استولى أبو نصر أحمدُ بن إسماعيل السامانيُّ على سِجِستان، وسببُ ذلك أنَّه لَمَّا استقرَّ أمرُه، وثبت ملكُه في بلادِ ما وراءَ النهر، خرج في سنة 297 إلى الرَّيِّ، وكان يسكُنُ بُخارى، ثمَّ سار إلى هراة، فسيَّرَ منها جيشًا في المحرَّم سنة ثمان وتسعين إلى سِجِستان، وسيَّرَ جماعةً من أعيان قوَّاده وأمرائه، منهم أحمد بن سهل، ومحمَّد بن المظفَّر، وسيمجور الدواتي، وهو والدُ آل سيمجور ولاة خُراسان للسامانيَّة، واستعمَلَ أحمدُ على هذا الجيشِ الحسينَ بن علي المَروَروذيَّ، فساروا حتى أتوا سجستان، وبها المعدَّلُ بن علي بن الليث الصَّفَّار، وهو صاحبها، فلمَّا بلغ المعدَّلَ خَبَرُهم سيَّرَ أخاه أبا عليٍّ محمَّد بن عليِّ بن الليث إلى بُست والرخج؛ ليحمي أموالها، ويرسِل منها الميرةَ إلى سجستان، فسار الأميرُ أحمد بن إسماعيل إلى أبي عليٍّ ببُست، وجاذبه وأخذه أسيرًا، وعاد به إلى هَراة، وأمَّا الجيشُ الذي بسجستان فإنَّهم حصروا المُعدَّلَ وضايقوه، فلمَّا بلغه أنَّ أخاه أبا عليٍّ محمَّدًا قد أُخذَ أسيرًا، صالَحَ الحسينَ بنَ عليٍّ، واستأمن إليه، فاستولى الحسينُ على سجستان، فاستعمل عليها الأميرُ أحمدُ أبا صالحٍ منصورَ بن إسحاق، وهو ابنُ عمِّه، وانصرف الحسينُ عنها ومعه المعدَّلُ إلى بُخارى.
نزَلَ أفتكين التركي غلامُ مُعِزِّ الدولة- الذي كان قد خرج عن طاعتِه بسبَبِ الفِتنةِ التي جَرَت بين التُّرك والديلم وما بعدها، والتَفَّ عليه عساكِرُ وجُيوشٌ من الديلم والتركِ والأعرابِ- نزل في هذه السَّنةِ على دِمشقَ، وكان عليها مِن جِهةِ الفاطميِّينَ الطواشيُّ ريان الخادِمُ مِن جِهةِ المُعِزِّ الفاطميِّ، فلما نزل بظاهِرِها خرج إليه كُبَراءُ أهلِها وشيوخُها، فذكروا له ما هم فيه من الظُّلمِ والغشم ومخالفةِ الاعتقاد بسبَبِ الفاطميِّين، وسألوه أن يأخُذَها ليستنقِذَها منهم، فعند ذلك صَمَّم على أخذِها ولم يزَلْ حتى أخذها وأخرج منها ريانَ الخادِمَ، وكسَرَ أهلَ الشَّرِّ بها، ورفع أهلَ الخيرِ، ووضع في أهلِها العدلَ وقمَعَ أهلَ اللَّعِب واللَّهوِ، وكفَّ أيديَ الأعرابِ الذين كانوا قد عاثوا في الأرضِ فسادًا، وأخذوا عامَّةَ المَرجِ والغُوطة، ونهبوا أهلَها، ولَمَّا استقامت الأمورُ على يديه وصَلَحَ أمرُ أهل الشام، كتب إليه المعِزُّ الفاطميُّ يَشكُرُ سَعيَه ويَطلُبُه إليه ليخلَعَ عليه ويجعَلَه نائبًا من جِهتِه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، بل قطع خُطبتَه من الشَّامِ، وخطَبَ للطائعِ العبَّاسي، ثم قصد صِيدا وبها خَلقٌ من المغاربةِ عليهم ابنُ الشيخ، وفيهم ظالِمُ بنُ موهب العقيلي الذي كان نائبًا على دمشق للمعزِّ الفاطميِّ، فأساء بهم السِّيرةَ، فحاصرهم ولم يَزَلْ حتى أخذ البلدَ منهم، ثم قصد طبريَّةَ ففعل بأهلِها مثلَ ذلك.
لَمَّا استقَرَّ المُلكُ لمسعود بن سبكتكين بعد أبيه أقرَّ بما كان قد فتَحَه أبوه من الهندِ نائبًا يُسمَّى أحمد ينالتكين، وقد كان أبوه محمَّد استنابه بها ثقةً بجَلَدِه ونَهضَتِه، فرَسَخت قَدَمُه فيها، وظَهَرت كِفايته. ثمَّ إنَّ مسعودًا بعد فراغِه مِن تقرير قواعِدِ المُلك، والقَبضِ على عَمِّه يوسف والمخالفين له، سار إلى خراسان عازمًا على قَصدِ العراق، فلمَّا أبعد عصى ذلك النائِبُ بالهند، فاضطُرَّ مسعودٌ إلى العودة، فأرسَلَ إلى علاء الدَّولة بنِ كاكويه. وأمَّرَه على أصبهان على مالٍ يؤدِّيه إليه كلَّ سنة، وكان علاء الدَّولة قد أرسل يطلُبُ ذلك، فأجابه إليه، وأقَرَّ ابنَ قابوس بن وشمكير على جرجان وطبرستان على مالٍ يؤدِّيه إليه، وسَيَّرَ أبا سهل الحمدوني إلى الرَّيِّ للنظَرِ في أمورِ هذه البلاد الجبليَّة، والقيامِ بحفظها، ولَمَّا سار أبو سهل إلى الريِّ أحسَنَ إلى النَّاسِ، وأظهَرَ العدل، فأزال الأقساطَ والمصادراتِ، وكان تاش فراش والي الرَّيِّ السابقِ قد ملأ البلادَ ظُلمًا وجَورًا، حتى تمنَّى الناسُ الخلاصَ منه ومِن دولة ابن سبكتكين، وخَرِبت البلادُ، وتفَرَّق أهلُها، فلمَّا وَلِيَ الحمدوني، وأحسن وعَدَل، عادت البلادُ فعَمَرت، والرَّعيَّة أمِنَت، وكان الإرجافُ شديدًا بالعراق لَمَّا كان المَلِك مسعود بنيسابور، فلمَّا عاد سكن النَّاس واطمأنُّوا.
اجتمع الفِرنجُ وساروا إلى بلدِ دِمشقَ مع ملكهم، فأغاروا على أعمالِها فنهبوها وأسَروا وقَتَلوا وسَبَوا، فأرسل صلاحُ الدين فرخشاه، ولد أخيه، في جمعٍ من العسكر إليهم، وأمره إذا قاربهم يرسِلُ إليه يخبره على جناحِ طائر ليسير إليه، وتقدَّمَ إليه أن يأمُرَ أهل البلاد بالانتزاحِ مِن بين يدي الفرنج، فسار فرخشاه في عسكره يطلُبُهم، فلم يشعُرْ إلا والفرنجُ قد خالطوه، فاضطرَّ إلى القتال، فاقتتلوا أشدَّ قتال رآه الناسُ، وألقى فرخشاه نفسَه عليهم، وغَشِيَ الحربَ ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنجُ ونُصر المسلمون عليهم، وقُتِلَ مِن مُقَدَّمي الفرنج جماعةٌ، منهم همفري، كان يُضرَبُ به المثل في الشجاعة والرأي في الحرب، وكان بلاءً صَبَّه الله على المسلمين، فأراح اللهُ المسلمين مِن شَرِّه، وقُتِلَ غيرُه من أضرابِه، ولم يبلُغْ عسكر فرخشاه ألف فارس، وكذلك أغار البرنسُ صاحب أنطاكية واللاذقية على جشير المسلمين- جشير أو دشير: هي الخيلُ والبقر التي تلازِمُ المرعى ولا ترجِعُ إلى الحظيرة بالليل- بشيزر وأخذه، وأغار صاحِبُ طرابلس على جمعٍ كثيرٍ مِن التركمان، فاحتجَفَ أموالهم- استخلصها وحازها- وكان صلاحُ الدين على بانياس، فسيَّرَ ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى مصر، وأمَرَهما بحفظ البلاد، وحياطة أطرافِها من العدُوِّ.
سار يوسُفُ بن عبد المؤمن إلى إفريقيَّةَ، وملك قفصة، وكان سبب ذلك أنَّ صاحِبَها علي بن عبد المعز بن المعتز لَمَّا رأى دخولَ الترك إلى إفريقيَّة واستيلاءهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم؛ طَمِعَ أيضًا في الاستبدادِ والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العِصيان، ووافقه أهلُ قفصة، فقتلوا كلَّ من كان عندهم مِن الموحِّدين أصحابه، وكان ذلك في شوال سنة 572، فأرسل والي بجاية إلى يوسفَ بن عبد المؤمن يخبِرُه باضطراب أمور البلاد، واجتماعِ كثيرٍ من العرب إلى بهاء الدين قراقوش القائد الأيوبي الذي دخل إلى إفريقيَّة, فشرع يوسف بن عبد المؤمن في سدِّ الثغور التي يخافُها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهَّز العسكر وسار نحو إفريقيَّة سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحَصَرها ثلاثة أشهر وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطَعَ شَجَرَها، فلما اشتد الأمرُ على صاحبها وأهلها خرج منها مستخفيًا وطلب عفوَ أمير المؤمنين واعتذر، فَرَقَّ له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسيَّرَ علي بن المعز صاحِبَها إلى بلاد المغرب، فكان فيها مُكرمًا عزيزًا، وأقطعه ولايةً كبيرة؛ ورتَّب يوسف لقفصة طائفةً من أصحابه الموحِّدين.
لَمَّا انتصر أبو يوسفَ يعقوب الموحِّدي على نصارى الأسبان السَّنةَ الماضية, حَلَقَ ألفونسو رأسه، ونكَّس صليبه، وركب حمارًا، وأقسم أنْ لا يركب فرسًا ولا بغلًا حتى تُنصر النصرانيَّة, فجمع جموعًا عظيمة، وبلغ الخبَرُ بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد المغربِ مراكش وغيرها يستنفِرُ النَّاسَ مِن غير إكراه، فأتاه من المتطوِّعة والمرتزقين جمعٌ عظيم، فالتَقَوا في ربيع الأول من هذه السنة، فانهزم الفرنجُ هزيمة قبيحة، وغَنِمَ المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجَّه إلى مدينة طليطلة فحصرها، وقاتلها قتالًا شديدًا، وقطَعَ أشجارها، وشنَّ الغارةَ على ما حولها من البلاد، وفتَحَ فيها عِدَّةَ حصون، فقتل رجالَها، وسبى حريمَها، وخَرَّب دُورَها، وهَدَم أسوارها، فضَعُفَت النصرانية حينئذٍ، وعَظُمَ أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوبُ إلى إشبيلية فأقام بها، فلمَّا دخَلَت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا واجتمَعَ ملوكها، وأرسلوا يطلُبونَ الصُّلحَ، فأجابهم إليه بعد أن كان عازمًا على الامتناعِ مريدًا لملازمة الجهادِ إلى أن يفرغَ منهم، فأتاه خبَرُ علي بن إسحق الملثم الميورقي أنَّه فعل بإفريقيَّة من الأفاعيل الشنيعة، فتَرَك عزمه، وصالَحَهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخِرَ سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش والد خوارزم شاه محمد, أميرٌ اسمُه أبو بكر، ولقَبُه تاج الدين، وكان في ابتداءِ أمرِه جمَّالًا يكري الجمالَ في الأسفار، ثم جاءته السعادة، فاتصل بخوارزم شاه، وصار سيروانَ جمالِه، فرأى منه جلدًا وأمانةً، فقَدَّمَه إلى أن صار من أعيانِ أمراءِ عَسكَرِه، فولَّاه مدينة زوزن، وكان عاقلًا ذا رأي وحزمٍ وشجاعة، فتقَدَّم عند خوارزم شاه تقدمًا كثيرًا، فوَثِقَ به أكثَرَ مِن جميع أمراء دولتِه، فقال أبو بكر لخوارزم شاه: إنَّ بلاد كرمان مجاورةٌ لبلدي، فلو أضاف السلطانُ إليَّ عسكرًا لملكتُها في أسرع وقت، فسيَّرَ معه عسكرًا كثيرًا فمضى إلى كرمان، وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحِبَ سجستان أيَّامَ السلطان سنجر، فقاتَلَه، فلم يكُنْ له به قوة، وضَعُفَ، فملك أبو بكر بلادَه في أسرع وقت، وسار منها إلى نواحي مكرانَ فملكها كلها إلى السند، من حدودِ كابل، وسار إلى هرمز، مدينةٍ على ساحلِ بحر مكران، فأطاعه صاحبُها، واسمه ملنك، وخطَبَ بها لخوارزم شاه، وحملَ عنها مالًا، وخطبَ له بقلهات، وبعض عمان؛ لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحِبَ هرمز. وقيل إنَّ ملك خوارزم شاه لكرمان ومكران والسند كان في السنةِ التي قبلها أو بعدها بقليلٍ.
سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، مَلِكُ بلاد الروم، إلى بلاد الملك المسعود بن مودود، صاحِبِ آمد، ومَلَكَ عِدَّةً مِن حصونه، وسببُ ذلك اتفاق صاحب آمد مع جلال الدين بن خوارزم شاه والملك المعظم، صاحب دمشق، وغيرهما على خلاف الأشرف؛ فلما رأى الأشرف ذلك أرسل إلى كيقباذ، ملك الروم، وكانا متفقَينِ، يطلب منه أن يقصِدَ بلد صاحب آمد ويحاربَه، وكان الأشرفُ حينئذ على ماردين، فسار ملك الرومِ إلى ملطية، وهي له، فنزل عندها، وسيَّرَ العساكر إلى ولاية صاحب آمد، ففتحوا حصن منصور وحصن سمكاراد وغيرهما؛ فلمَّا رأى صاحب آمد ذلك راسل الأشرف، وعاد إلى موافقتِه، فأرسل الأشرفُ إلى كيقباذ يعرِّفُه ذلك، ويقول له ليعيد إلى صاحب آمد ما أخذَ منه، فلم يفعل، وقال: لم أكن نائبًا للأشرَفِ يأمرني وينهاني، فاتفَقَ أن الأشرف سار إلى دمشق ليصالح أخاه الملك المعظَّم، وأمر العساكر التي له بديار الجزيرة بمساعدة صاحب آمد، إن أصرَّ ملك الروم على قَصْدِه، فسارت عساكِرُ الأشرف إلى صاحب آمد وقد جمع عسكَرَه، ومن ببلاده ممن يَصلُح للحرب وسار إلى عسكر ملك الروم وهم يحاصِرونَ قلعة الكختا بعد الهزيمة، وهي من أمنع الحصونِ والمعاقل، فلما ملكوها أعادوها إلى صاحبها.
انتهى حكم أيبك على هندستان في سنة 608 (1210م) وذلك على أثر سقوطه من على فرسه. أثناء لعبة الكرة أو البولو- جوكان- فتوفي على الأثر, وخلفه أحدُ مماليكه البارزين وزوج ابنته شمس الدين التتمش الذي سار سيرة حسنة في رعيته، واشتدَّ في رد المظالم وإنصاف المظلومين. فيؤثر عنه أنه أمر أن يلبس كلُّ مظلوم ثوبًا مصبوغًا. وأهل الهند جميعًا يلبسون البياض، فكان إذا قعد للنَّاسِ أو ركب، فرأى أحدًا عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممَّن ظلمه. وبلغ فوز السلطان التتمش أقصى مداه حينما اعترف به خليفة بغداد المستنصر بالله العباسي، سلطانًا على الهند، وبعث له بالتقليد والخِلَع والألوية في سنة 626 (1229 م)، فأصبح التتمش بذلك أول ملك في الهند تسلم مثل هذا التقليد. ومنذ ذلك التاريخ ضرب التتمش نقودًا فضية نقش عليها اسم الخليفة العباسي بجوار اسمه. ويعتبر هذا العمل شيئا جديدًا على نظام العملة الهندية؛ إذ كان الحكام المسلمون قبل ذلك يضربون نقودًا معدنية صغيرة على غرار النقود الوطنية، تنقش عليها أشكال مألوفة لدى الهنود، كثور سيفا مثلًا، كما كانت أسماء الفاتحين تكتب بحروف هندية في غالب الأحيان. فالتتمش يعتبر أول من ضرب نقودًا فضية خالصة في الهند.
هو الملك العزيز الظاهر صاحِبُ حلب محمد بن السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وهو وأبوه وابنه الناصر أصحاب حلب من أيام الناصر، توفي وله من العمر أربع وعشرون سنة، وكان مدبِّرُ دولته الطواشي شهاب الدين، وقام في الملك بعده ولده الناصر صلاح الدين يوسف وعمره نحو السبع سنين، وقام بتدبير أمره الأميران لؤلؤ الأميني، وعز الدين عمر بن محلي، وبينهما وزيرُ الدولة جمال الدين الأكرم، يراجع السترَ الرفيع صفية خاتون ابنة الملك العادل، على لسان جمال الدولة إقبال، وقد حضر الأمير بدر الدين بدر بن أبي الهيجاء وزين الدين قاضي حلب، إلى الملك الكامل، بزردية العزيز وكزاغنده، وخوذته ومركوبه، فأظهر الكامِلُ الألم لموته، وقصَّرَ في إكرامهما، وحلَفَ للناصر، وشرط أشياءَ، وأعاد الرسولين، ثم أرسل خلعةً للناصر بغير مركوب، ومعها عِدَّة خِلَع للأمراء الحلبيين، وخِلعةً للصالح صلاح الدين أحمد بن الظاهر غازي، صاحِب عينتاب، فاستوحشت أم الظاهر من أخيها الكامل، ولم توافِقْ على لبس أحد من الأمراء الخِلَع، فلبس الناصِرُ وحده خِلعةَ الكامل، وردَّ الرسول الوارِدَ إلى الصالح صلاح الدين بخِلعتِه.
سَبَبُه أنَّه لَمَّا قُبِضَ على الوزير منجك، خرج الأميرُ قمارى الحموي، وبيده ملطفات لأمراء صفد بالقَبضِ على أحمد، فبلغه ذلك من هجان جَهَّزه إليه أخوه، فندب الأمير أحمد الساقي طائفةً من مماليكه لتلَقِّي قمارى، وطلب نائب قلعة صفد وديوانه، وأمره أن يقرأَ عليه كم له بالقلعة من غَلَّة، فأمر لمماليكه منها بشيءٍ فَرَّقه عليهم إعانةً لهم على ما حصَل من المحْلِ في البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعندما طلعوا القلعة شَهَروا سيوفهم ومَلَكوها، فقَبَض الأمير أحمد الساقي على عِدَّة من الأمراء، وطلع بحريمِه إلى القلعة وحَصَّنَها، وأخذ مماليكُه قمارى، وأتوه به فكتب السلطان لنائب غزة ونائب الشام تجريدَ العسكر إليه، ورسَمَ بالإفراج عن فياض بن مهنا وعيسى بن حسن الهجان أمير العايد، وخلَعَ عليه وجهَّزه، وأخذت الهجن من جمال الدين بقر أمير عرب الشرقية، وأعيدت إلى علي بن حسن، وكانت الأراجيفُ قد كثرت بأن الأمير طاز قد تحالف هو والأمير بيبغا روس بعقبة أيلة، فخرج الأمير فياض وعيسى بن حسن أمير العايد؛ ليقيما على عقبة أيلة، بسبب بيبغا روس، وكتب لعرب شطي وبني عقبة وبني مهدي بالقيامِ مع الأمير فضل، وكتب لنائب غزَّة بإرسال السوقة إلى العقبة.
كان مِن وَلَدِ جنكيز خان, جغطاي الذي استقَرَّ في تركستان وبَقِيَت أسرته تحكُمُ هذه المنطقةَ وكان توغلق تيمور أحدَ ملوك المغول واستقَرَّ في أعمال تركستان الشرقية عام 748 وأعلن أنَّه حفيدُ داود خان، وضَمَّ إليه بلادَ ما وراء النهر ودخلت في أيَّامِه أعدادٌ كبيرة من المغول إلى الإسلام، ثم إنَّ والي سمرقند تحرَّك نحو مدينة هراة واحتَلَّها، ثمَّ إنه اغتِيلَ واختلف الأهالي وعَمَّتهم الفوضى، فوصل الخبر إلى توغلق تيمور فسار بقوة نحو سمرقند، ففَرَّ مِن وجهه بعضُ الأمراء الذين كانوا يُظهِرون العصيان، ثم إنَّ تيمورلنك وخَوفًا من تهديم البلدة تقَدَّمَ إلى قائد طليعة جيش المغول وأكرَمَه، فأمر هذا القائد جُندَه ألَّا يمَسُّوا هذه البلدة بسوءٍ، كما طلب من تيمورلنك أن يسيرَ معه إلى الخان توغلق تيمور، فكافأه الخان وجعله واليًا على مدينة كش، وأعطى توغلق تيمور إمرة سمرقند إلى تيمورلنك على أنَّ قائد الجيش فيها هو إلياس ابن توغلق الذي أساء السيرة بسمرقند، فحدث الخلافُ بينهما فطلب إلياسُ من أبيه أن يَقتُلَ تيمورلنك الذي هرب بعد أن وصله الخبَرُ وجمع حوله الأنصارَ، وعاد فحارب المغولَ وصادف ذلك موتَ توغلق فانسحَبَ إلياس إلى تركستان ليتَسَلَّم المُلْكَ بعد أبيه، فترك ما وراء النهر فأصبَحَت كُلُّها في قَبضةِ تيمورلنك، واتخَذَ مِن سمرقند عاصمةً له.
في صفر حضر السلطان إلى دمشق وأمر باعتقال الأمير شيخ المحمودي نائبها ومعه الأمير يشبك الشعباني وحُبِسا بالقلعة، وأما الأمير جركس المصارع فهرب، ووكل بهما الأمير منطوق ولكنهما استطاعا أن يستميلاه، فهربوا جميعًا من القلعة، فأرسل وراءهم ولكن لم يُقتَل إلا منطوق، واستطاع يشبك وجركس وشيخ التغلُّبَ على حمص، ثم لما رحل السلطان عن دمشق وترك عليها الأمير بكتمر شلق، ثم لما كانت ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر طرق الأمير شيخ - ومعه يشبك وجركس المصارع- دمشق، ففرَّ من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولى وعزل، ونادى بالأمان، وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة، فورد الخبر في يوم الأربعاء الحادي عشر، بأن بكتمر شلق نزل بعلبك في نفر قليل، فسار يشبك وجركس في عسكر، فمضى بكتمر إلى جهة حمص، فوافاهم الأمير نوروز بجمع كبير على كروم بعلبك، فكانت بينهما وقعة قُتِل فيها يشبك وجركس المصارع في طائفة، وقبض نوروز على عدة ممن معهما، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ سار من دمشق على طريق جرود في ليلة الجمعة الثالث عشر، وهي الليلة التي تلي يوم الوقعة، ودخل نوروز دمشق يوم السبت الرابع عشر بغير ممانع.
ما إن علم الوالي جان بردي الغزالي والي الشام للعثمانيين بموت الخليفة سليم الأول أعلن عصيانه وتمرده، واتصل بخيري بك والي مصر ليكون نصيره، فراوغه خيري ووعده، وفي الوقت نفسه أطلع الخليفة سليمان القانوني على هذه المراسلات، وأعلن جان بردي نفسه سلطانًا على الشام وأمر بالدعاء له في خطب الجمعة، ونقش اسمه على النقود وتلقب بالملك الأشرف، وقضى على حامية دمشق العثمانية، وطرد العثمانيين من بيروت وطرابلس وحماة وغيرها من المدن، ثم سار جان بردي ليأخذ حلب أيضًا وخاصة أنها لم تعترف بسلطانه وألقى الحصار عليها، ثم وهو في حصاره وصلت إليه الجيوش العثمانية فترك الحصار، وأسرع إلى دمشق ونشبت بينه وبين القوات العثمانية حرب في برزة من أعمال دمشق في السابع عشر من شهر صفر من عام 927 انهزم فيها جان بردي وهرب ليتحصن بقلعة دمشق، فلحقته الجيوش العثمانية وحاصرته بها وفر متنكرًا ولكن أخذه بعض أعوانه وسلَّمه إلى فرحات باشا قائد الجيوش العثمانية فقتله وأرسل رأسه إلى الخليفة سليمان، وقد حاول جان بردي بهذه الحركة إحياء الدولة المملوكية مرة أخرى في بلاد الشام بعد قضاء العثمانيين عليها. وبعد قمع حركة جان بردي الغزالي قُسمت الشام إلى ثلاث ولايات وهي حلب ودمشق وطرابلس.
جاءت مَرحلةُ الدولةِ الكَثيريةِ الثانيةِ، على يدِ السُّلطانِ جَعفرِ بنِ علِيِّ بنِ عُمَرَ بنِ جَعفرٍ الكَثيريِّ، الذي جاء مِن هِجرتِه الطويلةِ بجاوةَ والهِندِ سنةَ 1218م، ثم أقام أوَّلًا بهنن، وشَرَع يُكاتِبُ الشنافِرَ وفَهدًا وأعيانَ السادةِ العَلويةِ، ويَبثُّ الدُّعاةَ لِإحياءِ دولةِ آلِ كَثيرٍ، وقامَ بشراءِ عَبيدٍ وجَنَّدَهم لِلقتالِ، ثم قَويَ أمرُه واستَولى على مَناطقَ مِن حَضرَمَوتَ، وأرسَلَ جُيوشَه غَربًا وشَرقًا، وفي عَهدِه وضَعَ حَدًّا لِلفَوضى والأزَماتِ الطائفيةِ والنِّزاعاتِ التي نَشأت في عَهدِ الدولةِ الكَثيريةِ الأُولى، واتَّسَم عهدُ الدولةِ الكَثيريةِ الثانيةِ بالاستِقرارِ السياسيِّ، ثم بدأت تَضعُفُ الدولةُ عندَما تأسَّست جارَتُها السَّلطنةُ القُعَيْطيَّةُ، حتى انتهت باغتيالِ السُّلطانِ مَنصورِ بنِ عُمَرَ بنِ جَعفرِ بنِ عيسى بنِ بَدرٍ الكَثيريِّ، على يَدِ الجمعدارِ عَوضِ بنِ محمدٍ القُعَيْطيِّ عامَ 1274هـ، واستَولى القُعَيْطيُّونَ على شِبامَ.
ثم جاءت مَرحلةُ الدولةِ الكَثيريةِ الثالثةِ، باستيلاءِ السُّلطانِ غالِبِ بنِ مُحسِنٍ الكَثيريِّ على الحُكمِ، لكنه دخَلَ في مُنافسةٍ وصِراعٍ مع السَّلطنةِ القُعَيْطيَّةِ التي بدأت تَتكوَّنُ في ذلك الوقتِ نَفْسِه. إلا أنَّ السَّلطنةَ القُعَيْطيَّةَ كانت شديدةَ الاتِّساعِ، حيث انتزعَتْ أجزاءً كبيرةً مِن حَضرَموتَ كانت تَحتَ حُكمِ السَّلطنةِ الكَثيريةِ التي بدأت تَضعُفُ شَيئًا فشَيئًا.