لم تكن الفتنةُ بين عبد الله وسعود أبناء فيصل بن تركي وليدةَ الساعة بعد وفاة والدهما، بل كانت روحُ التنافس موجودة بينهما من أيام والدهما؛ ولذلك جعل فيصل سعودًا أميرًا على الخَرجِ والأفلاج ومناطق جنوب بلاد العارض، وما أن توفي فيصل حتى ثار سعودٌ على أخيه عبد الله ينازعه في الحكمِ، واتجه إلى عسير ونزل على حكامِها آل عايض يطلب العونَ والمساعدة في حربِه على أخيه بحجَّةِ أنه كان يهينُه ولم يَرْعَ حَقَّه، وحاول عبد الله أن يثني سعودًا عن غرضه، ووعده بأن يلبي له طلبه إذا عاد إلى الرياض، لكِنَّ سعودًا لم ينثنِ عن عزمِه، ولَمَّا لم يجد العون من آل عايض اتجه إلى نجران يستنصِرُ بصاحبها، وهو في الأصل عدو لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك عدو لبيت آل سعود، فوعده بالنصرة، كما وقف مع سعود بن فيصل ضِدَّ أخيه عددٌ من القبائل، منهم العجمان، ويعض قبائل بدو الدواسر، وبنو مرة، وبدو نجران وأميرها الذي ساعده بالمال. وقد حَذَّر علماءُ أئمة الدعوة من هذه الفتنةِ، وأصدروا الفتاوى وبيَّنوا للعامَّةِ والخاصة بغيَ سعود على أخيه عبد الله، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوانِ، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنَّ الجماعةَ فرضٌ على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلامِ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولا تحصل الجماعةُ إلا بالسمع والطاعة لِمَن ولاه الله أمرَ المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العِرباضِ بن ساريةَ، قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفت منها العيونُ،.... الحديث، وقد جمع الله أوائِلَ الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعةِ مَن خرج، وفتح الله لهم الفتوحَ، وجمع الله الناسَ عليهم، وتفهمون أنَّ الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامِكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل، فالذي بايع بايعَ وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايعَ لهم كبارُهم، واجتمع عليه أهلُ نجدٍ باديهم وحاضِرُهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحدٌ منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمرِ المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحدٌ من المسلمين. ونقَضَ البيعة، وتبيَّنَ لكم أمرُه أنه ساعٍ في شَقِّ العصا، واختلافِ المسلمين على إمامهم، وساعٍ في نقض بيعةِ الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91،92] وسعى سعودٌ في ثلاثة أمور كُلُّها مُنكَرة: نَقَض البيعةَ بنفسِه، وفارق الجماعةَ، ودعا الناس إلى نقضِ بيعة الإمام، فعلى هذا يجِبُ قتالُه وقِتالُ من أعانه".
هي ذاتُ النِّطاقَيْنِ، وهي زَوجةُ الزُّبير، ووالدةُ عبدِ الله بن الزُّبير، وكانت قد شَهِدَت اليَرْموك مع زَوجِها وابْنِها، بَقِيَت في مكَّة بعدَ أن طَلَّقَها الزُّبيرُ في عَهْدِ عُثمان بن عفَّان، وكانت قد عَمِيَت رضي الله عنها وبَلَغت المائةَ سَنةٍ مِن عُمُرِها، وخَبرُها مع الحَجَّاج مشهور بشأنِ ابْنِها عبدِ الله، وقد تُوفِّيت بعدَ مَقْتَلِ ابْنِها بِشَهرين، وكانت مِن آخرِ المُهاجِرات موتًا، فرضِي الله عنها وعن أَبِيها وابْنِها.
لمَّا مات الحَجَّاجُ بن يُوسُف كان محمَّد بن القاسِم بالمُلْتان، فأتاهُ خَبَرُ وَفاتِه، فرَجَع إلى الرُّور والبَغْرور، وكان قد فَتَحَهُما، فأَعْطَى النَّاسَ، ووَجَّهَ إلى البَيْلَمان جَيْشًا فلم يُقاتِلوا وأَعطوا الطَّاعَةَ، وسَألَه أَهلُ سُرَشْت، وهي مَغْزَى أَهلِ البَصْرَة، وأَهلُها يَقطَعون في البَحرِ، ثمَّ أَتَى محمَّدٌ الكَيْرَجَ فخَرَج إليه دَوْهَر فقاتَلَه فانْهَزَم دَوْهَر وهَرَب، وقِيلَ: بل قُتِلَ. ونَزَل أَهلُ المَدينَة على حُكْم محمَّدٍ فقَتَل وسَبَى.
هو الفضلُ بنُ الربيعِ بنِ يونُسَ، الحاجِبُ الأميرُ أبو الفضل، مولِدُه سنة أربعين ومائة، وكان حاجبًا للرشيد ووزيرًا له، ولَمَّا مات الرشيدُ استولى على الخزائِنِ وقَدِمَ بها إلى الأمينِ محمَّد ببغداد ومعه البُردة والقَضيبُ والخاتَم، فأكرمه الأمينُ وفَوَّض إليه أمورَه، فصار إليه الأمرُ والنهي، ولَمَّا خلعَ الأمينُ أخاه المأمونَ مِن ولاية عهدِ الخلافة، استخفى ثم ظهرَ في أيامِ المأمونِ، فأعاده المأمونُ إلى رتبتِه إلى أن مات.
لَمَّا استولى السامانيُّونَ على سجستان، بلغهم خبَرُ مسيرِ سُبكرى في المفازة من فارسَ إلى سجستانَ، فسيَّروا إليه جيشًا، فلَقُوه وهو وعسكره قد أهلكَهم التَّعبُ، فأخذوه أسيرًا، واستولَوا على عسكرِه، وكتب الأميرُ أحمدُ إلى المقتَدِر بذلك، وبالفتح، فكتب إليه يشكُرُه على ذلك، ويأمُرُه بحمل سُبكرى، ومحمَّد بن عليِّ بن الليث إلى بغداد، فسيَّرَهما، وأُدخِلا بغداد مشهورَينِ على فيلَينِ، وأعاد المقتدر رسلَ أحمد، صاحِب خُراسان، ومعهم الهدايا والخِلَع.
استولى المَلِكُ الرَّحيم البويهي الدَّيلمي الشِّيعي على مَدينةِ أرجان، وأَطاعهُ مَن كان بها مِن الجُندِ، وكان المُقَدَّمُ عليهم فولاذ بن خُسرو الدَّيلمي، وكان قد تَغلَّب على جِوارِها مِن البِلادِ إِنسانٌ مُتَغَلِّبٌ يُسمَّى خشنام، فأَنفذَ إليه فولاذ جَيشًا فأَوقَعوا به وأَجْلَوْهُ عن تلك النَّواحي، واستَضافوا إلى طَاعةِ المَلِكِ الرَّحيم، وخاف هزارسب بن بنكير من ذلك لأنَّه كان مُبايِنًا للمَلِكِ الرَّحيم، فأَرسلَ يَتَضرَّع ويَتَقرَّب، ويَسأَل التَّقَدُّمَ إلى فولاذ بإحسانِ مُجاورَتِه، فأُجِيبَ إلى ذلك.
جَمعَ شاه مازندران رستم بنُ عليِّ بنِ شهريار عَسكرَهُ، وسارَ ولم يَعلَم أَحَدٌ جِهَةَ مَقصِدِهِ، وسَلكَ المَضايِقَ، وجَدَّ السَّيْرَ إلى بلدِ ألموت، وهي للإسماعيليَّةِ على الرغمِ من أنه شِيعِيٌّ شَديدُ التَّشَيُّعِ، فأَغارَ عليها وأَحرقَ القُرَى والسَّوادَ، وقَتَلَ فأَكثرَ، وغَنِمَ أَموالَهم، وسَبَى نِساءَهُم، واستَرَقَّ أَبناءَهُم فباعَهُم في السُّوقِ وعادَ سالِمًا غانِمًا، وانخَذلَ الإسماعيليةُ، ودَخَلَ عليهم من الوَهَنِ ما لم يُصابوا بمِثلِه، وخَرِبَ من بِلادِهم ما لا يُعَمَّر في السِّنين الكَثيرَةِ.
لَمَّا أطلق الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق سراح الشيخ عز الدين بن عبد السلام من سجنه بسبب إنكاره عليه تسليمَه أراضي المسلمين للصليبيين، ترك الشام وانتقل إلى الديار المصريَّة، فتلقاه صاحبها الملك الصالح نجم الدين أيوب بالاحترامِ والإكرامِ، وولَّاه خطابة القاهرة وقضاءَ مصر، واشتغل عليها أهلُها، فكان ممن أخذ عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد- رحمهما الله تعالى.
بعد دخولِ الإمام عبد العزيز بن محمد الرياضَ، أرسل إلى زيد بن زامل رئيس الدلم يذكِّره الالتزامَ بالعهد الذي بينهم, فلم يلتفِتْ زيد لهذا العهدِ، وأخذ يؤلِّبُ على الدرعية، فأرسل إلى المكرمي رئيسِ نجران يستحِثُّه على حرب الدرعية ويبذلُ له المالَ، ولم يستجب له، حتى طلب منه مزيدًا من المالِ، فبذل له زيدٌ كُلَّ ما طلب مقابِلَ أن يرسِلَ له رهائِنَ مِن قومِه إلى أن يتِمَّ مقصودُه، فأرسل النجراني رؤساءَ قَومِه رهائِنَ.
بعد ثلاثةِ أيام من تسلُّم عبد المجيد الثاني الخلافةَ افتُتِحَ مؤتمر لوزان الذي حضره وفدُ أنقرة فقط، ووضَعَ رئيسُ الوفد الإنجليزي كرزون أربعةَ شُروطٍ للاعتراف باستقلال تركيا، وهي إلغاء الخلافة الإسلامية، وطردُ الخليفة من بني عثمان خارِجَ حدود تركيا، وإعلانُ علمانيةِ الدولة، ومصادرةُ أملاك وأموال بني عثمان، وربطُ نجاحِ المؤتمر على ذلك، فأخفق المؤتمَرُ، ورجع إلى البلاد الوفدُ التركي برئاسة عصمت إينونو
في أواخِرِ السنةِ السَّادسةِ من النُّبوَّةِ أسلم حَمزةُ بنُ عبد المطلب رَضي اللهُ عنه. وسببُ إسلامِه: أنَّ أبا جَهلٍ مرَّ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا عند الصَّفا، فآذاه ونال منه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساكِتٌ لا يُكلِّمُه، ثم ضَرَبه أبو جَهلٍ بحَجَرٍ في رأسِه فشَجَّه حتى نَزَف منه الدَّمُ، ثم انصَرَف عنه إلى نادي قُرَيشٍ عند الكعبةِ فجَلَس معهم، وكانت مولاةٌ لعَبدِ الله بنِ جُدعانَ في مَسكَنٍ لها على الصَّفا ترى ذلك، وأقبل حَمزةُ من القَنْصِ مُتَوَشِّحًا قَوسَه، فأخبَرَتْه المَولاةُ بما رأتْ من أبي جَهلٍ، فغَضِب حَمزةُ وخرَج يسعى، لم يقِفْ لأحدٍ، مُعِدًّا لأبي جهلٍ إذا لَقيَه أن يوقِعَ به، فلمَّا دَخَل المسجِدَ قام على رأسِه وقال له: "تَشتُمُ ابنَ أخي وأنا على دِينِه!"، ثم ضَرَبه بالقَوسِ فشَجَّه شجَّةً مُنكرةً، فثار رجالٌ من بني مخزومٍ -حيِّ أبي جهلٍ- وثار بنو هاشمٍ -حيِّ حمزةَ- فقال أبو جهلٍ: "دَعوا أبا عِمارةَ! فإنِّي سَبَبتُ ابنَ أخيه سبًّا قبيحًا".
وقال ابنُ إسحاقَ: "ثم رَجَع حمزةُ إلى بيتِه فأتاه الشَّيطانُ فقال: أنت سيِّدُ قُريشٍ اتبعْتَ هذا الصابِئَ، وتركتَ دينَ آبائك، لَلموتُ خيرٌ لك ممَّا صنعتَ. فأقبلَ حَمزةُ على نفسِه وقال: "ما صنعتُ؟! اللَّهمَّ إن كان رُشدًا فاجعَلْ تَصديقَه في قلبي، وإلَّا فاجعَل لي ممَّا وَقعتُ فيه مَخرجًا"، فبات بلَيلةٍ لم يَبِتْ بِمِثلها مِن وَسوسةِ الشَّيطانِ، حتَّى أصبَحَ فغَدا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: "يا بن أخي، إنِّي قد وَقعتُ في أمرٍ ولا أعرِفُ المَخرجَ منه، وإقامةُ مِثلي على ما لا أدري ما هو، أرُشْدٌ أم هو غَيٌّ شَديدٌ؟ فحدِّثني حديثًا؛ فقدِ اشتَهيتُ يا بنَ أخي أن تُحدِّثَني، فأقبل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَّره ووَعَظه، وخوَّفَه وبَشَّرَه، فألقَى اللهُ في قلبِه الإيمانَ بما قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال: "أشهَدُ أنَّك الصَّادِقُ شهادةَ الصِّدقِ، فأظهِرْ يا بن أخي دينَكَ، فواللهِ ما أُحِبُّ أنَّ لي ما أظلَّتْه السماءُ وأنِّي على ديني الأوَّلِ"؛ فكان إسلامُ حمزةَ رَضي اللهُ عنه أوَّلَ الأمرِ أنَفةَ رجلٍ أبَى أن يُهانَ مَولاهُ، ثم شَرَح اللهُ صدرَهُ، فاسْتمَسْكَ بالعُروةِ الوُثقى، واعتَزَّ به المُسلِمون أيَّما اعتِزازٍ!
هو أبو الفضلِ جَعفرُ بنُ أحمدَ المعتَضِد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفَّق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين العبَّاسي، ولد في رمضان سنة 282، وأمُّه أمُّ ولَد اسمها شغب، بويعَ له بالخلافةِ بعد أخيه المُكتفي في ذي القَعدة، سنة 295، وهو يومئذٍ ابنُ ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام. وما وليَ أحدٌ قبله أصغَرُ منه، فانخرم نظامُ الإمامة في أيَّامِه، وصَغُرَ منصِبُ الخلافة؛ ولهذا أراد الجُندُ خَلعَه في بداية خلافتِه في ربيع الأول سنة 296 محتجِّينَ بصِغَرِه وعدَمِ بلوغِه، وتوليةَ عبد الله بن المعتَزِّ، فلم يتمَّ ذلك، وانتقض الأمرُ في ثاني يوم, ثم خلَعوه في المحرَّم سنة 317، وولَّوا أخاه محمَّدًا القاهر، فلم يتِمَّ ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافةِ, وقد كان المقتَدِر رَبْعةً مِن الرجال حسَنَ الوَجهِ والعَينينِ، بعيدَ ما بين المَنكِبَين، حسَنَ الشَّعرِ، مدوَّرَ الوَجهِ، مُشرَبًا بحُمرةٍ، حسَنَ الخُلُقِ، قد شاب رأسُه وعارضاه، وقد كان مِعطاءً جَوادًا، وله عقلٌ جَيِّد، وفهمٌ وافِرٌ، وذِهنٌ صحيح، وقد كان كثيرَ التحجُّبِ والتوسُّع في النفقاتِ مِتلافًا للأموال، مَحَقَ ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى منها. كان في دارِه أحد عشر ألفَ خادم خَصِيٍّ، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسُّودان، وكان له دارٌ يقال لها دارُ الشجرة، بها من الأثاثِ والأمتعة شيءٌ كثيرٌ جِدًّا، وكان كثيرَ الصَّدَقة والإحسانِ إلى أهل الحرمين وأربابِ الوظائف، وكان كثيرَ التنفُّل بالصَّلاةِ والصوم والعبادة، ولكنَّه كان مؤثِرًا لشهواتِه، مطيعا لخَدَمِه وغلمانِه، كثيرَ العَزلِ والولاية والتلَوُّن. وما زال ذلك دأبَه حتى كان هلاكُه على يدي غِلمانِ مُؤنسٍ الخادم، فقُتِلَ عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوالٍ من هذه السنة، وله من العمر ثمانٍ وثلاثون سنة، قال الذهبي: "كان منهومًا باللَّعِب والجواري، لا يلتَفِتُ إلى أعباء الأمور، فوهَنَت دولتُه، وفارقَه قائِدُه مؤنِسٌ الخادم مغاضِبًا له إلى الموصل، وتمَلَّكَها، ووصلت القرامطةُ في أيَّامِه إلى الكوفة، فهرب أهلُها منها. ودخلت الديلم الدينور فاستباحوها، وأقبلت جيوشُ الرومِ حتى بلغوا عَمُّورية، فقَتَلوا وسَبَوا" كانت مدة خلافته أربعًا وعشرين سنةً وأحد عشر شهرًا وأربعة عشر يومًا. كان أكثَرَ مُدَّةً ممَّن تقَدَّمَه من الخُلَفاء.
هو الخليفةُ أبو العَبَّاسِ أحمَدُ بنُ الأميرِ إسحاقَ بنِ المُقتَدِرِ جَعفرِ بنِ المُعتَضِدِ العباسيِّ البغداديِّ. ولِدَ سنة 336. وأمُّه اسمُها: تمني, ماتت في دولتِه، وكان أبيضَ كَثَّ اللِّحيةِ يَخضِبُ, دَيِّنًا عالِمًا متعَبِّدًا وقورًا، مِن جِلَّةِ الخُلفاءِ وأمثَلِهم. عَدَّه ابنُ الصَّلاحِ في الشَّافعيَّة؛ فقد تفَقَّه على أبي بشرٍ أحمَدُ بنُ محمَّدٍ الهَرَويِّ. قال الخطيبُ البغدادي: "كان القادِرُ باللهِ مِن السِّترِ والدِّيانةِ، وإدامةِ التهَجُّدِ باللَّيلِ وكثرةِ البِرِّ والصَّدَقات على صِفةٍ اشتُهِرَت عنه" وكان قد صَنَّفَ كِتابًا في الأصولِ ذكر فيه فضائِلَ الصَّحابةِ على ترتيبِ مَذهَبِ أهل الحديث, وأورد في كتابِه فضائِلَ عُمَرَ بنِ عبد العزيز، وإكفارَ المُعتَزِلة والقائلينَ بخَلقِ القُرآنِ, وكان الكِتابُ يُقرأُ كُلَّ جُمعةٍ في حلقةِ أصحابِ الحديث. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "كان في أيَّامِ المتوكِّلِ قد عَزَّ الإسلامُ حتى ألزَمَ أهلَ الذِّمَّةِ بالشُّروطِ العُمَرِيَّة وألزموا الصِّغارَ، فعَزَّت السُّنَّة والجماعة, وقُمِعَت الجَهميَّةُ والرَّافِضةُ ونحوهم، وكذلك في أيَّامِ المُعتَضِد، والمُهتدي، والقادرِ بالله، وغيرِهم من الخُلفاِء الذين كانوا أحمَدَ سِيرةً وأحسَنَ طريقةً مِن غَيرِهم, وكان الإسلامُ في زَمَنِهم أعَزَّ، وكانت السُّنَّةُ بحَسَبِ ذلك" أمَرَ القادِرُ باللهِ بعَمَلِ مَحضَرٍ يتضَمَّنُ القَدحَ في نَسَبِ العُبَيديَّة، وأنَّهم منسوبونَ إلى ديصان بنِ سعيدٍ الخرَّميِّ، أخذَ عليه خُطوطَ العُلَماءِ والقُضاة والطَّالبيِّينَ، كما استتابَ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المخالفةِ للإسلامِ. تُوفِّيَ القادِرُ بالله وكانت خلافتُه إحدى وأربعينَ سَنةً وثلاثةَ أشهُرٍ وعشرين يومًا، وكانت الخلافةُ قَبلَه قد طَمِعَ فيها الديلَمُ والأتراك، فلَمَّا وَلِيَها القادِرُ بالله أعاد جِدَّتَها، وجَدَّد ناموسَها، وألقى اللهُ هَيبَتَه في قلوبِ الخَلقِ، فأطاعوه أحسَنَ طاعةٍ وأتَمَّها، فلمَّا مات القادِرُ بالله جلَسَ ابنُه القائِمُ بأمرِ الله أبو جعفرٍ عبدُ الله، وجُدِّدَت له البيعةُ، وكان أبوه قد بايَعَ له بولايةِ العهدِ سنةَ 421، واستقَرَّت الخلافةُ له، وأوَّلُ مَن بايَعَه الشَّريفُ أبو القاسِمِ المرتضى، وأرسل القائِمُ بأمرِ اللهِ قاضيَ القُضاةِ أبا الحسَن الماوَرديَّ إلى المَلِك أبي كاليجار؛ ليَأخُذَ عليه البَيعةَ، ويَخطُبَ له في بلادِه، فأجابَ وبايَعَ، وخَطَب له في بلادِه.
ملكَ صلاحُ الدِّينِ يوسف بن أيوب مدينةَ دمشق، وسبَبُ ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا مات ومَلَك ابنُه المَلِكُ الصالح إسماعيلُ بعده كان بدمشق، ولَمَّا استولى سيفُ الدين غازي بن قطب الدين مودود صاحِب الموصل وعَمِّ الملك الصالح إسماعيل على البلاد الجزرية، خاف شمس الدين علي بن الداية-وهو أكبر الأمراء النورية- أن يُغيرَ إلى حلب فيَملِكَها، فأرسل الخادمَ سعد الدين كمشتكين إلى دمشق لِيُحضِرَ الملك الصالح ومعه العساكِر إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبَضَ سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته، وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومُقَدَّم الأحداث فيها، واستبَدَّ سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المُقَدَّم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليَعبُرَ الفرات إليهم؛ لِيُسَلِّموا إليه دمشق، فامتنع عن قصد دمشق، وراسل الخادم سعد الدين الملك الصالح وصالَحَهما على ما أخَذَه من البلاد، فلما امتنع سيفُ الدين غازي عن العبور إلى دمشق عَظُمَ خَوفُ ابن المقدم ومن معه من الأمراء، وقالوا: حيث صالحَ الخادم سعد الدين سيف الدين والملك الصالح لم يبقَ لهم مانعٌ عن المسير إلينا، فكاتبوا حينئذ صلاحَ الدين يوسف بن أيوب، صاحِبَ مصر، واستدعوه ليُملكوه عليهم، فلما وصلت الرسُلُ إلى صلاح الدين بذلك لم يلبَثْ، وسار جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في سبعمائة فارس، والفرنج في طريقه، فلم يبالِ بهم، ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كلُّ من بها من العسكر إليه، فلَقُوه وخدموه، ودخل البلد، ونزل في دار والده المعروفةِ بدار العقيقي، وكانت القلعةُ بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمالَ الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكِمُ في جميع أموره من الديوانِ والوقف وغير ذلك، وأرسَلَه إلى ريحان ليسَلِّمَ القلعة إليه، وقال: "أنا مملوكُ الملك الصالح، وما جئتُ إلَّا لأنصُرَه وأخدمه، وأعيدَ البلاد التي أُخِذَت منه إليه"، وكان يَخطُبُ له في بلاده كلها، فصَعِدَ كمال الدين إلى ريحان، ولم يزَلْ معه حتى سَلَّمَ القلعة، فصَعِدَ صلاح الدين إليها، وأخَذَ ما فيها من الأموال، وأخرجها واتَّسَع بها وثَبَّت قَدَمَه، وقَوِيَت نفسه، وهو مع هذا يُظهرُ الطاعة للملك الصالح، والخُطبة والسكة باسمه، والصالحُ يخاطِبُه بالمملوكِ.
كانت فتنةٌ عَظيمةٌ بعَسكَرِ غياث الدين، مَلِك الغور وغزنة، وهو بفيروزكوه، عَمَّت الرعية والملوك والأمراء، وسَبَبُها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الإمامُ المشهور، الفقيهُ الشافعيُّ، فارق بهاءَ الدين صاحِبَ باميان وقَصَد غياثَ الدين الغوري خال بهاء الدين، فالتقاه وبجَّلَه وأنزله، وبنى له مدرسةً، وقَصَده الفُقَهاءُ من النواحي، فعظم ذلك على الكرَّامية، وهم خلقٌ بهراة، وكان أشد الناس عليه ابنَ عم غياث الدين وزَوج بنته، الملك ضياء الدين، فاتفق حضورُ الفُقَهاء الكرَّامية والحنفية والشافعيَّة، وفيهم فخر الدين الرازي، والقاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة، وهو من الكرَّامية الهيصمية، وله عندهم محلٌّ كبير لزُهدِه وعِلمِه وبيته، فلمَّا اجتمعوا عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة. فتكلَّم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة، وطال الكلامُ، فقام غياث الدين فاستطال عليه الفَخرُ، وسَبَّه وشَتَمَه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقولَ: لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله، أستغفر الله؛ فانفصلوا على هذا، وقام ضياءُ الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياثِ الدين، وذَمَّ الفخرَ، ونسبه إلى الزندقة ومَذهَب الفلاسفة، فلم يُصْغِ غياث الدين إليه، فلما كان الغدُ وعظ ابن عم المجد بن القدوة بالجامِعِ، فلما صَعِدَ المنبرَ قال بعد أن حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا اللهُ، ربَّنا آمَنَّا بما أنزلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسولَ فاكتُبْنا مع الشَّاهِدينَ، أيُّها الناسُ، إنَّا لا نقولُ إلا ما صَحَّ عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عِلمُ أرسطاطاليس، وكفريَّات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلَمُها، فلأيِّ حالٍ يُشتَمُ بالأمس شيخٌ من شيوخ الإسلام يَذُبُّ عن دين الله، وعن سُنة نبيه؟! وبكى وضَجَّ النَّاسُ، وبكى الكرَّامية واستغاثوا، وأعانهم مَن يُؤثِرُ بُعدَ الفخر الرازي عن السلطان، وثار النَّاسُ من كل جانب، وامتلأ البلدُ فِتنةً، وكادوا يَقتَتِلون، ويجري ما يَهلِكُ فيه خلقٌ كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعةً مِن عنده إلى الناسِ وسَكَّنَهم، ووعدهم بإخراجِ الفَخرِ الرازي من عندهم، وتقَدَّمَ إليه بالعَودِ إلى هراة، فعاد إليها.