هو الخليفةُ أبو العَبَّاسِ أحمَدُ بنُ الأميرِ إسحاقَ بنِ المُقتَدِرِ جَعفرِ بنِ المُعتَضِدِ العباسيِّ البغداديِّ. ولِدَ سنة 336. وأمُّه اسمُها: تمني, ماتت في دولتِه، وكان أبيضَ كَثَّ اللِّحيةِ يَخضِبُ, دَيِّنًا عالِمًا متعَبِّدًا وقورًا، مِن جِلَّةِ الخُلفاءِ وأمثَلِهم. عَدَّه ابنُ الصَّلاحِ في الشَّافعيَّة؛ فقد تفَقَّه على أبي بشرٍ أحمَدُ بنُ محمَّدٍ الهَرَويِّ. قال الخطيبُ البغدادي: "كان القادِرُ باللهِ مِن السِّترِ والدِّيانةِ، وإدامةِ التهَجُّدِ باللَّيلِ وكثرةِ البِرِّ والصَّدَقات على صِفةٍ اشتُهِرَت عنه" وكان قد صَنَّفَ كِتابًا في الأصولِ ذكر فيه فضائِلَ الصَّحابةِ على ترتيبِ مَذهَبِ أهل الحديث, وأورد في كتابِه فضائِلَ عُمَرَ بنِ عبد العزيز، وإكفارَ المُعتَزِلة والقائلينَ بخَلقِ القُرآنِ, وكان الكِتابُ يُقرأُ كُلَّ جُمعةٍ في حلقةِ أصحابِ الحديث. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "كان في أيَّامِ المتوكِّلِ قد عَزَّ الإسلامُ حتى ألزَمَ أهلَ الذِّمَّةِ بالشُّروطِ العُمَرِيَّة وألزموا الصِّغارَ، فعَزَّت السُّنَّة والجماعة, وقُمِعَت الجَهميَّةُ والرَّافِضةُ ونحوهم، وكذلك في أيَّامِ المُعتَضِد، والمُهتدي، والقادرِ بالله، وغيرِهم من الخُلفاِء الذين كانوا أحمَدَ سِيرةً وأحسَنَ طريقةً مِن غَيرِهم, وكان الإسلامُ في زَمَنِهم أعَزَّ، وكانت السُّنَّةُ بحَسَبِ ذلك" أمَرَ القادِرُ باللهِ بعَمَلِ مَحضَرٍ يتضَمَّنُ القَدحَ في نَسَبِ العُبَيديَّة، وأنَّهم منسوبونَ إلى ديصان بنِ سعيدٍ الخرَّميِّ، أخذَ عليه خُطوطَ العُلَماءِ والقُضاة والطَّالبيِّينَ، كما استتابَ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المخالفةِ للإسلامِ. تُوفِّيَ القادِرُ بالله وكانت خلافتُه إحدى وأربعينَ سَنةً وثلاثةَ أشهُرٍ وعشرين يومًا، وكانت الخلافةُ قَبلَه قد طَمِعَ فيها الديلَمُ والأتراك، فلَمَّا وَلِيَها القادِرُ بالله أعاد جِدَّتَها، وجَدَّد ناموسَها، وألقى اللهُ هَيبَتَه في قلوبِ الخَلقِ، فأطاعوه أحسَنَ طاعةٍ وأتَمَّها، فلمَّا مات القادِرُ بالله جلَسَ ابنُه القائِمُ بأمرِ الله أبو جعفرٍ عبدُ الله، وجُدِّدَت له البيعةُ، وكان أبوه قد بايَعَ له بولايةِ العهدِ سنةَ 421، واستقَرَّت الخلافةُ له، وأوَّلُ مَن بايَعَه الشَّريفُ أبو القاسِمِ المرتضى، وأرسل القائِمُ بأمرِ اللهِ قاضيَ القُضاةِ أبا الحسَن الماوَرديَّ إلى المَلِك أبي كاليجار؛ ليَأخُذَ عليه البَيعةَ، ويَخطُبَ له في بلادِه، فأجابَ وبايَعَ، وخَطَب له في بلادِه.
هو المعلم أسد البحر شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد السَّعْدي النجدي، من نجد عُمان، ويقال له السائح ماجد، وهو من علماءِ فنِّ الملاحة وتاريخه عند العربِ، ومِن كبارِ ربابنةِ العرب في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي وخليج البنغال وبحر الصين. ولِدَ ابنُ ماجد عام 821هـ بنجد عُمان في عائلة تهتمُّ بركوب البحر، فكان أبوه وجَدُّه ملاحَينِ مشهورين، ولابن ماجد الفضلُ في إرساء قواعد الملاحة للعالم، وقد بقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدةً في كلٍّ من البحر الأحمر والخليج العربي وبحر الصين. وهو أوَّلُ من كتب في المرشدات البحرية الحديثة، وصنَّف (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد)، وأرجوزةً سمَّاها (حاوية الاختصار في أصول علم البحار) و(الأرجوزة السبعية) و(القصيدة المسماة بالهدية) و(أرجوزة بر العرب في خليج فارس)، و(المراسي على ساحل الهند الغربية) ورسائلَ أخرى. أما ما أُشيع من أنَّ ابن ماجد أرشد قائِدَ الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما إلى طريقِ الهند: فهو باطِلٌ وغير صحيحٍ، قال أحمد علاونة: "هو قول باطل مدارُه على النهروالي في كتابه (البرق اليماني في الفتح العثماني) وقد ذكر هذه الأسطورةَ بعد ثمانين سنة من حدوثِها، ولم يذكر أيُّ مؤرِّخٍ بعد النهروالي هذه الأسطورة، ثم جاء المستشرق فران عام 1922 ونفخ فيها من روحِه وتابعه عليها كثيرون منهم الزِّركْلي" وقد أورد العلاونة بعض الأدلة على بطلان إرشاد ابن ماجد لفاسكو دي غاما منها: أ- أن الروايةَ ذكَرت أنَّ ابن ماجد أرشد دي غاما وهو سكران، وهذا غير معقول أن يطمئنَّ قائد عسكري لفاقد الوعي ليدلَّه على طريق محفوف بالمخاطر. ب- لم تكن لابن ماجد خبرةٌ في الساحل الإفريقي. ج- لم يرد ذكر هذه الحادثة في أي من أعمال ابن ماجد النثرية والشعرية. د- كان ابن ماجد يعرِفُ حَقَّ المعرفة نوايا البرتغاليين وما يضمرونه من شَرٍّ للمسلمين. ه- لا يوجد مؤرِّخٌ برتغالي ممَّن عاصروا دي غاما وعُنُوا بتاريخ رحلاته أو ممَّن جاؤوا على آثارهم ذكروا أحمد بن ماجد. و- عاصر وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عددٌ من المؤرخين العرب، ومنهم من عاصر ابن ماجد، ولم يذكُرْ أيٌّ منهم صلةَ ابن ماجد بالبرتغاليين.
يقول ابن بشر: "كانت هذه البلدةُ -الدِّرعية- أقوى البلادِ، وقوَّةُ أهلها وكثرةُ رجالهم وأموالهم لا يحصيه التَّعداد، فلو ذهبت أعددُ أحوالهم وإقبالَهم فيها وإدبارَهم في كتايب الخيل والنجايب العمانيات، وما يدخلُ على أهلها من أحمالِ الأموالِ مِن سائر الأجناس التي لهم مع المسافرينَ منهم، ومن أهل الأقطار- لم يسَعْه كتاب، ولرأيت العجَبَ العجاب، وكان الداخِلُ في موسمها لا يفقد أحدًا من أهل الآفاقِ مِن اليمن وتهامة والحجاز وعمان، والبحرين وبادية الشام والعراق، وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاقِ ممن يطول عَدُّه، هذا داخِلٌ فيها وهذا خارجٌ منها، وهذا مستوطِنٌ فيها، وكانت الدورُ لا تُباعُ فيها إلا نادرًا، وأثمانُها سبعة آلاف ريال وخمسة آلاف، والداني بألف ريال، وأقل وأكثر، وكلُّ شيء يقدره على هذا التقدير من الصغير والكبير، وكروة الدكان الواحد بلغت في الشَّهرِ الواحد خمسةً وأربعين ريالًا، وكروة الدكان الواحد من سائر الدكاكين بريالٍ في اليوم، والنازل بنصفٍ، وذُكر لي: أن القافلة من الهدم -الملابس- إذا أتت إليها بلغَت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة أريُل، وأراد رجلٌ منهم أن يوسِّعَ بيته ويعمره فاشترى نخلاتٍ تحت هذا البيت يريدُ قطعها ويعمر موضِعَها، كل نخلة بأربعين ريالًا أو خمسين ريالًا، فقطع النخل وعمر البيت، ولكِنَّه وقع عليه الهدم قبل تمامِه، وذَكر لي من أثقُ به أن رجلًا من أهل الدرعية قال له: إني أردت ميزابًا في بيتي فاشتريتُ خشبة طولها ثلاثة أذرع بثلاثة أريُل، وأجرة نَجْره وبِناه ريال, وكان غلاء الحطب فيها والخشب إلى حدِّ الغاية، حتى قيل: إنَّ حملَ الحطب بلغَ خمسة أريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال، وكل غالبِ بيوتها مقاصير، وقصور كأنَّ ساكنيها لم يكونوا من أبناء ساكني القبور، فإذا وقفْتَ في مكان مرتفع ونظرت موسمها وكثرة ما فيها من الخلائق وتزايلهم فيه وإقبالهم وإدبارهم، ثم سمعتُ رنَّتَهم فيه ونجناجهم فيه، إذا كأنه دويُّ السيل القوي إذا انصَبَّ من عالي جبل، فسبحان من لا يزولُ مُلكُه ولا يُضامُ سُلطانُه ولا يُرامُ عِزُّه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] "
وعدُ بلفور أو تصريحُ بلفور، هو وعدٌ لليهود يمنَحُهم حقَّ إقامة وطن قومي في فلسطين، وهو وعدٌ مشؤوم بالنسبة للمسلمين يناقِضُ ما أبرمه الإنجليزُ مع الشريف حسين في مراسلات "حسين، مكماهون" والوعودَ بإقامة خلافةٍ عربية إسلامية في البلاد العربية مقابِلَ إعلان العرب الثورةَ على الدولة العثمانية!! ولقد أثار اشتراكُ الإمبراطورية العثمانية في الحربِ ضِدَّ الحلفاء الأطماعَ الصهيونية، وكان على رأس زعمائهم في إنجلترا حاييم وايزمان الذي كتب إلى زعماء الصهيونية في أمريكا طالبًا دعم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي وصل للرئاسة بفضلِ تمويل اليهودِ فهو تابعٌ لهم، وأما في بريطانيا فكان اليهودُ قد أطاحوا بحكومةِ رئيس الوزراء هربرت هنري سكويت المعروفِ بعدائه لليهود، وموَّلوا حكومةً ائتلافية فيها ديفيد لويد جورج المحامي عن الحركة الصهيونية ووينستون تشرشل الماسوني والمؤازر للصهيونية، ثم أعلنت بريطانيا إرسالَ وزير خارجيتها بلفور إلى الولايات المتحدة للاتصالِ بممثلي المصارف الأمريكية (غالبهم إن لم يكن كلهم من اليهود) وإبلاغهم رسميًّا بأنَّ الحكومة البريطانية ستتبنى رسميًّا مشاريعهم المتعلِّقة بالصهيونية مقابِلَ تعهُّدهم بإدخال أمريكا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية، ثم دخلت أمريكا الحربَ، وكانت أول كتائبها وصلت إلى فرنسا في حزيران 1917م وتكفَّلت بريطانيا بإعادة تأسيس فلسطين كوطنٍ قومي لليهود، وكأن أرض فلسطين ملكُ آبائهم! وكان وعد بلفور صدر في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وهو عبارةٌ عن خطاب من آرثر جيمس بلفور وزيرِ خارجية بريطانيا إلى المصرفيِّ اليهودي اللورد ليونيل وولتر دي روتشلد، وجاء فيه: "أن حكومة جلالة الملك تنظرُ بعين العطفِ إلى تأسيس وطنٍ قوميٍّ للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدَها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعمَلٍ من شأنه أن يجحَفَ بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتَّعُ بها الطوائف غير اليهودية الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتَّعُ به اليهود في البلدان الأخرى" وقد تمسَّكت الحكومات البريطانية المتعاقبة بهذا التصريح الذي أصبح عن طريق الانتداب إلزامًا دوليًّا، وكان من غايات بريطانيا لهذا هو حماية مصالحها في السويس، فكان هذا أولَ الغدر الظاهِرِ، وليس أوَّله بالكلية، وأبدى العربُ والقوميون الذين كانوا مخدوعين بالوعود الإنجليزية استياءَهم، ولكن لاتَ حينَ مناصٍ!!!
هو الشيخُ الإمامُ المحقِّقُ محمد يونس بنُ شَبير أحمد بن شير علي الجونفوري السَّهارنفوريُّ، شيخُ الحديثِ، وُلد في قريةِ كُورَيْني قُربَ جونفور بالهندِ، 15 رجب سنةَ 1355، وتوفِّيت أمُّه وهو ابنُ خَمْسٍ، فربَّتْه جَدَّتُه لأمِّه، وكانت من الصالحاتِ، فتربَّى في بيئةٍ مُتديِّنةٍ، ثم التحَقَ بالكتاتيبِ وأخَذَ فيها القراءةَ والكتابةَ والمبادئَ، وبعدها انتقَلَ إلى مدرسةِ ضياءِ العلومِ بماني كلان قُربَ قريتِه، واستزادَ من العلومِ فيها، وأكثَر استفادتَه فيها من الشيخَينِ: ضياءِ الحقِّ الفيض آبادي، وعبدِ الحليمِ الجونفوري، ثم التحق بجامعةِ مظاهرِ العلومِ في سَهارَنْفورَ في شوالٍ سنةَ 1373، وتخرَّجَ فيها بعد ثلاثِ سِنينَ، وتضلَّعَ من العلمِ، خاصةً من الحديثِ الشريفِ. ولازمَ عددًا من الأكابرِ، منهم شيخُ الحديثِ محمد زكريا الكانْدَهْلويّ، أخذَ عنه قراءةً وسَماعًا جميعَ البخاريِّ، وبعضَ مقدِّمةِ مُسلِمٍ، ونِصفَ سُنَنِ أبي داودَ. ومنهم الشيخُ محمد أسعد الله الرامْفوري، والشيخُ منظور أحمد السهارنفوري، والشيخُ أمير أحمد بن عبد الغني الكاندهلوي، والشيخُ فخرُ الدينِ أحمد المراد أبادي، وسمِعَ أوائلَ السِّتَّةِ على العلَّامةِ محمد حسن بن حامد الكنكوهي، واستجازَ في الكِبَرِ من المشايخِ عبدِ الفتاحِ أبي غُدَّةَ، وعبدِ اللهِ الناخبي، وأحمد علي السورتي، وعبدِ الرحمنِ الكتانيِّ، وغيرِهم. ظهَرَ نُبوغُ الشيخِ وتَميُّزُه مُبكِّرًا، ولا سِيَّما في الحديثِ وتَحقيقِ مَسائلِه، وكان بعضُ كبارِ شُيوخِه يَرجِعُ إليه ويَسألُه ويَعتمِدُ عليه، ومنهم شيخُه محمد زكريا. عُيِّنَ مُدرسًا في جامعةِ مظاهرِ العلومِ بسهارنفور في شهرِ شوَّالٍ سنةَ 1381هـ، لِيُدرِّسَ صحيحَ مُسلمٍ، وسُنَنَ أبي داودَ، والنَّسائيِّ، وابنِ ماجَهْ، والموطَّأَ بروايتَيهِ، وعددًا من كُتُبِ الفقهِ وأُصولِه. وفي شوَّالٍ سنةَ 1388هـ استخلفه شيخُه مُحمَّد زكريَّا الكاندهلوي في مَنصِبِه، فأصبحَ شيخَ الحديثِ في جامعةِ مَظاهرِ العلومِ، واستمرَّ بِمَنصِبِه هذا حوالَي 48 سنةً. عانى الشيخُ من الأمراضِ غالِبَ عُمرِه، واشتدَّ به الأمرُ أواخِرَ حياتِه، إلى أنِ انتقَلَ إلى رحمةِ اللهِ عن عمرٍ يناهزُ 83 عامًا، قضى أكثرَ من نِصفِه في تدريسِ كُتُبِ الحديثِ والسنةِ النبويةِ، وصُلِّي عليه عصرًا في سهارنفور، وشهِدَ جَنازتَه خلقٌ غفيرٌ من مناطقِ الهندِ.
كانت بعدَ غزوة مُؤْتَةَ، وسُمِّيتْ ذاتَ السَّلاسِلِ لأنَّها وقعت بالقُرْبِ مِن ماءٍ يُقالُ له: السَّلْسَلُ. بلَغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ جمعًا مِن قُضاعةَ تَجَمَّعوا وأَرادوا أن يَدنوا مِن أَطرافِ المدينةِ فَدعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَمرَو بنَ العاصِ فعقَد له لِواءً أَبيضًا وبَعثَهُ في ثلاثمائةٍ مِن سَراةِ المُهاجرين والأنصارِ، فكان أَميرُها عَمرَو بنَ العاصِ رضي الله عنه. قال عَمرٌو: بعَث إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: خُذْ عليك ثِيابَك وسِلاحَك ثمَّ ائْتِني. فأَتيتُه وهو يتَوضَّأُ، فصَعَّد فِيَّ النَّظرَ، ثمَّ طَأْطَأَ، فقال: إنِّي أُريدُ أن أَبعثَكَ على جَيشٍ، فيُسَلِّمَك الله ويُغْنِمَك، وأَرْغَبُ لك مِنَ المالِ رَغبةً صالِحةً، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، ما أَسلمتُ مِن أجلِ المالِ، ولكنِّي أَسلمتُ رَغبةً في الإسلامِ، وأن أكونَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عَمرُو، نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ).
وفي الغَزوةِ سأَلهُ أصحابُه أن يُوقِدوا نارًا فمَنعَهُم فكَلَّموا أبا بكرٍ فكَلَّمهُ في ذلك فقال: لا يُوقِدُ أحدٌ منهم نارًا إلَّا قَذفْتُه فيها. قال: فلَقوا العَدُوَّ فهَزموهُم فأرادوا أن يَتَبَعوهُم فمنَعهُم، فلمَّا انصرَف ذلك الجيشُ ذَكَروا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وشَكَوْهُ إليه، فقال: يا رسولَ الله، إنِّي كَرِهتُ أن آذنَ لهم أن يُوقِدوا نارًا فيَرى عَدُوُّهم قِلَّتَهُم، وكَرِهتُ أن يَتْبَعُوهم فيكونُ لهم مَدَدٌ فيَعْطِفوا عليهم. فحمِد رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَمْرَهُ...). وفيها صلَّى عَمرٌو بالنَّاسِ وهو جُنُبٌ ومعه ماءٌ، لم يَزِدْ على أن غسَل فَرْجَهُ وتَيمَّمَ، فلمَّا قَدِمَ عَمرٌو على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سأَلهُ عن صلاتِه، فأَخبرَهُ فقال: والذي بعثَك بالحقِّ لو اغْتسَلتُ لَمُتُّ، لم أَجِدْ بَردًا قَطُّ مِثلَهُ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضَحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَقُلْ له شيئًا.
لمَّا مات يَزيدُ بن مُعاوِيَة أَقْلَع جَيشُه عن مكَّة، وهم الذين كانوا يُحاصِرون ابنَ الزُّبيرِ وهو عائِذٌ بالبيتِ، فلمَّا رجَع حُصينُ بن نُميرٍ السَّكونيُّ بالجيشِ إلى الشَّام بعدَ أن عرَض الحُصينُ على ابنِ الزُّبيرِ أن يُبايِعَه بالخِلافَة شَرْطَ أن يَأتِيَ معهم للشَّامِ؛ لكنَّ ابنَ الزُّبيرِ رفَض الذِّهابَ إلى الشَّام, كان يَزيدُ قد أَوْصى بالخِلافَة لابنِه مُعاوِيَة؛ لكنَّه لم يكُن راغِبًا فيها فترَكَها وجعَلَها شُورى للمسلمين. اسْتَفْحَل أَمْرُ ابنِ الزُّبير بالحِجازِ وما والاها، وبايَعَهُ النَّاسُ في العِراق وما يَتْبَعُه إلى أقصى مَشارِق دِيارِ الإسلامِ، وفي مِصْرَ وما يَتْبَعُها إلى أقصى بِلادِ المغربِ، وبايَعَت الشَّامُ أيضًا إلَّا بعضَ جِهاتٍ منها، ففي دِمشقَ بايَع الضَّحَّاكُ بن قيسٍ الفِهرىُّ لابنِ الزُّبيرِ، وفي حِمْص بايَع النُّعمانُ بن بَشيرٍ، وفي قِنَّسْرين زُفَرُ بن الحارثِ الكِلابيُّ، وفي فِلَسْطين بايَع ناتِلُ بن قيسٍ، وأَخرَج منها رَوْحَ بن زِنْباع الجُذاميَّ، ولم يكُن رافضًا بَيْعَة ابنِ الزُّبيرِ في الشَّام إلَّا مِنطقةُ البَلْقاءِ وفيها حَسَّان بن مالكِ بن بَحْدَل الكَلبيُّ. وقد كان الْتَفَّ على عبدِ الله بن الزُّبيرِ جَماعةٌ مِن الخَوارِج يُدافِعون عنه، منهم نافعُ بن الأزرقِ، وعبدُ الله بن إباض، وجَماعةٌ مِن رُؤوسهم, فلمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرهُ في الخِلافَة قالوا فيما بينهم: إنَّكم قد أَخْطأتُم لأنَّكم قاتَلتُم مع هذا الرَّجُلِ ولم تَعْلَموا رَأيَه في عُثمان بن عفَّان -وكانوا يَنْتَقِصون عُثمانَ- فاجْتَمَعوا إليه فسألوه عن عُثمانَ فأجابهم فيه بما يَسُوؤهُم، فعند ذلك نَفَرُوا عنه وفارقوه وقَصَدوا بِلادَ العِراق وخُراسان، فتَفَرَّقوا فيها. صَرَّح العديدُ مِن العُلماءِ والمُؤَرِّخِين بأنَّ بَيْعَة ابنِ الزُّبير بَيْعَة شَرْعِيَّةٌ، وأنَّه أَوْلى بها مِن مَرْوان بن الحكمِ, فيَروِي ابنُ عبدِ البَرِّ، عن مالكٍ أنَّه قال: إنَّ ابنَ الزُّبيرِ كان أفضل مِن مَرْوان وكان أَوْلى بالأمرِ منه، ومِن ابنِه عبدِ المَلِك. ويقولُ ابنُ كثيرٍ عن ابنِ الزُّبيرِ: ثمَّ كان هو الإمام بعدَ مَوتِ مُعاوِيَة بن يَزيدَ لا مَحالَة، وهو أَرْشَدُ مِن مَرْوان بن الحكمِ، حيث نازَعَهُ بعدَ أن اجْتَمَعت الكَلِمَةُ عليه، وقامَت البَيْعَة له في الآفاقِ، وانْتَظَم له الأمرُ، والله أعلم.
هو أبو عبدالله محمَّد بن إدريس بن العبَّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمامُ عالِمُ العَصرِ ناصِرُ الحديثِ، فقيه المِلَّة، ثم المطَّلبيُّ الشافعيُّ، المكِّي، الغزي القرَشِيُّ، أحَدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقه، ولِدَ في غزَّة عام 150هـ فعادت به أمُّه إلى مكة، وهو ابن سنتين، فنشأ بها، وأقبل على الأدبِ والعربيَّة والشعر، فبرع في ذلك. وحُبِّبَ إليه الرميُ حتى فاق الأقرانَ، وصار يصيبُ من العِشرةِ تِسعةً. ثم كتَبَ العِلمَ. قال الشافعي: "أقمتُ في بطونِ العَرَب عشرينَ سنةً آخُذُ أشعارَها ولغاتِها، وحَفِظتُ القرآنَ، فما علِمتُ أنَّه مَرَّ بي حرفٌ إلَّا وقد عَلِمتُ المعنى فيه، ما خلا حرفينِ، إحداهما: دسَّاها" وكان من أفصَحِ النَّاسِ وأحفَظِهم، رحل إلى المدينةِ وسَمِعَ من الإمام مالك, قال الشافعي: "أتيتُ مالِكًا وأنا ابنُ ثلاث عشرة سنة، وكان ابنُ عمٍّ لي واليَ المدينة، فكلَّمَ لي مالكًا فأتيته. فقال: اطلُبْ من يقرأُ لك، فقلت: أنا أقرأُ، فقرأت عليه. فكان ربَّما قال لي لشيء: أعِدْه, فأُعيدُه حِفظًا, وكأنَّه أعجَبَه". ثم رحل لليمَنِ، ثمَّ سُيِّرَ إلى العراق إلى الرشيدِ وبَقِيَ فيها وتفَقَّه، وتكررت رحلتُه إلى العراق أكثَرَ مِن مرَّة، ثم إلى مصرَ، وله مِن المؤلَّفات: الرِّسالة، والأم، واختلاف الحديث، وله ديوان شعر، انتشر مذهبُه بسبب كثرة ترحُّلِه وجَمْعِه بين طريقةِ المحَدِّثين وطريقة الفقهاء، وكان أحمدُ بن حنبل يدعو له في صلاتِه نحوًا من أربعينَ سنةً، قال يونس الصدفي: "ما رأيتُ أعقَلَ من الشافعيِّ؛ ناظرتُه يومًا في مسألةٍ ثمَّ افتَرَقنا ولَقِيَني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيمُ أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتَّفِقْ في مسألةٍ؟ قلت: هذا يدُلُّ على كمالِ عَقلِ هذا الإمامِ وفِقهِ نفسِه، فما زال النُّظَراءُ يَختَلِفونَ". توفِّيَ في مصر ودُفِنَ بالقرافة الصغرى، وله أربعٌ وخمسون سَنةً.
خرج المجوسُ كما سمَّاهم الأندلسيُّون، وهم النرماند أو الفايكونغ، في نحو ثمانين مركبًا، فحَلُّوا بأشبونة، ثمَّ أقبلوا إلى قادس، وشذونة، ثم قَدِموا على إشبيلية فدخَلوها قَسرًا، واستأصلوا أهلَها قَتلًا وأسْرًا. فبَقُوا بها سبعة أيام، يسقونَ أهلَها كأسَ الحِمامِ. واتَّصلَ الخبَرُ بالأميرِ عبدِ الرحمن بن الحَكَم، فقَدِمَ على الخيلِ عيسى بن شهيد الحاجِب، وتوجَّه بالخيلِ عبدُ الله ابن كليب وابنُ رستم وغيرُهما من القوَّاد، واحتل بالشَّرف. وكتب إلى عمَّال الكور في استنفارِ النَّاس، فحَلُّوا بقُرطبة، ونفَرَ بهم نصرُ الفتى. وتوافت للمجوسِ مراكِبُ على مراكِبَ، وجعلوا يَقتُلونَ الرِّجالَ، ويَسْبُونَ النساء، ويأخذون الصِّبيان، وذلك بطولِ ثلاثة عشر يومًا، وكانت بينهم وبين المسلمينَ ملاحِمُ. ثم نهضوا إلى قبطيل، فأقاموا بها ثلاثةَ أيَّام، ودخلوا قورة، على اثني عشرَ ميلًا من إشبيلية، فقتلوا من المسلمين عددًا كثيرًا، ثم دخلوا إلى طليلطِة، على ميلين من إشبيلية، فنزلوها ليلًا، وظهروا بالغَداةِ بمَوضعٍ يُعرَف بالنخارين، ثم مَضَوا بمراكبهم، واعتَرَكوا مع المسلمين. فانهزم المسلمون، وقُتِلَ منهم ما لا يُحصى. ثم عادوا إلى مراكِبِهم. ثم نهضوا إلى شذونة، ومنها إلى قادس، وذلك بعد أن وجَّه الأميرُ عبدُ الرحمن قوَّادَه، فدافعهم ودافَعوه، ونُصِبَت المجانيقُ عليهم، وتوافت الأمدادُ مِن قُرطُبة إليهم. فانهزم المجوسُ، وقُتِلَ منهم نحوٌ من خمسمائة عِلجٍ، وأصيبت لهم أربعةُ مراكِبَ بما فيها، فأمر ابنُ رستم بإحراقِها وبَيعِ ما فيها من الفَيءِ. ثم كانت الوقعةُ عليهم يوم الثلاثاء لخَمسٍ بقين من صفر، قُتِلَ فيها منهم خلقٌ كثيرٌ، وأُحرِقَ مِن مراكبهم ثلاثون مَركبًا. وعلق من المجوس بإشبيليةَ عددٌ كثيرٌ، ورُفِعَ منهم في جذوعِ النَّخلِ التي كانت بها. وركب سائِرُهم مراكِبَهم، وساروا إلى لبلة، ثم توجَّهوا منها إلى الأشنونة فانقطع خَبَرُهم. ولَمَّا قتل اللهُ أميرَهم، وأفنى عديدَهم، وفتح فيهم، خرجت الكتُبُ إلى الآفاقِ بخبَرِهم. وكتب الأميرُ عبد الرحمن إلى مَن بطنجةَ مِن صِنهاجة، يُعلِمُهم بما كان مِن صُنعِ الله في المجوس، وبما أَنزَلَ فيهم من النِّقمةِ والهَلَكةِ، وبعثَ إليهم برأسِ أميرِهم وبمائتي رأسٍ مِن أنجادِهم.
لَمَّا مات سعدُ الدَّولةِ الحَمدانيُّ صاحِبُ حَلَب، سار الوزيرُ أبو الحسن المغربي من مَشهدِ عليٍّ إلى العزيز بمصرَ، وأطمَعَه في حلب، فسيَّرَ جيشًا وعليهم منجوتكين أحدُ أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيش ٍكثيفٍ فحَصَرها، وبها أبو الفضائلِ ولؤلؤٌ، فكتبا إلى بسيل مَلِكِ الرومِ يستَنجِدانِه، وهو يقاتِلُ البلغار، فأرسل بسيل إلى نائِبِه بأنطاكيةَ يأمُرُه بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسينَ ألفًا، حتى نزل على الجسرِ الجديدِ بالعاصي، فلمَّا سَمِعَ منجوتكين الخبَرَ سار إلى الرومِ؛ ليلقاهم قبل اجتماعِهم بأبي الفضائلِ، وعبَرَ إليهم العاصي، وأوقعوا بالرُّومِ فهزموهم ووَلَّوا الأدبارَ إلى أنطاكيةَ، وكثُرَ القتلُ فيهم، وسار منجوتكين إلى أنطاكيةَ، فنهب بلَدَها وقُراها وأحرَقَها، وأنفذ أبو الفضائِلِ إلى بلَدِ حَلَب، فنَقَل ما فيه من الغِلالِ، وأحرق الباقيَ إضرارًا بعساكِرِ مِصرَ، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤٌ إلى أبي الحسَنِ المغربي فبذل لهم مالًا ليَرُدُّوا منجوتكين عنهم هذه السَّنَة، بعِلَّةِ تَعَذُّرِ الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضَجِرَ مِن الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق، ولَمَّا بلغ الخبَرُ إلى العزيز، غَضِبَ وكتب بعَودِ العَسكرِ إلى حلب، وإبعاد المغربيِّ، وأنفذ الأقواتَ مِن مِصرَ في البحرِ إلى طرابلس، ومنها إلى العَسكرِ، فنازل العسكَرُ حَلَب، وأقاموا عليها ثلاثةَ عشَرَ شهرًا، فقَلَّت الأقواتُ بحَلَب، وعاد أبو الفضائِلِ إلى مراسلةِ مَلِك الرومِ والاعتضاد به، وقال له: متى أخِذَت حلب أخِذَت أنطاكية وعَظُم عليك الخَطبُ، وكان قد توسَّطَ بلادَ البلغار، فعاد وجَدَّ في السَّيرِ، وكان الزَّمانُ ربيعًا، وعسكَرُ مِصرَ قد أرسل إلى منجوتكين يعَرِّفُه الحال، وأتَتْه جواسيسُه بمِثلِ ذلك، فسار كالمنهَزِم عن حَلَب، ووصل مَلِكُ الرُّومِ، فنزل على باب حَلَب، وخرج إليه أبو الفضائلِ ولؤلؤ، وعاد إلى حَلَب، ورحَلَ بسيل إلى الشام، ففتح حِمصَ وشيزر ونهبَهما، وسار إلى طرابلس فنازَلَها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيفًا وأربعينَ يومًا، فلما أيِسَ منها عاد إلى بلادِ الروم، ولَمَّا بلغ الخبَرُ إلى العزيز عَظُم عليه، ونادى في النَّاسِ بالنَّفيرِ لِغَزوِ الروم، وبرز من القاهرةِ، وحدث به أمراضٌ مَنَعتْه، وأدركه الموتُ.
هو الإمامُ الحافِظُ المَجَوِّد, شيخُ الإسلام, عَلَمُ الجهابِذةِ, أبو الحسَنِ عليُّ بنُ عُمَرَ بنِ أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الدَارَقُطنيُّ، الحافِظُ الكبير، المقرئُ المحَدِّث, كان عالِمًا حافِظًا فقيهًا على مذهَبِ الإمام الشافعي. أخذ الفِقهَ عن أبي سعيدٍ الاصطخريِّ الفقيهِ الشافعي. كانت ولادتُه في ذي القَعدة سنة 306. والدَّارَقُطنيُّ بفتحِ الدالِ المُهملة وبعدَ الألف راءٌ مفتوحة ثم قافٌ مَضمومة نسبةً إلى دار قُطْن محلَّة كبيرة ببغداد. كان من بحورِ العِلمِ, ومن أئمَّة الدنيا, انتهى إليه الحِفظُ ومَعرفةُ عِلَل الحديث ورجالِه, مع التقَدُّم في القراءاتِ وطُرُقِها, وقُوَّة المشاركة في الفِقهِ والاختلافِ والمغازي وأيَّام الناس, وغير ذلك. أستاذُ الصناعةِ في عِلمِ الحديثِ والعِلَل، سَمِعَ الكثير، وجمع وصَنَّف وألفَّ وأجاد وأفاد، وأحسنَ النَّظَرَ والتعليلَ والانتقادَ والاعتقاد، وكان فريدَ عَصرِه، ونسيجَ وحْدِه، وإمامَ دَهرِه في أسماءِ الرِّجالِ وصناعةِ التَّعليلِ، والجَرحِ والتعديلِ، وحُسْنِ التَّصنيفِ والتأليفِ، والاطلاعِ التَّامِّ في الدراية، له كتابُه المشهورُ: (السُّنَن) من أحسَنِ المصَنَّفات في بابِه، وله كتابُ العِلَل بيَّنَ فيه الصَّوابَ مِن الدَّخَلِ، والمتَّصِلَ مِن المُرسَل، والمُنقَطِعَ والمُعضَل، وكتابُ الأفراد، وله غير ذلك من المصَنَّفات، وكان مِن صِغَرِه موصوفًا بالحِفظِ الباهِرِ، والفَهمِ الثَّاقِبِ، والبَحرِ الزَّاخر، وقال الحاكِمُ أبو عبد الله النَّيسابوري: "لم يَرَ الدَّارَقُطنيُّ مِثلَ نَفسِه"، وقد اجتمع له مع معرفةِ الحديثِ العِلمُ بالقراءاتِ والنَّحوِ والفِقهِ والشِّعرِ، مع الإمامةِ والعَدالةِ، وصِحَّةِ اعتقاد. قال أبو بكر البرقاني: كان الدَّارَقُطني يُملي عليَّ العِلَلَ مِن حِفظِه. قلت- والكلام للذهبي-: إن كان كتابُ "العلل" الموجود قد أملاه الدَّارقُطنيُّ مِن حِفظِه كما دلَّت عليه هذه الحكاية, فهذا أمرٌ عظيمٌ يُقضَى به للدَّارَقُطني أنَّه أحفَظُ أهلِ الدُّنيا، وإن كان قد أملى بعضَه مِن حِفظِه, فهذا ممكِنٌ، وقد جمَعَ قبلَه كتابَ " العِلَل " عليُّ بنُ المَديني حافِظُ زَمانِه". وقد كانت وفاتُه في يوم الثلاثاء السابِعَ مِن ذي القَعدة، وله من العُمُرِ سبعٌ وسبعون سنة ويومان، ودُفِنَ مِن الغد بمقبرة باب الدير قريبًا من قبرِ معروفٍ الكَرخيِّ- رَحِمَهما الله.
كان إبراهيمُ بن قُريشِ بن بدران، أَميرُ بني عُقيلٍ، قد استَدعاهُ السُّلطانُ ملكشاه سَنةَ اثنتين وثمانين وأربعمائة لِيُحاسِبَه، فلمَّا حَضَرَ عنده اعتَقَلهُ، وأَنفَذَ فَخرَ الدولةِ بنَ جَهيرٍ إلى البِلادِ، فمَلَكَ المَوصِلَ وغَيرَها، وبَقِيَ إبراهيمُ مع ملكشاه، وسارَ معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلمَّا ماتَ ملكشاه أَطلقَتهُ تركان خاتون من الاعتِقالِ، فسارَ إلى المَوصِل, وكان ملكشاه قد أَقطعَ عَمَّتَهُ صَفِيَّة مَدينةَ بلد، وكانت زَوجةَ شَرفِ الدَّولةِ، ولها منه ابنُها عليٌّ، وكانت قد تَزوَّجَت بعد شَرفِ الدولةِ بأَخيهِ إبراهيمَ، فلمَّا مات ملكشاه قَصدَت المَوصِلَ، ومعها ابنُها عليٌّ، فقَصَدَها محمدُ بن شَرفِ الدولةِ، وأَرادَ أَخْذَ المَوصِل، فافتَرَق الناسُ فِرقَتينِ: فِرقَةٌ معه، وأُخرى مع صَفِيَّة وابنِها عليٍّ، واقتَتَلوا بالمَوصِل عند الكُنَّاسَةِ، فظَفَرَ عَلِيٌّ، وانهَزمَ مُحمدٌ، ومَلَكَ عليٌّ المَوصِلَ, فلمَّا وَصلَ إبراهيمُ إلى جهينة، وبينه وبين المَوصِل أربعةُ فَراسِخ، سَمِعَ أن الأَميرَ عَلِيًّا ابنَ أَخيهِ شَرفِ الدولةِ قد مَلَكَها، ومعه أُمُّهُ صَفِيَّة، عَمَّةُ ملكشاه، فأَقامَ مكانه، وراسلَ صَفِيَّة خاتون، وتَردَّدَت الرُّسُلُ، فسَلَّمَت البلدَ إليهِ، فأَقامَ به. فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقا إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضًا نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، وكان إبراهيم في ثلاثين ألفًا، وكان تتش في عشرة آلاف، وكان اتسز على ميمنته، وبوزان على ميسرته، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل اتسز عليهم فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيرًا وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرًا، ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفًا من السبي والفضيحة, وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة، وأمه صفية عمة تتش، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب.
صاحبُ ألموت الكيا الحسن بن الصباح بن علي بن محمد الحميري الإسماعيلي. رأس الإسماعيلية، كان داهية وأصله من مرو، وُلِد بطوس وتتلمذ على أحمد بن عطاش من أعيان الباطنية، وكان كاتبًا لبعض الرؤساء، ثم صار إلى مصر وتلقى من دعاتهم، وعاد داعية لقومه، فكان الحسنُ مُقدَّمَ الباطنية في أصبهان دعا إلى إمامة المستنصر الفاطمي فطاف البلاد للدعوة الإسماعيلية، وقوي أمرُه حتى استولى على قلعة ألموت في قزوين، ثم ضمَّ إليها قلاعًا أخرى، وكان لا يدعو إلا غبيًّا، ومن لا يَعرِف أمور الدنيا، ويُطعِمُه الجوز والعسل والشونيز، حتى يتسبَّط دماغُه، ثم يذكر له ما تمَّ على أهل البيت من الظلم، ثم يقول له: إذا كانت الأزارقةُ والخوارج سمحوا بنفوسِهم في القتال مع بني أمية، فما سببُ تخلُّفِك بنفسك عن إمامك؟ قال الذهبي: "أنفذ ملكشاه إليه يتهدَّدُه ويأمره بالطاعة، ويأمرُه أن يكُفَّ أصحابَه عن قَتلِ العلماء والأمراء، فقال للرسول: الجوابُ ما تراه، ثم قال لجماعة بين يديه: أريد أن أنفِذَكم إلى مولاكم في حاجةٍ، فمن ينهضُ بها؟ فاشرأبَّ كل واحد منهم، وظنَّ الرسولُ أنها حاجةٌ، فأومى إلى شابٍّ، فقال: اقتل نفسَك، فجذب سكينًا، فقال بها في غَلصَمتِه، فخرَّ ميتًا، وقال لآخر: ارمِ نفسَك من القلعةِ، فألقى نفسَه فتقطَّع، ثم قال للرسول: قُلْ له: عندي من هؤلاء عشرون ألفًا، هذا حَدُّ طاعتِهم، فعاد الرسول وأخبر ملكشاه، فعَجِبَ، وأعرضَ عن كلامِهم". وقد غلت الأقطار بجرائِمِ أتباعه الباطنية، فقَتَلوا غيلةً عِدَّةً من العلماء والأمراء، وأخذوا القلاع، وحاربوا، وقطعوا الطرق، وظهروا أيضًا بالشام، والتفَّ عليهم كل شيطان ومارق، وكلُّ ماكر ومتحَيِّل. قال الغزالي في (سر العالمين): "شاهدت قصةَ الحسن بن الصباح لما تزهَّدَ تحت حصن ألموت، فكان أهلُ الحصن يتمنَّون صعوده، ويتمنَّع ويقول: أما ترون المنكرَ كيف فشا، وفسد الناسُ، فصبا إليه خلقٌ، وذهب أميرُ الحصن يتصيَّد، فوثب على الحصن فتملَّكه، وبعث إلى الأمير من قتَلَه، وكثُرَت قلاعُهم، واشتغل عنهم أولاد ملكشاه باختلافِهم". هلك الحسن بن الصباح في قلعة ألموت وقام بعده بالأمر كيابرزك أميد الروذباري.
انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببُها أن نور الدين جمع عساكِرَه ودخل بلاد الفرنج، ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصرًا له عازمًا على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يومًا في خيامِهم وسط النهار، لم يَرُعْهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حِصن الأكراد، وذلك أن الفرنجَ اجتمعوا واتَّفَق رأيهم على كبسة المسلمين نهارًا، فإنَّهم يكونون آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مُجِدِّين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قَرُبوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونَه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملةِ، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلُبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معًا إلى العسكَرِ النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخْذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتلَ والأسر، وكان أشدَّهم على المسلمين الدوقس الرومي؛ فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يُبقوا على أحد، وقَصَدوا خيمةَ نور الدين وقد ركب فيها فرسَه ونجا بنفسه، ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعةُ فراسخ، وتلاحق به مَن سَلِم من العسكر، وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تُقيم هاهنا؛ فإن الفرنج ربما حمَلَهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخَذَ ونحن على هذه الحال؛ فوبَّخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألفُ فارس لقيتُهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظِلُّ بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلامِ، ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضرَ الأموال والثياب والخيام، والسلاح والخيل، فأعطى اللباسَ عِوَضَ ما أخذ منهم جميعه، فعاد العسكر كأن لم تُصِبْه هزيمة، وكلُّ من قتل أعطى أقطاعَه لأولاده، وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمينَ على قصد حمص بعد الهزيمة لأنَّها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعَلْ هذا إلا وعنده قوة يمنعُنا بها، ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلحَ، فلم يُجِبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادِهم.
عبَرَ كُفَّارُ الخطا الترك نهرَ جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثُوا في البلاد وأفسَدوا، فلَقِيَهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلَهم فانهزم الخطا، وكان سَبَبُ ذلك أنَّ خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلادِ، ومَلَكَها وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طَلَبَ السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفةُ إلى غياث الدين ملك الغور وغُزنة يأمُرُه بقَصدِ بلاد خوارزم شاه ليعودَ عن قَصدِ العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسَلَه غياث الدين يُقَبِّحُ له فِعْلَه، ويتهَدَّدُه بقَصدِ بلاده وأخْذِها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا الكُفَّار يشكو إليهم من غياثِ الدين، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاءً، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكِرُ معه، وغياث الدين به من النقرسِ ما يمنَعُه من الحركة، إنما يُحمَلُ في محفَّة، والذي يقود الجيشَ ويباشِرُ الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا الترك إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازمًا على قَصدِ هراة ومحاصَرتِها، وعبَرَ الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور وقَتَلوا وأسروا ونهبوا وسَبَوا كثيرًا لا يحصى، فاستغاث النَّاسُ بغياث الدين، فلم يكُنْ عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونَه بالإفراج عن بلخ، أو أنَّه يَحمِلُ ما كان مِن قبَلِه يحمِلُه من المالِ، فلم يجِبْهم إلى ذلك، وعظُمَت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدبَ الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قِبَل غياث الدين، وكان شجاعًا، وكاتب الحُسَين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأميرُ حروش الغوري، وساروا بعساكِرِهم إلى الخطا، فبَيَّتوهم، وكبسوهم ليلًا، فأتاهم هؤلاء الغوريَّة وقاتلوهم، وأكثروا القتلَ في الخطا، وانهزم مَن سَلِمَ منهم من القتل، ثم قَوِيَت قلوبهم، وثَبَتوا واقتتلوا عامَّةَ نَهارِهم، فقتل من الفريقين خلقٌ عظيم، ولَحِقَت المتطوعة بالغوريِّينَ، وأتاهم مَدَدٌ من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمونَ، وعَظُمَت نكايتُهم في الكفار.