هو الأميرُ محمدُ بنُ عبد الله بن علي بن رشيد، من شمر، أكبَرُ أمراءِ آل رشيد أيامَ حُكمِهم في حائل وما حولها. كان أبوه عبدُ الله قد لجأ إلى آل سعودٍ وأقامه الأميرُ فيصل بن تركي بن عبد الله أميرًا على حائل، وتوفِّيَ بها سنة 1263هـ، وخلفه ابنُه طلال فتوفي سنة 1283 وخَلَفه أخوه متعب فقتله ولَدَا أخيه بندر وبدر ابنا طلال سنة 1285، وقام محمد سنة 1288 فقتل خمسةً من أبناء أخيه طلال بينهم بندر وبدر، وترك سادسًا لهم اسمه نايف لصغر سنه، وتوطَّدَت له الإمارة. وامتَدَّ حُكمُه إلى أطراف العراق ومشارف الشام، ونواحي المدينة واليمامة وما يلي اليمن. وغلب على نجدٍ، وانتهز فرصةَ الخلاف بين أمراء آلِ سعود، فأدخل نجدًا في طاعتِه بعد أن قضى على دولتِهم في مرحلتها الثانية سنة 1309ه. وأَمِنَت المسالك في أيامِه، وفكَّرَ في إنشاءِ ميناء بحريٍّ لنجد، فحالت منيَّتُه دون ذلك. توفِّيَ بحائلٍ ولم يُعقِب ولدًا، فلمَّا مات خلفه ابنُ أخيه عبد العزيز بن متعب الذي قُتِلَ في المواجهة مع الملك عبد العزيز في معركة روضة مهنا بالقصيم سنة 1324.
هو الشيخُ خليفةُ بنُ حمد بن عبد الله بن قاسم بن محمد آل ثاني سادسُ أُمراءِ قطَرَ. وُلِدَ في 17 سبتمبر سنةَ 1932م، وكان قد تولَّى حُكمَ قطرَ بعدَ قِيامِه بانقلابٍ أبيضَ في عامِ 1971م استطاَع فيه أنْ يخلَعَ ابنَ عَمِّه أحمدَ بنَ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قاسمٍ، ويستوليَ على السُّلْطةِ، وتولَّى مقاليدَ الحكمِ. وفي بدايةِ عَهدِه أُقيمَت عَلاقات دُبلوماسية مع عددٍ من الدولِ على مُستوى السفراءِ لأولِ مرَّةٍ، وشارك الجيشُ القطريُّ في حربِ تحريرِ الكويتِ بقُوَّاتٍ بريَّةٍ وبَحريَّةٍ. وفي عامِ 1995 انقلَبَ عليه ابنُه وليُّ العهدِ الشيخُ حَمَدٌ وتولَّى مقاليدَ الحُكمِ. وعاشَ الشيخُ خليفةُ بعدها فترةً خارجَ قطرَ بينَ المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ ودولةِ الإماراتِ العربيةِ المتحدةِ وعِدَّةِ عواصمَ أوروبيةٍ في منفًى اختياريٍّ لمدةِ 9 سنَواتٍ. إلى أنْ عادَ لقطرَ سنةَ 2004 ليشارِكَ في تشييعِ جَنازةِ إحدى زوجاتِه التي كانَت تَعيشُ معه خارجَ قطَرَ، واستقبَلَه ابنُه حمَدٌ أميرُ قَطَرَ، وبقيَ الشيخُ خليفةُ في قطَرَ بعدَ تشييعِه لزَوجتِه، ولم تظهَرْ له أيُّ مُشاركةٍ سِياسيةٍ، وتُوفِّي -رحِمَه اللهُ- عن عمرٍ يُناهِزُ 84 عامًا.
لمَّا أُهِينَ كُسيلَةُ البَرْبَريُّ مِن قِبَلِ أبي المُهاجِر قائدِ عُقبةَ بن نافعٍ أَضْمَرَ كُسيلَةُ الغَدْرَ، فلمَّا رأى الرُّومُ قِلَّةَ مَن مع عُقبةَ أرسلوا إلى كُسيلةَ وأَعْلَموه حالَهُ، وكان في عَسكرِ عُقبةَ مُضمِرًا للغَدْرِ، وقد أَعلَم الرُّومَ ذلك وأَطْمَعَهُم، فلمَّا راسَلوهُ أَظهَر ما كان يُضْمِرُهُ وجمَع أهلَهُ وبَنِي عَمِّهِ وقصَد عُقبةَ وانْفَصل عنه ولَحِقَ بالرُّومِ وهاجَم عُقبةَ وجماعتَهُ عند تَهُوذَةَ قُربَ جِبالِ أوراس بالجَزائِر، فكَسَر عُقبةُ والمسلمون أَجفانَ سُيوفِهم وتَقدَّموا إلى البَرْبَر وقاتَلوهُم، فقُتِلَ المسلمون جَميعُهم لم يُفْلِتْ منهم أَحَدٌ، وأُسِرَ محمَّدُ بن أَوْسٍ الأنصاريُّ في نَفَرٍ يَسيرٍ، فخَلَّصَهُم صاحبُ قَفْصَةَ وبعَث بهم إلى القَيْروان. فعزَم زُهيرُ بن قيسٍ البَلَوِيُّ على القِتالِ، فخالَفَهُ حَنَشٌ الصَّنعانيُّ وعاد إلى مِصْرَ، فتَبِعَهُ أكثرُ النَّاسِ، فاضْطَرَّ زُهيرٌ إلى العَوْدِ معهم، فسار إلى بَرْقَة وأقام بها. وأمَّا كُسيلَةُ فاجْتَمع إليه جَميعُ أهلِ أفريقيا، وقصَد أفريقيا وبها أصحابُ الأنفالِ والذَّراريّ مِن المسلمين، فطَلَبوا الأمانَ مِن كُسيلَةَ، فآمَنَهُم ودخَل القَيْروان واسْتَولى على أفريقيا، وأقام بها إلى أن اسْتَعادها المسلمون في عَهْدِ عبدِ الملك بن مَرْوان عامَ 69 هـ.
لَمَّا ذهب أفتكين إلى ديارِ مِصرَ نهَضَ رجلٌ مِن أهل دمشق يقال له قسَّام الجُبَيلي التَّرَّاب وهو من بني الحارثِ بنِ كعبٍ مِن اليَمَن. كان ابتداءُ أمْرِه أنَّه انتمى إلى رجلٍ مِن أحداثِ أهلِ دِمشقَ يقال له أحمد بن المسطان، فكان مِن حِزبِه، وكان أفتكين يقَرِّبُه ويُدنيه، ويأمَنُه على أسراره، فاستحوذ على دمشقَ وطاوعَه أهلُها، وغلب على الوُلاةِ والأمراءِ، وقصَدَته عساكِرُ العزيز من مصرَ فحاصروه فلم يتمَكَّنوا منه، وجاء أبو تغلبَ بنُ ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدِرْ أن يدخُلَ دمشق، فانصرف عنه خائبًا إلى طبرية، فوقَعَ بينه وبين بني عقيلٍ وغَيرِهم من العرب حروبٌ طويلة، آل الحالُ إلى أن قُتِلَ أبو تغلِبَ، وغلب قسَّامٌ على الوُلاةِ والأمراء إلى أن قَدِمَ بلكتكين التركي من مِصرَ في يوم الخميسِ السابع عشر من المحرم سنة 376، فأخذها منه واختفى قسَّام التَّرَّاب مدة ثم ظهر، فأخذه أسيرًا وأرسله مقيَّدًا إلى الديار المصرية، فأُطلِقَ وأُحسِنَ إليه وأقام بها مكَرَّمًا، وأما قسَّامُ التراب هذا فإنه أقام بالشامِ فسَدَّ خلَلَها وقام بمصالِحِها مدة سنين عديدة، وكان مجلِسُه بالجامع يجتَمِعُ الناس إليه فيأمُرُهم وينهاهم فيمتَثِلونَ ما يأمرُ به.
لَمَّا شاع صنيعُ الحاكِمِ في الأمورِ التي خرَقَ العاداتِ فيها، ودُعِيَ عليه في أعقابِ الصَّلواتِ وظُوهِرَ بذلك، أشفَقَ وخاف، وأمَرَ بعمارةِ دارِ العِلمِ وفَرَشَها، ونقل إليها الكُتُبَ العظيمةَ، وأسكَنَها مِن شُيوخِ السُّنَّة شَيخينِ، يُعرَفُ أحدُهما بأبي بكرٍ الأنطاكيِّ، وخلَعَ عليهما وقَرَّبَهما ورَسَم لهما بحضورِ مَجلِسِه ومُلازمتِه، وجمع الفُقَهاءَ والمُحَدِّثينَ إليها، وأمَرَ أن يُقرأَ بها فضائلُ الصَّحابة، ورَفَع عنهم الاعتراضَ في ذلك، وأظهَرَ المَيلَ إلى مذهَبِ الإمامِ مالكٍ والقَولَ به، ولَبِسَ الصُّوفَ في هذه السَّنةِ يومَ الجُمُعةِ عاشِرَ شَهرِ رَمَضان، ورَكِبَ الحِمارَ، وأظهَرَ النُّسُك وملأ كَفَّه دفاتِرَ، وخطَبَ بالنَّاسِ يومَ الجُمُعةِ وصلى بهم، ومنَعَ مِن أن يُخاطَبَ يا مولانا، ومِن تقبيلِ الأرضِ بينَ يديه، وأقام الرَّواتِبَ لِمَن يأوي المساجدَ مِن الفُقراءِ والقُرَّاء والغُرَباء وأبناءِ السَّبيل، وأجرى لهم الأرزاقَ، وأقام على ذلك ثلاثَ سنينَ، ثم بدا له بعد ذلك، فقَتَل الفقيهَ أبا بكرٍ الأنطاكيَّ والشيخَ الآخَرَ، وخَلْقًا كثيرًا آخَرَ مِن أهلِ السُّنَّةِ، لا لأمرٍ يقتضي ذلك، وفعَلَ ذلك كُلَّه في يومٍ واحد. وأغلق دارَ العِلمِ، ومنَعَ مِن جميعِ ما كان فعَلَه، وعاد إلى ما كان عليه أوَّلًا من قَتلِ العُلَماءِ والفُقَهاء، وأزيدَ.
ظهر الأصفَرُ التغلبيُّ برأس عين -مدينة سورية تقع على الحدود التركية السورية-، وادَّعى أنَّه من المذكورينَ في الكتب، واستغوى قومًا بمَخاريقَ، وجمع جمعًا وغزا نواحيَ الروم، فظَفِرَ وغَنِمَ وعاد، وظهَرَ حَديثُه، وقوِيَ ناموسُه، وعاودوا الغزوَ في عدد أكثَرَ مِن العدد الأول، ودخل نواحيَ الروم وأوغل، وغَنِمَ أضعافَ ما غَنِمَه أولًا، وتسامع النَّاسُ به فقصدوه، وكثُرَ جَمعُه، واشتَدَّت شوكتُه، وثقُلَت على الروم وطأتُه، فأرسل ملك الروم إلى نصرِ الدَّولة بن مروان صاحِبِ ديارِ بكرٍ يقول له: إنَّك عالمٌ بما بيننا من المُوادَعة، وقد فعل هذا الرجلُ هذه الأفاعيل، فإن كنتَ قد رجعتَ عن المهادنةِ فعَرِّفْنا لنُدَبِّرَ أمْرَنا بحَسَبِه، واتَّفَق في ذلك الوقتِ أنْ وَصَل رسولٌ مِن الأصفَرِ إلى نصر الدَّولة أيضًا، يُنكِرُ عليه تركَ الغَزوِ والميلَ إلى الدعة، فساءه ذلك أيضًا، واستدعى قومًا مِن بني نمير وقال لهم: إنَّ هذا الرجلَ قد أثار الرومَ علينا، ولا قُدرةَ لنا عليهم، وبذَلَ لهم مالًا على الفتك به، فساروا إليه، فقَرَّبَهم، ولازَموه، فرَكِبَ يومًا غير متحَرِّز، فأبعد وهم معه، فعَطَفوا عليه وأخذوه وحَمَلوه إلى نصر الدَّولة بن مروان، فاعتقَلَه وسَدَّ عليه باب السِّجنِ، وتلافى أمرَ الرومِ.
سببُ ذلك أنَّ طغرلبك طلَبَ مِن إبراهيم ينال أن يُسَلِّمَ إليه مدينة همذان والقلاعَ التي بيده من بلدِ الجبل، فامتنَعَ مِن ذلك، واتَّهَم وزيرَه أبا عليٍّ بالسعيِ بينهما في الفَسادِ، فقَبَض عليه، وأمَرَ به فضُرِبَ بين يديه، وسَمَل إحدى عينيه، وقطَعَ شَفَتَيه، فسار إلى طغرلبك، وجمع جمعًا مِن عَسكَرِه، والتقيا، وكان بين العسكرين قتالٌ شديدٌ انهزم ينال وعاد مُنهَزِمًا، فسار طغرلبك في أثَرِه، فملك قلاعَه وبلادَه جَميعَها، وتحصَّنَ إبراهيمُ ينال بقلعة سرماج، وامتنع على أخيه، فحَصَره طغرلبك فيها، وكانت عساكِرُه قد بلغت مِئَة ألف من أنواع العَسكَر، وقاتَلَه، فملكها في أربعةِ أيام، وهي من أحصَنِ القلاع وأمنَعِها، واستنزل ينال منها مَقهورًا، وأرسل إلى نصر الدَّولة بن مروان يطلُبُ منه إقامةَ الخُطبة له في بلاده، فأطاعه وخطَبَ له في سائر ديار بكر، وراسل مَلِكُ الرومِ طغرلبك، وأرسل إليه هديَّةً عظيمةً، وطلب منه المُعاهَدة، فأجابه إلى ذلك، وعَمَروا مسجِدَ القُسْطنطينيَّة، وأقاموا فيه الصَّلاةَ والخطبة لطغرلبك، ودان حينئذٍ النَّاسُ كُلُّهم له، وعَظُمَ شأنُه وتمكَّن مُلكُه وثبت، ولَمَّا نزل ينال إلى طغرلبك أكرَمَه وأحسن إليه، وردَّ عليه كثيرًا ممَّا أخذ منه، وخيَّرَه بين أن يُقطِعَه بلادًا يسير إليها، وبين أن يقيمَ معه، فاختار المقامَ معه.
تفاقم أمرُ الباطنيين كثيرًا حتى أصبحت لهم يدٌ طولى في اغتيال الأمراء والسلاطين، كما ساعد على ذلك كثرةُ الحروب بين السلاطين أنفُسِهم، فأصبح كثيرٌ منهم لا يفارقه درعُه وسلاحُه، وقد قتل الباطنيون نظامَ الملك، وأرسلان أرغون بن ألب أرسلان، والأمير برسق، وقتلوا الأميرَ بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان، ضربه باطنيٌّ بسكين في خاصرته بأصبهان في دار السلطان محمد، وكان بلكابك كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لُبسُ الدرع ومن يمنع عنه، ففي ذلك اليوم الذي قُتِلَ فيه لم يلبس دِرعًا، ودخل دارَ السلطان في قِلَّةٍ، فقتله الباطنية، ومات من أولادِه في هذه الليلة جماعة، خرج من داره خمسُ جنائز في صبيحتها, وقتلوا غيرَهم من الأكابر في السلطنة، ثم كانوا سببًا لقتل مجد الملك البلاساني؛ فقد زعموا أنه هو الذي يحرِّضُهم على القتل، وقد ظهرت مقالةُ الباطنية بعد عودة السلطان بركيارق من حصاره لأخيه محمود، وأمه خاتون الجلالية، في أصبهان، وانتشرت قوتُهم بها، وكانوا متفرِّقين في المحالِّ مِن قَبلُ، فاجتمعوا وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونَهم، فعلوا هذا بخلق كثير، وزاد الأمر، حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقَّنوا قتْلَه، وقعدوا للعزاءِ به، فحَذِرَ الناسُ وصاروا لا ينفرِدُ أحد منهم.
سار الملك الكامل محمد بن الملك العادل، صاحب مصر, فوصل إلى بيت المقدس, ثم سار عنه، وتولى بمدينة نابلس، وشحن على تلك البلاد جميعها، وكانت من أعمال دمشق، فلما سمع صاحبها، وهو ابن الملك المعظم، خاف أن يقصده ويأخذ دمشق منه، فأرسل إلى عمه الملك الأشرف يطلبه ليحضر عنده بدمشق، فسار إليه جريدة، فدخل دمشق، فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم لعِلمِه أن البلد منيع، وقد صار به من يمنعه ويحميه، وأرسل إليه الملك الأشرف يستعطفه، ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له، وموافقة لأغراضه، والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد، فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، وحيث قد حضرتَ أنت فأنا أعود إلى مصر، واحفظ أنت البلاد، ولستُ بالذي يقال عني إني قاتلت أخي، وحصرته، حاشا لله تعالى، وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية، ونزل تل العجول، فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام، وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنجُ على بيت المقدس وغيره مما يجاوره، لا مانع دونه، فترددت الرسل وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه، فحضر عنده، وكان وصوله ليلة عيد الأضحى، ومنعه من العود إلى مصر، فأقام بمكانِه.
هو المَلِكُ الصالح علاءُ الدين ابن الملك المنصور قلاوون وَليُّ العهدِ توفِّيَ في يوم الأحد خامس عشر من رجب خرج السلطان مبرزًا بظاهر القاهرة يريد الشامَ، فركب معه ابنه الملك الصالح ثمَّ عاد الصالح إلى قلعة الجبل آخِرَ النهار، فتحَرَّك عليه فؤاده في الليلِ وكَثُرَ إسهاله الدموي وأفرط، فعاد السلطانُ لعيادته في يوم الأربعاء الثامن عشر ولم يُفِدْ فيه العلاج، فعاد السلطانُ إلى الدهليز من يومِه، فأتاه الخبر بشدة مرض الملك الصالح، فعاد إلى القلعة، وصَعِدَت الخزائن في يوم الثلاثاء أوَّلَ شعبان، وطلعت السناجق والطلب في يوم الأربعاء ثانيه، فمات الصالحُ بكرة يوم الجمعة رابعَه من دوسنطاريا كبديَّة، وتحدثت طائفةٌ بأن أخاه الملك الأشرف خليلًا سَمَّه، فحضر الناسُ للصلاة عليه، وصلى عليه بالقلعةِ قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز إمامًا، والسلطانُ خَلفَه في بقيَّة الأمراء والملك الأشرف خليل، ثم حُمِلَت جنازته، وصلى عليه ثانيًا قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي خارج القلعة، ودُفِنَ بتربة أمه قريبًا من المشهد النفيسي، وفي حادي عشر شعبان..
في يومِ عَرَفةَ بعَرَفةَ وقعت فتنةٌ بين العَرَبِ والحُجَّاج من قَبلِ الظُّهرِ إلى غروبِ الشَّمسِ، قُتِلَ فيها جماعةٌ، وسَبَبُها أنَّ الشَّريفَ رُميثة بن أبي نُمي أميرَ مكَّةَ شكا من بني حَسَن إلى أميرِ الحاجِّ، فركِبَ أميرُ الحاجِّ في يوم عرفة بعرفة لحَربِهم، وقاتَلَهم وقَتَلَ مِن التُّركِ سِتَّة عشر فارسًا، وقَتَل من جماعةِ بني حسن عِدَّة، وانهزم بقيَّتُهم، فنفر النَّاسُ مِن عَرَفةَ على تخوُّف، ولم يُنهَبْ لأحدٍ شَيءٌ، ولا تزال بنو حَسَن بمِنًى، ثمَّ رحل الحاجُّ بأجمَعِهم يومَ النَّفرِ الأوَّل، ونزلوا الزاهِرَ خارجَ مكة، وساروا منه ليلًا إلى بطنِ مرو، وقيل غير ذلك، فقيل إنه لما كان يومُ عرفة تنافر أشرافُ مكَّةَ مع الأجناد من مِصرَ، فركبوا لحَربِهم بُكرةَ النهار، ووقفوا للحَربِ صَفَّين، فمشى الشريفُ عجلان بينهم، فلم تُطِعْه الأشرافُ، وحملوا على الأجنادِ وقاتلوهم، فقُتِلَ منهم ومن العامَّة جماعة، وأبلى الشريفُ عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأميرُ أيدمر بلاءً عظيمًا، فعاتبه بعضُ مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسَهمٍ في صدره ألقاه عن فَرَسِه، وقُتِلَ معه أيضًا جماعة، وآلَ الأمرُ إلى نهبِ شيءٍ كثير، ثم تراجَعَ عنهم الأشرافُ.
وصل إلى ميناء يافا أربع قطع، فيها نحو سبعمائة من الفرنج، فأسَروا جماعة من المسلمين، وأخذوا مركبًا فيه خام للسلطان قَدِمَ من مصر، وقدم أيضًا إلى يافا مركب فيه فرنج، معهم أخشاب وعَجَل وصُنَّاع، برسم عمارة بيت لحم بالقدس؛ حيث مولِدُ عيسى عليه السلام، وبيدهم مرسوم السلطان بتمكينهم من العمل، فدعوا الناس للعمل بالأجرة، فأتاهم عدة من القلعة والصنَّاع، وشرعوا في إزاحة ما بطريقهم من الأوعار، وكان سبب هذا أن موسى -وهو صبي بطرك النصارى الملكانية- سأل السلطان لما قدم إلى القدس، بعد نوبة صرخد، في سنة 812 أن يمكن النصارى من إعادة عمارة مولد عيسى ببيت لحم على ما كان عليه، فكتب له بذلك مرسومًا، فطار به كلَّ مطار، وبعثه إلى بلاد الفرنج فاغتنموا الفرصة، وبعثوا هؤلاء، فبدؤوا بتوسعة الدرب الآخذ من ميناء روبيل إلى القدس، وقصدوا أن يصير سعته بحيث يمر فيه عشرة فرسان متواكبين، فإنه لم يكن يسع غير فارس واحد بمشقة، وأحضروا معهم دهنًا إذا وضعوه على تلك الصخرة سَهُل قطعها. فلما رجع الناصر إلى دمشق عرف نصحاؤه بسوء القالة في ذلك، فكتب إلى أرغون كاشف الرملة يمنعهم من ذلك والقبض عليهم وعلى من معهم من الصنَّاع وآلات السلاح والجِمال والدهن، فخُتِم على مخازنهم وحملهم وما معهم.
هو الشيخُ الإمام الثبت العلامة الفقيهُ المحدِّث الشيخ عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى الطحلاوي المالكي الأزهري، تفقه على الشيخ سالم النفراوي وحضر دروس الشيخ منصور المنوفي، والشهاب ابن الفقيه، والشيخ محمد الصغير الورزازي، وغيرهم، وسمع الحديثَ عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمد العماوي، وأبي الحسن علي بن أحمد الحريشي الفاسي، وتمهَّر في الفنون ودرَّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحُسيني، واشتهر أمرُه وطار صيته، وأشير إليه بالتقدُّمِ في العلوم، وتوجَّه إلى دار السلطنة في قضاء مهمة لأمراء مصر، فقوبل بالإجابة وألقى هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفيا، وتلقى عنه أكابرُ العلماء هناك في ذلك الوقت، وصُرف معزَّزًا مقضيًّا حوائجه، وذلك سنة 1147. ولما تمم عثمان كتخدا القزدغلي بناء مسجده بالأزبكية في تلك السنة عيَّن الطحلاوي للتدريس فيه، وذلك قبل سفره إلى الديار الرومية، وكان مشهورًا في حسن التقرير وعذوبة البيان وجودة الإلقاء، وقرأ الموطأ وغيرَه بالمشهد الحسيني، وأفاد وأجاز الأشياخ, وكان للناس فيه اعتقادٌ حسنٌ، وعليه هيبةٌ ووقار وسكونٌ، ولكلامه وقْعٌ في القلوب. توفي ليلة الخميس حادي عشر صفر من هذه السنة، وصُلي عليه في الأزهر في مشهد حافل.