قِمَّة عمان في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، شاركت فيها عِشرون دولةً عربيَّةً، ومُنظَّمة التحرير الفلسطينية، صدر عنه بيانٌ خِتاميٌّ، ومجموعة من القرارات أهمُّها:
- إدانةُ إيران لاحتلالها جُزءًا من الأراضي العراقية، والتضامُن مع العراق.
- تضامُن المؤتمر مع السُّعودية والكويت، والتنديدُ بالأحداث التي اقترفها الإيرانيُّون في المسجد الحرام بمكَّة المُكرَّمة.
- التمسُّك باستِرجاع كافَّة الأراضي العربية المحتلَّة، والقُدس الشَّريف كأساسٍ للسلام، وضرورةُ بناء القُوَّة الذاتية للعرب.
- إدانةُ الإرهاب الدولي.
- العَلاقات الدُّبلوماسيَّة بين أي دولة عضو في الجامعة العربية وبين مصر عملٌ من أعمال السيادة تُقرِّرها كل دولة بموجب دُستورها وقانونها.
- تكثيفُ الحِوار مع حاضرة الفاتيكان، ودَعوة الملك حُسَين إلى إجراء الاتصالات معها.
تُوفِّي الشيخُ عبدُ السلام ياسين رحمه الله الزَّعيمُ الرُّوحيُّ لجماعة العدلِ والإحسان، بعد إصابتِه بوعكةٍ صحِّيَّة حادَّةٍ. وقد وُلد الشيخ عامَ (1928)، وعَمِل في سِلكِ التَّعليم لمدَّةِ (20) عامًا تدرَّج خلالَها في مجموعةٍ من المناصب التربويَّةِ والإدارية العالية. وفي سنةِ (1974) بَعث ياسين بنصيحةٍ إلى الملكِ الراحل الحسن الثاني، وهي عبارةٌ عن رسالةٍ حَوَت أكثرَ من (100) صفحةٍ سمَّاها: «الإسلامُ أو الطُّوفان»، واعتُقِل بسببِها لمدَّةِ ثلاثِ سنواتٍ وستَّةِ أشهُرٍ دُونَ محاكَمة. ودُفن الشيخُ يومَ الجمعةِ بالعاصمة الرباط، وصُلِّي عليه صلاةَ الجنازةِ بمسجِدِ السُّنة بنفس المدينةِ. وأعلن عبدُ الإله بن كيران رئيسُ الحُكومةِ المغربية عن حضورِه رسميًّا جنازةَ تشيِيعِ الشيخِ.
بينما أيبك البدريُّ في أمْرِه ونَهْيِه بمصرَ، ورد عليه الخبَرُ بعصيان نوَّاب الشامِ، ففي الحال علَّق أيبك جاليش السفر في التاسع عشر من ربيع الأوَّل ورسم للعساكر بالتجهيز إلى سفر الشام وأسرع بالنفقةِ على العساكر وتجهَّزَ في أسرع وقت وخرج الجاليش من القاهرة إلى
الريدانية في السادس والعشرين من ربيع الأول، وهم خمسةٌ من أمراء الألوف ومائةُ مملوك من المماليك السلطانية، ومائةُ مملوك من مماليك الأتابك أيبك، وفي التاسِعِ والعشرين من ربيع الأول خرج طلَبُ السلطان الملك المنصور، ثم استقَلُّوا بالمسير قاصدينَ البلاد الشامية، وساروا حتى وصلوا بلبيس، ثم رجعوا على أعقابِهم بالعساكر إلى جهة الديار المصرية، وخبَرُ ذلك أن قطلوخجا أخا أيبك مُقَدَّم الجاليش بلغه أنَّ الجماعة الذين معه مخامِرون، وأنهم أرادوا أن يكبِسوا عليه، فاستقَصَّ الخبَرَ حتى تحققه، فرَكِبَ مِن وقته وساعته وهرب في الحال، وهو في ثلاثةِ أنفس، عائدًا إلى أخيه أيبك فاجتمع به وعَرَّفه الخبر، ففي الحال أخذ أيبك السلطانَ ورجع به إلى نحو القاهرة حتى وصلها في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر، وطلع به إلى قلعةِ الجبل، وأنزل الأتابك أيبك السلطانَ المَلِكَ المنصور إلى الإسطبل السلطاني، وجاءه بعض أمراء من أصحابه، ثم أخذ أيبك في إصلاحِ أمْرِه، وبينما هو في فلك بلَغَه أنَّ الأمير قطلقتمر العلائي الطويل والأمير ألطنبغا السلطاني، وكانا رجَعا معه من بلبيس، ركبا بجماعَتِهما في نصف الليل، ومعهما عِدَّة من الأمراء وسائر المماليك السلطانية، وخرج الجميعُ إلى قبة النصر موافَقةً لِمن كان من الأمراءِ بالجاليش، فجهز أيبك الأمير قطلوخجا في مائتي مملوك لقتال هؤلاء، فخرج بهم قطلوخجا إلى قبة النصر، فتلقَّاه القوم وحملوا عليه، فانكسر ومُسِكَ، فلما بلغ أيبكَ ذلك، جهَّز الأمراء الذين كانوا بقلعة الجبل، وأرسلهم إلى قُبَّةِ النصر، هذا وقد ضعف أمر أيبك وخارت قواه؛ فإنه بلغه أنَّ جميع العساكر اتَّفَقَت على مخالفته، حتى إنَّه لم يعلم من هو القائِمُ بهذا الأمر لكثرةِ من خرج عليه، فلما رأى أمرَه في إدبار، ركب فَرَسَه ونزل من الإسطبل السلطاني من غير قتال، وهرب إلى ناحيةِ كيمان مصر، ولما استولت الأمراءُ على القلعة ألزموا واليَ القاهرة ومصر بإحضاره، فنُودِيَ عليه بالقاهرة ومصر، وهدِّدَ من أخفاه بأنواعِ النَّكال، فخاف كلُّ أحد على نفسه من تقريبه، فلم يجِدْ أيبك بدًّا من طلب الأمان من الأميرِ يلبغا الناصري فأمَّنَه بعد مدة، فطلع أيبك إليه، فحالَ وقَعَ بَصَرُ القوم عليه قبضوه، وأرسلوه مقَيَّدًا إلى سجن الإسكندرية، وكان ذلك آخِرَ العهد به، أما الأمراءُ فإنهم لما بلَغَهم هروب أيبك من قلعة الجبل رَكِبَ الجميع من قبة النصر وطلعوا إلى الإسطبلِ السلطاني من القلعة، وصار المتحدث فيهم قطلقتمر العلائي الطويل، وضرب رنكه على إسطبل شيخون بالرميلة تجاه باب السلسلة، وأقام ذلك اليومَ مُتحَدِّثًا، فأشار عليه مَن عنده من أصحابه أن يسلطنَ سلطانًا كبيرًا يرجِعُ الناس إلى أمْرِه ونهيه، فلم يفعَلْه وقال: حتى يأتيَ إخوانُنا- يعني الأمراء الذين كانوا بالجاليش مع قطلوبغا- ثم حضرت الأمراءُ الذين كانوا بالجاليش إلى الإسطبل السلطاني، وهم جمعٌ كبير ممن أنشأه أيبك وغيرُهم، وتكَلَّموا فيمن يكون إليه تدبيرُ الملك، واشتوروا في ذلك، فاختلفوا في الكلام، وظهر للقادمينَ الغَدرُ مِمَّن كان بالإسطبل السلطاني، فقبضوا على جماعة منهم وقَيَّدوا الجميع، وأُرسلوا إلى الإسكندرية صحبة جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب، واتفقوا على أن يكون المتكَلِّم في المملكة الأمير يلبغا الناصري، فصار هو المتحَدِّثَ في أحوال الملك، وسكن الإسطبلُ السلطاني، وأُرسِلَ بإحضار الأمير طشتمر العلائي الدوادار نائب الشام، ثمَّ في يوم الأحد تاسع شهر ربيع الآخر، لما تزايد الفَحصُ على أيبك حضر أيبك بنفسه إلى عند الأمير بلاط، فطلع به بلاط إلى يلبغا الناصري بعد أن أخذ له منه الأمانَ حَسَب ما تقدَّمَ ذِكرُه، ولم تطُلْ أيام يلبغا الناصري في التحدث، وظهر منه لِينُ جَنب، فاتفق برقوق وبركة- وهما حينذاك من أمراء الطبلخانات، لهما فيها دون الشهرين - مع جماعةٍ أُخَرَ وركبوا في سادس عشر شهر ربيع الآخر، وركبت معهم خشداشيتهم- زملاء المهنة- من المماليك اليلبغاوية، ومسكوا دمرداش اليوسفي، وتمرباي الحسني، وآقبغا آص الشيخوني، وقطلوبغا الشعباني، ودمرداش التمان تمري المعلم، وأسندمر العثماني، وأسنبغا تلكي، وقُيِّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية فسُجِنوا بها، فصار برقوق العثماني هو متولي السَّلطنةِ، فسكن القصر وكان هذا بدايةَ التمَكُّن للماليك الشَّراكِسةِ.
هو الخَليفةُ، أبو جَعفرٍ القائمُ بأَمرِ الله أَميرُ المؤمنين، عبدُ الله أبو جَعفرِ بن القادرِ بالله أبي العبَّاسِ أَحمدَ ابنِ الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر بالله أبي الفَضلِ جَعفرِ بن المُعتَضِد بالله أبي العبَّاسِ أَحمدَ. وُلِدَ سَنةَ إحدى وتِسعينَ وثلاثِ مائة في نِصفِ ذي القعدةِ، وأُمُّهُ بَدرُ الدُّجَى الأرمنية. وقِيلَ: قَطْرُ النَّدَى، بَقِيَت إلى أَثناءِ خِلافَتِه. وكان مَليحًا وَسيمًا أَبيضَ بِحُمْرَةٍ، قَوِيَّ النَّفْسِ، دَيِّنًا وَرِعًا مُتصَدِّقًا. بُويِعَ يومَ مَوتِ أَبيهِ بِعَهْدٍ له منه في ذي الحجَّةِ، سَنةَ 422هـ. وله إحدى وثلاثون سَنةً، وأَبوهُ هو الذي لَقَّبَهُ: القائمَ بأَمرِ الله. كان من خِيارِ بَنِي العبَّاسِ دِينًا واعتِقادًا ودَولَةً، وقد امتُحِنَ من بَينِهم بفِتنَةِ البساسيري التي اقتَضَت إخراجَه من دارِه ومُفارَقَتَه أَهلَه وأَولادَه ووَطَنَه، فأَقامَ بحديثة عانة سَنةً كامِلةً ثم أَعادَ الله تعالى نِعمَتَه وخِلافَتَه على يَدِ السُّلطانِ طُغرلبك مَلِكِ الغُزِّ بعدَ أن استَنْهَضَه القائمُ. في صَفَر من هذه السَّنةِ مَرِضَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله مَرضًا شَديدًا انتَفخَ منه حَلْقُه، وامتَنَع من الفَصْدِ، فلم يَزَل الوَزيرُ فَخرُ الدولةِ عليه حتى افتَصَدَ وانصَلَح الحالُ، وكان الناسُ قد انزَعَجوا ففَرِحوا بعافِيَتِه وفي شَعبانَ انفَجرَ فَصادُه، وخَرجَ منه دَمٌ كَثيرٌ ولم يَشعُر، فاستَيقظَ وقد ضَعُفَ وسَقطَت قُوَّتُه، فأَيقَنَ بالمَوتِ، فأَحضَر وَلِيَّ العَهْدِ، ووَصَّاهُ بوَصايا، وأَحضرَ النَّقيبين وقاضي القُضاةِ وغَيرَهم مع الوَزيرِ ابن جهير، وأَشهَدهُم على نَفسِه أنَّه جَعلَ ابنَ ابنِه أبا القاسمِ عبدَ الله بن محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله وَلِيَّ عَهْدِه, ولَقَّبَه: بالمُقتَدِي بأَمرِ الله، وكان أَبوهُ الذَّخيرَةُ محمدُ بن القائمِ قد تُوفِّي أيامَ القائمِ، ولم يكُن له غَيرُه، فأَيقنَ الناسُ بانقِراضِ نَسلِ القائمِ، وانتِقالِ الخِلافَةِ من البيتِ القادريِّ. وكان للذَّخيرَةِ جارِيةٌ تُسَمَّى أرجوان، فلمَّا ماتَ، ورَأَت أَباهُ قد جَزعَ ذَكرَت له أنَّها حامِلٌ، فتَعَلَّقَت الآمالُ بذلك الحَمْلِ. فوَلدَت هذا بعدَ مَوتِ أَبيهِ بسِتَّةِ أَشهُرٍ، فاشتَدَّ سُرورُ القائمِ به، وبالَغَ في الإشفاقِ عليه والمَحَبَّةِ له. وكان ابنَ أربعِ سِنين في فِتنَةِ البساسيري، فأَخفاهُ أَهلَهُ، وحَملَهُ أبو الغَنائمِ بن المحلبان إلى حرَّان، ولمَّا عاد القائمُ إلى بغداد أُعِيدَ المُقتدي، فلمَّا بَلغَ الحُلُمَ جَعلَهُ وَلِيَّ عَهْدِه، ولمَّا تُوفِّي القائمُ غَسَّلَهُ الشَّريفُ أبو جَعفرِ بن أبي موسى الهاشميُّ، وصلَّى عليه أبو القاسمِ المُقتدِي بأَمرِ الله، وكانت خِلافتُه أَربعًا وأَربعين سَنةً وثمانيةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا تُوفِّي القائمُ بأَمرِ الله بُويِعَ المُقتدِي بأَمرِ الله عبدُ الله بن محمدِ بن القائمِ بالخِلافَةِ، وحَضرَ مُؤَيِّدُ المُلْكِ بن نِظامِ المُلْكِ، والوَزيرُ فَخرُ الدولةِ بن جهير وابنُه عَميدُ الدولةِ، والشيخُ أبو إسحاقَ، وأبو نَصرِ بن الصَّبَّاغِ، ونَقيبُ النُّقَباءِ طراد، والنَّقيبُ الطاهِرُ المعمر بن محمدٍ، وقاضي القُضاةِ أبو عبدِ الله الدَّامغاني، وغَيرُهم من الأَعيانِ والأماثِل، فبَايَعُوهُ، وقِيلَ: كان أَوَّلَ مَن بايَعهُ الشَّريفُ أبو جَعفرِ بن أبي موسى الهاشميُّ.
كانت مدينةُ صور تحت حكم الفاطميين العُبيديين بمصر، ولم تَزَل كذلك إلى سنة 506، وكان الفرنجُ قد حصروها، وضَيَّقوا عليها، ونهبوا بلدَها غير مرة، فتجهَّز ملكُ الفرنج، وجمع عساكِرَه ليسيرَ إلى صور، فخافهم أهلُ صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلُبون منه أن يُرسِلَ إليهم أميرًا من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكونُ البلد له، وقالوا له: إن أرسلتَ إلينا واليًا وعسكرًا، وإلا سلَّمْنا البلد إلى الفرنج؛ فسيَّرَ إليهم عسكرًا، وجعل عندهم واليًا اسمه مسعود، وكان شهمًا شجاعًا عارفًا بالحرب ومكايدها، وأمدَّه بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالًا فرَّقَه فيهم، وطابت نفوس أهل البلد، ولم تُغَيَّر الخطبة للآمر بن المستعلي الفاطمي، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرِّفُه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذُبٌّ عنها، سلَّمتُها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة، فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولًا، وسيَّره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة 516 بعد قتل الأفضل، فسُيِّرَ إليها أسطول على جاري العادة، وأمروا المقَدَّم على الأسطول أن يُعمِلَ الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلَّم البلد منه. وكان السببُ في ذلك أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر العبيدي، صاحب مصر، بما يعتَمِدُه من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسى عند صور، فخرج مسعودٌ إليه للسلام على المقدَّم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقَدَّم اعتقله ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود، فأُكرِمَ وأُحسِنَ إليه وأُعيد إلى دمشق، وأما الوالي من قِبَل المصريين فإنه طيَّب قلوبَ الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدةَ، ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قَوِيَ طمعهم فيها، وحدَّثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهُّب للنزول عليها وحَصْرها، فسمع الوالي بالخبر، فعلمَ أنَّه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها؛ لقلة مَن بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر العُبيدي بذلك، فرأى أن يرُدَّ ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجندِ وغيرهم ما ظنَّ فيه كفاية، وسار الفرنجُ إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيَّقوا عليهم، ولازموا القتال، فقَلَّت الأقوات، وسَئِمَ من بها القتالَ، وضَعُفَت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرُبَ منهم، ويذُبَّ عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قُرْبَه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجِدُهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، الفرنجَ, وقرَّر الأمر على أن يُسَلِّمَ المدينةَ إليهم، ويُمَكِّنوا مَن بها من الجند والرعية من الخروجِ منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرَّت القاعدةُ على ذلك، وفُتِحت أبواب البلد، وملكه الفرنجُ، وفارقه أهلُه، وتفرَّقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يَعرِض الفرنجُ لأحد منهم، ولم يبقَ إلا الضعيف عجز عن الحركة، وملك الفرنج البلدَ في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وكان سقوط صور بيد الفرنج وهنًا عظيمًا على المسلمين؛ فإنَّه من أحصنِ البلادِ وأمنَعِها.
هو الأمير ألوغ بك بن القان معين الدين شاه رخ، ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، وقيل: اسمه تيمور على اسم جدِّه، وقيل: محمد. صاحب سمرقند، فريد دهره ووحيد عصره في العلوم العقلية، والهيئة، والهندسة، طوسي زمانه، وهو حنفيُّ المذهب. ولد في حدود 790، ونشأ في أيام جدِّه، وتزوج في أيامه, ولما مات جدُّه تيمور وآل الأمر إلى أبيه شاه رخ ولَّاه سمرقند وأعمالها فحكمها نيِّفًا وثلاثين سنة، وعمل بها رصدًا عظيمًا انتهى به إلى سنة وفاته، وقد جمع لهذا الرَّصد علماء هذا الفنِّ من سائر الأقطار، وأغدق عليهم الأموالَ، وأجرى لهم الرواتبَ الكثيرة، حتى رحل إليه علماء الهيئة والهندسة من البلاد البعيدة، وهُرِعَ إليه كل صاحب فضيلة، وهو مع هذا يتلفت إلى من يسمع به من العلماء في الأقطار، ويُرسِلُ يطلب من سمِعَ به. هذا مع علمه الغزير وفضله الجمِّ واطلاعه الكبير وباعه الواسعِ في هذه العلوم، مع مشاركةٍ جيدة إلى الغاية في فقه الحنفية، والأصلين، والمعاني، والبيان، والعربية، والتاريخ، وأيام الناس. قيل: إنه سأل بعض حواشيه: ما تقول الناس عنِّي؟ وألحَّ عليه، فقال: يقولون: إنك ما تحفظ القرآنَ الكريم، فدخل من وقته وحَفِظَه في أقل من ستة أشهر حفظًا مُتقَنًا. وكان أسنَّ أولاد أبيه، واستمَرَّ بسمرقند إلى أن خرج عن طاعتِه ولدُه عبد اللطيف، وسببه أنه لما ملك ألوغ بك هراة طَمِعَ ابنه عبد اللطيف أن يوليَه هراة فلم يفعل، وولَّاه بلخ، ولم يعطِه من مال جدِّه شاه رخ شيئًا. وكان ألوغ بك هذا مع فضله وغزير علمِه مسيكًا كوالده لا يصرف المال إلا بحقه، فسأمَتْه أمراؤه لذلك، وكاتبوا ولده عبد اللطيف في الخروج عن طاعتِه، وكان في نفسه ذلك، فانتهز الفرصة وخرج عن الطَّاعة، وبلغ أباه الخبر فتجرَّد لقتاله، والتقى معه، وفي ظنِّه أن ولده لا يثبُت لقتالِه، فلما التقى الفريقان وتقابلا هرب جماعة من أمراء ألوغ بك إلى ابنه، فانكسر ألوغ بك وهرب على وجهه، وملك ولدُه سمرقند، وجلس على كرسي والده أشهرًا ثم بدا لألوغ بك العود إلى سمرقند، ويكون المُلك لولدِه، ويكون هو كآحاد الناس، واستأذن ولدَه في ذلك فأذن له، ودخل سمرقند وأقام بها، إلى أن قبض عبد اللطيف على أخيه عبد العزيز وقتله صبرًا في حضرة والده ألوغ بك، فعظم ذلك عليه، فإنَّه كان في طاعته وخدمته حيث سار، ولم يمكِنْه الكلام فاستأذن ولده عبد اللطيف في الحجِّ فأذن له، فخرج قاصدًا للحجّ إلى أن كان عن سمرقند مسافة يوم أو يومين، وقد حذَّر بعض الأمراء ابنَه منه، وحسَّن له قتله، فأرسل إليه بعض أمرائه ليقتُلَه، فدخل عليه مخيَّمه واستحيا أن يقول: جئتُ لقَتْلِك، فسلَّم عليه ثم خرج، ثم دخل ثانيًا وخرج، ثم دخل ففطن ألوغ بك، وقال له: لقد علمتُ بما جئتَ به فافعل ما أمَرَك به، ثم طلب الوضوء وصلَّى، ثم قال: واللهِ لقد علمت أنَّ هلاكي على يد ولدي عبد اللطيف هذا من يومِ وُلِدَ، ولكن أنساني القدر ذلك، والله لا يعيشُ بعدي إلَّا خمسة أشهُرٍ ثم يقتل أشرَّ قِتلةٍ، ثم سلَّم نفسَه فقُتِل، وقُتِلَ ولدُه عبد اللطيف بعد خمسة أشهر!!
فارق الرَّاشِدُ باللهِ الخليفةَ المخلوعَ أتابك زنكي من الموصِل وسارَ نحو أذربيجان، فوصَلَ مراغةَ، وكان الأميرُ منكبرس صاحِبُ فارس، ونائبُه بخوزستان الأميرُ بوزابة، والأميرُ عبدُ الرَّحمنِ طغايرك صاحِبُ خلخال، والمَلِكُ داود بن السُّلطان محمود؛ مُستشعرينَ مِن السُّلطانِ مَسعود، خائفينَ منه، فتجَمَّعوا ووافَقوا الرَّاشِدَ على الاجتِماعِ معهم؛ لتَكونَ أيديهم واحدةً، ويَرُدُّوه إلى الخِلافةِ، فأجابهم إلى ذلك إلَّا أنَّه لم يجتَمِعْ معهم، ووصل الخبَرُ إلى السُّلطانِ مَسعود وهو ببغدادَ باجتماعِهم، فسار عنها في شعبانَ نَحوَهم، فالتَقَوا ببنجن كشت، فاقتتلوا، فهزمهم السُّلطانُ مسعود، وأخذ الأميرَ منكبرس أسيرًا فقُتِلَ بين يديه صَبرًا، وتفَرَّقَ عَسكَرُ مسعود في النَّهبِ واتِّباع المنهزمين، وكان بوزابة وعبدُ الرحمن طغايرك على أرضٍ مُرتفعةٍ فرأيا السُّلطانَ مسعودًا وقد تفَرَّقَ عَسكَرُه عنه، فحَمَلا عليه وهو في قِلَّةٍ فلم يَثبُت لهما وانهزَم، وقَبَض بوزابة على جماعةٍ مِن الأمراء: منهم صَدَقةُ بنُ دبيس صاحِبُ الحلة، ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحِبُ أذربيجان، وعنتر بن أبي العَسكَر وغيرُهم، وتَرَكَهم عنده. فلما بلغه قتلُ صاحبه منكبرس قتلهم جميعًا وصار العَسكران مهزومَينِ، وقصد السُّلطانُ مسعود أذربيجان، وقصد المَلِكُ داود همذان، ووصل إليها الرَّاشِدُ بعد الوقعةِ، فاختَلَفت آراءُ الجماعة، فبَعضُهم أشار بقَصدِ العِراقِ والتغَلُّب عليه، وبعضُهم أشار باتِّباعِ السُّلطانِ مَسعود للفراغِ منه؛ فإنَّ ما بعده يَهونُ عليهم. وكان بوزابة أكبَرَ الجماعةِ فلم يَرَ ذلك، وكان غرَضُه المسيرَ إلى بلادِ فارِسَ وأخْذِها بعد قَتلِ صاحِبِها منكبرس قبل أن يمَتِنَع مَن بها عليه، وسار بوزابة إليها فمَلَكها، وصارت له مع خوزستان، وسار سلجوق شاه بن السُّلطانِ محمَّد إلى بغداد ليملِكَها، فخرج إليه البقش الشحنة بها: ونظر الخادم أمير الحاجِّ وقاتلوه ومَنَعوه، وكان عاجزًا مُستضعَفًا، ولَمَّا قُتِلَ صَدَقة بن دبيس أقَرَّ السُّلطان مسعود الحلةَ على أخيه محمَّد بن دبيس وجعَلَ معه مهلهل بن أبي العسكر أخا عنتر المقتول يدَبِّرُ أمرَه.
وصلت أمداد الفرنج في البحر من روميَّة الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال، إلَّا أن المتولي لها كان صاحب رومية؛ لأنَّه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمةٍ، لا يرون مخالفةَ أمره ولا العُدولَ عن حُكِمهِ فيما سَرَّهم وساءهم، فجهَّز العساكرَ مِن عنده مع جماعةٍ مِن مقَدَّمي الفرنج، وأمَرَ غيرَه من ملوكِ الفرنج إمَّا أن يسير بنفسِه، أو يرسِلَ جيشًا، ففعلوا ما أمَرَهم، فاجتمعوا بعكَّا من ساحل الشام، وكان الملك العادلُ أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشامِ، فوصل إلى الرملة، ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكَّا ليقصدوه، فسار العادلُ نحوَهم، فوصل إلى نابلس عازمًا على أن يسبِقَهم إلى أطراف البلاد ممَّا يلي عكا ليحميَها منهم، فساروا هم فسَبَقوه، فنزل على بيسان من الأردن، فتقدَّم الفرنجُ إليه في شعبان عازمينَ على محاربته؛ لعلمهم أنَّه في قلة من العسكر، لأنَّ العساكِرَ كانت متفرقةً في البلاد، فلمَّا رأى العادلُ قُربَهم منه لم يرَ أن يلقاهم في الطائفةِ التي معه، خوفًا من هزيمة تكونُ عليه، وكان حازمًا كثير الحذر، ففارق بيسان نحو دمشق ليُقيمَ بالقرب منها، ويرسِلَ إلى البلاد ويجمعَ العساكر، فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه، فأخذ الفرنجُ كلَّ ما في بيسان من ذخائِرَ قد جُمِعَت، وكانت كثيرةً، وغنموا شيئًا كثيرًا، ونَهَبوا البلاد من بيسان إلى بانياس، وبثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين، ونوى وأطراف البلاد، ونازلوا بانياس، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا، ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرةً، سوى ما قتلوا وأحرقوا وأهلكوا، فأقاموا أيامًا استراحوا خلالها، ثم جاؤوا إلى صور، وقَصَدوا بلد الشقيف، ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين، فنهبوا البلاد: صيدا والشقيف، وعادوا إلى عكا، وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد، والذي سَلِمَ من تلك البلاد كان متخفيًا حتى قَدَر على النجاة، ولما نزل العادِلُ على مرج الصفر سيَّرَ ولده الملك المعظم عيسى، وهو صاحِبُ دمشق في قطعةٍ صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنَعَ الفرنجَ عن بيت المقدس.
بعد وفاة صفي الدين الأرْدَبيلي مؤسِّس الطريقة الصفوية خلَفَه في مشيخة الطريقة ابنه صدر الدين موسى مدةً طويلة بلغت تسعًا وخمسين عامًا, وكانت السلاطين تعتقِدُ فيه وتزوره، وممن زاره والتمس بركته تيمورلنك، فسأله أن يطلبَ منه أي شيء، فقال له موسى: أطلب منك أن تطلِقَ كل من أخذته من بلاد الروم من التركِ، فأجابه إلى سؤاله فأطلقَ جميع أسرى الترك، فصار أهل الروم يعتقدون في الشيخ صدر الدين والمشايخ من ذريتِه، ولما توفي صدر الدين تولى ابنُه خواجة علي مشيخةَ الطريقة مدة 36 سنة، وكان الخواجة علي يميل للتشييع, ولما مات سنة 830 تولى بعده ابنُه إبراهيم الذي كان تشيُّعه واضحًا، فقد أدخل أتباعَه بصراعات مع أهل السنة في داغستان, ولَمَّا توفي سنة 851 خلفَه ابنه الأصغر جنيد، وكان شيعيًّا جَلْدًا متعصبًا للشيعة الإمامية, فلمَّا كثر مريدوه وأتباعه خافه السلطان جهانشاه التركماني صاحب أذربيجان، فأخرجهم من أردبيل فتوجَّه جنيد مع بعض مريديه إلى ديار بكر، وقُتِلَ جنيد في إحدى حروبه في مدينة شيروان سنة 861، وخلَفه ابنه حيدر الذي تزوَّج من بنت حسن أوزون الطويل, وكانت أمُّها كاترينا ابنة كارلو يوحنا ملك مملكة طرابزون اليونانية النصرانية, وحيدر هذا هو أوَّلُ من أمر أتباعَ الطريقة الصفوية أن يضعوا على رؤوسِهم قلنسوة مخروطية الشكل مصنوعة من الجوخ الأحمر، وسُمُّوا بقزلباش، وهي كلمة تركية تعني الرأس الأحمر, ولما قتل حيدر سنة 893 كان له ثلاثة أولاد: علي، إبراهيم، وإسماعيل، سجنهم الأمير يعقوب أمير آق قونيلو، ثم أُطلِقَ سراحهم بعد وفاة يعقوب، فذهب إسماعيل بن حيدر إلى مدينة كيلان على بحر قزوين، وحاول منذ صِغَره تجميع الصوفية والقزلباشية حوله؛ من أجل الانتقام مِن قتَلَة أبيه وجده، فتوجه إلى أمير دولة التركمان "آق قونيلو" سنة 907، وقتله وجلس على ملكِه بعد أن بايعته كلُّ قبائل التركمان، وأعلن دولته الصفويَّة.
جمَعَ مَلِكُ قشتالة الفونسو عساكِرَه من الفرنج، وركب البحرَ إلى قرطبة يريد أخذ غرناطة من المسلمين، فاشتدَّ البلاء عليهم؛ لقلة المال بغرناطة، وفناء عسكرها في الفتنة التي حصلت في استعادة الملك، وموت من هلك في الزلزلة أكثر من ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم، فلقُوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد، قُتِلَ من المسلمين نحو الخمسة عشر ألفًا، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة، وعسكر بإزائها على بريد منها، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألفًا، وقد اشتد الطمع في أخذها، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله، ففتح عليهم الله تعالى، وألهمهم رُشدَهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر بن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق شيخ الغزاة خرج من مدينة غرناطة في جمع ألفين من الأجناد، وعشرين ألفًا من المطوعة، وسار نصف الليل على جبل الفخار، حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع أمارة في الجبال يُعلِمُ بها السلطان بغرناطة، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد، بجميع من بقي عنده إلى الفرنج، فثاروا لحربهم، فولى السلطان بمن معه من المسلمين، كأنهم قد انهزموا، والفرنجُ تتبَعُهم، حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج، وألقى فيه النار، ووضع السيفَ فيمن هنالك، فقَتَل وأسَرَ وسبى، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم، والنار ترتفع من معسكرهم، فتركوا أهل غرناطة ورجعوا إلى معسكرهم، فركب السلطانُ بمن معه أقفيَتَهم، يقتلون ويأسرون، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثين ألفًا، ولحق باقيهم ببلادهم، بعدما كادوا أن يملكوا غرناطة، وبلغت عدةُ مَن أَسَر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفًا، ويقول المكثِر: إنه قُتِل ومات وأُسِر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفًا.
أمَرَ الملِكُ عبد العزيز بوضعِ نظامٍ لتولية العرش مِن بعدِه، فانعقد مجلِسَا الوكلاء والشورى، وأبرمَا قرارًا في 16 محرم 1352هـ الموافق 11/ 5 / 1933م بمبايعةِ كبير أبنائه الأمير سعود وليًّا للعهد،ثم أبرق الملِكُ على الأثرِ إلى سعود برقيةً جاء فيه: " تفهَمُ أنَّنا نحن والناس جميعًا ما نُعِز أحدًا ولا نذِلُّ أحدًا، وإنما المعِزُّ والمذِلُّ اللهُ هو سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتَرَّ بغيره عياذَ اللهِ وقع وهلك، موقِفُك اليومَ غيرُ موقفك بالأمس؛ ينبغي أن تعقِدَ نيَّتَك على ثلاثةِ أمور: أولًا/ نية صالحة، وعزمٌ على أن تكونَ حياتُك وديدنك إعلاءَ كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتَّخِذَ لنفسِك أوقاتًا خاصة لعبادة الله والتضَرُّع بين يديه في أوقات فراغك. تعبَّدْ إلى الله في الرخاء تجِدْه في الشدة، وعليك بالحرصِ على الأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر، وأن يكون ذلك كلُّه على برهانٍ وبصيرة في الأمر، وصِدقٍ في العزيمة، ولا يصلُحُ مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدقُ، وإلا العَمَلُ الخفيُّ الذي بين المرء وربه. ثانيًا/ عليك أن تجِدَّ وتجتهِدَ في النظر في شؤون الذين سيولِّيك الله أمْرَهم بالنصحِ سرًّا وعلانيةً، والعدلِ في المحبِّ والمُبغَض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنًا وظاهرًا، وينبغي ألَّا تأخُذَك في الله لومة لائم. ثالثًا/ عليك أن تنظُرَ في أمر المسلمين عامةً، وفي أمر أسرتِك خاصةً، اجعل كبيرَهم والدًا، ومتوسِّطَهم أخًا، وصغيرهم ولدًا، وهنْ نفسَك لرضاهم، وامحُ زلَّتَهم، وأقِل عَثرتَهم، وانصح لهم، واقضِ لوازِمَهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل؛ فأبشر بالخير، وأوصيك بعلماء المسلمين خيرًا. احرص على توقيرِهم ومجالستِهم، وأخذِ نصيحتِهم. واحرِصْ على تعليم العِلمِ؛ لأنَّ الناس ليسوا بشيءٍ إلَّا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة. احفَظِ الله يحفظك. هذه مقدمة نصيحتي إليك، والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا".
وُلِدَ الشيخ عبد العزيز في الرياض في الثانيَ عَشَرَ من ذي الحِجة سنةَ 1330ه،ـ ونشأ في بيئة علمٍ وصلاحٍ، حفِظ القرآنَ قبل أنْ يبلُغَ سنَّ البلوغ، وكان قد بدأ يضعُفُ بصرُه إثْرَ مرضٍ أصابَه في عينَيْه حتى فقَدَ بصرَه نهائيًّا سنةَ 1350هـ، وعمرُه 20 عامًا، فزاد ذلك من هِمَّته لطلب العلمِ مُلازمًا العلماءَ بذكاءٍ مُفرطٍ، وذاكرةٍ حادَّةٍ، وسرعةِ بَديهةٍ، واستحضارٍ لمسائل العلمِ، معَ ما أُوتيَ من فِراسةٍ، وكان مُتواضِعًا زاهدًا حليمًا، واسعَ الصدرِ، كريمَ الأخلاق، وبرز -رحمه الله- في علومٍ شَتَّى في: التوحيد، والتفسير، والفقه، والأصول، والحديث، والفِرَق والمذاهب، وكان عالمًا ربَّانيًّا، تلقَّى علومَه على يد عدد من المشايخ مثلِ: الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم، وكان قد عُيِّن قاضيًا في الخَرْج، ثم الدلم، ثم أصبحَ بعد وفاة المفتي ابن إبراهيم مفتيًا للملكة العربية السعودية، وكان قد تولَّى التدريس بعد القضاء في المعهد العلمي بالرياض سنةَ 1372هـ، ثم أصبَحَ رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنةَ 1395هـ، بعد أنْ كان نائبًا لرئيسها الأسبق ابن إبراهيم، كانت حياته مليئةً بالعلم والتعليم، قدَّم للأمة الإسلامية خلالَها من علمه وفِقهِه ما نفع اللهُ به المسلمين، ممَّا جعلَه إمامَ عصره بحقٍّ، وقد تركَ تُراثًا كبيرًا في شَتَّى العلوم من فتاوى، وشروح، ودروس في الفقه والتوحيد، وغيرها من فنون الإسلام، ومؤلَّفاتُه شاهدةٌ على صفاء ذهنِه وعِلمِه، وقد جُمعت رسائلُه وفتاواه في مجلَّدات، أمَّا وفاته فقد كان يشكو من عدة أمراضٍ -رحمه الله- ثم في ليلة الخميس ضاق نَفَسُه حتى نُقِلَ إلى مُستشفى الملك فَيْصل بالطائف، حيث تُوفيَ هناك في السابع والعشرين من محرم 1420هـ، ثم صُلِّيَ عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمُعة، ودُفنَ في مَقبرةِ العدل، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
غَزَا قُتيبَةُ بن مُسلِم بِلادَ الصُّغْد ونَسَف وكِشّ وقد لَقِيَه هنالك خَلْقٌ مِن الأَتراك فظَفَر بهم فقَتَلَهم، وسارَ إلى بُخارَى فلَقِيَه دونها خَلْقٌ كَثيرٌ مِن التُّرْك فقاتَلَهم يَوْمَين ولَيْلَتين عندَ مَكانٍ يُقالُ له خَرْقان وظَفَر بهم, ثمَّ قَصَد قُتيبةُ وَرْدانَ خُذاه مَلِك بُخارَى فقاتَلَه وَرْدان قِتالًا شَديدًا فلم يَظْفَر به قُتيبةُ، فرَجَع عنه إلى مَرْو فجاءَهُ البَريدُ بكِتابِ الحَجَّاج يُعَنِّفُه على الفِرار والنُّكول عن أَعداءِ الإسلام، وكَتَب إليه أن يَبْعَث بِصُورَة هذا البَلَد يعني بُخارَى، فبَعَث إليه بِصُورَتِها، فكَتَب إليه: أن ارْجِع إليها وتُبْ إلى الله مِن ذَنْبِك وائْتِها مِن مكان كذا وكذا، ورُدَّ وَرْدانَ خُذاه، وإيَّاكَ والتَّحْوِيط، ودَعْنِي وبُنَيَّات الطَّريق.
هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، صاحِبُ الأندلس، سمِّيَ بالداخل؛ لأنَّه استطاع أن يهربَ مِن العباسيين رغمَ كُلِّ المحاولاتِ للإمساك به، واستطاع أن يدخُلَ الأندلسَ، وأن يكَوِّنَ فيها دولةً قَوِيَت يومًا بعد يوم، وقيل: كان عمره حينئذ عشرين سَنةً، وأما موتُه فكان بقرطبة، وصلَّى عليه ابنُه عبد الله، وكان عَهِدَ إلى ابنه هشام، وكان هشامٌ بمدينة ماردة واليًا عليها، وكان ابنُه سليمان بن عبد الرحمن، وهو الأكبَرُ، بطليطِلة واليًا عليها، فلم يحضُرا موت أبيهم، وحضَره عبد الله المعروفُ بالبلنسي، وأخذ البيعةَ لأخيه هشام، وكتب إليه بنعي أبيه ويهَنِّئُه بالإمارة، فسار هشامٌ إلى قرطبة. وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثًا وثلاثين سنةً وأشهُر.
أظهرَ نَصرُ بنُ سيَّار بن شبث العقيلي الخِلافَ على المأمون سنة 198ه، وكان يسكن كيسوم، ناحية شماليَّ حَلَب، وكان في عنُقِه بيعةٌ للأمين، وله فيه هوًى، فلمَّا قُتِلَ الأمينُ أظهر نصرٌ الغضَبَ لذلك، وتغلَّبَ على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط، واجتمع عليه خلقٌ كثيرٌ مِن الأعراب، وأهلِ الطمع، وقَوِيَت نفسُه، وعبَرَ الفُرات إلى الجانب الشرقي، وحدَّثَته نفسُه بالتغلُّب عليه، فلما رأى الناسُ ذلك منه كثُرَت جموعه وزادت عما كانت، فقَوِيَ أمرُه كثيرًا، فحاصره عبد الله بن طاهر بكيسوم، وضيَّقَ عليه، حتى طلب الأمانَ، فكتب ابنُ طاهر إلى المأمون يُعلِمُه بذلك، فأرسل إليه أن يكتُبَ له أمانًا عن أمير المؤمنين، فكتب له كتابَ أمانٍ فنزل فأمر عبدُ الله بتخريبِ المدينة التي كان متحصِّنًا بها، وذهبَ شَرُّه.