هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد". سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.
فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج في ثامن ربيع الأول، وقد كانت الحرب بينه وبينهم من السنة الماضية، وقد انهزموا منه، ثم عاد إلى تبريز بسبب الخلاف الواقع فيها، فلما استقرَّ الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج هذه السنة، فقصد بلادَهم، وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم، فاجتمعوا في جمعٍ كثير لا يحصى، فطمعوا بذلك، فلَقِيَهم وجعل لهم الكمينَ في عدة مواضع، والتَقَوا واقتَتَلوا، فولى الكرج منهزمين وأخذتهم سيوفُ المسلمين من كل جانبٍ، فلم ينجُ منهم إلا اليسيرُ الشاذُّ الذي لا يعبأ به، وأمر جلال الدين عسكَرَه ألَّا يُبقوا على أحدٍ، وأن يقتلوا من وجدوا، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم، وأشار عليه أصحابُه بقصد تفليس دار مُلكِهم، فقال: لا حاجة لنا إلى أن نقتُلَ رجالَنا تحت الأسوار، إنَّما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفوًا عفوًا، ولم تزل العساكرُ تَتبَعُهم وتستقصي في طلبِهم إلى أن كادوا يفنونَهم، فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها، وسار في بعض الأيامِ في طائفة من العسكر، وقصدها لينظُرَ إليها، ويبصر مواضِعَ النزول عليها، وكيف يقاتِلُها، فلما قاربها كمن أكثرُ العسكر الذي معه في عدة مواضع، ثم تقدَّم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس، فلمَّا رآه من بها من الكرج طَمِعوا فيه لقِلَّةِ من معه، ولم يعلموا بمن معه، فظهروا إليه فقاتلوه، فتأخر عنهم، فقويَ طَمَعُهم فيه لقِلَّةِ من معه، فظنُّوه منهزمًا، فتبعوه، فلما توسطوا العساكِرَ خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم، فقُتِل أكثَرُهم، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها، وتبعهم المسلمون، فلمَّا وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام، وباسمِ جلال الدين، فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا؛ لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات السابقة، فقل عددُهم، وملئت قلوبُهم خوفًا ورعبًا، فملك المسلمون البلد عَنوةً وقهرًا بغير أمان، وقُتِلَ كلُّ من فيه من الكرج، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام، وأقرَّ بكلمتي الشهادة، فإنَّه أبقى عليه، وأمرهم فتختَّنوا وتركهم، ونهب المسلمون الأموال، وسَبَوا النساء واستَرَقُّوا الأولاد، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتلٍ ونهب وغيره، وتفليس هذه من أحصَنِ البلاد وأمنعها، وهي على جانبي نهر الكر، وهو نهر كبير، ولقد جلَّ هذا الفتح وعظُمَ مَوقِعُه في بلاد الإسلامِ وعند المسلمين؛ فإنَّ الكرجَ كانوا قد استطالوا عليهم، وفعلوا بهم ما أرادوا، فكانوا يقصِدونَ أيَّ بلاد أذربيجان أرادوا، فلا يمنَعُهم عنها مانع، ولا يدفَعُهم عنها دافعٌ.
عزم شارل الخامس (شارلكان) ملكُ إسبانيا على القيام بحملة عسكرية تستهدفُ القضاء على حركةِ الجهاد الإسلامي في الحوضِ الغربيِّ للبحر المتوسط، وقبل أن يشرَعَ في تنفيذها حدث هدوءٌ نسبيٌّ ساد القارةَ الأوربية إثرَ عقدِ هُدنة نيس في محرم 945 (يونيو 1538م) مع فرنسا، والتي كانت مدتها عشر سنوات. ومما شجع شارلكان على هذه الحملة علمُه بأن القائد التركي خير الدين بربروسا قد ذهب إلى إستانبول للَّقاء بالسلطان العثماني وأسند قيادةَ الأسطول العثماني للقائد حسن آغا الطواشي. رسا شارلكان بسُفُنه أمام مدينة الجزائر في يوم 28 جمادى الآخر من هذه السنة, وعندما شاهده الطوشي اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر وكبار رجال الدولة، وحثَّهم على الجهاد والدِّفاع عن الإسلام والوطن، ثم بدأ حسن آغا في إعدادِ جيوشِه والاستعداد للمعركةِ، من ناحية أخرى بدأ الإسبانُ في تحضير متاريسِهم، وتعجَّب شارل الخامس لاستعداداتِ حسن آغا وأراد أن يستهزئَ به، وفي الليلة ذاتها وصل إلى معسكر شارلكان رسولٌ مِن قِبَل والي الجزائر يطلُبُ إذنًا للسماح بحُرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر- وخاصَّةً نساءَها وأطفالَها- مغادرةَ المدينة عبرَ باب الواد، وعرف شارلكان أن حامية الجزائر مصَمِّمة على الدفاع المستميت، وأنَّه من المُحال احتلال الجزائر إلا إذا تم تدميرُها تدميرًا تامًّا، ولم يكن شارلكان قد أنزل مدفعيةَ الحصار حتى تلك الساعة، فلم يتمكن بذلك من قصفِ الجزائر بالمِدفعية، وفي الوقت نفسِه كان المجاهدون يوجِّهون ضرباتِهم الموجعة إلى القوات الإسبانية في كل مكان، وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرار بفضل تدفُّق مقاتليهم من كل مكان، بمجرد سماعِهم بإنزال القوات الإسبانية، وكان المجاهدون يستفيدون في توجيههم لضرباتهم من معرفتهم الدقيقةِ بالأرض واستخدامهم لمميزاتها بشكلٍ رائع، وسخر الله لجنود الإسلام الأمطارَ والرياحَ والأمواجَ، وهَبَّت ريحٌ عاصِفٌ استمرَّت عِدَّةَ أيام واقتلعت خيام جنود الحملة وارتطمت السفنُ بعضُها ببعض؛ مما أدى إلى غرق كثير منها، وقذفت الأمواج الصاخبةُ ببعض السفن إلى الشاطئ، وهجم عليها المدافعون المسلمون واستولوا على أدواتِها وذخائرها، أما الأمطار فقد أفسدت مفعولَ البارود، وفي وسط هذه الكوارث حاول شارلكان مهاجمةَ مدينة الجزائر إلا أنَّ كلَّ محاولاته باءت بالفشل، واضطُرَّ إلى الانسحاب مع بقية جنوده على ما تبقَّى لهم من سفن، واتجه بأسطوله إلى إيطاليا بدلًا من إسبانيا بعد أن قُتِلَ من جيشه في المعركة أكثر من 20 ألفًا وانتشرت جثثهم لعدة كيلو مترات على ساحل البحر، وأُسِر حوالي 130 سفينة! ويُعَدُّ هذا الانتصارُ من الانتصارات الكبرى في تاريخ العثمانيين والجزائريين، ولم تفكِّرْ أي قوة صليبية بعدها في احتلال الجزائر إلَّا في عام 1830م.
استغَلَّ الشاه عباس الصفوي انشغالَ الدولة العثمانية بالثورات الداخلية والحروب مع أوربا، بالإضافة للضعف الذي دبَّ فيها، فباشر في تخليصِ عراق العجم, واسترجع شمالَ العراق وتبريز ووان، واستطاع أن يحتلَّ بغداد والأماكن المقدَّسة الشيعية في النجف وكربلاء والكوفة، وكانت الجيوشُ العثمانية أضعفَ من أن تقاوم الجيوشَ الصفوية، فاضطر السلطان العثماني أحمد الأول أن يعقِدَ صلحًا مع الصفويين في عام 1013هـ استرجع فيه الصفويون كلَّ المناطق التي كان قد ضَمَّها السلطان سليمان القانوني، بما في ذلك بغداد، وكان هذا بداية التراجع للدولة العثمانية. وقد زارها الشاه عباس الصفوي وسَطَ مظاهر الإجلال والتقديس، وقد أورد بعضُ المؤرخين أنه قضى عشرة أيام في زيارته للنجف؛ حيث قام بنفسِه بخدمة الحُجَّاج في ذلك المكان، كما يذكرون أيضًا أنَّه إمعانًا في إعلان تمسُّكِه بالمذهب الشيعي وولائِه للرفض، وعلى الرغمِ من تعصُّبه الشديد للمذهب الشيعي إلَّا أنه رفع أيدي رجال الدينِ عن التدخُّل في شئون الحكم والسياسة، ومارس نوعًا من السلطة المُطلَقة في حكم البلاد، وقد أنزل الشاه عباس الصفوي أقسى أنواعِ العقاب بالسنَّة الذين يعتبرهم أعداءً للدولة، فإما أن يُقتَلوا أو تُسمَل عيونُهم، ولم يكن يتسامحُ مع أيٍّ منهم إلا إذا تخلى عن مذهبِه السني وأعلن ولاءه للمذهب الشيعي، واضطرت الدولةُ العثمانية نتيجةً لمعاهدة مع الصفويين أن تترك للدَّولة الصفوية الرافضية الشيعية جميعَ الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون في عهد السلطان الغازي سليمان الأول بما فيها مدينة بغداد! وهذه أول معاهدة تركت فيها الدولةُ بعضَ فتوحاتِها، وكانت فاتحةَ الانحطاط والضَّعفِ، وأوَّلَ المعاهدات التي دلَّت على ضعف الدولة العثمانية! لقد بالغ الشاه عباس الصفوي في عدائه للمذهب السُّني، وإمعانًا في ضرب الدولة العثمانية حاميةِ المذهب السنِّي اتصل بملوك النصارى، وعقَدَ اتفاقات تعاوُن مشترك معهم؛ من أجلِ تقويض أركان الدولة العثمانية السُّنية، وقدَّم العديد من التنازلات لهذه الدول الأوروبية النصرانية تأكيدًا لتعاونِه معهم انطلاقًا من عدائِه للدولة العثمانية، وعامل الشاه عباس الصفوي النصارى في إيران معاملةً حسنةً على عكس معاملته لأهل السنَّة، وقد كان لمعاملته المتميِّزة للنصارى أن نشِطَت الحركة التنصيرية في إيران، كما شجع التجار الأوربيين في عقد صفقات تجارية كبيرة مع التجَّار في إيران، وأصبحت إيران سوقًا رائجًا للتجارة الأوروبية، ثم توَّج تسامحه مع النصارى بأن أعلن في عام 1007هـ أوامِرَه بعدم التعرضِ لهم، والسماح لهم بحرية التجوُّل في ربوع الدولة الصفوية، وأعطاهم امتيازاتٍ ببناء الكنائس في كبرى المدن الإيرانية، وهذه المعاملة للنصارى كانت نكايةً في الدولة العثمانية السُّنِّية!!
على الرغمِ من اعتراف الدولة العثمانية بضم القرم لروسيا سنة 1186 إلَّا أنَّ قصْدَ روسيا ومساعديها انتشابُ القِتالِ؛ ليحظى كل منهم بأمنيتِه؛ لذلك عَمِلوا على إثارة خاطر الدولة العثمانية وإيقاعِها في الحربِ، فأخذوا في تحصين ميناء سباستوبول وأقاموا ترسانةً عظيمةً في ميناء كرزن، وأنشؤوا عمارةً بحرية من الطراز الأول في البحرِ الأسود وأرسلوا جواسيسَهم إلى بلاد اليونان وولايتي الفلاخ من البغدان؛ لتهييجِ النصارى على الدولةِ العثمانية، ثم توصَّلت كاترين الثانية إلى إدخال هرقل ملك الكرج تحت حمايتِها مُقدمةً لفتحِ بلادِه نهائيًّا وأخيرًا في سنة 1787م. ساحت كاترين في البلاد الجنوبية وبلاد القرم بأبَّهةٍ واحتفالٍ زائد، وأقام لها القائِدُ بوتمكين أقواسَ نصرٍ كُتِب عليها طريقُ بيزنطة، فعَلِمت الدولةُ العثمانية من كلِّ هذه الأحوالِ أنَّها تقصِدُ محاربتَها ثانيًا، وتأكَّد لها هذا العزمُ لَمَّا تقابلت كاترين في سياحتِها هذه مع ملك بولونيا وإمبراطور النمسا؛ ولذلك أرادت الدولةُ العثمانية هي المبادرةَ بإعلان الحربِ قبلَ تمامِ استعدادِ أعدائِها؛ ولإيجادِ سَبَبٍ له أرسلت بلاغًا إلى سفير روسيا بالأستانة المسيو جولغا كوف في صيف سنة 1787م تطلب منه تسليمَ موروكرداتو حاكِمِ الفلاخ الذي كان عصى الدولة والتجأ إلى روسيا، والتنازلَ عن حماية بلاد الكرج بما أنَّها تحت سيادة الدولةِ، وعزْلَ بعضِ قناصِلِها المهيِّجين للأهالي، وقبولَ قناصِلَ للدولة في موانئ البحر الأسود، وأن يكون لها الحَقُّ في تفتيش مراكِبِ روسيا التجارية التي تمرُّ مِن بوغاز الأستانة للتحقيقِ مِن أنَّها لا تحمِلُ سِلاحًا أو ذخائِرَ حربية, فرفض السفيرُ هذه الطلباتِ إلَّا بإذن دولته، فأعلن الباب العالي الحربَ عليها فورًا، وسجن سفيرَها في أغسطس سنة 1787م, ولما كان الجنرال بوتمكين لم يتِمَّ معداتِ الحربِ وقعَ في حيص بيص، وكتب إلى كاترين يخبرُها بعدمِ صلاحية البقاء في القرمِ ناصِحًا لها بإخلائِها في أقربِ وقتٍ، لا سيما وأنَّ مَلِكَ السويد جوستاف الثالث أراد انتهازَ هذه الفرصة لاسترجاعِ ما فقدَتْه دولتُه من المقاطعات والبلادِ التي أخذَتْها منها روسيا، لكِنْ لم تَثنِ هذه الحوادِثُ هِمَّةَ هذه الإمبراطورة التي أعانتها الأيامُ، بل كتبت للجنرال بوتمكين بعدمِ انتظار العثمانيين، والسيرِ بكلِّ شجاعةٍ وإقدامٍ على مدينتي بندر وأوزي، فصدع بأمرِها وسار نحو أوزي فحاصرها مدةً، ثم دخلها عَنوةً في 30 ربيع الآخر سنة 1203 هـ 19 نوفمبر سنة 1788م وفي هذه الاثناء كانت النمسا أعلنت الحرب على الدولة العثمانية مساعدة لروسيا، وحاول إمبراطورها يوسف الثاني الاستيلاءَ على مدينة بلغراد، فعاد بالخيبة إلى مدينة تمسوار؛ حيث اقتفى أثرَه الجيشُ العثماني وانتصر عليه نصرًا مُبينًا؛ ولذلك ترك الإمبراطور قيادةَ جيوشِه إلى القائد لودن.
أجبرت إنجلترا حكومةَ مِصرَ على سَحبِ جَيشِها من السودانِ بعد انتصارِ ثورة المهدي، وقاد كيتشنر مع عددٍ مِن الضباط الإنجليز حملةَ الجيش المصري لإعادةِ احتلال السودان من عام 1896م حتى عام 1898م؛ حيث انهزم المهديُّون في معركةِ أم درمان الفاصلة، فأجبر الإنجليز مصرَ على توقيع اتفاقية هذا العام (بحجَّة أن السودان قد أُعيدَ فتحه بدعمٍ مِن البلدين) فنصَّت الاتفاقيَّةُ على رفع العَلَمين المصري والإنجليزي. وعلى تعيينِ حاكمٍ عَسكريٍّ للسودان تختارُه بريطانيا ويعَيِّنُه الخديوي، ويفصل بالطريقة ذاتها. وكان كيتشنر أولَ حاكمٍ عسكريٍّ عامٍّ هناك، كما احتفظ لمصرَ في السودان بفرقةٍ عسكرية, وفي عام 1924م بدأت التظاهراتُ والاحتجاجات تعُمُّ مصر والسودان، أدَّت إلى اغتيال الحاكم العام للسودان أثناءَ زيارتِه لمصر، فاستغل الإنجليزُ مقتلَ اللواء الإنجليزي لي أوليفير فيتزماورس ستاك السردار (قائد) الجيش المصري في السودان، ما أدَّى إلى ردٍّ عنيفٍ تمثَّل بمنع مشاركة مصر في حُكمِ السودان حسَبَ معاهدة 1899م، فأجبر الإنجليزُ حُكومةَ مِصرَ على سحبِ فرقتِها العسكرية من السودان، ولكِنَّ بعضَ الوحدات المصرية ما لَبِثَت أن عادت بعد معاهدة 1936م. وفي الفترةِ التي نالت فيها مِصرُ استقلالها، تنامت حركاتُ المعارَضة في السودان. وقد نجح البريطانيون في مَطلَعِ العشرينايت في تكوين تيارٍ سوداني قوي معادٍ لمصرَ، وحمل شعار: «السودانُ للسودانيين» وأدَّت التحوُّلاتُ السياسية السودانية في الثلاثينيات إلى تصدُّعِ هذا الحِلْف، ذلك أنَّ نفوذَ حَركةِ المهدي وقُوى تحالفِها مع البريطانيين أدَّى هذا إلى إثارةِ حَفيظةِ الميرغني الذي قرَّر نكايةً بالإنجليز التحالُفَ مع القوى الوطنية «مؤتمر الخريجين» وراحوا ينادون من جديدٍ بالوَحدةِ مع مصر، إلَّا أنَّ خيبات الأمل والضَّرَبات التي كسرت الصورةَ المثالية لمصر عند السودانيين توالت، وخاصةً عند الشباب الذي سافر للتعلم في القاهرة. وكانت الضربةُ الثانيةُ بعد معاهدة 1936م بين مصر وبريطانيا التي أعادت إلى مصرَ شيئًا من نفوذِها على السودان. فقد صدمت هذه المعاهدةُ السودانيين؛ لأنَّها لم تذكُرْ لهم أيَّ دور، هذا ما أعاد بعثَ الحركة الوطنية التي وإن كانت تتطلَّعُ إلى مصر، إلَّا أنَّها أدركت أنَّ مِصرَ لا يمكِنُ الاعتماد عليها كليًّا لتعَبِّرَ عن صوت السودانيين. بعد ذلك حصل منعطَفٌ كبير وهو ثورة 23 يوليو 1952م في مصر، وبروز اللواء محمد نجيب، الذي كان يتمَتَّعُ بشعبية واسعة في السودان؛ حيث اعتُبِرَ أنَّه نِصفُ سودانيٍّ، وبعده مجيء جمال عبد الناصر، فأعطت هذه الثورةُ دفعةً قويةً لتيار الوَحدةِ بعد تراجُعِه كثيرًا. وكانت الثورةُ مُتجاوِبةً مع الوَحدويِّين السودانيين، وكان قادتُها على قدر كبير من التفَهُّم والوعي لمطامِحِ الحركة الوطنية السودانية، وتمكَّنوا في الوقت نفسِه من طمأنة حزبِ الأمة والاستقلاليين إلى نوايا مصرَ، ولم يتردَّدوا في توقيعِ اتفاق مع كلِّ الأحزاب السودانية في عام 1953م لمنح السودان حقَّ تقريرِ مَصيرِه.
كان فيصل بن الحسين ثالثُ الأبناء قد نُصبَ ملكًا على سوريا الجزءِ الأكبر من بلاد الشام، لكِنَّه لم يلبث أن طُرِدَ في العاشر من ذي القعدة 1338هـ / 25 تموز 1920م عندما دخل الفرنسيون إلى سوريا، وكانت إنجلترا بعد أن نكَثَت كلَّ العهود التي أعطتها للشريف حسين ظنَّت أنَّ فيصلًا أنسب أبنائه لحُكمِ العراق التي كانت تحت سيطرتها، فكتب وزيرُ الخارجية الإنجليزي كرزون إلى نائب الحاكِمِ الملكي في العراق يسألُه عن هذا الرأي، فرد النائب باقتراح أحدِ هؤلاء: هادي العمري، نقيب أشراف بغداد، عبد الرحمن الكيلاني، أحد أبناء الحسين بن علي، أحد أفراد الأسرة الخديوية في مصر. مع ترشيحِه هو لهادي العمري، كان تفضيل بريطانيا لفيصل ابن الشريف حسين ليكونَ ملكًا على العراق لعدَّةِ أسباب: منها تهدئة خواطر العرب الذين أُصيبوا بخيبةِ أملٍ بعد عزم دول الحُلَفاء بفرضِ سياسة الانتداب على البلاد العربية التي كانت تحت حُكمِ الدولة العثمانية، ووعد بلفور الذي يهدِّدُ مستقبل فلسطين، وكذلك اطمئنان الإنجليز من شِدَّةِ ولاء الشريف حسين وأبنائه للإنجليز واستعدادهم لتنفيذ سياساتها في المنطقة بكلِّ إخلاص. لذلك دعت الحكومةُ البريطانية فيصلًا لزيارة لندن، وقابل الملك جورج الخامس الذي عَرَض عليه مُلكَ العراق، لكن فيصل أبدى اعتراضًا، وهو أن أخاه عبد الله رشَّحه الشاميون لمُلك العراق، فقام لورنس بالتفاوض مع عبد الله على أن يكون هو ملكًا على شرق الأردن، ويترك مُلْك العراق لأخيه فيصل، فوافق، ثم قام برسي كوكس ممثِّل الحكومة البريطانية في العراق بتشكيل حكومةٍ وطنية، فكُوِّنت بمساعدة عبد الرحمن الكيلاني، وكُوِّن مجلس شورى، ثم قَبْلَ تنصيبِ الملك فيصل على العراق ساومه ونستون تشرشل على أن يكونَ بينهما معاهدة -يعني بين العراق وإنجلترا- تقوم مقامَ الانتداب وتؤدِّي غرضَه، يعني: في تحقيق مصالح إنجلترا في العراق، ثم ليبدوَ الأمر ليس مفروضًا على العراق؛ لأن المرشَّحين لمنصب الملك على العراق كُثُر، ومع أنه اقترح غير النظام المَلَكي، لكنَّ إنجلترا رأت أنَّ النظام الملكي حاليًّا أنسب لوضع العراق، ثم أخذت بإشاعةِ الخبر والدعاية لفيصل في العراق، ثم صرحت الحكومةُ البريطانية بموافقتها على ترشيحه، وبعد أن انتهت التمهيداتُ سافر فيصل إلى العراق على متنِ الباخرة البريطانية نورث بروك في ميناء البصرة في السابع عشر من شوال 1339هـ / 23 حزيران 1921م فاستُقبِلَ استقبالًا حارًّا، ثم سافر إلى بغداد، وكلما مرَّ على قرية عُمِلت له الاحتفالات، ووصل إلى بغداد في 23 شوال 1339هـ / 29 حزيران 1921م وبايعه مجلس الوزراء في الخامس من ذي القعدة من العام نفسه / 5 تموز، وأعدت وزارة الداخلية صورةً لمضبطه يُعلِنُ فيها الأهالي تأييدَهم، وتُوِّجَ مَلِكًا على العراق في يوم 18 ذي الحجة 1339هـ / 23 آب 1921م.
بعد أن رأى الكثيرُ من السوريين أنَّ الكفاحَ المسلَّحَ لا يتكافأُ مع القوات الفرنسية لجؤوا إلى الكفاح الدبلوماسيِّ، فبدأت تظهَرُ الكتلة الوطنية والجمعية التأسيسية التي دعت لوضع دستورٍ للبلاد، وعمَلِ انتخابات نيابية حُرَّة، وإلغاءِ الأحكام العرفية، ثم حصلت تطوراتٌ في إصدار دساتير عديدة، أحدها لدولة سوريا، وآخر لدولة العلويين في اللاذقية، وثالث للدروز، ثمَّ حُلَّت الحكومة المؤقتة، وعملت انتخابات جديدة، وحصل محمد علي العابد على رئاسة الجمهورية، ولكِنْ في أواخر سنة 1935م قام إضرابٌ عام في دمشق استمر خمسين يومًا، وحصلت اضطراباتٌ، واستقالت أكثَرُ من وزارة، وبسبب ذلك تم الاتفاقُ على معاهدة تضع حدًّا للانتداب، فشُكِّلَ وَفدٌ سوريٌّ مكَلَّفٌ بالتفاوضِ مع الحكومة الفرنسية برئاسة هاشم الأتاسي، وعضوية كلٍّ من فارس الخوري، جميل مردم، سعد الله الجابري: ممثِّلين عن الكتلة الوطنية، ومصطفى الشهابي، إدمون حمصي: ممثلين عن الحكومة، ونعيم أنطاكي سكرتيرًا، والقائم مقام أحمد اللحام أحد ضباط الجيش العربي سابقًا خبيرًا ومستشارًا عسكريًّا، التقى الوفدُ بسياسي وزارة خارجية فرنسا، وكانت العقبةُ الأساسية الأولى التي اختلف عليها الطرفان هي قضية توحيد الأراضي؛ فقد أصرَّ الجانِبُ السوري المفاوِضُ على وَحدة الأراضي السورية بالشَّكلِ الذي كانت عليه في عهد العثمانيين، وتوصَّل الطرفان المتفاوضان إلى حَلٍّ وَسطٍ يقضي بقيام دولتين مستقلَّتين في المنطقة سورية ولبنان، وأن يبقى لبنانُ ضِمنَ حدوده الراهنة، مقابِلَ موافقة الوفد الفرنسي على إعادة توحيد إقليمي جبل الدروز وجبل العلويين مع سورية، وأمَّا بالنسبة لسنجق الإسكندرونة فقد أقرَّت فرنسا بتبعيته لسورية، ولكنْ بشرط أن يكون له وضعٌ خاصٌّ يُتَّفَق عليه فيما بعد. وكانت العقبةُ الثانية أمام نجاح المفاوضات هي المتعلقة بالقوات السورية الخاصة بعد توقيع المعاهدة، وأصرَّ الوفدُ السوري على استعادة القوات فورًا؛ نظرًا لأنَّ نفقاتِها كانت من الموازنة السورية طيلةَ السنوات العشر الأخيرة، أمَّا الجانب الفرنسي فكان يرغَبُ بإبقائها تحت قيادة ضباط فرنسيين خلالَ فترة معينة يمكِنُ بعدها تسليمُها إلى الحكومة السورية بعد توقيع اتفاق عسكري معها، فتَمَّ الاتفاق على أنه يجوز للحكومة الفرنسية أن تحتَفِظَ ولمدة خمس سنوات ببعض القوات خارج المدن وبمطارين، وبقوات محدودةٍ ضِمنَ محافظتي جبل الدروز ومنطقة العلويين، على أن تعترف المعاهدةُ باستقلال سوريا. لكِنَّ المعاهدة لم يُنفَّذ منها شيء؛ لأنها لم تُعرَض على البرلمان الفرنسي، واقترح إضافة ملاحق جديدة على المعاهدة، منها إعطاءُ حكم ذاتي للدروز والنصيريين وسكان الجزيرة الفراتية حكمًا ذاتيًّا، وتعدى الاتفاق العسكري الذي يوجِبُ جلاء الجيش الفرنسي عن البلاد بحيث يصبِحُ هذا الوجود دائمًا.
هو عبد السلام محمد عارف الجميلي: ثاني رؤساء العراق بعد سقوطِ المَلَكيَّة وقيام الجمهورية العراقية، وقد وُلِدَ في مدينة "حديثة" على نهر الفرات في أسرة فقيرة، ثم انتقل مع أسرته إلى بغداد والتحق بالمدارس الحكومية، ثم دخل الكليةَ الحربيَّةَ وتخرَّج منها برتبة ملازم، ثم اشترك في حربِ فلسطين، وقابل هناك عبدَ الكريم قاسم، وانضمَّ عن طريقه إلى اللجنة المركزية للثورة العراقية، وقام بدورٍ كبير في الثورة على المَلَكية في ذي الحجة سنة 1377هـ؛ حيث قاد اللواءَ العشرين ببغداد، واستولى على مبنى الإذاعة وأصدر بيانَ الثورة، وأعلن قيامَ الجمهورية؛ ولذلك كان يُعِدُّ نفسَه القائدَ الفعليَّ للثورة، وقد تمَّ تعيينُه نائبًا للرئيس عبد الكريم قاسم. أصبح عبد السلام عارف رئيسًا للعراق سنة 1382هـ بعد خلافاتٍ شديدة مع عبد الكريم قاسم انتهت بمقتل قاسم بعد سلسلةٍ من المظاهرات والاضطرابات ضِدَّ حُكمِه، كان عبدُ السلام عارف ذا مُيولٍ أخلاقيَّة إسلامية، ولكنَّه كان شديدَ الانبهار بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان يرى وجوبَ الانضمامِ إلى مصر على نمطِ الاتحاد المصري السوري، فلما تولى الرياسةَ نظَّم الحكمَ على النَّمَطِ النَّاصري؛ مما أثار عليه حزبَ البعث والأحزاب الشيوعية، ثم زادت الأمورُ اضطرابًا بعد فشل الاتحاد بين مصر وسوريا؛ بسبب حزبِ البعث السوري، فبَطَش عارف بالبعثيين في العراق لإرضاء عبد الناصر، ثم أخذ في إرساءِ قواعد الوَحدة بين مصر والعراق، وحضر حفلَ تدشين بناء السد العالي سنة 1384ه، وبدأ في تنظيمِ الدستور العراقي بصورةٍ تشبه لحدٍّ كبيرٍ الدستورَ المصري، وأمَّم المصارِفَ والصناعات الكبرى، ولكنَّه قام أيضًا بإلغاء الأحكامِ العرفيَّة، والمحاكم العسكرية، وأطلق سراحَ المعتقلين السياسيين. بعد ذلك أخذ الخلافُ يظهر بين أتباع الحزب الناصري الذين يريدون الوَحدةَ مباشرةً دون دراسةٍ والخضوعَ التامَّ لعبد الناصر، وبين عبد السلام عارف الذي لم يقبَلْ بالوحدة، وحاول الناصريونَ الانقلابَ على عارف أثناء وجوده في مؤتمر القمة العربية بالدار البيضاء سنة 1385هـ، وطلب جمال عبد الناصر من عبد السلام عارف العفوَ عن المتآمرين وقادةِ الانقلاب، ولكنَّ عارفًا رفض بشدة، ثم زادت الشُّقَّةُ بين الرجلين وشعر عبد الناصر بأنَّ عارفًا لم يكن يومًا من أتباعِه أو أنصارِه. وفي يوم 23 من ذي الحجة سنة 1385هـ وأثناء رحلة داخلية لعبد السلام عارف بالطائرة الهليكوبتر وعند قرية «القرنة» قرب البصرة انفجرت الطائرةُ بسبب قنبلةٍ وُضِعَت فيها، ليلقى عبد السلام عارف ورفاقُه مصرعَهم في الحال، وقد أذاعت الحكومةُ العراقيَّةُ أنَّ سَبَبَ الحادثة العواصِفُ الرَّعديةُ! وهكذا انتهت حياتُه بصورةٍ غامضة.
هو الأميرُ محمدُ ابنُ المَلِكِ فَيصلِ ابنِ الملِكِ عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ فَيصَلٍ آل سعودٍ، ولِدَ عامَ 1356هـ في مدينةِ الطائفِ، وهو الابنُ الثاني بعدَ الأميرِ الشاعرِ عَبد اللهِ الفَيصَلِ لنائبِ المَلِكِ على الحجازِ، الأميرِ فَيصَلِ بنِ عبدِ العزيزِ -آنَذاكَ-، والابنُ البِكرُ للأميرةِ عِفَّت الثَّنيان آل سعودٍ، التي قادت مشروعَ تعليمِ الفتاةِ السُّعوديةِ، وأنشأَتْ أولَ مَدارسَ للبناتِ، دار الحَنانِ، في الخمسينيَّاتِ الميلاديةِ، ثم حَرَصَتْ أنْ تَختِمَ حَياتَها بأوَّلِ جامِعةٍ أهليَّةٍ للبناتِ (جامِعةِ عفت). فقَدَ الأميرُ محمدٌ ذاكِرتَه قبلَ العاشرةِ من عُمرِه نتيجةً لإصابتِه بمَرضِ التيفوئيد، وكان شفاؤه منه أُعجوبةً لضَعفِ الإمكانيَّاتِ الطِّبيَّةِ في ذلك الحينِ، ثم استعادَ قُدرتَهُ على الكَلامِ والمَشيِ، وعاد إلى مدرسةِ الطائفِ النموذجيَّةِ التي أنشأتها والدتُه، وانتقَلَ بعدَها ليواصِلَ دراستَه الثانويَّةَ والجامعيَّةَ في الولاياتِ المُتَّحدةِ، ويتخرَّجَ في كليَّةِ مانيلو، سان فرانسيسكو، بشهادةِ بكالوريوس في الاقتصادِ والإدارةِ عامَ 1963. ثم التحَقَ بالبَعثةِ الدبلوماسيةِ السعوديةِ في الأمَمِ المتَّحدةِ، إضافةً إلى دَورِه في التواصُل مع إدارةِ الرئيسِ جون كنيدي. ثم عاد إلى المَملكةِ فعَمِلَ في مؤسسةِ النقدِ، ثم انتقلَ للعَمَلِ مع وزارةِ الزراعةِ؛ لتنفيذِ مَشروعِه الرائدِ "تَحليةِ مِياهِ البَحرِ"، بدَأَ بأوَّلِ مَحطَّةٍ في جُدَّةَ، في أوائلِ السَّبعينيَّاتِ، ثم بشبَكةِ مَحطَّاتٍ على شواطئِ البحرِ الأحمرِ والخَليجِ العربيِّ. ولكنَّه لم يَنجَحْ في تَمريرِ مَشروعِه الرائدِ لتوفيرِ المياهِ والكَهرباءِ وتَحسينِ البيئةِ عن طريقِ نَقلِ قِطَعٍ من جبالِ الجَليدِ من القطبِ الجنوبيِّ إلى شواطئِ البحرِ الأحمرِ، برَغمِ دراساتِ الجَدوى التي شاركَ فيها عُلَماءُ مشاهيرُ في التخصُّصاتِ كافَّةً ذاتِ الصِّلةِ، وتوصِياتِ مُؤتمَراتٍ دَوليَّةٍ مُتعدِّدةٍ، تَكفَّلَ وَحدَه بنَفَقاتِها. استقالَ الأميرُ في نِهايةِ السَّبعينيَّاتِ من وظيفتِه كأوَّل محافظٍ للمؤسَّسةِ العامَّةِ لتَحلِيةِ مِياهِ البَحرِ؛ ليَعملَ على تحقيقِ حُلْمٍ آخرَ هو البنوكُ الإسلاميةُ التِّجاريَّةُ، بعد مُشاركتِه في إنشاءِ البنكِ الإسلاميِّ للتنميةِ. واستطاعَ أنْ يُنشِئَ شَبَكةَ فُروعِ "بَنكِ فَيصَلٍ الإسلاميِّ" في مِصرَ والسودان والإماراتِ والبحرينِ وجنيف وباكستانَ وتركيا. وأسَّسَ وقادَ أوَّلَ اتِّحادٍ للبنوكِ الإسلاميةِ. ثم أنشَأَ "جائزةَ محمدٍ الفَيصَلِ لدراساتِ الاقتصادِ الإسلاميِّ"، وخُصِّصَت الجائزةُ للطلَّابِ في مراحلِ ما قبلَ الدكتوراه. وبعد وفاةِ والدِه الملكِ فَيصلِ بنِ عَبدِ العزيزِ شاركَ الأميرُ محمدٌ مع إخوانِه في تكريمِ والدِهم بإقامةِ مؤسَّسةِ الملكِ فَيصَلٍ الخَيريَّةِ، التي يَتبَعُها مركزُ الملكِ فيصلٍ للبُحوثِ والدراساتِ الإسلاميةِ، وجامعةُ الفيصَلِ، وجامعةُ عفت، وجائزةُ الملكِ فَيصلٍ. وكانت وفاتُه -رحِمَه الله- عن عمرٍ يُناهِزُ 80 عامًا، وصُلِّيَ عليه بعد صلاةِ العَصرِ في المسجِدِ الحرامِ بمكَّةَ.
أَغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ -في بني عبدِ الله بنِ غَطَفانَ- على لِقاحِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي بالغابةِ، فاسْتاقَها وقتَل راعيَها، وهو رجلٌ مِن غِفارٍ، وأخذوا امْرأتَهُ، فكان أوَّلَ مَن نذَر بهم سَلمةُ بنُ عَمرِو بنِ الأَكْوَعِ الأَسلميُّ رضي الله عنه، يقول سَلمةُ: خَرجتُ قبلَ أن يُؤذَّنَ بالأولى، وكانت لِقاحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَرعى بِذي قَرَدٍ، قال: فلَقِيَني غُلامٌ لِعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ فقال: أُخِذَتْ لِقاحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فقُلتُ: مَن أخَذها؟ قال: غَطَفانُ. قال: فصَرختُ ثلاثَ صَرخاتٍ، يا صَباحاهُ. قال: فأَسمَعتُ ما بين لابَتَيِ المدينةِ، ثمَّ اندَفعتُ على وجهي حتَّى أدركتُهم بِذي قَرَدٍ، وقد أخَذوا يَسقون مِنَ الماءِ، فجَعلتُ أَرميهِم بِنَبْلي، وكنتُ راميًا، وأقولُ: أنا ابنُ الأكوعِ... واليومُ يومُ الرُّضَّعِ، فأَرتَجِز حتَّى اسْتنقَذتُ اللِّقاحَ منهم، واسْتلَبتُ منهم ثلاثين بُردةً، قال: وجاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والنَّاسُ، فقلتُ: يا نَبيَّ الله، إنِّي قد حَمَيْتُ القومَ الماءَ وهُم عِطاشٌ، فابعثْ إليهم السَّاعةَ. فقال: «يا ابنَ الأَكوعِ مَلَكْتَ فأَسْجِحْ». ثمَّ قال: «إنَّهم الآنَ ليُقْرَوْنَ في غَطَفانَ». وذهَب الصَّريخُ بالمدينةِ إلى بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، فَجاءتِ الأَمدادُ ولم تَزلْ الخيلُ تأتي، والرِّجالُ على أَقدامِهم وعلى الإبلِ حتَّى انْتَهَوْا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِذي قَرَدٍ. وبلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ماءً يُقالُ له: ذو قَرَدٍ. فنحَر لِقْحَةً ممَّا اسْتَرجَع، وأقام هناك يومًا وليلةً، ثمَّ رجَع إلى المدينةِ. وقُتِلَ في هذه الغَزوةِ الأَخْرَمُ، وهو مُحْرِزُ بنُ نَضْلَةَ رضي الله عنه، قتَلهُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُيينةَ، وتَحوَّل على فَرسِه، فحمَل عليه أبو قَتادةَ فقَتلهُ، واسْتَرجَع الفَرسَ، وكانت لِمحمودِ بنِ مَسلمةَ، وأَقبلتِ المرأةُ المَأسورةُ على ناقةٍ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد نَذرتْ: إنِ الله أَنجاها عليها لَتَنْحَرَنَّها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: بِئسَ ما جَزَتْها، لا نذرَ لابنِ آدمَ فيما لا يَملِك، ولا في مَعصيةٍ. وأخَذ ناقتَهُ. وقد رَوى مُسلمٌ في صَحيحِه عن سَلمةَ بنِ الأَكوعِ في هذه القِصَّةِ قال: فرجَعنا إلى المدينةِ، فلم نَلبثْ إلَّا ثلاثَ ليالٍ، حتَّى خرَجنا إلى خَيبرَ.
أبو بكرِ بن عُمرَ بن تكلاكين اللَّمتوني، أَميرُ المُلَثَّمِين، وهو ابنُ عَمِّ يُوسفَ بنِ تاشفين أَميرِ المُرابطين، كان في أَرضِ فرغانة، خَلَفَ أَخاهُ يحيى بن عُمرَ في زَعامةِ صنهاجة وتَقَلَّدَ أُمورَ الحَربِ، اتَّفقَ له مِن النَّاموسِ ما لم يَتَّفِق لِغيرهِ مِن المُلوكِ، كان يَركَبُ معه إذا سار لِقِتالِ عَدُوٍّ خمسُمائةِ ألفِ مُقاتلٍ، كان يعتقد طاعته، لمَّا قَدِمَ عبدُالله بن ياسين للصحراء لصحراء أفريقية لِدَعوةِ قَبائلِها وتَعليمِهم أُمورَ دِينِهم وإقامةِ شَرعِ الله فيهم؛ فلمَّا قَدِمَ على لتمونة لمتونة قَبيلةِ يُوسفَ بنِ تاشفين, فأَكرَموه، وفيهم أبو بكرِ بن عُمرَ، فذَكَر لهم قواعدَ الإسلامِ، وفَهَّمَهُم، فقالوا: أمَّا الصلاةُ والزَّكاةُ فقَريبٌ، وأمَّا مَن قَتَلَ يُقتَل، ومَن سَرقَ يُقطَع، ومَن زَنَى يُجلَد، فلا نَلتَزِمُه، فذَهَبَا في تلك الصحارى المُتَّصِلَةِ بإقليمِ السُّودانِ حتى انتَهَيَا إلى جدالة، قَبيلةِ جوهر، فاستجابَ بَعضُهم، فقال ابنُ ياسين للذين أَطاعُوه: قد وَجَبَ عليكم أن تُقاتِلوا هؤلاء الجاحِدين، وقد تَحَزَّبُوا لكم، فانْصُبوا رايةً وأَميرًا. قال جوهر: فأنت أَميرُنا. قال: لا، أنا حامِلُ أَمانةِ الشَّرعِ؛ بل أنت الأميرُ. قال: لو فعلتُ لَتَسَلَّطَت قَبيلَتِي، وعاثُوا. قال: فهذا أبو بكر بن عُمرَ رَأسُ لَمتونَة، فسِرْ إليهِ وعرض واعرض عليه الأَمرَ، فبايَعُوا أبا بكرٍ، ولَقَّبُوه أَميرَ المُسلمين، وقام معه طائفةٌ مِن قَومهِ وطائفةٌ مِن جدالة، وحَرَّضَهم ابنُ ياسين على الجِهادِ، وسَمَّاهُم المُرابِطين، فثارت عليهم القَبائلُ، فاستَمالَهم أبو بكرٍ، وكَثُرَ جَمعُه، وبَقِيَ أَشرارٌ، فتَحَيَّلُوا عليهم حتى زَرَبوهُم في مكانٍ، وحَصَرُوهُم، فهَلَكوا جُوعًا، وضَعُفُوا، فقَتَلوهُم، وقَوِيَ أَمرُ أبي بكر بن عُمرَ وظَهرَ، ودانت له الصحراءُ، ونَشأَ حول ابنِ ياسين جَماعةٌ فُقهاءُ وصُلَحاءُ، وظَهرَ الإسلامُ هناك، وكان مع هذا يُقيمُ الحُدودَ ويَحفظُ مَحارِمَ الإسلامِ، ويَحوطُ الدِّينَ ويَسيرُ في الناسِ سِيرَةً شَرعِيَّةً، مع صِحَّةِ اعتِقادِه ودِينِه، ومُوالاةِ الدولةِ العبَّاسِيَّةِ، في سَنةِ 453هـ قام أبو بكر بن عُمرَ بِتَوْلِيَةِ ابنِ عَمِّهِ يُوسف بن تاشفين شُؤونَ المُرابِطين، وتَوَجَّهَ هو إلى الجنوبِ على رَأسِ جَيشٍ مُختَرِقًا بِلادَ سجلماسة ثم قَصدَ بِلادَ السُّودانِ السِّنغالَ مُتَوَغِّلًا فيها ناشِرًا للإسلامِ إلى أن أَصابَتهُ نُشَّابَةٌ في بَعضِ غَزَواتِه في حَلْقِه فقَتَلَتْهُ وهُم في قِتالٍ مع السُّودانِ السِّنغالِ.
بعد استيلاء المغول على بخارى وما كان فيها منهم رحلوا نحو سمرقند وقد تحقَّقوا عجز خوارزم شاه عنهم، وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ، واستصحبوا معهم من سَلِمَ من أهل بخارى أسارى، فساروا بهم مشاةً على أقبح صورة، فكلُّ من أعيا وعجز عن المشي قتلوه، فلما قاربوا سمرقند قدَّموا الخيَّالة، وتركوا الرجَّالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى تقدموا شيئًا فشيئًا، ليكون أرعبَ لقلوب المسلمين؛ فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه، فلما كان اليومُ الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرةٍ من الأسارى عَلَم، فظن أهل البلد أن الجميعَ عساكر مقاتلة، وأحاطوا بالبلدِ وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله، وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحدٌ؛ لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجَّالة بظاهر البلد، فلم يزل التتر يتأخَّرون، وأهل البلد يَتبَعونهم، ويطمعون فيهم، وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينًا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولًا، فبَقُوا في الوسط، وأخذهم السيفُ من كل جانب، فلم يسلَمْ منهم أحد، قتلوا عن آخرهم، وكانوا سبعين ألفًا على ما قيل، فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضَعُفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك، فقال الجند: وكانوا أتراكًا: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، ففتحوا أبوابَ البلد، ولم يقدِر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفَّار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفار: ادفعوا إلينا سلاحَكم وأموالكم ودوابَّكم ونحن نسيركم إلى مأمنِكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخِرِهم، وأخذوا أموالَهم ودوابَّهم ونساءهم، فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم، ومن تأخَّرَ قتلوه، فخرج جميعُ الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلِهم مع أهل بخارى من النهب، والقتل، والسبي، والفساد، ودخلوا البلدَ فنهبوا ما فيه، وأحرقوا الجامِعَ وتركوا باقي البلد على حاله، وافتضُّوا الأبكار، وعذَّبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرَّم، وكان خوارزم شاه بمنزلته كلمَّا اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند، فيرجعون ولا يقدرون على الوصولِ إليها.
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
هو الشَّيخُ الزَّاهِدُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الحاج الفاسي المغربي نزيلُ مِصرَ العَبدري الفقيه المالكي عُرِفَ بابنِ الحاجِّ، وأخذ عن جماعةٍ منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أبي جمرة، قَدِمَ القاهرة وسَمِعَ بها الحديث وحَدَّث بها وهو أحدُ المشايخ المشهورين بالزُّهدِ والخير والصلاح، صَحِبَ جماعة من الصلحاء أربابِ القلوب وتخَلَّق بأخلاقهم وأخذ عنهم الطريقةَ, وصَنَّف كتابه المشهور "المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها وقبحها" قال عنه ابن حجر: " جمع ابن الحاجِّ كتابًا سَمَّاه المدخَل كثير الفوائد كشف فيه من معايبَ وبِدَع يفعلها الناسُ ويتساهلون فيها، وأكثَرُها مما ينكَرُ وبَعضُها مما يُحتَمَل". #قال الألباني عن هذا الكتاب ما نصه: "قولُ بَعضِهم: إنه ينبغي ألَّا يذكُرَ حوائِجَه ومغفرةَ ذُنوبِه بلِسانِه عند زيارةِ قَبرِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم لأنَّه أعلَمُ منه بحوائِجِه ومصالحه! ومما يؤسَفُ له أن هذه البدعة واللتين بعدها قد نقلتها من «كتاب المدخل» لابن الحاج (1/ 259، 264) حيث أوردها مسلِّمًا بها كأنَّها من الأمور المنصوصِ عليها في الشِّريعةِ، وله من هذا النحو أمثلة كثيرة سبق بعضُها دون التنبيه على أنها منه، وسنذكر قسمًا كبيرًا منها في الكتابِ الخاصِّ بالبدع إن شاء الله تعالى، وقد تعجَّبَ من ذلك لِما عُرِف أن كتابه هذا مَصدرٌ عظيم في التنصيص على مفردات البدع، وهذا الفصل الذي خَتَمتُ به الكتاب (أحكام الجنائز) شاهِدٌ عدل على ذلك، ولكِنَّك إذا علمت أنَّه كان في عِلمِه مُقَلِّدًا لِغَيره، ومتأثرًا إلى حد كبير بمذاهِبِ الصوفية وخُزَعبلاتها، يزول عنك العَجَبُ وتزداد يقينًا على صِحَّةِ قول مالك: "ما مِنَّا من أحد إلا رَدَّ ورُدَّ عليه الا صاحِبُ هذا القبر" صلَّى الله عليه وآله وسلم, و قوله- ابن الحاج-: لا فَرقَ بين موتِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم وحياتِه في مشاهدتِه لأُمَّتِه ومعرفتِه بأحوالِهم ونيَّاتِهم وتحَسُّراتهم وخواطِرِهم! قال شيخ الإسلام في "الرد على البكري" (ص 31): "ومنهم من يظنُّ أن الرَّسولَ أو الشيخَ يَعلَمُ ذنوبه وحوائِجَه وإن لم يذكُرْها، وأنه يَقدِرُ على غفرانِها وقضاء حوائجه ويَقدِرُ على ما يقدِرُ الله، ويَعلَمُ ما يعلم الله، وهؤلاء قد رأيتُهم وسَمِعتُ هذا منهم وعنهم شيوخٌ يقتدى بهم، ومُفتون وقضاة ومدرسون! والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله" توفي ابن الحاج عن بضع وثمانين، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى، ودُفِنَ بالقرافة وقد عَلَت سِنُّه وكُفَّ بَصَرُه، وكانت جنازتُه عظيمةً.