في الخامس من رجب حصل بين المماليك الأجلاب وبعض الأمراء مناوشات، وكان عند السلطان جماعة من خشداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرق الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة الحرب وعادوا إلى القصر بقوة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم لنهب الحريم السطاني بداخل الدور، ودخل على السلطان ثلاثة أنفار منهم وهم ملثَّمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلًا، ثم قام معهم مخافةً من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشًا ومقعدًا، ونزل معه بعض مماليكِه وبعض الأجلاب أيضًا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النمجة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خير بك، بعد أن أطلقوا عليه اسم السلطان، وقبَّل له الأرض جماعةٌ من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هؤلاء الأجلاب الأوباش، غير أن خير بك لما أخذ النمجة والدرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصينِ القلعة، وبينما هو في ذلك فرَّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدي ومغلباي وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خير بك بدًّا من الإفراج عن الملك الظاهر تمربغا ومن معه من خشداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خير بك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبِّلُها، ويبكي ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرع أنواعًا كثيرة، فقَبِل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النمجة والدرقة، وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوي أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباي بمن معه من الأمراء بالرملة، فلما تم جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته، أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباي لمساعدته، ولما تم أمر الأتابك قايتباي من قتال الأجلاب وانتصر، طلع من باب السلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل بتلك العظمة الزائدة فكلَّمه بعض الأمراء في السلطنة، وحسَّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعًا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبَّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضًا، فقالوا: ما بقي يفيد الامتناع، وقد قبَّلنا لك الأرض، فإمَّا تذعن وإما نسلطن غيرك، فأجاب عند ذلك، فلما تمَّ أمر الأتابك قايتباي في السلطنة، طلع الأمير يشبك بن مهدي الظاهري الكاشف بالوجه القبلي إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرَّفه بسلطنة قايتباي، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة فكانت مدة سلطنته ثمانية وخمسين يومًا، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباي بالسلطنة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي، ونودي في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقب بالملك الأشرف قايتباي المحمودي.
كان سببُ قَتلِ محمَّدِ بنِ زيد العَلويِّ أنَّه لَمَّا عَلِمَ بأسر عمرِو بن الليث الصَّفَّار، خرج من طبرستان نحو خراسان ظنًّا منه أنَّ إسماعيل الساماني لا يتجاوزُ عَمَلَه، ولا يقصِدُ خُراسان، وأنه لا دافِعَ له عنها، فلما سار إلى جُرجان أرسل إليه إسماعيل، وقد استولى على خُراسان، يقول له: الزَمْ عمَلَك، ولا تقصِدْ خُراسان؛ وتَرك جُرجان له، فأبى ذلك محمد، فندب إليه إسماعيلُ بنُ أحمد، محمَّدَ بنَ هارون، ومحمَّدٌ هذا كان يخلُفُ رافِعَ بنَ هرثمة أيَّامَ ولايتِه خراسان، فجمع محمَّدٌ جمعًا كثيرًا من فارسٍ وراجلٍ، وسار نحوَ محمَّد بن زيد، فالتَقَوا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم محمد بن هارون أوَّلًا ثم رجع وقد تفَرَّقُ أصحاب محمد بن زيد في الطلبِ، فلما رأوه قد رجع إليهم ولَّوا هاربينَ، وقُتِلَ منهم بشَرٌ كثيرٌ، وأصابت ابنَ زيدٍ ضَرَباتٌ، وأُسِرَ ابنُه زيد، وغَنِمَ ابنُ هارون عسكَرَه وما فيه، ثم مات محمَّد بن زيد بعد أيَّامٍ مِن جراحاته التي أصابته، فدُفِنَ على باب جرجان, وحُمِلَ ابنُه زيد بن محمد إلى إسماعيل بن أحمد، فأكرمه ووسَّعَ في الإنزال عليه، وأنزله بُخارى، وسار محمَّدُ بن هارون إلى طبرستان.
أوقع ثمل متولي طرسوس بالرُّومِ وَقعةً عظيمةً، قتل منهم خلقًا كثيرًا وأسرَ نحوًا مِن ثلاثةِ آلاف، وغَنِمَ من الذهَبِ والفِضَّة والديباج شيئًا كثيرًا جِدًّا، ثم أوقع بهم مَرَّةً ثانيةً كذلك، وكتب ابنُ الديراني الأرمني إلى الرومِ يحُثُّهم على الدُّخولِ إلى بلادِ الإسلامِ ووعَدَهم النَّصرَ منه والإعانةَ، فدخلوا في جحافِلَ عظيمةٍ كثيرةٍ جِدًّا، وانضاف إليهم الأرمنيُّ فركب إليهم مُفلِحٌ غلامُ يوسُفَ بنِ أبي الساج وهو يومئذٍ نائبُ أذربيجان واتَّبَعه خلقٌ كثيرٌ مِن المتطوِّعة، فقصد أوَّلًا بلادَ ابنِ الديراني، فقتل من الأرمن نحوًا من مائةِ ألفٍ، وأسر خلقًا كثيرًا، وغنِمَ أموالًا جزيلةً، وتحصَّنَ ابنُ الديراني في قلعةٍ له هناك، وكاتَبَ الرومَ، فوصلوا إلى شميشاط، فحاصروها، فبعث أهلُها يستصرِخونَ سعيدَ بنَ حمدان نائبَ المَوصِل، فسار إليهم مُسرِعًا، فوجد الرومَ قد كادوا يفتَحونَها، فلمَّا عَلِموا بقدومه رحلوا عنها واجتازوا بمَلطية فنهبوها، ورجعوا خاسئينَ إلى بلادهم، ومعهم ابنُ نفيس المتنَصِّر، وقد كان من أهل بغداد ثمَّ تنصَّرَ بعد فشَلِ عَزلِ المُقتَدِر، وركب ابنُ حمدان في آثار القومِ، فدخل بلادَهم فقتل خلقًا كثيرًا منهم وأسر وغَنِمَ أشياءَ كثيرة.
لَمَّا ذهب أفتكين إلى ديارِ مِصرَ نهَضَ رجلٌ مِن أهل دمشق يقال له قسَّام الجُبَيلي التَّرَّاب وهو من بني الحارثِ بنِ كعبٍ مِن اليَمَن. كان ابتداءُ أمْرِه أنَّه انتمى إلى رجلٍ مِن أحداثِ أهلِ دِمشقَ يقال له أحمد بن المسطان، فكان مِن حِزبِه، وكان أفتكين يقَرِّبُه ويُدنيه، ويأمَنُه على أسراره، فاستحوذ على دمشقَ وطاوعَه أهلُها، وغلب على الوُلاةِ والأمراءِ، وقصَدَته عساكِرُ العزيز من مصرَ فحاصروه فلم يتمَكَّنوا منه، وجاء أبو تغلبَ بنُ ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدِرْ أن يدخُلَ دمشق، فانصرف عنه خائبًا إلى طبرية، فوقَعَ بينه وبين بني عقيلٍ وغَيرِهم من العرب حروبٌ طويلة، آل الحالُ إلى أن قُتِلَ أبو تغلِبَ، وغلب قسَّامٌ على الوُلاةِ والأمراء إلى أن قَدِمَ بلكتكين التركي من مِصرَ في يوم الخميسِ السابع عشر من المحرم سنة 376، فأخذها منه واختفى قسَّام التَّرَّاب مدة ثم ظهر، فأخذه أسيرًا وأرسله مقيَّدًا إلى الديار المصرية، فأُطلِقَ وأُحسِنَ إليه وأقام بها مكَرَّمًا، وأما قسَّامُ التراب هذا فإنه أقام بالشامِ فسَدَّ خلَلَها وقام بمصالِحِها مدة سنين عديدة، وكان مجلِسُه بالجامع يجتَمِعُ الناس إليه فيأمُرُهم وينهاهم فيمتَثِلونَ ما يأمرُ به.
زَعيمُ الدَّولة، أبو كامل، بَرَكَة بن المُقَلِّد، أميرُ بني عُقيلٍ، وصاحبُ المَوصِل بن المُسيبِ بن رافِع بن المُقلِّد بن جعفرِ بن عَمروِ بن المُهَنَّا بن عبدِ الرَّحمن بن بُرَيد -مُصغَّرًا- يَنتهِي إلى هوازن العُقَيلي، هو من بَيتٍ كَبيرٍ في الإمرَةِ. كان بَركةُ بن المُقلِّد قد غَلَب على المَوصِل وغَيرِها، وقَهَر أخاهُ قرواشا، وعاثَ وأَفسَد وعَسَف، وفي هذه السَّنَةِ انحدَر إلى تكريت في حُلَلِهِ قاصدًا نحوَ العِراق لِيُنازِعَ النُّوَّاب به عن المَلِكِ الرَّحيم، ويَنهَب البِلادَ، فلمَّا بَلغَها انتَقضَ عليه جُرحٌ كان أصابهُ من الغُزِّ لمَّا مَلَكوا المَوصِل، فتُوفِّي، ودُفِنَ بتكريت. واجتمعت العربُ من أصحابِه على تَأميرِ عَلَمِ الدِّين أبي المعالي قُريشِ بن بَدران بن المُقلِّد، فعاد بالحُلَلِ والعربِ إلى المَوصِل وأَرسَل إلى عَمِّه قِرواش، وهو تحت الاعتقالِ يُعلِمُه بوَفاةِ زَعيمِ الدَّولةِ، وقِيامِه بالإمارة، وأنَّه يَتَصرَّف على اختِيارِه، ويقوم بالأَمرِ نِيابةً عنه. فلمَّا وصل قُريشٌ إلى المَوصِل جَرى بينهُ وبين عَمِّه قِرواش مُنازَعة، ضَعُفَ فيها قِرواش، وقَوِيَ ابنُ أخيهِ، ومالت العربُ إليه، واستقَرَّت الإمارةُ له، وعاد عَمُّه إلى ما كان عليه من الاعتقالِ، ثم نَقلَهُ إلى قَلعةِ الجَرَّاحِيَّة مِن أَعمالِ المَوصِل، فاعتُقِلَ بها.
سيَّرَ السلطان محمد بن ألب أرسلان الأمير أتسز البرسقي إلى الموصل وأعمالها، واليًا عليها، لما بلغه قتل شرف الدولة مودود بن التونتكين بن زنكي، وسيَّرَ معه ولده الملك مسعودًا في جيش كثيف، وأمره بقتال الفرنج، وكتب إلى سائر الأمراء بطاعته، فوصل إلى الموصل، واتصلت به عساكرها، وفيهم عماد الدين زنكي بن آقسنقر, واتصل به أيضًا تميرك صاحب سنجار وغيرهما، فسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر، فسلَّمها إليه نائب مودود بها، وسار معه إلى ماردين، فنازلها البرسقي، حتى أذعن له إيلغازي صاحبها، وسيَّرَ معه عسكرًا مع ولده إياز، فسار عنه البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس، فنازلها في ذي الحجة وقاتلها، وصبر له الفرنج، وأصابوا من بعض المسلمين غِرَّة، فأخذوا منهم تسعة رجال وصلبوهم على سورها، فاشتدَّ القتال حينئذ، وحَمِيَ المسلمون وقاتلوا، فقَتَلوا من الفرنج خمسين فارسًا من أعيانهم، وأقام عليها شهرين وأيامًا، وضاقت الميرةُ على المسلمين فرحلوا من الرها إلى سميساط بعد أن خربوا بلد الرها وبلد سروج وبلد سميساط، وأطاعه صاحب مرعش، ثم عاد إلى شحنان، فقبض على إياز بن إيلغازي؛ حيث لم يحضر أبوه، ونهب سواد ماردين.
أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محمودًا، وكان قد خرج عن طاعته، وقصد أذربيجان في السنة الماضية ليتغلَّبَ عليها، وكان أتابكه كنتغدي يحسِّن له ذلك، ويقويه عليه، فاتفق أنه مَرِض، وتوفي في شوال سنة 515، وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، عند السلطان محمود ببغداد، فاستأذنه في المضي إلى إقطاعه، فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل، فسار إليه، واجتمع به، وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود، وقال له: إذا وصلت إلى مراغة اتصل بك عشرة آلاف فارس وراجل. فسار معه، فلما وصلوا إلى أردبيل أُغلقت أبوابها دونهم، فساروا عنها إلى قريب تبريز، فأتاهم الخبر أن السلطان محمودًا سيَّرَ الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل مراغة في عسكر كثيف من عند السلطان، فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج، وانتفض عليهم ما كانوا فيه، وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل -أتابك يعني الأمير الوالد- أيام أبيه، يدعونه إلى إنجادهم، وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد، ثم أطلقه السلطان سنجر، فعاد إلى إقطاعه، أبهر، وزنجان، وكاتبوه فأجابهم، واتصل بهم، وسار معهم إلى أبهر، فلم يتم لهم ما أرادوا، فراسلوا السلطان بالطاعة، فأجابهم إلى ذلك، فاستقرَّت القاعدة أول هذه السنة، وتمَّت.
سَيَّرَ عبدُ المؤمن قائِدُ الموحِّدينَ جَيشًا كثيفًا، نحو عشرينَ ألفَ فارسٍ، إلى الأندلُسِ مع أبي حَفصٍ عُمَرَ بن أبي يحيى الهنياتي، وسَيَّرَ معهم نساءَهم، فكُنَّ يَسِرْنَ مُفرَداتٍ عليهن البَرانِسُ السُّودُ، ليس معهنَّ غَيرُ الخَدَمِ، ومتى قَرُبَ منهن رجلٌ ضُرِبَ بالسياط، فلما قَطَعوا الخليجَ ساروا إلى غرناطةَ وبها جمعُ المرابطين، فحَصَرَها عُمَرُ وعَسكَرُه، وضَيَّقوا عليها، فجاء إليه أحمَدُ بنُ ملحان، صاحِبُ مدينة آش وأعمالها، بجماعته، ووحَّدوا، وصاروا معه، وأتاهم إبراهيمُ بن همشك بن مردنيش، صاحبُ جيان، وأصحابُه، ووحدوا، وصاروا أيضًا معه، فكَثُرَ جَيشُه، وحَرَّضوه على المسارعة إلى ابن مردينش، مَلِك بلاد شرق الأندلس، لِيَبغَتَه بالحصار قبل أن يتجَهَّزَ، فلما سمع ابن مردنيش ذلك خاف على نفسِه، فأرسل إلى ملك برشلونة مِن بلاد الفرنج، يُخبِرُه ويَستَنجِدُه ويَستَحِثُّه على الوصول إليه، فسار إليه الفرنجيُّ في عشرة آلاف فارس، وسار عسكَرُ عبد المؤمن، فوصلوا إلى حمة بلقوارة، فسَمِعوا بوصول الفِرنجِ، فرجع وحَصَرَ مدينةَ المرية- وهي للفرنج- عِدَّةَ شُهورٍ، فاشتَدَّ الغَلاءُ بالعَسكَرِ، وعَدِمَت الأقواتُ، فرحَلوا عنها وعادوا إلى إشبيليَّةَ فأقاموا بها.
تحرَّكَ الفرنج لغزو ديار مصرَ؛ خوفًا من صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي عندما بلغهم تمكُّنُه من ديار مصر وقطعُ آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنجَ صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمالِ والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهَلِّ صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها برًّا وبحرًا، فأسرع صلاح الدين إلى دمياط وتحصَّنَ فيها، كما قام نور الدين محمود بالإسراع بغزو البلدانِ التي يسيطرون عليها، فحاصر الكرك، وأرسل كذلك نجدةً إلى صلاح الدين وكانت القوةُ تتحرك إثر القوة، وكان على رأسِ أحدِها والد صلاح الدين نجمُ الدين أيوب، واستمرَّ حصار الصليبيين لمدينة دمياط خمسين يومًا اضطروا بعدها لرفع الحصارِ عنها نتيجةَ الإمدادات التي كانت تصِلُ إلى دمياط من نور الدين محمود وشِدَّة مقاومة صلاح الدين، بالإضافة إلى دعم العاضد حاكم مصر الفاطمي، واستيلاء نور الدين على أجزاء من مملكة الصليبيين في بيت المقدس، ولِفَناءٍ وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلاثمائة مركب، فأحرَقوا ما ثَقُل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، فغادروا دمياط, وتفرَّغَ صلاح الدين لتوطيد أقدامِه بمصر.
في هذا الشهر كانت واقعة الفرنج بطرابلس، وذلك أنهم نزلوا على طرابلس في ثلاثين شينيًا -سفينة كبيرة- وقراقر، وكان الأمير دمرداش غائبًا عن البلد، فقاتلهم الناس قتالًا شديدًا في يوم الثلاثاء ثاني عشره إلى الغد، فبلغ دمرداش وهو بنواحي بعلبك الخبر، فاستنجد الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، وتوجه إلى طرابلس، فقَدِمَها يوم الخميس عشرينه، ونودي في دمشق بالنفير، فخرج الناس على الصعب والذلول، فمضى الفرنج إلى بيروت بعدما قاتلهم دمرداش قتالًا كبيرًا، قُتِل فيه من المسلمين اثنان وجُرح جماعة، فوصل الأمير شيخ إلى طرابلس وقد قضى الأمر، فسار إلى بيروت، فقدمها وقت الظهر من يوم الجمعة الحادي والعشرين، والقتال بين المسلمين وبين الفرنج من أمسه، وقتلى الفرنج مطروحون على الأرض، فحرق تلك الرمم، وتبع الفرنجَ وقد ساروا إلى صيدا بعدما حرقوا مواضع وأخذوا مركبًا قدم من دمياط ببضائع لها قيمة كبيرة، وقاتلوا أهل صيدا، فطرقهم الأمير شيخ وقت العصر وقاتلهم وهم في البر، فهزمهم إلى مراكبهم، وساروا إلى بيروت فلحقهم وقاتلهم، فمضَوا إلى جهة طرابلس، ومرُّوا عنها إلى جهة الماغوصة، فركز الأمير شيخ طائفة ببيروت، وطائفة بصيدا، وعاد إلى دمشق في ثاني صفر.
خرَقَت إسرائيلُ وقفَ إطلاقِ النار مع لُبنانَ الذي أبرَمَتْه في يوليو/ تموز بضغْطٍ أمريكيٍّ، وقامت القواتُ الإسرائيليةُ بغَزْوِ لُبنان في عمليةٍ أُطلِقَ عليها اسمُ (سلام الجَليلِ)، قالت إسرائيلُ: إنها تَهدِفُ لِقَطْعِ الطريقِ أمام صواريخ المقاومةِ الفلسطينية بجَنوب لُبنان. وفي 10/6/1982م وصَل الإسرائيليونُ إلى ضواحي بَيروت، واحتلُّوا ضواحي قصْرِ بعبدا يوم 12/6، وفي يوليو / تموز 1982م أحكمَتْ إسرائيلُ حِصارها لِبَيروتَ الغربية، الذي نتَج عنه كوارثُ إنسانيةٌ؛ حيث تعرَّضت لقصْفٍ إسرائيليٍّ أرضيٍّ، وجويٍّ، وبحريٍّ مُستمِرٍّ، كما تعرَّضت لقصْفٍ بالقنابل العُنقودية والقنابل الفُسفورية وقنابل النابَلم. ولم تَنْتَهِ مأساةُ بَيروت إلا يوم 19 أغسطس / آب 1982م بعد أنْ نجَح المبعوثُ الأمريكي فيليب حبيب في تَمرير خُطته القاضيةِ بإجلاء الفِلَسطينيين خارجَ لُبنان تحت غِطاء دَوليٍّ (فرنسي - إيطالي - أميركي). وفي نفْس اليومِ الذي قُتِلَ فيه الرئيسُ اللُّبنانيُّ بشير الجميل -أي: 14 سبتمبر 1982م- دخلَت القواتُ الإسرائيلية مِن جديدٍ بيروتَ الغربية مُطوِّقة مُخيم (صبرا وشاتيلا ) فيما بيْن 16-18 سبتمبر. وفي سنةِ 1985م انسحَب الجيشُ الإسرائيلي من بيروتَ مُحتلًّا الشريطَ الحُدودي بجَنوب لُبنان الذي استمر لمدة 22 سنةً.
هو ثابتُ بنُ سِنانِ بنِ ثابتِ بن قُرَّة بن مروان، أبو الحسن الحرَّانيُّ الأصلِ الصَّابئُ، ثم البغدادي الطبيبُ المؤرِّخُ. كان يلحَقُ بأبيه في صناعةِ الطِّبِّ، وجَدُّه هو ثابت بن قرة الصابئ فيلسوفُ عَصرِه, وكان صيرفيًّا، يتوقَّدُ ذَكاءً، فبرع في علمِ الأوائل وصار منجِّمَ المعتَضِد, وكان أخوه إبراهيمُ بنُ سنان من الأذكياءِ البارعين في صناعة الطب. صنف أبو الحسَنِ ثابت بن سنان تاريخًا كبيرًا على الحوادث والوقائع التي تَمَّت في زمانه من سنة 295 بداية عهد المُقتَدِر إلى حين وفاتِه، وقد أحسن فيه، وخدَمَ بالطِّبِّ الراضيَ بالله وجماعةً مِن الخلفاء قبله, وكان أبو الحسن ببغداد في أيَّامِ مُعِزِّ الدولة بنِ بُوَيه طبيبًا عالِمًا نبيلًا، يُقرأُ عليه كُتُب بقراط وجالينوس، وقد سلك مسلَك جَدِّه ثابت بن قرة في نَظَرِه في الطبِّ والفلسفةِ والهندسة وجميع الصناعات الرياضيَّة للقدماء. قال عن نفسه: "أنه كان وولدُه في خدمة الراضي بالله، وأنَّه خدم بصناعةِ الطِّبِّ المتَّقيَ بنَ المقتدر بالله، وخدم أيضًا المستكفيَ بالله والمطيعَ لله, وفي سنة 313 قلَّدَني الوزيرُ الخاقاني البيمارستانَ الذي اتخَذَه ابنُ الفُرات بدرب المفضل " وكان ثابت بن سنان خالَ هلالِ بنِ المحسن بن إبراهيم الصابئ الكاتِبِ البليغِ, قال الذهبي: "إن ثابت بن قُرَّة إليه المُنتَهى في علوم الأوائل، حَقِّها وباطِلِها. صنَّفَ تصانيفَ كثيرةً, وكان بارعًا في فن الهيئة والهندسة. وله عَقِبٌ ببغداد على دينِ الصابئة. فكان ابنُه إبراهيم بن ثابت رأسًا في الطب، وأمَّا حفيده صاحب التاريخ المشهور ثابت بن سنان فكان أيضًا علَّامة في الطبِّ تَركَنُ النفسُ إلى ما يؤرِّخُه. مات على كُفرِه".
وُلد عبد الله عزَّام في قرية سيلة الحارثيَّة في لواء جنينَ الواقعة شمالَ وسطِ فِلَسطينَ، وكانت لا تزال تحت الانتداب البريطاني، واسم والده الحاج يوسف مصطفى عزَّام، تلقَّى عبد الله عزَّام علوم الابتدائيَّة والإعداديَّة في مدرسة القرية، ثم واصَل تعليمَه العاليَ بكلية خضورية الزراعية، ونال منها الدبلوم، ثم انتسب إلى كلية الشريعة في جامعة دِمَشقَ، ونال منها شَهادة الليسانس في الشريعة عام 1966م، وفي عام 1390هـ / 1970م قرَّر الانتساب إلى جامعة الأزهر في مصرَ، حيث حصلَ على شهادة الماجستير في أصول الفقهِ، ثم عُيِّن محاضرًا في كلية الشريعة بالجامعة الأُردنِّيَّة بعَمَّانَ، في عام 1391هـ / 1971م، ثم أُوفِدَ إلى القاهرة لنَيْلِ شهادة الدكتوراه، فحصل عليها في أصول الفقهِ عامَ 1393 هـ / 1973م، ثم عمِلَ مدرسًا بالجامعة الأُردنِّيَّة (كلية الشريعة) إلى عام 1400 هـ / 1980م، ثم انتقل للعمل في جامعة الملك عبد العزيز في جُدَّةَ، وبعدها عمِلَ في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد في باكستانَ، ثم قدَّم استقالته منها وتفرَّغ للجهاد في أفغانستانَ.
أسَّس مكتب الخِدْمات في أفغانستانَ الذي استقطَبَ معظمَ المجاهدين العرب القادِمينَ إلى أفغانستانَ، وخاض معاركَ كثيرةً ضدَّ الروس، وكان في معيَّتِه عددٌ من المجاهِدينَ العرب، وتولَّى فيما بعدُ منصبَ أمير مكتب خِدْمات المجاهِدينَ في أفغانستانَ.
استمرَّ عبد الله عزَّام في نشاطِه حتى قُتِل معَ ولدَيْه محمد وإبراهيم في باكستانَ، وهو متَّجِه إلى مسجد (سبع الليل) الذي خصَّصَتْه جمعية الهلال الأحمر الكويتي للمجاهِدين العرب؛ إذ كانت الخُطَب في المساجد بالأوردو، فحضر لإلقاء خُطبته يومَ الجمُعة 25/4/1410هـ، الموافق 24/11/1989م، وانفجرت به سيارتُه التي لغَّمها له أعداؤُه، ودُفِنَ -رحمه الله- يوم وفاته في باكستانَ، وفُتح بابُ العزاء له في الأردُنِّ.
تُوفِّي الشيخُ صالح بن عبد العزيز بن صالحٍ الراجحي، بسكتةٍ قلبيَّةٍ، في مستشفى الحبيبِ بمدينة الرِّياض عن عمرٍ ناهَزَ (88) عامًا، وصُلِّي عليه في جامِعِ الراجحي، وُلِد الشيخُ صالحٌ عامَ (1344هـ) في محافظة البكيرية بالقَصيم، وانتَقَل مع والِدِه إلى الرِّياض لطلبِ العلمِ والرِّزق، وكانت الرياضُ آنَذاك عامرةً بالحركةِ العِلميَّة والتُّجارية. وفي الرِّياض دَرَس على يدِ سَماحةِ الشيخِ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مُفتي المملكةِ آنذاك، والشَّيخِ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ؛ حيث كان يقرَأُ عليهما في منزلِهما، وكان مَحبوبًا بين مشايِخه وأقرانِه، وممَّن زامَلَهم الشيخُ عبد الله السديس، والشيخُ عبد الله الوابل. وقد بَدَأ أوَّلَ أعمالِهِ كتاجِرِ خردةٍ، ثم انتَقَل إلى الرياضِ وأصبَحَ مبدِّلًا للعُملةِ فيها، وعُرِف عن الشيخ الراجحيِّ ذَهابُه للمسجِدِ قبلَ رُبُعِ ساعةٍ من وَقتِ الصَّلاةِ منذ صِغَرِ سِنِّه وحتى أَقعَدَه المرض، وكان مع مُلازَمَتِه للعُلماءِ يُزاوِلُ التِّجارةَ منذ أن كان عمرُه (13) سنةً، وقد وَجَد نفسَه فيها حتى وَفَّقه الله عامَ (1366هـ) بافتِتاحِ أوَّلِ دُكَّان يُزاوِل فيه مهنةَ الصِّرافة التي نَمَت وتطوَّرت حتى أصبَحَت صَرحًا من صُروحِ الاقتِصادِ، وأصبح مَصرِفُ الراجحي أوَّلَ مصرِفٍ إسلاميٍّ في المملكة أسَّسَه مع إخوانِه. وتوسَّعَت أعمالَ الشيخ صالحٍ حتى لم يتركْ مجالًا من المجالاتِ التجاريَّة والعَقارية والزراعيَّة إلا وضَرَب فيه بسَهمٍ. وللرجلِ كثيرٌ من الأبناءِ والبناتِ، وفي آخِرِ سِنِي عمرِه عانَى من الهَرَم ورَقَد في مشفًى صغيرٍ في قصرِه في الرياض، ويُديرُ أموالَه مجلسُ وصايةٍ عيَّنَتْه المحكمةُ، ويُعرَف الرجلُ بأعمالِ الخير وكثرةِ عِمارتِه للمساجدِ وحِلَق القُرآنِ والوَقفِ الخيريِّ الكبيرِ الذي رَصَده لأعمال البِرِّ رحمه الله.