام ويتركوا لهم حكم جنوبها، ولما دخل الصليبيون بيت المقدس أحسوا بشيء من النصر فتابعوا تقدُّمَهم واصطدموا بالعُبيديين، وبدأت الخلافات بينهما؛ فالعُبيديون قاتلوا الصليبيين دفاعًا عن مناطقهم في جنوب الشام وخوفًا على أنفسهم، ولم يقاتلوهم دفاعًا عن الإسلام وحمايةً لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العُبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام. لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالًا حارًّا ورحبوا بهم ترحيبًا كبيرًا، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس،كما قد دعموهم في أثناء وجودهم في البلاد وقدموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيونًا عليهم للصليبيين, وتشكلت إمارات صليبية في بلاد الشام، وهي: إمارة في الرها، إمارة بيت المقدس، إمارة أنطاكية، ولم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم؛ إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يُغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعًا عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.
جَهَّزَ المَلِكُ الصالحُ أبو الغارات الأَرمنيُّ الرَّافِضيُّ وَزيرُ العاضِدِ حاكِم مصر العُبيديُّ أَربعةَ آلافٍ وأَمَّرَ عليهم شَمسَ الخِلافَةِ أبا الأَشبالِ ضِرغامًا للغارَةِ على بِلادِ الفِرنجِ، فساروا إلى تَلِّ العُجولِ وحارَبوا الفِرنجَ، فانهَزَموا من المسلمين هَزيمةً قَبيحةً عليهم. وسَيَّرَ عَسكرًا فوَاقَعوا الفِرنجَ على العَريشِ وعادوا ظافِرينَ بعِدَّةِ غَنائمَ ما بين خُيولٍ وأَموالٍ، وسار الأُسطولُ في يَومِ الجُمعةِ ثالث عشر رَبيعٍ الآخر فانثَنَى إلى تنيس في الثامنِ من شعبان وأَقلعَ منه إلى بِلادِ الفِرنجِ، وفي سادس عشر رَبيعٍ الآخَر قَدِمَ أُسطولُ الإسكندريَّةِ وقد امتَلأَت أَيدِي الغُزاةِ بالغَنائمِ، وفي رَبيعٍ الآخَر سار عَسكرٌ إلى وادي موسى فنَزَل على حِصنِ الدميرةِ وحاصَرَهُ ثمانيةَ أيامٍ، وتَوجَّه إلى الشَّوبكِ وأَغارَ على ما هنالك؛ وأَقامَ أَميرانِ على الحِصارِ وعاد بَقِيَّةُ العَسكرِ، وفي التاسعِ من جُمادَى الأُولى سار عَسكرٌ إلى القُدسِ فخَرَّبَ وعادَ بالغَنائمِ. ووَرَدَ الخَبرُ بوَقعَةٍ كانت على طبرية كُسِرَ فيها الفِرنجُ وانهَزَموا، فأَخَذَ الصَّالحُ في النَّفَقَةِ على طَوائفِ العَسكرِ، وكان جُملةُ ما أَنفقَهُ فيها مائةَ ألفِ دِينارٍ. فلمَّا تَكامَل تَجهيزُهم سَيَّرَهُم في الخامسِ من شعبان، فتَوَجَّهَت لِسَواحلِ الشامِ، وظَفرَت بمَراكِبَ من مَراكبِ الفِرنجِ وعادَت بكَثيرٍ من الغَنائمِ والأَسرَى في الثاني والعشرين من رمضان. وخَرجَ العَسكرُ في البَرِّ وقد وَرَدَ الخَبرُ بحَركَةِ مُتَمَلِّكِ العَريشِ يُريدُ الغارَةَ على أَطرافِ البِلادِ، فلمَّا بَلَغَهُ سَيْرُ العَسكرِ لم يَتحرَّك، ورَجعَ العَسكرُ.
قُتِلَ السلطانُ سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه، وسببُ ذلك أنه كان فيه تهوُّرٌ وخرقٌ، وبلغ به شربُ الخمر حتى إنه شربها في رمضان نهارًا، وكان يجمع المساخِرَ ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكرُ أمره، وصاروا لا يحضُرون بابه، وكان قد ردَّ جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، كان فيه دينٌ وعقل وحسن تدبير، فكان الأمراء يشكُون إليه السلطان وهو يُسَكِّنُهم، فكتب سليمان شاه إلى إينانج صاحب الري يطلبُ منه أن يُنجِدَه على كردبازو، فوصل الرسولُ وإينانج مريض، فأعاد الجوابَ يقول: إذا أفقتُ من مرضي حضرتُ إليك بعسكري؛ فبلغ الخبر كردبازو، فازداد استيحاشًا، فأرسل إليه سليمان يومًا يطلبه، فقال: إذا جاء إينانج حَضرتُ، وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته، وكانوا كارهين لسليمان، فحلفوا له، فأوَّل ما عَمِلَ أن قتل المساخرة الذين لسليمان، وقال: إنما أفعل ذلك صيانةً لملكك؛ ثم اصطلحا، وعَمِلَ كردبازو دعوةً عظيمة حضرها السلطان والأمراء، فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبضَ عليه كردبازو وعلى وزيره ابنِ القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه، في شوال سنة 555، فقَتَلَ وزيرَه وخواصَّه، وحَبَس سليمان شاه في قلعة، ثمَّ أرسل إليه من خنَقَه؛ وقيل: بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان، وفيها قُتِلَ، وقيل بل سُقِيَ سُمًّا فمات.
نزل صلاحُ الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم يَرَ لأخذها وجهًا، فسار عنها إلى آمد، على طريق البارعيَّة، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبُه في كل وقتٍ بقَصدِها وأخْذِها وتَسلِيمها إليه، على ما استقَرَّت القاعدةُ بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ونازلها، وأقام يحاصِرُها، وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيقَ، وزحف إليها، وهي الغايةُ في الحصانة والمَنَعة، بها وبسورِها يُضرَبُ المثل، وابن نيسان على حالِه من الشُّحِّ بالمال، وتصَرُّفِه تصرُّفَ مَن ولَّت سعادته وأدبَرَت دولته، فلما رأى الناسُ ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجَنَحوا إلى السلامة، وأمَرَ صلاح الدين أن يكتب على السِّهامِ إلى أهلِ البلد يَعِدُهم الخيرَ والإحسان إن أطاعوه، ويتهَدَّدُهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعدًا وتخاذلًا، وأحبُّوا مُلكَه وتركوا القتال، فوصل النقَّابون إلى السور، فنَقَبوه وعَلِقوه- حازوه- فلما رأى الجندُ وأهلُ البلد ذلك، طمعوا في ابن نيسان واشتَطُّوا في المَطالَبِ، فحين صارت الحالُ كذلك أخرج ابن نيسان نساءَه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسألُه أن يأخُذَ له الأمان ولأهلِه وماله، وأن يؤخِّرَه ثلاثةَ أيام حتى ينقُلَ ما له بالبلدِ مِن الأموال والذخائر، فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاحُ الدين إليه، فسَلَّمَ البلد في العشر الأُوَل من المحرم، فلما تسَلَّمَها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحِبِ الحصنِ.
هو المَلِك شمس الدين البهلوان محمَّد بن الأتابك إيلدكز صاحِب أذربيجان وعراق العجم بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد،، وهو من كبارِ الملوك كوالِدِه. تمَلَّك البهلوان بعد موت أبيه سنة 570، وأقام في السلطنةِ معه طغريل بن رسلان شاه خاتمة بقايا السلجوقية، وكان السلطانُ طغريل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان، والخطبةُ له في البلاد بالسلطنة، وليس له من الأمرِ شَيءٌ، وإنما البلادُ والأمراء والأموالُ بحُكم البهلوان يأكُلُ البلاد باسمه، وكان ظالِمًا فاتِكًا، ولما احتُضِرَ أوصى إلى أخيه لأمِّه قزل، ومات بهمذان, وكانت أيام البهلوان إحدى عشرة سنة، وخلف خمسة آلاف مملوك، ومن الدوابِّ ثلاثين ألف رأس، ومن الأموالِ ما لا يُعَبَّر عنه، فلما مات البهلوان جرى بأصفهان بين الشافعيَّة والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنَّهبِ ما يجِلُّ عن الوصف، وكان قاضي البلد رأسَ الحنفيَّة، وابن الخجندي رأسَ الشافعية، وكان بمدينةِ الري أيضًا فتنةٌ عظيمة بين السُّنة والشيعة، وتفَرَّق أهلها وقُتِلَ منهم، وخربت المدينة وغيرُها من البلاد، ثمَّ مَلَك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان،، فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حُكمِ قزل، ولحِقَ به جماعة من الأمراء والجند، فاستولى على بعضِ البلاد، وجَرَت بينه وبين قزل حروبٌ.
هو السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي التركماني، ملك الروم. فيه عَدلٌ في الجملة، وسداد وسياسة، وهو والدُ زوجة الخليفة الناصر لدين الله الست سلجوقي خاتون المعروفة بالخلاطية. كان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وقد امتَدَّت أيام ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وقيل: بضعًا وثلاثين سنة, وغزواته كثيرة في بلاد الروم، ولما كَبِرَ فَرَّق بلاده على أولاده، فاستَضعَفوه، ولم يلتَفِتوا إليه، وحَجَر عليه ولَدُه قطب الدين، وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلًا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غَلَب قُطبُ الدين على الأمرِ قَتَلَ حَسنًا، ثم أخذ والِدَه وسار به إلى قيسارية ليأخُذَها من أخيه الذي سَلَّمَها إليه أبوه، فحصرها مدَّة، فوجد والِدُه قلج أرسلان فرصةً، فهرب ودخل قيسارية وحدَه، فلما عَلِمَ قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصرا فمَلَكَهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحوَّلْ من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبَرَّم منه، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فَرِحَ به، وخَدَمَه، وجمع العساكِرَ، وسار هو معه إلى قونية، فمَلَكَها، وسار إلى أقصرا ومعه والِدُه قلج أرسلان، فحصرها، فمَرِضَ أبوه، فعاد به إلى قونية, وتوفِّيَ ودفن بها في منتصف شعبان، وبَقِيَ ولده غياث الدين في قونية مالكًا لها، حتى أخَذَها منه أخوه ركن الدين سليمان.