في سادس جمادى الآخرة، فتح أتابك عمادُ الدين زنكي بن آقسنقر مدينةَ الرَّها من الفرنج، وفتَحَ غَيرَها مِن حُصونِهم بالجزيرةِ أيضًا، وكان ضَرَرُهم قد عَمَّ بلادَ الجزيرة وشَرَّهم قد استطار فيها، ووصَلَت غاراتُهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلَغَت آمِدَ ونصيبين ورأسَ عَين والرقَّة، وكانت مملكَتُهم بهذه الديارِ مِن قَريبِ ماردين إلى الفُرات مثل الرَّها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير، وحملين، والموزر، والقرادي، وغير ذلك. وكانت هذه الأعمالُ مع غيرِها ممَّا هو غَرْبَ الفرات لجوسلين، وكان صاحِبَ رأي الفرنجِ والمُقَدَّم على عساكِرِهم؛ لِما هو عليه من الشَّجاعةِ والمكرِ، وكان زنكي يَعلَمُ أنَّه متى قَصَد حَصْرَ الرَّها، اجتمع فيها مِن الفرنجِ مَن يَمنَعُها، فيتعَذَّر عليه مِلكُها لِما هي عليه من الحَصانةِ، فاشتغل بقِتالِ الملوك الأرتقيَّة بديارِ بَكرٍ ليُوهِمَ الفرنجَ أنَّه غيرُ مُتفَرِّغٍ لقَصدِ بلادِهم، فلمَّا رأَوْا أنَّه غيرُ قادر على تَرْكِ الملوك الأرتقيَّة وغيرِهم من ملوكِ ديارِ بَكرٍ، حيث إنَّه محارب لهم، اطمأنُّوا، وفارق جوسلين الرَّها وعبَرَ الفراتَ إلى بلاد الغربية، فجاءت عيونُ أتابك إليه فأخبَرَته فنادى العسكَرَ بالرحيلِ وألَّا يتخَلَّفَ عن الرَّها أحَدٌ مِن غَدِ يَومِه، وجمَعَ الأمراءَ عنده، وقال: قَدِّموا الطعامَ، وقال: لا يأكُلْ معي على مائدتي هذه إلَّا مَن يَطعنُ غدًا معي على بابِ الرَّها، فلم يتقَدَّمْ إليه غيرُ أميرٍ واحدٍ وصَبيٍّ لا يُعرَف؛ لِما يَعلَمونَ مِن إقدامِه وشجاعته، وأنَّ أحدًا لا يَقدِرُعلى مُجاراتِه في الحَربِ، فقال الأميرُ لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقامِ؟ فقال أتابك: دَعْه فواللهِ إنِّي أرى وجهًا لا يتخَلَّفُ عني، وسار والعساكِرُ معه، ووصل إلى الرَّها، وكان هو أوَّلَ مَن حمل على الفرنجِ ومعه ذلك الصبيُّ، وحمَلَ فارِسٌ مِن خَيَّالة الفرنج على أتابك عرضًا، فاعتَرَضه ذلك الأميرُ فطَعَنَه فقَتَلَه، وسَلِمَ الشهيدُ، ونازل البَلَدَ، وقاتله ثمانيةً وعشرين يومًا، فزحَفَ إليه عِدَّةَ دَفعاتٍ، وقَدَّم النقَّابينَ فنَقَبوا سورَ البَلَدِ، وطَرَحوا فيه الحَطَب والنَّارَ فتهَدَّمَ، ودخلها فحاربهم، ولجَّ في قتالِه خَوفًا من اجتماعِ الفرنج والمسيرِ إليه واستنقاذِ البلد منه، فأخذ البَلَدَ عَنوةً وقهرًا، وحَصَرَ قلعةَ الرَّها فمَلَكها أيضًا, فنصَرَ اللهُ المُسلمينَ وغَنِموا غنائِمَ عَظيمةً، وخَلَّصوا أُسارى مُسلِمينَ يَزيدونَ على خمسِمئة. ونهب النَّاسُ الأموالَ وسَبَوا الذُّريَّةَ وقَتَلوا الرجالَ، فلمَّا رأى أتابك زنكي البلدَ أعجَبَه، ورأى أنَّ تَخريبَ مِثلِه لا يجوزُ في السِّياسة، فأمَرَ فنُودِيَ في العساكِرِ برَدِّ مَن أخذوه من الرِّجالِ والنِّساءِ والأطفالِ إلى بُيوتِهم، وإعادةِ ما غَنِموه من أثاثِهم وأمتِعَتِهم، فرَدُّوا الجميعَ عن آخِرِهم لم يُفقَدْ منهم أحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ النَّادِرُ الذي أُخِذَ وفارَقَ مَن أخَذَه العَسكَرُ، فعاد البلدُ إلى حالِه الأوَّلِ، وجعَلَ فيه عسكرًا يَحفَظُه، وكان جمالُ الدين أبو المعالي فضلُ الله بن ماهان رئيسُ حرَّان هو الذي يحُثُّ أتابك في جميعِ الأوقاتِ على أخْذِ الرَّها، ويُسَهِّلُ عليه أمْرَها, ثمَّ رَحَل إلى سروجٍ ففَتَحَها، وهَرَب الفرنجُ منها، وتسَلَّمَ سائِرَ الأماكِنِ التي كانت بيَدِ الفِرنجِ شَرقيَّ الفُراتِ ما عدا البيرةَ؛ فإنَّها حصينةٌ مَنيعةٌ، وعلى شاطئِ الفُراتِ، فسار إليها وحاصَرَها، وكانوا قد أكثَروا مِيرتَها ورِجالَها، فبَقِيَ على حِصارِها إلى أن رحَلَ عنها عندما جاءَه الخبَرُ مِن المَوصِل أنَّ نَصيرَ الدِّينِ جقر نائبه بالموصِلِ قُتِلَ، فخاف عليها، وتَرَك البيرةَ بعد أن قارَبَ أخْذَها, وسار جِهةَ المَوصِلِ، ولَمَّا بلَغَ زنكي خبَرُ قَتْلِ مَن قَتَلَ جقر، سكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلبُه.
هو الإمامُ العلَّامةُ المفَسِّر، شيخُ الإسلام، مَفخَر العراق، الحافِظُ الواعِظُ جمالُ الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي- نسبة إلى فرضة نهر البصرة- المشهور بابن الجوزي، القُرَشي التيمي البكري البغدادي الفقيهُ الحنبلي. ينتهي نسبُه إلى أبي بكر الصديقِ رَضِيَ الله عنه. كان علَّامة عصره وإمامَ وَقتِه في الحديث وصناعة الوعظ. ولد سنة تسع- أو عشر- وخمسمائة، كان والده واعظًا ويعمَلُ في الصفر بنهر القلايين. برز أبو الفرج في علوم كثيرة. وقد جمع من المصنَّفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلَّدة وتفَرَّد بفن الوعظ الذي لَمْ يُسْبَقْ إليه ولا يُلحَق شأوُه فيه، وفي طريقتِه وشَكلِه، وفي فصاحته وبلاغتِه وعذوبتِه وحلاوةِ ترصيعِه ونفوذِ وعظِه، وغَوصِه على المعاني البديعة، وتقريبِه الأشياءَ الغريبة، هذا وله في العلومِ كُلِّها اليدُ الطولى، والمشاركاتُ في سائِرِ أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم، والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو. قال الذهبي: "كان رأسًا في التذكير بلا مُدافعة، يقول النَّظمَ الرائق، والنثرَ الفائق بديهةً، ويُسهِب ويعجب ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثلُه، فهو حامِلُ لواء الوعظ، والقَيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحُسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علَّامةً في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيِّدَ المشاركة في الطب، ذا تفنُّن وفَهمٍ وذكاء وحِفظٍ واستحضار، وإكبابٍ على الجمع والتصنيف، مع التصوُّن والتجمُّل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحُرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفتُ أحدًا صَنَّفَ ما صنف". ومن مصنفاته كتابُه في التفسير المشهور بزاد المسير، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله جامع المسانيد استوعب فيه غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب المنتظم في تواريخِ الأُمَم من العرب والعَجَم، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك، وبالجملة فكُتُبه أكثر من أن تُعَدُّ, وكَتَب بخطه شيئًا كثيرًا. كانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمعُ كثيرًا جِدًّا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد، وكان يومًا مشهودًا. كان له من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز- وهو أكبرهم- مات شابًّا في حياته سنة 554، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقًّا له إلبًا عليه في زمن المحنةِ وغيرها، وقد تسَلَّط على كتُبِه في غيبته بواسط فباعها بأبخَسِ الأثمان، ثمَّ محيي الدين يوسف، وكان أنجَبَ أولادِه وأصغَرَهم، جلس للوعظ بعد أبيه، واشتغل وحَرَّر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر محيي الدين الحِسبةَ ببغداد، وتولى التدريسَ بالمدرسة المستنصريَّة لطائفة الحنابلة، ثم صار رسولَ الخلفاء إلى الملوك بأطرافِ البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام، وصار أستاذ دار الخلافة، وتوفي في وقعة التتر قتيلًا سنة 653. وكان لابنِ الجوزي عدة بنات منهن رابعة أم سبطِه شمس الدين أبي المظفر بن قزغلي الواعظ المشهور والمعروف بسبط ابن الجوزي، وهو حنفي المذهب، وله صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم، وصنف تاريخًا كبيرًا في أربعين مجلدًا سماه مرآة الزمان.
هو جنكيزخان السلطان الأعظم عند التتار والدُ ملوكهم، واسمه تموجين وقيل (تمرجين أو تمرجي) ولد في غرة محرم سنة 550 في منغوليا على الضفة اليمنى لنهر الأونون في مقاطعة دولون بولداق وهذه المقاطعة توجد اليوم في الأراضي الروسية. وكان أبوه بسوكاي رئيسًا لقبيلة قيات المغولية فسمَّاه باسم قائد صرعه؛ لأنَّه كان معجبًا به لفرط شجاعته, وقيل: "إنَّ أمَّه كانت تزعمُ أنها حملته من شعاع الشمس؛ فلهذا لا يُعرَفُ له أب، ولهذا قد يكون مجهولَ النسب". لما مات بسوكاي سنة 563 حل محلَّه تمرجين وكان عمره ثلاثة عشر عامًا إلَّا أن رجال قبيلته استصغروا سنَّه ورفضوا طاعته, حينما بلغ السابعةَ عشرة من عمره استطاع بقوَّة شخصيته وحِدَّة ذكائه أن يعيدَ رجال قبيلته إلى طاعته وأن يُخضِعَ المناوئين له حتى تمَّت له السيطرة, وأصبح تمرجين بعد انتصاره أقوى شخصية مغولية، فنودي به خاقانًا، وعُرف باسم "جنكيز خان" أي: إمبراطور العالم. وهو صاحب "التورا" و"اليسق أو الياسق"، وضعه ليتحاكم إليه التتار ومن معهم من أمراء الترك, والتورا باللغة التركية هو المذهب، واليسق هو الترتيب، وأصل كلمة اليسق: سي يسا، وهو لفظ مركب من أعجمي وتركي، ومعناه: التراتيب الثلاث؛ لأن " سي " بالعجمي في العدد ثلاثة، و" يسا " بالتركي: الترتيب؛ وعلى هذا مشت التتار منذ أن وضعه لهم جنكيز خان، وانتشر الياسق في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: " سي يسا " فثقلت عليهم فقالوا: " سياسة " على تحاريف العرب في اللغات الأعجمية لهم السياسا التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتَبِعوه في ذلك, وقد عظُمَ أمر جنكيزخان وبعُدَ صِيتُه وخضعت له قبائلُ الترك ببلاد طمغاج كلها، حتى صار يركَبُ في نحو ثمانمائة ألف مقاتل، وأكثَرُ القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم قيان، ثم أقرب القبائلِ إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد، وهما أزان وقنقوران، وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر، والباقي للحرب والحكم، فلما هلك جعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين, وأما كتابُه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويُحمَل على بعير عندهم، وقد ذكَرَ بعضُهم أنه كان يصعد جبلًا ثم ينزل. ثم يصعدُ ثم ينزل مرارًا حتى يعيى ويقع مغشيًّا عليه، ويأمر من عنده أن يكتبَ ما يلقى على لسانه حينئذٍ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطانَ كان ينطق على لسانِه بما فيها، واستمر أولاد جنكيزخان في ممالكه التي قسمها عليهم في حياته، ولم يختلف منهم واحد على واحد، ومشوا على ما أوصاهم به، وعلى طريقته " التورا " و" اليسق " ولما احتُضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في ذلك الأمثال، وأحضر بين يديه نشابًا وأخذ سهمًا أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرَها، فقال: هذا مثَلُكم إذا اجتمعتم واتَّفقتم، وذلك مثلُكم إذا انفردتُم واختلفتُم، قال: وكان له عِدَّةُ أولاد ذكور وإناث، منهم أربعة هم عظماء أولاده، أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار، وكان كل منهم له وظيفة عنده. قال ابن كثير: " وقد رأيت مجلدًا ببغداد جمعه الوزير علاء الدين الجويني في ترجمة جنكيز خان، ذكر فيه سيرته، وما كان يشتَمِلُ عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب, وذكر فيه نتفًا من الياسا من ذلك: أنه من زنا قتل، محصنًا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قُتل، ومن تعمد الكذب قُتل، ومَن سحر قُتل، ومن تجسَّس قُتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدَهما قُتل، ومن بال في الماء الواقف قُتل، ومن انغمس فيه قُتل، ومن أطعم أسيرًا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهلِه قُتل.... "
هو السلطان سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح الغازي الملقب بياوز، أي: القاطع, وهو تاسع سلاطين الدولة العثمانية، وأول من تلقَّب بأمير المؤمنين من سلاطين بني عثمان. تولى سلطنة الدولة العثمانية سنة 918 بعد نزاع مع والده بايزيد، انتهى النزاع بتنازل والده له بالحكم بدعم من الانكشارية, وقد أظهر سليم منذ بداية حكمه ميلًا إلى تصفية خصومه ولو كانوا من إخوته أو أبنائهم, فبعد توليه السلطة عيَّنَ ابنه سليمان حاكمًا للقسطنطينية، وسافر بجيوشه إلى بلاد آسيا لمحاربة إخوته وأولادهم، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة ولم يتمكن من القبض عليه؛ لوجود علاقات بينه وبين الوزير مصطفى باشا الذي كان يخبره بمقاصد السلطان, ولما علم السلطان بهذه الخيانة قتَلَ الوزير شَرَّ قِتلة جزاءً له وعبرة لغيره، ثم توجه بكل سرعة إلى صاروخان مقر أخيه كركود فقبض عليه ثم قتله، أما أحمد الذي كان يتلقى دعمًا من إسماعيل شاه الصفوي فقتله بالقرب من مدينة يكى شهر, ولما اطمأنَّ خاطره من جهة داخليته عاد إلى مدينة أدرنه؛ حيث كان بانتظار سفراء من قبِلَ البندقية والمجر وموسكو وسلطنة مصر، فأبرم معهم جميعًا هدنة لمدد طويلة, وفي عهده تغيرت وِجهة الدولة العثمانية الجهادية من أوروبا إلى البلاد العربية الإسلامية؛ وذلك لحمايتها من الخطرين الصفوي والبرتغالي، والمحافظة على تماسك وحدتها خاصة بعد ضعف الدولة المملوكية وشدة الضربات الإسبانية والبرتغالية في عدد من البلدان الإسلامية في المغرب والخليج العربي إلى الهند, فاتجه سليم لبلاد الفرس لمحاربة الصفويين الشيعة، وانتصر عليهم في معركة جالديران، ثم اتجه إلى المماليك في الشام ومصر، وقضى على دولتهم بعد الانتصار عليهم في معركتي مرج دابق والريدانية، وبهذه الانتصارات ضمَّ سليم معظم البلاد العربية لدولته بما فيها بلاد الحرمين، كما نقل الخلافة الإسلامية إلى دولته وتسمى بأمير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين، وهو أول من تسمى بهذا الاسم من حكام المسلمين، وذلك بعد أن بايعه أشراف مكة، ثم تنازل الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله آخر ذرية الدولة العباسية عن حقه في الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم العثماني وسلمه الآثار النبوية الشريفة، وهي البيرق والسيف والبردة، وسلمه أيضًا مفاتيح الحرمين الشريفين، ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميرًا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين اسمًا وفعلًا, ثم بعد ذلك عَمِل على ضم اليمن لحمايتها من البرتغاليين وبسط نفوذ الدولة على بلاد المغرب وشمال إفريقيا لحمايتها من الخطر الإسباني. في التاسع من شوال ليلة السبت توفي السلطان سليم فأخفى موته الوزراءُ، وأرسلوا يُعلِمون ولده السلطان سليمان المعروف بسليمان القانوني، فلما وصل إلى القسطنطينية أعلنوا موت السلطان سليم، بمجرد وصول القسطنطينية يوم 16 شوال كان في انتظاره على إفريز السراي جنود الانكشارية فقابلوه بالتهليل وطلب الهدايا المعتاد توزيعها عليهم عند تولية كل ملك، وفي صبيحة 17 شوال جرت رسوم المقابلات السلطانية فوفد الأمراء والوزراء والأعيان يعزون السلطان بموت والده ويهنؤونه بالخلافة في آن واحد، وعند الظهر وصلت جثة والده فسار في الجنازة وصلوا عليه في جامع السلطان محمد، ثم حملوه ودفنوه في محل قبره، وأمر السلطان سليمان خان ببناء جامع عظيم، وعمارة لطعام الفقراء صدقة على والده، توفي وله من العمر أربع وخمسون سنة، وكانت مدة ملكه تسعة أعوام وثمانية أشهر.
كانت الدولة العثمانية قد دخلت في حرب طاحنة دامت ست سنوات مع روسيا من 1181 إلى 1187هـ/ 1768 – 1774م، مُنِيَت فيها الدولة العثمانية بهزائِمَ أليمة، أجبرتها على عَقدِ معاهدة مخزية في 13 من جمادى الأولى من هذه السنة, وهي المعروفة باسم معاهدة كيتشوك كاينارجي، أو "كوجك قينارجه" في مدينة قينارجة في بلغاريا على البحر الأسود، استطاعت روسيا من خلالِ هذه المعاهدةِ أن تحقِّق نصرًا عظيمًا على العثمانيين؛ حيث حقَّقت فيه آمالَها بأن يتحوَّل البحرَ الأسودَ مِن بحيرة عثمانية خالصة إلى بحيرة عثمانية روسية، أصبحت الملاحةُ الروسيةُ تتمتع بحُرِّية التنقُّل في البحر الأسود دون قيدٍ أو شرط. وقد تضمَّنت المعاهدة 28 مادة، ومادتين منفصلتين، وعدة شروط، منها: أن يحصُلَ الروس على حَقِّ رعاية السكان الأرثوذكس في البلاد العثمانية، وكان من شأنِ هذا البند أن تتدخَّل روسيا في شؤون الدولة العثمانية بصورة مستمرة. في لقاءِ قيصر روسيا والسفير الإنجليزي، لم تكتف روسيا بما حصَلَت عليه من مكاسِبَ من الدولة العثمانية، وإنما امتَدَّ بصرها إلى تمزيق الدولة، وتوزيع ممتلكاتها, ومن بنود المعاهدة إزالةُ العداوة بين الدولة العثمانية وروسيا، وحلولُ الصلح، وصيانةُ الاتفاقات من التغيير، والعفوُ عن الجرائم التي اقترفها رعايا الطرفين. عدمُ حماية الرعايا الملتَجِئين أو الفارِّين أو الخَوَنة ضمِن الشروط. اعتراف الطرفين بحرية بلاد القرم بلا استثناءٍ واستقلالها، ولهم الحريةُ التامة بانتخاب خان لهم دون تدخُّل، ولا يؤدون ضريبة. وباعتبارهم مسلمين فإنَّ أمورهم المذهبية تُنَظَّم من قبل السلطان بمقتضى الشريعة الإسلامية. سحب القوات العثمانية من القرم وتسليم القلاع، وعدم إرسال جنودٍ أو محافظ عسكريٍّ. حرية كل دولة في بناء القلاعِ والأبنية والتحصينات وإصلاحِ ما يلزم منها. تعيينُ سفير روسي في الأستانة من الدرجة الثانية، والاعتذارُ له رسميًّا عما يحدث من خلل. تعهُّد الدولة العثمانية بصيانةِ الحقوق والكنائس النصرانية في أراضيها، ومنح الرخصة من الخَلَل. حرية زيارة رُهبان روسيا للقُدسِ والأماكن الأخرى التي تستحِقُّ الزيارة مُرَخَّصٌ بها دون دفع جزيةٍ أو خراجٍ، ويُعطَون التسهيلات والحماية أثناء ذلك. حريةُ الملاحة للرُّوس في كافة الموانئ العثمانية في البحرين الأبيض المتوسط والأسود مضمونةٌ، وكذلك حريةُ تجارة الرعايا الروس في البلاد العثمانية برًّا وبحرًا مكفولةٌ، وللتجارِ الروس حريةُ الاستيراد منها والتصدير إليها والإقامة فيها. ويحقُّ لروسيا تعيينُ القناصل في كافة المواقع التي تراها مناسبة. يجب على الدولة العثمانية التعهُّدُ ببذل جهدِها في كفالة حكومات الولايات الإفريقية إذا ما رغب الروسُ بعقد معاهدات تجارية فيها. يحقُّ للروس بناء كنيسة على الطريق العام في محلةٍ بكل أوغلي في غلطة بإستانبول غير الكنيسة المخصِّصة، وتكون تحت صيانة سفير روسيا، وتؤمَّنُ الصيانة الكاملة لها والحراسةُ التامة خوفًا من التدخل. إعادةُ بعض المناطق للدولة العثمانية من روسيا بشروط: منها العفوُ العام عن أهاليها، وحريةُ النصارى منهم من كافةِ الوجوه، وبناءُ كنائس جديدة، ومنح امتيازات للرهبان، وحرية الهجرة للأعيان، وعدم التعرُّض لهم، وإعفاؤهم من تكاليف الحرب والجزية. يرُدُّ الروس جزائر البحر الأبيض المتوسط التي هي تحتَ حُكمِهم للدولة العثمانية التي يجِبُ أن تعفو عن أهلِها وتعفيهم من الرسومِ السنوية وتمنَحَهم الحرية الدينية وترخِّصَ لِمن يريد منهم ترك وطنهم. كما ذُكِرَت بنود أخرى تتعلَّقُ ببعض المناطق في القرم، وبتدابير الانسحاب، وإخلاء الأفلاق والبوجاق والبغدان، وبتسريح الأسرى، وتعيين السُّفراء من أجل المصالحةِ، وتعهدت الدولة العثمانية بتأدية خمسة عشر ألف كيسًا لروسيا في مدة ثلاث سنين يُدفَعُ منها في كل سنة قِسطٌ، وهو خمسة آلاف كيس!!
تولى خير الدين التونسي منصِبَ رئاسة الوزراء في الدولةِ العثمانيةِ. ولد خير الدين في القفقاس لعائلةِ تليش الأباظية الشركسية، حوالي عام 1820م. تعهَّده والي تونس الداي أحمد، وهيأ له فُرَصَ الاستزادة من العلوم، فأكَبَّ على دراسة الفنون العسكرية والسياسية، والتاريخ والعلوم الشرعية، وأتقن اللغاتِ العربيةَ والتركية والفرنسية. أصبح رئيسًا لمكتب العلوم الحربية بباردو عام 1840م، ثم أصبح رئيسًا لفرقة الفرسان في الجيش التونسي. وعيِّن مديرًا لِمَصرف الدراهم التونسي. وفي عام 1849م رقِّيَ إلى رتبة ومنصب أمير لواء الخيالة في تونس، وفي عام 1855م أنعَمَ عليه الباي المشير محمد باشا برتبة الفريق؛ لإنقاذه تونس من قرضٍ مالي ثقيل كاد الباي السابق أن يندفِعَ إليه. ثم عيَّنه وزيرًا للبحرية عام 1857م حيث أجرى عدَّةَ إصلاحات إدارية. وساهم في صياغةِ وإصدار قانون (عهد الأمان) التونسي عام 1857م. وشارك في وضع الدستور التونسي عام 1860م. وعند إنشاءِ مجلس الشورى التونسي المنتَخَب كان خير الدين باشا الرئيس الفعليَّ للمجلس من عام 1861م. اصطدم مع سياسة الباي الجديد محمد الصادق فقَدَّم استقالتَه من الوزارة ومِن رئاسة مجلس الشورى عام 1862م وفَرَض على نفسه العزلةَ السياسية لمدة تسع سنوات بين عامي 1862م و1869م. وكان من نتائج عزلته تلك تأليفُه الكتاب الشهير الذي أسماه ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) والذي تمَّ طبعُه في تونس عام 1867 م. بعد ذلك شارك مندوبًا عن تونس في اللجنة المالية المختلطة المشكَّلة لتحصيل ديون الدُّول الأوروبية من تونس، فاستطاع الحدَّ من نفوذ اللجنة وتدخُّلِها في شؤون الدولة. وفي أكتوبر 1873م عيِّنَ وزيرًا أكبر لتونس (أي رئيسًا للوزراء) فسَنَحَت له فرصةُ تحقيق برامجه الإصلاحية التي طرحَها في كتابه (أقوم المسالك) واستطاع نقل تونس من حالة الكرب والضيق والفوضى إلى حالةٍ مِن الأمنِ والرخاء والنظام. وتصدى بحزمٍ للمطامع الأجنبية في بلادِه، وخاصة المطامح الفرنسية والإيطالية المتنافسة. ولكِنَّه فوجئ بمعاتبة الباي له وغضبه من سياسته في التحمُّسِ لإعانة الدولة العثمانية في حَربِها ضِدَّ روسيا، فقَدَّم استقالته من رئاسة الوزارة في يوليو1877م. وبعد استقالته ضَيَّق عليه الباي الخناقَ ومنعه من الاتصال بالناس، فكان معتقلًا في منزله. وقد سافر للعلاجِ ثم عاد إلى تونس وظَلَّ شِبهَ مُعتَقَل حتى استدعاه السلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني فسافر إلى الأستانة في رمضان 1877م حيث استقبله السلطانُ وعَيَّنه وزير دولة بعد رفضِه منصب وزير العدل. ولكِنَّه فوجئ في صباح يوم 4 ديسمبر 1878م بتعيينه رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية. وكانت الدولةُ العثمانية وقتَها في ضيقٍ وحَرَجٍ كبير؛ فالجيش الروسي يقِفُ على عتبات العاصمة استانبول، والأسطول البريطاني في مضيق البوسفور، والاقتصادُ متدهور، وهناك المشكلةُ الأرمينية، ومشاكِلُ في قبرص والبوسنة! فسارع خير الدين باشا إلى عقد اتِّفاقٍ مع الروسِ يضمَنُ مصالح المسلمين في بلغاريا وروملي الشرقية،كما انسحب الأسطولُ البريطاني مِن مَضيقِ البوسفور، وسَوَّى الخلافات مع النمسا، وحُلَّت مشكلة الأرمن، واستبدل بالخديويِّ إسماعيل ابنَه توفيقًا في مصر. وقد اختلف كثيرًا مع السلطان عبد الحميد الثاني ورجالِ حاشيته إبَّانَ توليه رئاسة الوزراء، فكان أن عُزِلَ مِن منصبه في شعبان 1296 هـ ( 1879 م) وعاش بعدها بعيدًا عن السياسة حتى توفِّي بعد عشر سنوات في الأستانة عام 1889م ودفِنَ في جامع أيوب، إلا أن الحكومة التونسية بادرت في عام 1968م إلى نقل رُفاته ودفنه في تونس تقديرًا لخِدماتِه، وقد أطلق عليه الشَّعبُ التونسي لقب ((أبو النهضة التونسية)).
هو الحُسين بن منصور بن محمى الحلَّاج أبو مغيث، ويقالُ أبو عبد الله، كان جَدُّه مَجوسيًّا اسمُه محمى من أهل فارس، ونشأ بواسط، ويقال بتُستر، ودخل بغداد وتردَّدَ إلى مكة وجاور بها في وسطِ المسجدِ في البَردِ والحَرِّ، مكث على ذلك سنواتٍ متفرقةً، وكان يصابِرُ نَفسَه ويُجاهدُها، وقد صَحِبَ جماعةً من سادات المشايخ الصوفيَّة، كالجُنَيد بن محمد، وعمرِو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري، قال الخطيبُ البغدادي: "والصوفيَّةُ مختَلِفون فيه، فأكثَرُهم نفى أن يكونَ الحلَّاج منهم، وأبى أن يَعُدَّه فيهم، وقَبِلَه مِن متقَدِّميهم أبو العبَّاس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصَحَّحوا له حالَه، ودوَّنوا كلامَه، حتى قال ابن خفيف: الحُسين بن منصور عالمٌ ربَّاني، وقال الخطيب: والذين نَفَوه من الصوفية نسبوه إلى الشَّعبذة في فِعلِه، وإلى الزَّندقة في عقيدتِه، وله أصحابٌ يُنسَبون إليه، ويَغلُونَ فيه. وكان للحلاجِ حُسنُ عبارة، وحَلاوةُ منطقٍ، وشعرٌ على طريقةِ التصوُّفِ"، فأمَّا الفقهاء فحُكِيَ عن غيرِ واحدٍ من العلماء والأئمة إجماعُهم على قتلِه، وأنَّه قُتِل كافِرًا، وكان كافرًا مُمخرَقًا مُمَوِّهًا مشعبِذًا، وبهذا قال أكثَرُ الصوفيةِ فيه، وقال سفيان بن عيينة: "من فسَدَ مِن عُلَمائنا كان فيه شبَهٌ من اليهود، ومن فسدَ مِن عُبَّادِنا كان فيه شبَهٌ من النصارى، ولهذا دخلَ على الحلَّاجِ الحُلولُ والاتِّحادُ، فصار من أهل الانحلالِ والانحرافِ"، وقد روِيَ من وجهٍ أنَّه تقلَّبَت به الأحوالُ وترَدَّدَ إلى البلدان، وهو في ذلك كلِّه يُظهِرُ للناس أنَّه من الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وصحَّ أنَّه دخل إلى الهند وتعلَّمَ بها السحرَ، وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهلُ الهند يكاتِبونَه بالمُغيثِ- أي أنَّه مِن رجالِ المُغيث - ويكاتِبُه أهل تركستان بالمقيتِ، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزَّاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلَّاج الأسرار، ومما يدلُّ على أنه كان ذا حلولٍ في بدء أمره أشياءُ كثيرة، منها شعرُه في ذلك، فمن ذلك قولُه: "جبلت روحَك في روحي كما * يجبل العنبرُ بالمسك الفنق فإذا مسَّكَ شيءٌ مَسَّني * وإذا أنت أنا لا نفترق. وقوله: مُزِجَت روحُك في روحي كما * تُمزَجُ الخمرة بالماء الزلال، فإذا مسَّكَ شيءٌ مسَّني * فإذا أنت أنا في كلِّ حال"، وقد كان الحلاج يتلوَّنُ في ملابسِه، فتارةً يلبَسُ لباس الصوفية وتارة يتجَرَّدُ في ملابس زريَّة، وقد اتفق علماءُ بغداد على كُفرِ الحلَّاج وزندقتِه، وأجمعوا على قَتلِه وصَلبِه. حين أُحضِرَ الحَلَّاجُ في المرة الأولى سُئل عنه أبو بكر محمَّد بن داود الظاهريُّ- قبل وفاة- فقال: "إن كان ما أنزل اللهُ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا فما يقولُه الحلَّاجُ باطِلٌ" وكان شديدًا عليه، وقال أبو بكر الصولي: "قد رأيت الحلَّاجَ وخاطبتُه، فرأيته جاهلًا يتعاقلُ، وغبيًّا يتبالَغُ، وخبيثًا مُدَّعِيًا، وراغبًا يتزهَّدُ، وفاجِرًا يتعَبَّدُ"، قال الخطيب البغدادي وغيرُه في صفةِ مَقتَلِ الحَلَّاج: كان الحلَّاجُ قد قَدِمَ آخَرَ قَدْمةٍ إلى بغداد فصَحِبَ الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزيرُ إذ ذاك حامِدَ بن العباس، فبلغَه أنَّ الحلَّاجَ قد أضلَّ خَلقًا من الحَشَم والحُجَّاب في دار السلطان، ومِن غِلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملةِ ما ادَّعاه أنَّه يحيي الموتى، وأن الجِنَّ يخدُمونه ويُحضِرونَ له ما شاء ويختار ويشتهيه. وقال: إنَّه أحيا عدَّةً مِن الطيرِ"، وذُكِرَ لعلي بن عيسى أنَّ رجلًا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتِبُ يعبُدُ الحلَّاج ويدعو الناسَ إلى طاعتِه، فطلبه فكبَسَ منزِلَه فأخذه فأقَرَّ أنَّه من أصحاب الحلَّاج، ووجد في منزله أشياءَ بخَطِّ الحلَّاج مكتوبةً بماءِ الذهب في ورقِ الحريرِ مُجَلَّدة بأفخَرِ الجلود، ووجد عنده سفطًا فيه من رجيعِ الحلاجِ وعَذرتِه، وبولِه وأشياء من آثاره، وبقيَّة خبز من زاده، فطلب الوزيرُ من المقتدر أن يتكَلَّمَ في أمر الحلاج ففَوَّضَ أمرَه إليه، فاستدعى بجماعةٍ مِن أصحاب الحلَّاج فتهددهم فاعترفوا له أنَّه قد صح عندهم أنَّه إله مع الله، وأنَّه يحيي الموتى، وأنَّهم كاشَفُوا الحلاجَ بذلك ورَمَوه به في وجهِه، فجحَدَ ذلك وكذَّبهم وقال: "أعوذُ بالله أن أدَّعيَ الربوبيَّة أو النبوَّة، وإنما أنا رجلٌ أعبُدُ اللهَ وأكثرُ له الصوم والصلاة وفِعلَ الخير، لا أعرف غيرَ ذلك، وجعل لا يزيدُ على الشهادتين والتوحيدِ، ويكثر أن يقولَ: سبحانك لا إلهَ إلا أنت، عَمِلتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فاغفِرْ لي؛ إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، وكانت عليه مدرعةٌ سوداءُ، وفي رجليه ثلاثة عشر قيدًا، والمدرعة واصِلةٌ إلى ركبتيه، والقيودُ واصلةٌ إلى رُكبَتَيه أيضًا، وكان قبل احتياط الوزيرِ حامد بن العباس عليه في حُجرةٍ مِن دار نصر القشوري الحاجب، مأذونًا لِمَن يدخلُ إليه، وكان يسمِّي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمَّد بن أحمد الفارسي، وجُمِعَ له الفقهاء فأجمعوا على كُفرِه وزندقته، وأنه ساحِرٌ مُمخرقٌ، ورجع عنه رجلانِ صالحانِ ممَّن كان اتبَعَه، أحدُهما: أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخرُ يقال له الدبَّاس، فذكَرا من فضائحِه وما كان يدعو النَّاسَ إليه مِن الكَذِب والفُجورِ والمَخرَقة والسحر شيئًا كثيرًا، وكذلك أُحضِرَت زوجةُ ابنه سليمان فذكَرَت عنه فضائحَ كثيرة، من ذلك أنَّه أراد أن يغشاها وهي نائمةٌ فانتبهت، فقال: قومي إلى الصَّلاةِ؟ وإنما كان يريدُ أن يطأها، وأمَرَ ابنتها بالسجودِ له، فقالت: أوَيسجُدُ البشَرُ لبشرٍ؟ فقال: نعم، إلهٌ في السماء وإلهٌ في الأرض، ثمَّ أمرها أن تأخذَ مِن تحت باريَّة هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانيرَ كثيرةً مبدورة، ولما كان آخِرُ مجلسٍ مِن مجالسه أُحضِرَ القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيءَ بالحلَّاجِ، وقد أحضِرَ له كتابٌ مِن دورِ بعضِ أصحابِه، وفيه: من أراد الحجَّ ولم يتيسَّرْ له، فليبنِ في داره بيتًا لا ينالُه شيءٌ مِن النجاسة ولا يُمكِّن أحدًا من دخولِه، فإذا كان في أيَّامِ الحَجِّ، فليصم ثلاثةَ أيَّامٍ ولْيَطُفْ به كما يُطاف، فلما أخرجوه للصَّلبِ مشى إليه وهو يتبختَرُ في مشيته وفي رِجلَيه ثلاثةَ عشر قيدًا، وجعل ينشُدُ ويتمايل ثم قال: (يستعجِلُ بها الذين لا يؤمنونَ بها والذين آمنوا مشفِقونَ منها ويعلمون أنَّها الحقُّ) ثم لم ينطِقْ بعد ذلك حتى فُعِلَ به ما فُعِل، قالوا: ثم قُدِّمَ فضُرِبَ ألفَ سَوطٍ ثمَّ قطعت يداه ورِجلاه، وهو في ذلك كلِّه ساكتٌ ما نطق بكلمةٍ، ولم يتغيَّرْ لونُه، ويقال إنه جعل يقولُ مع كل سوطٍ: أحدٌ أحدٌ، ومنهم من قال: بل جَزِع عند القتلِ جَزعًا شديدًا وبكى بكاءً كثيرًا، فالله أعلم، قال أبو عمر بن حيويه: "لَمَّا أُخرِجَ الحُسَينُ بن منصور الحلَّاج ليُقتَل مَضَيتُ في جملة الناسِ، ولم أزل أزاحِمُ حتى رأيتُه فدنوت منه، فقال لأصحابه: لا يَهولنَّكم هذا الأمر، فإني عائدٌ اليكم بعد ثلاثينَ يومًا، ثم قُتِلَ فما عاد"، وذكر الخطيبُ أنَّه قال وهو يُضرَبُ لمحمَّد بن عبد الصمد والي الشُّرطة:: ادعُ بي إليك؛ فإن عندي نصيحةً تعدل فتحَ القُسطنطينية، فقال له: قد قيل لي إنَّك ستقولُ مثل هذا، وليس إلى رفعِ الضَّربِ عنك سبيل"، ثم قُطِعَت يداه ورجلاه وحُزَّ رأسُه وأُحرِقَت جُثَّتُه، وألقيَ رمادُها في دجلة، ونُصِبَ الرَّأسُ يومين ببغداد على الجسرِ، ثم حُمِلَ إلى خراسان وطِيفَ به في تلك النواحي، وجعل أصحابُه يَعِدون أنفُسَهم برجوعِه إليهم بعد ثلاثين يومًا، وزعم بعضُهم: "أنه رأى الحلَّاجَ مِن آخر ذلك اليوم وهو راكبٌ على حمارٍ في طريق النهروان، فقال: لعلَّك من هؤلاء النفَرِ الذين ظنُّوا أني أنا هو المضروبُ المقتولُ، إنِّي لستُ به، وإنَّما ألقِيَ شَبَهي على رجلٍ ففُعِلَ به ما رأيتَهم، وكانوا بجَهلِهم يقولون: إنَّما قتل عدوٌّ مِن أعداء الحلَّاج، فذُكِرَ هذا لبعض عُلَماء ذلك الزمان، فقال: إن كان هذا الرائي صادقًا، فقد تبدَّى له شيطانٌ على صورةِ الحَلَّاجِ؛ ليُضِلَّ الناسَ به، كما ضَلَّت فرقةُ النَّصارى بالمصلوبِ". ونودي ببغدادَ أنْ لا تُشتَرَى كتبُ الحلَّاج ولا تباع، وكان قتلُه يوم الثلاثاء لسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القَعدة من سنة تسعٍ وثلاثمائة ببغداد.
هو سلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقنت الصنهاجي اللمتوني المغربي البربري، الملقَّب بأمير المسلمين، وبأمير المرابطين، وبأمير الملثمين. ولد سنة 430. كان أحدَ من ملك البلاد ودانت بطاعته العباد، واتسعت ممالكه، وطال عمره. وقلَّ أن عُمِّرَ أحد من ملوك الإسلام ما عمر. تولى إمارة البربر واستولى على المغرب ثم الأندلس والسودان، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين من المرابطين، ولم يزل على حاله وعِزِّه وسلطانه إلى أن توفي سنة 500. قال ابن خلدون: "تسمَّى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين، وخاطَبَ الخليفة لعهده ببغداد، وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس؛ فعَقَدَ له وتضمن ذلك مكتوبًا من الخليفة منقولًا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم، وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير". وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه وأقوى شوكةً منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه، وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشارِكَه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة, وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكةَّ باسمه ونقش على الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين, وكتب على الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي, وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا، وفي العرض ما يقرب من ذلك، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان, ولم يُرَ في بلد من بلاده ولا عَمَلٍ من أعماله على طول أيامه رسمُ مَكسٍ ولا خَراجٌ، لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به، وأوجب حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم, وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يَجْبِه أحد قبله. يقال: إنه وُجِد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الوَرِق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب, وكان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، وَرِعًا متقشِّفًا، لباسه الصوف لم يَلبَس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك، لم يُنقَل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوَّله من نعمة الدنيا، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة، وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير. هو الذي بنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، اشتراها يوسف بماله الذي خرج به من الصحراء. وكان في موضعها غابة من الشجر وقرية فيها جماعة من البربر، فاختطها وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة, وهو الذي أخذ الأندلس من ملوك الطوائف وأسر المعتمد بن عباد في أغمات.. توفي في قصره بمراكش يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم, وعاش سبعين سنة مَلَكَ منها مدة خمسين سنة, وكان قد عهد بالإمرة من بعده لولده علي الذي بويع له ولُقِب بأمير المسلمين كذلك.
كان وصولُ نبأ سقوط مملكةِ بيت المقدس إلى أوروبا كنتيجةٍ لمعركة حطين صاعِقًا لنصارى أوربا. فإنَّ البابا أوربان الثامن ما إن علم بما حدث حتى توفي من وقْعِ الصدمة. ودعا خليفَتَه البابا غريغوريوس الثامن بمنشور باباوي إلى حملةٍ صليبية جديدة، وأمَرَهم بالصيام كلَّ أسبوع في يوم الجمعة على امتدادِ خمس سنوات، كما أمَرَهم بالامتناع كليًّا في هذه الحقبة من الزَّمَنِ عن أكل اللحم مرَّتينِ في الأسبوع، والدعوة إلى المشاركة في حربٍ صليبية لاسترداد بيت المقدس, وقد قام بهذه الدعوة ببالغِ الهِمَّة الكاردينال إنريكو من ألبانو، وبعد شهرين حلَّ البابا كليمنت الثالث مكانَ غريغوريوس، واستكمل المهمَّةَ، وقام الكاردينالات بالتطوافِ مَشيًا على الأقدام في عموم فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فجهَّزَ نصارى أوروبا ثلاثَ حملات ألمانية وإنكليزية وفرنسية، كل ذلك لمحاولة استرداد بيت المقدس، وصَلَت الحملتان الإنكليزية والفرنسية بحرًا سنة 586 إلى عكا، وساهمت في الحصار البحري، وكان فيهم ريتشارد المعروف بقلب الأسد، أما الحملة الألمانية فكان مَلِكُهم فريدريك الأول بربروسا، أوَّل من تحرك من ملوك أوربا لنصرة بيت المقدس وجمع عساكِرَه وسار للجهاد بزعمه. تحركت القوات الألمانية قبل غيرِها وهم من أكثر الحَمَلات عددًا، وأشدِّهم بأسًا، فكان طريقُهم على القسطنطينية، فأرسل ملكُ الروم بها إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه الخبر ويَعِدُ أنَّه لا يمَكِّنُه من العبور في بلاده، فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجَزَ مَلِكُها عن منعه من العبورِ لكثرة جموعه، لكنَّه منع عنهم الميرة، ولم يمكِّنْ أحدًا من رعيَّتِه من حمل ما يريدونَه إليهم، فضاقت بهم الأزوادُ والأقوات، وساروا حتى عَبَروا خليجَ القسطنطينية، وصاروا على أرضِ بلاد الإسلام، وهي مملكةُ الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمانُ الأوج، فما زالوا يسايرونَهم ويَقتُلونَ مَن انفرد ويَسرِقونَ ما قدروا عليه، وكان الزمانُ شتاء والبرد يكونُ في تلك البلاد شديدًا، والثلجُ متراكمًا، فأهلكهم البردُ والجوع والتُّركمانُ، فقَلَّ عَدَدُهم، فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم المَلِك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنَعَهم، فلم يكُن له بهم قوَّة، فعاد إلى قونية، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثَرِه، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هديةً وقالوا له: ما قصَدْنا بلادَك ولا أردناها، وإنما قصَدْنا بيت المقدس، وطلبوا منه أن يأذن لرعيَّتِه في إخراجِ ما يحتاجون إليه مِن قُوتٍ وغيره، فأذِنَ في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشَبِعوا، وتزوَّدوا، وساروا، وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحِبُها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمَدَّهم بالأقوات والعلوفات، وحَكَّمَهم في بلاده، وأظهر الطاعةَ لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقِهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل مَلِكُهم إليه ليغتسل، فغَرِقَ في مكانٍ منه لا يبلغ الماءُ وسَطَ الرجُل، وكفى اللهُ شَرَّه، وكان معه ولدٌ له، فصار ملكًا بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابُه عليه، فأحب بعضُهم العود إلى بلاده، فتخَلَّفَ عنه، وبعضُهم مال إلى تمليكِ أخٍ له، فعاد أيضًا، وسار فيمن صَحَّت نيتُه له، فعَرَّضَهم، وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا، ووقَعَ فيهم الوباءُ والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نُبِشوا من القبورِ، فتبَرَّمَ بهم صاحبُها، وحَسَّنَ لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكَّا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمونَ، وخرج أهلُ حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، ومات أكثَرُ مَن أُخِذَ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أيامًا، فكَثُرَ فيهم الموت، فلم يبقَ منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنجِ الذين على عكا، ولَمَّا وصولوا رأوا ما نالهم في طريقِهم وما هم فيه من الاختلافِ عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكِبُ ولم ينجُ منهم أحدٌ.
ظهر التترُ إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنُهم جبالُ طمغاج من نحو الصين، وكان السبب في ظهورِهم أنَّ مَلِكَهم- ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين- كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسيَّرَ جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيءٌ كثير من النقرة- قطع مذابةُ من الذَّهب أَو الفِضَّة- وغيرِها، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى؛ ليشتروا له ثيابًا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخرُ ولاية خوارزم شاه محمد، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفةُ مِن التَّتَر أرسل إلى خوارزم شاه يُعلِمُه بوصولهم ويذكُرُ له ما معهم من الأموالِ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمُرُه بقتلِهم وأخْذِ ما معهم من الأموالِ وإنفاذِه إليهم، فقتلهم، وسيَّرَ ما معهم، وكان شيئًا كثيرًا، فلمَّا وصل إلى خوارزم شاه فرَّقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمَنَه منهم، وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سدَّ الطرقَ عن بلاد تركستان وما بعدها من البلادِ، وإنَّ طائفةً من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلادُ للخطا، فلمَّا ملك خوارزم شاه البلادَ بما وراء النهر من الخطا، قتَلَهم. استولى التتَرُ على تركستان: كاشغر، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربونَ عساكِرَ خوارزم شاه، فلذلك منعَ الميرة عنهم من الكسوات وغيرها، فلما قتَلَ نائبُ خوارزم شاه أصحابَ جنكيزخان أرسل جواسيس إلى جنكيزخان لينظُرَ ما هو، وكم مقدارُ ما معه من الترك، وما يريدُ أن يعمل، فمضى الجواسيسُ، وسلكوا المفازةَ والجبال التي على طريقِهم، حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدَّةٍ طويلة وأخبَروه بكثرةِ عَدَدِهم، وأنَّهم يخرجون عن الإحصاء، وأنَّهم من أصبر خلقِ الله على القتال لا يعرفونَ هزيمةً، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاحِ بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قَتلِ أصحابهم وأخْذِ أموالهم، وكان جنكيزخان قد سار إلى تركستان، فملكها، وأزال عنها التترَ الأولى، فلم يظهر لهم خبَرٌ، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وتجهز خوارزم شاه، وسار مبادرًا ليسبِقَ خبره ويكبِسَهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم يرَ فيها إلا النِّساءَ والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية، وكان سببُ غيبة الكفار عن بيوتهم أنَّهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغَنِموا أمواله وعادوا، فلَقِيَهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخَلَّفيهم، فجدُّوا السير، فأدركوه قبل أن يخرجَ عن بيوتهم، وتصافُّوا للحرب، واقتتلوا قتالًا لم يُسمَعْ بمثله، فبَقُوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقُتِلَ من الطائفتين ما لا يُعَدُّ، ولم ينهزم أحد منهم، أما المسلمون فإنهم صبروا حميَّةً للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبقَ للمسلمين باقية، وأنهم يؤخَذون لبُعدِهم عن بلادهم، وأما الكفَّار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتدَّ بهم الأمر، حتى إنَّ أحدهم كان ينزل عن فرسِه ويقاتل قرنَه رَجِلًا، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدمُ على الأرض، حتى صارت الخيلُ تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وُسعَهم في الصبر والقتال، هذا القتالُ جميعه مع ابن جنكيزخان ولم يحضُر أبوه الوقعة، ولم يشعرْ بها، فأحصِيَ من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا، وأما من الكفَّار فلا يحصى من قُتِل منهم، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضُهم مقابل بعض، فلما أظلم الليلُ أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضًا، كل منهم سَئِمَ القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى مَلِكهم جنكيزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعدَّ صاحبها للحصار لعلمه بعجزه؛ لأنَّ طائفة عسكره لم يقدر على أن يظفَرَ بالتتر، فكيف إذا جاؤوا جميعُهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمعَ الذخائرَ للامتناع، وجعلَ في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونَها، وفي سمرقند خمسين ألفًا، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
في سادس ربيع الآخر مات الأمير بدر الدين بيليك النائب، واتهم أن المَلِكَ السعيد سَمَّه؛ وذلك أنه اختصَّ بجماعة من المماليك الأحداث، ومن بعده اضطربت أمورُ الملك السعيد، وأقام الملك السعيد بعده في نيابةِ السلطنة الأمير شمس الدين آقنسنقر الفارقاني، وكان حازمًا، فضم إليه جماعة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومي، وسيف الدين قلج البغدادي، وسيف الدين بيجو البغدادي، وعز الدين ميغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار, فثقَّل الأمير آقسنقر على خاصكية السلطان، فحدثوا السلطانَ في أمره، واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقي، وكان الملك السعيد قد قَدَّمَه وعظَّمَه لأنه ربِّيَ معه في المكتب، فقبض على آقسنقر الفارقاني وهو جالسٌ في باب القلة، وسُجِنَ وأهين ونُتِفَت لحيته وضُرِب، ثم أُخرج بعد أيام يسيرة ميتًا، فاستقر بعده في النيابة الأمير شمس الدين سنقر الألفي المظفري، فكرهه الخاصكية وقالوا، هذا ما هو من الظاهريَّة وخيلوا الملك السعيد منه أنه يريد أن يثور بخشداشيته- زملاء مهنته- مماليك الملك المظفر قطز، فعزله سريعًا، وولى الأمير سيف الدين كوندك الساقي نيابة السلطة وهو شابٌّ، فعضده الأمير سيف الدين قلاوون الألفي ومال إليه، وكان من جملة المماليك السلطانية الخاصكية شخصٌ يعرف بلاجين الزيني، وقد غلب على الملك السعيد في سائر أحوالِه، وضم إليه عدة من الخاصكية، وأخذ لاجين لهم الإقطاعات والأموال الجزيلة، وتنافر كوندك النائب ولاجين، فتوغرت بينهما الصدور، وأعمل كل منهما مكرهَ في أذية الآخر، وضم النائبُ إليه جماعة من الأمراء الكبار، وصار العسكرُ حزبين، فآل الأمرُ إلى ما آل إليه من الفساد، وتغير السلطانُ على الأمراء، وقبض في السابع عشر على الأمير جودي القيمري الكردي فنفرت منه قلوبُ الأمراء لا سيما الصالحيَّة: مثل الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بدر الدين، بيسري، وأقرانهم فإنهم كانوا يأنفون من تمَلُّك الملك الظاهر عليهم، ويرون أنهم أحقُّ منه بالملك، فصار ابنه الملك السعيد يضَعُ من أقدارهم، ويقَدِّمُ عليهم مماليك أصاغر، ويخلو بهم وكانوا صِباحَ الوجوه، ويعطهيم مع ذلك الأموال الكثيرة، ويسمَعُ من رأيهم ويُبعِدُ الأمراءَ الكبار، واستمر الحالُ على هذا إلى أن كان يوم الجمعة الخامس عشر، فقبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسري، وسجنهما بالقلعة ثلاثة وعشرين يومًا، فزادت الوحشة بينه وبين الأمراء، ودخل خالُه الأمير بدر الدين محمد بركة خان إلى أختِه أم السلطان، وقال لها: قد أساء ابنك التدبير بقبضه على مثل هؤلاء الأمراء الأكابر، والمصلحةُ أن تردِّيه إلى الصواب، لئلا يَفسُد نظامُه وتَقصُر أيامه، فلما بلغ الملك السعيد ذلك قبض عليه واعتقله، فلم تزل به أمه تعنِّفُه وتتلطف به، حتى أطلقهم وخلع عليهم وأعادَهم إلى ما كانوا عليه، وقد تمسَّكَت عداوته من قلوبهم، وتوهَّم منه بقية الأمراء، وخَشُوا أن يعامِلَهم كما عامل الأميرَ بيليك الخازندار- ممسك خزنة المال- مع حفظه له المُلك وتسليم الخزائن والعساكر إليه، فلم يكافئْه إلا بأن قتله بالسمِّ، فاجتمع الأمراء وهموا أن يَخرُجوا عنه إلى بلاد الشام، ثم اتفقوا وصعدوا إلى قلعة الجبل، ومعهم مماليكُهم وألزامهم وأجنادُهم وأتباعهم، ومن انضَمَّ إليهم من العساكر، فامتلأ منهم الإيوانُ ورحبة القصر، وبعثوا إلى الملك السعيد: بأنَّك قد أفسدت الخواطِرَ، وتعرضتَ إلى أكابر الأمراء، فإما أن ترجِعَ عما أنت عليه، وإلا كان لنا ولك شأن، فلاطفهم في الجوابِ وتنَصَّلَ مما كان منه، وبعث إليهم التشاريفَ فلم يلبسوها، وترددت الأجوبةُ بينهم وبينه إلى أن تقرَّر الصلحُ، وحلف لهم إنَّه لا يريد بهم سوءًا، وتولى تحليفَه الأمير بدر الدين الأيدمري فَرَضُوا وانصَرَفوا.
لما سار الجيش الذي قَدِمَ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقَدِموا دمشق تلقَّاهم الأمير تنكز، ولم يعبأْ تنكز بالأمير أرقطاي مُقَدَّم العسكر لِما في نفسه منه، ومَضَوا إلى حلب، فقدموها في رابع عشر رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكرِ الشام، وقد وصل إلى جعبر ثمَّ ساروا جميعًا يومَ عيد الفطر، ومعهم الأميرُ علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مُقَدَّم على العسكر جميعًا، حتى نزلوا على الإسكندرونة أوَّلَ بلاد سيس، وقد تقَدَّمَهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرينِ حتى جهَّزَ المجانيق والزحَّافات والجسور الحديد والمراكِبَ وغير ذلك لعبور نهر جهان، فقَدِمَ عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعَدَ بتسليم القلاع للسلطان، فلْتُرَدَّ المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس، ولْيَقُمِ العسكر على مدينة إياس حتى يَرِدَ مرسوم السلطان بما يُعتَمَدُ في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكَرُ ابن فرمان فتركوها أوحشَ مِن بطن حمار، فبعث تكفور رسُلَه في البحر إلى دمياط، فلم يأذَن السلطان لهم في القدومِ عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائِبَ الشام بحضورِهم، فعادوا إلى تكفور، فبعث تكفور بهديَّة إلى تنكز نائب الشام، وسأله مَنْعَ العسكر من بلاده، وأنه يسَلِّمُ القلاع التي من وراء نهر جهان جميعًا للسلطان، فكاتب تنكز السلطانَ بذلك، وبعث أوحَدَ المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائِبِ حلب وهو المقَدَّم على العسكر جميعًا بمَنعِ الغارة ورَدِّ الآلات إلى بغراس، فردَّها ألطبغا وركب بالعسكَرِ إلى إياس، فقَدِمَها يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وكانت إياس قد تحصَّنت، فبادر العسكَرُ وزحف عليها بغير أمرِه، فكان يومًا مهولًا، جُرح فيه جماعة كثيرة، واستمَرَّ الحِصارُ إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسين نجارًا وعَمِلَ زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوبِ للزحف، فاشتد القتالُ حتى وصلت الزحَّافات والرجال إلى قريب السورِ، بعدما استُشهِدَ جماعة كثيرة، فترجَّلَ الأمراء عن الخيول لأخذِ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافَوا برسالة نائِبِ الشام، فعادُوا إلى مخَيَّمِهم فبلَّغَهم أوحَدُ المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحالُ على أن يسلموا البلادَ والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسَلَّموا منهم ذلك، وهو مُلكٌ كبير، وبلادٌ كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وإياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر، وغير ذلك. وعلى أن تُسَلَّم إياس بعد ثمانية أيام، فلما كان اليومُ الثامن أرسل تكفور مفاتيحَ القلاع، على أن يُرَدَّ ما سُبِيَ ونُهِبَ من بلاده، فنُودِيَ بِرَدِّ السَّبيِ، فأُحضِرَ كثير منه، وأخرب الجسر الذي نُصِبَ على نهر جهان، وتوجَّه الأمير مغلطاي الغزي فتسَلَّمَ قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سورٌ مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعًا بالعَمَل، وأنفق تكفور على عمارته أربعَمائة ألف وستين ألف دينار، وتسَلَّم العسكر إياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عَمِلَ فيه أربعون حَجَّارًا يومين وليلتين حتى خرج منه حجَرٌ واحد، ثمَّ نُقِبَ البرج وعُلِّقَ على الأخشاب، وأُضرِمَت فيه النار، فسَقَط جميعه، وكان برجًا عظيمًا، بلغ ضمانُه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابًا عن كلِّ يومٍ ألف دينار سوى خَراجِ الأراضي، وكان ببلدة إياس أربعمائة خمَّارة وستمائة بَغِيٍّ، وكان بها في ظاهرها ملَّاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانًا تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان، ثم رحل العسكَرُ عن إياس بعدما قاموا عليها اثنين وسبعين يومًا، فمر نائِبُ حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبَرَ بالعسكر إلى حلب في الرابع عشر من ذي الحجة.
في عاشر جمادى الآخرة خرجت التجريدة- جيش بدون رجالة- من مصرَ إلى قتال العشير والعُربان، وسببه كثرةُ فسادهم ببلاد القُدس ونابلس، وكان قد قُبِضَ على أدى بن فضل أمير جرم، وسُجِن بقلعة الجبل، ثم أُفرِجَ عنه بعناية الوزير منجك، فجمع أدى وقاتل سنجر بن علي أمير ثعلبة، فمالت حارثة مع أدى، ومالت بنو كنانة مع سنجر، وجرت بينهم حروبٌ كثيرة، قُتِلَ فيها خلائق، وفسدت الطرقاتُ على المسافرين، فخرجت إليهم عساكِرُ دمشق، فلم يَعبؤوا بهم، فلمَّا وَلِيَ الأمير يلجك غزة استمال أدى بعد أيام، وعَضَّده على ثعلبة، واشتدت الحروب بينهم، وفسدت أحوالُ الناس، فركب يلجك بعسكر غزة ليلًا، وطرَقَ ثعلبة، فقاتلوه وكَسَروه كسرةً قبيحة، وألقَوه عن فرسه إلى الأرض، وسَحَبوه إلى بيوتهم فقام سنجر بن علي أمير ثعلبة عليهم حتى تركوا قَتْلَ يلجك، بعد أن سَلَبوا ما عليه، وبالَغوا في إهانته، ثم أفرجوا عنه بعد يومينِ، فعاد يلجك إلى غزة، وقد اتَّضَع قَدرُه وتَقَوَّى العشير بما أخذوه من عسكره، وعَزَّ جانبهم، فقصدوا الغور، وكبسوا القصيرَ المعيني، وقتلوا به جماعةً كثيرة من الجبلية وعمال المعاصر، ونهَبوا جميعَ ما فيه من النقود والأعمال والعسكر وغيره، وذبحوا الأطفالَ على صدر الأمهات، وقطعوا الطُّرُقات، فلم يَدَعوا أحدًا يمر من الشام إلى مصر حتى أخَذوه، وقصدوا القدس، فخلى الناسُ منه ثم قصدوا الرملةَ ولِدَّ فانتهبوها، وزادوا في التعدي، وخرجوا عن الحد، فوقع الاتفاقُ على ولاية الأمير سيف الدين دلنجي نيابة غزة، وأبقى على إقطاعه بمصر، وخلع عليه وأخرج إليها وكَتَب بخروج ابن صبح من دمشق على ألفي فارس، وتجهَّز الوزير منجك ومعه ثلاثةُ أمراء من المقَدَّمين في يوم السبت الرابع عشر، وبينما الوزير ومن معه في أُهبة السفر إذ قدم الخبر أن الأمير قطيلجا توجَّه من حماة إلى نيابة حلب، عوضًا عن الأمير أرقطاي, وقد قَدَّم الوزير النجابةَ لكشف أخبار العشيرة، فلما رحل عن بلبيس عادت نجابتُه بأن ثعلبة ركبت بأجمعها، ودخلت بريَّة الحجاز، لَمَّا بلَغَهم مسير العسكر إليهم، فنهب أدى بن فضل كثيرًا منهم، وانفرد في البلاد بعشيرة، فعاد الوزيرُ بمن معه، وعبَرَ القاهرة في الثاني عشر بعد أربعة أيام، ثم في مستهَلِّ رجب قَدِمَ الخبر بأن الأمير دلنجي نائب غزة بلغه كثرةُ جميع العشيرة، وقَصْدهم نهب لد والرملة، فركب إليهم ولقيهم قريبًا من لد، منزل تجاههم، وما زال يراسِلُهم ويخدعهم حتى قدم إليه نحو المائتين من أكابِرِهم، فقبضهم وعاد إلى غزة، وقد تفَرَّق جمعهم، فقدم الأمير قبلاي غزة، واحتال على أدى حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم ردَّه بزوادة إلى أهلِه فاطمأنت العشرات والعُربان لذلك، وبقُوا على ذلك إلى أن أهلَّ رمضان، ثم حضر أدى في بنى عَمِّه لتهنئة قبلاي بشهر الصومِ، فساعة وصوله إليه قُبِضَ عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقَيَّدَهم وسَجَنَهم، وكتب إلى سنجر بن علي: "بأني قد قبضت على عدوِّك ليكونَ لي عندك يدٌ بيضاء، فسُرَّ سنجر بذلك، وركب إلى قبلاي، فتلقَّاه وأكرمه، فضَمِنَ له سنجر درك البلاد، ورحل قبلاي من غده ومعه أدى وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الاثنين حادي عشر، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضَربًا مبرحًا وألزم أدى بألفِ رجل ومائتي ألف درهم، فبَعَث إلى قومه بإحضارها، فلما أُخِذَت سُمِّرَ هو وبنو عمه في يوم الاثنين خامس عشر وقت العصر، وسُيِّروا إلى غزة صحبة جماعةٍ من أجناد الحلقة، فوُسِّطوا- قُتلوا- بها، فثار أخو أدى، وقَصَد كبس غزة، فخرج إليه الأميرُ دلنجي ولَقِيَه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتَلَه في اليوم الرابع بسَهمٍ أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى القاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته.
في يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا في أمرِه إلى الغاية، فبينما هو جالسٌ بقاعة قلعة الدهيشة، وكانت الخدمةُ بطالةً في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلِّيَ السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطانُ يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات-جمع قرقل وهو ثوب بغير كمين- التي وعدهم السلطان بها من الزردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أول الشهر، فتركوه ومضَوا، فلقوا الشيخ عليًّا الخراساني الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان، فاستقبلوه بالضرب المبَرِّح المتلِف، وأخذوا عمامتَه من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطاني حتى نجا، ثم إنَّ الصياح قوي ثانيًا فعُلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأميرُ يونس الدوادار، فسألهم يونس عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا- المخصصات- كل واحد سبعة أشرفية ذهبًا في كل شهر، وكانت جامكية الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبًا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيَّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا: ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أي على ثلاث نفقات كما كانت قديمًا، ونريد أيضًا أن يكون عليقنا السلطاني الذي نأخذه من الشونة مُغَرْبلًا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينًا, فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوَّه به إلى السلطان، وتربص عن ردِّ الجواب على السلطان حتى يفرغَ السلطان من أكل السماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانًا مقدَّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضًا ولم يخبِر السلطان بشيء حتى فرغ من أكل السماطِ، فعند ذلك عرفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانًا المقدَّم يعرفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيًا إلى السلطان بالكلام الأول، وصار يتردُّد مرجان بين السلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصمِّمون على مقالتهم، والسلطان ممتنع من ذلك، وامتنع الناس من الدخول والخروج إلى السلطان خوفًا من المماليك؛ لما فعلوه مع العجمي المحتسِب، فلما طال الأمر على السلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعةٌ من الأمراء والمباشرين، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم، فلما رأى شدةَ الرجم، قصد العودَ إلى الدهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلَّا أن يوصلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقي السلطان في خواصِّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابي أحمد، فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرجمُ المفرط من كل جهة، فأسرع في مشيته والرجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكي الذي كان حامِلَ ترس السلطان من الرجم، فأخذ الترسَ خاصكيٌّ آخر فضُرِبَ الآخر فوقع وقام، وشج دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردةُ نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنَّه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلًا، فقصدوه أيضًا بالرجم، فقام ودخل من باب الحريم وتوجه إلى الدهيشة، واستمر وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركةٍ في يوم الجمعة مراعاةً لصلاة الجمعة، وأصبح السلطان وصلَّى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان في أمرهم بما معناه أنه لا بد لهم من شيء يطيب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأخذونها في السنة مرة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف درهم، وزادوهم أيضًا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسًا واحدًا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رُسِمَ لهم أن تكون تفرقة الجامكية على ثلاث نفقات في ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرَضُوا بذلك وخَمَدت الفتنة.
عَمِلَ السلطانُ عبد الحميد على كَسبِ الشعوب الإسلامية عن طريقِ الاهتمامِ بكلِّ مؤسَّساتها الشرعيَّة والعِلميَّة، والتبَرُّع لها بالأموالِ والمِنَح، ورَصد المبالغ الطائلة لإصلاحِ الحَرَمين، وترميمِ المساجِدِ وزَخرفتها، وأخذ السلطانُ يستميل إليه مسلمي العربِ بكلِّ الوسائِلِ، فكوَّن له من العَرَبِ حرسًا خاصًّا، وعيَّنَ بعضَ الموالين له منهم في وظائِفَ كبرى، وأبدى السلطان عبد الحميد اهتمامًا بالغًا بإنشاءِ الخطوطِ الحديديةِ في مختَلِفِ أنحاءِ الدولة العثمانية، مُستهدفًا من ورائها تحقيقَ ثلاثةِ أغراضٍ:
1- ربطُ أجزاءِ الدولة المتباعدةِ مع بعضٍ؛ ممَّا يساعِدُ على نجاح فكرةِ الوَحدةِ العُثمانية، والجامعة الإسلامية، والسيطرة الكاملة على الولاياتِ التي تتطلَّبُ تقويةَ قَبضةِ الدولة عليها.
2- إجبارُ تلك الولاياتِ على الاندماجِ في الدولةِ والخضوعِ للقوانينِ العَسكرية التي تنُصُّ على وجوبِ الاشتراكِ في الدفاعِ عن الخلافةِ بتقديمِ المالِ والرِّجال.
3- تسهيلُ مُهمَّةِ الدفاع عن الدولة في أيَّةِ جبهةٍ من الجبهاتِ التي تتعرَّضُ للعدوانِ؛ لأنَّ مَدَّ الخطوطِ الحديديَّةِ سيُساعِدُ على سرعةِ توزيع القواتِ العثمانية وإيصالِها إلى الجبهاتِ.
وكانت سكةُ حديد الحجاز من أهمِّ الخطوط الحديدية التي أُنشِئت في عهدِ السلطان عبد الحميد؛ ففي سنة 1900م بدأ بتشييدِ خطٍّ حديدي من دمشق إلى المدينة؛ للاستعاضة به عن طريق القوافِلِ الذي كان يستغرِقُ من المسافرين حوالي أربعين يومًا، وطريقِ البحرِ الذي يستغرقُ حوالي اثنى عشر يومًا من ساحلِ الشامِ إلى الحجاز، وكان يستغرِقُ من المسافرين أربعة أو خمسة أيام على الأكثَرِ، ولم يكن الغَرَضُ من إنشاء هذا الخطِّ مجرَّدَ خدمة حجَّاج بيت الله الحرام وتسهيل وصولهم إلى مكَّة والمدينة، وإنما كان السلطان عبد الحميد يرمي من ورائِه أيضًا إلى أهدافٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ؛ فمن الناحية السياسية خَلَق المشروعُ في أنحاء العالم الإسلامي حماسةً دينيةً كبيرةً؛ إذ نشر السلطانُ على المسلمين في كافة أنحاء الأرضِ بيانًا يناشِدُهم فيه المساهمةَ بالتبَرُّع لإنشاء هذا الخط، وقد افتتح السلطانُ عبد الحميد قائمةَ التبرعات بمبلغ (خمسين ألفًا ذهبًا عثمانيًّا من جيبه الخاصِّ) وتقَرَّر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع، وأُسِّست الجمعيَّاتُ الخيرية، وتسابق المسلمون من كلِّ جهةٍ للإعانة على إنشائِها بالأنفُسِ والأموالِ، ورغم احتياجِ المشروع لبعض الفنِّيين الأجانب في إقامة الجسور والأنفاق، فإنَّهم لم يُستخدَموا إلا إذا اشتَدَّت الحاجة إليهم، مع العلمِ بأنَّ الأجانب لم يشتركوا إطلاقًا في المشروع، ابتداءً من محطةِ الأخضر -على بعد 760 كليو مترًا جنوب دمشق- وحتى نهايةِ المشروع؛ ذلك لأنَّ لجنة المشروع استغنت عنهم واستبدلت بهم فنيين مصريين. وبلغ عدد العمال غير المَهَرة عام 1907م (7500) عاملًا. وبلغ إجمالي تكاليف المشروع (4.283.000) ليرة عثمانية. وتم إنشاءُ المشروع في زمنٍ وتكاليف أقلَّ مما لو تعمله الشركات الأجنبية في أراضي الدولةِ العثمانية، وفي أغسطس سنة 1908م وصل الخطُّ الحديدي إلى المدينة المنورة، وكان مفروضًا أن يتِمَّ مَدُّه بعد ذلك إلى مكةَ، لكنْ حدث أن توقَّف العملُ فيه؛ لأنَّ شريف مكة -وهو الحسين بن علي- خشِيَ على سُلطاته في الحجاز من بطشِ الدولة العثمانية، فنهض لعرقلةِ مَدِّ المشروع إلى مكَّةَ، وكانت مقَرَّ إمارتِه وقوَّته. فبقيت نهايةُ الخط عند المدينة المنورة، حتى إذا قامت الحرب العالمية الأولى عَمِلَ الإنجليزُ بالتحالف مع القوات العربية التي انضَمَّت إليهم بقيادة فيصل ابن الشريف حسين بن علي على تخريبِ سكةِ حديد الحجاز، وكان أوَّلُ قطار قد وصل إلى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم 22 (أغسطس) 1908م، وكان بمثابة تحقيقِ حُلمٍ مِن الأحلام بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم كافة؛ فقد اختصر القِطارُ في رحلته التي استغرَقَت ثلاثة أيام، وقطع فيها 814 ميلًا مشقَّاتِ رحلةٍ كانت تستغرق في السابق أكثَرَ من خمسة أسابيعَ، ويسَّرت على المسلمين القيامِ بأداء فريضة الحَجِّ.