أراد جماعةٌ مِن شيعة العُبَيديين ومحبِّيهم إقامةَ الدعوة، ورَدَّها إلى العاضد، فكان منهم عمارةُ بنُ أبي الحسن اليمني، وعبدُ الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، والقاضي هبة الله بن كامل، وداعي الدُّعاة ابن عبد القوي، وغيرُهم من جند المصريِّين ورجالتهم السُّودان، وحاشيةُ القصر، ووافَقَهم جماعةٌ من أمراءِ صلاح الدين، وعَيَّنوا الخليفةَ والوزير، وتقاسَموا الدُّورَ، واتَّفَق رأيُهم على استدعاء الفرنجِ مِن صقليَّةَ، ومِن ساحِلِ الشامِ إلى ديارِ مِصرَ على شيءٍ بذلوه لهم من المالِ والبلاد، فإذا قصدوا البلادَ، فإن خرج صلاحُ الدين إليهم بنَفسِه ثاروا هم بالقاهرةِ ومِصرَ وأعادوا الدولةَ الفاطميَّةَ، وعاد مَن معه من العسكر الذين وافَقوهم عنه، فلا يبقى له مقامٌ مقابِلَ الفرنج، وإن كان صلاحُ الدين يقيمُ ويُرسِلُ العساكِرَ إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليَدِ؛ لعدم وجود الناصرِ له والمُساعد، وأرسلوا إلى الفرنجِ بصقليَّةَ والساحِلِ في ذلك، وتقرَّرَت القاعدة بينهم، ولم يبقَ إلَّا رحيلُ الفرنج، وكان مِن لُطفِ الله بالمُسلِمينَ أنَّ الجماعةَ المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمرِ الأميرَ زينَ الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجيَّة، ورتبوا الخليفةَ والوزيرَ والحاجِبَ والداعيَ والقاضيَ، إلَّا أن بني رزيك قالوا: "يكونُ الوزيرُ منا؛ وبني شاور قالوا: يكون الوزيرُ منا؛ فلمَّا علم ابن نجا الحالَ حضر عند صلاح الدين، وأعلَمَه حقيقةَ الأمر، فأمر بملازمتِهم ومخالَطتِهم ومُواطأتِهم على ما يريدونَ أن يفعلوه، وتعريفه ما يتجَدَّدُ أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يُطالِعُه بكُلِّ ما عَزَموا عليه"، ثمَّ وصلَ رَسولٌ مِن ملك الفِرنجِ بالساحل الشاميِّ إلى صلاح الدين بهديَّةٍ ورسالةٍ، وهو في الظاهِرِ إليه، والباطِنِ إلى أولئك الجماعةِ، وكان يُرسِلُ إليهم بعضَ النصارى وتأتيه رسُلُهم، فأتى الخبَرُ إلى صلاح الدين من بلاد الفرنجِ بجليةِ الحال، فوضع صلاحُ الدينِ على الرسولِ بعضَ من يثقُ به من النصارى، وداخَلَه، فأخبره الرسولُ بالخبر على حقيقتِه، فقبض حينئذٍ على المُقَدَّمينَ في هذه الحادثة منهم: عمارة، وعبد الصمد، والعويرس، وغيرهم، وصَلَبَهم في ثاني رمضانَ.
أرسل أبو عُبيدةَ عامرُ بن الجَرَّاح خالدَ بنَ الوَليد إلى قِنَّسْرِينَ، فلمَّا نزَل الحاضرَ زحَف إليهم الرُّومُ وعليهم مِيناسُ، وكان مِن أعظمِ الرُّومِ بعدَ هِرقل، فاقتتلوا فقُتِلَ مِيناسُ ومَن معه مَقتلةً عظيمةً لم يُقتلوا مِثْلَها، فماتوا على دمٍ واحدٍ، وسار خالدٌ حتَّى نزَل على قِنَّسْرين فتَحصَّنوا منه، فقالوا: لو كنتم في السَّحابِ لحَمَلَنا الله إليكم، أو لأَنْزَلَكُم إلينا، فنَظروا في أَمرِهم ورأوا ما لَقِيَ أهلُ حِمْصَ، فصالَحوهُم على صُلْحِ حِمْصَ، فأبى خالدٌ إلَّا على إخرابِ المدينةِ فأَخرَبها، فعند ذلك دخَل هِرقلُ القُسْطَنْطِينِيَّةَ؛ وسببُه: أنَّ خالدًا وعِياضًا أَدْرَبا إلى هِرقل مِن الشَّام، وأَدْرَب عَمرُو بن مالكٍ مِن الكوفةِ، فخرَج مِن ناحيةِ قَرْقِيسِيا، وأَدْرَبَ عبدُ الله بن المُعْتَمِّ مِن ناحيةِ المَوْصِل ثمَّ رجعوا، فعندها دخَل هِرقلُ القُسطنطينيَّة، وكانت هذه أوَّلَ مَدْرَبَةٍ في الإسلامِ سنةَ خمسَ عشرةَ، وقِيلَ: ستَّ عشرةَ. -أَدْرَبَ في الغَزْوِ أي جاوَز الدَّرْبَ إلى العَدُوِّ-.
خرج نائِبُ السلطنة بمن بقي من الجيوشِ الشاميَّة، وقد كان تقَدَّمَ بين يديه طائفةٌ من الجيش مع ابن تيميَّة في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرَّفضِ والتيامنة والدروز فخرج نائبُ السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروجِ الشيخ لغزوهم، فنصَرَهم الله عليهم وأبادوا خلقًا كثيرًا منهم ومِن فِرقَتِهم الضالَّة، ووَطِئوا أراضيَ كثيرةً مِن صُنعِ بلادهم، وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشقَ في صحبته الشَّيخُ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبَبِ شهود الشيخ هذه الغزوةَ خَيرٌ كثيرٌ، وأبان الشيخ علمًا وشجاعةً في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوبُ أعدائه حسدًا له وغَمًّا.
سار أتابك عمادُ الدين زِنكي من المَوصِلِ إلى الشَّامِ وحصَرَ قلعةَ بعرين، وهي تُقارِبُ مدينةَ حَماةٍ، وهي مِن أمنَعِ معاقِلِ الفِرنجِ وأحصَنِها، فلمَّا نزل عليها قاتَلَها، وزحف إليها، فجمَعَ الفِرنجُ فارِسَهم وراجِلَهم، وساروا في قَضِّهم وقَضيضِهم، ومُلوكِهم وقَمامِصتِهم- كبارِ القَساوسة – وأمرائهم إلى أتابك زنكي؛ لِيُرحِّلوه عن بعرين، فلم يَرحَلْ وصبَرَ لهم إلى أن وصَلوا إليه، فلَقِيَهم وقاتَلَهم أشَدَّ قِتالٍ رآه الناسُ، وصبَرَ الفريقان ثمَّ أجلَت الوقعةُ عن هزيمة الفرنج، وأخذَتْهم سيوفُ المُسلِمينَ مِن كُلِّ جانبٍ، واحتمى ملوكُهم وفُرسانُهم بحِصن بعرين لقُربِه منهم، فحصَرَهم زنكي فيه، ومنع عنهم كُلَّ شَيءٍ حتى الأخبار، فكان مَن به منهم لا يَعلَمُ شيئًا مِن أخبارِ بلادِهم لشِدَّةِ ضَبطِ الطُّرُقِ وهَيبتِه على جُندِه، ثمَّ إنَّ القسوس والرُّهبانَ دَخَلوا بلادَ الرُّومِ وبلادَ الفِرنجِ وما والاها مُستَنفِرينَ على المُسلِمينَ، وأعلموهم أنَّ زنكي أخذ قلعةَ بعرين ومَن فيها من الفرنجِ، ومَلَك جميعَ بلادِهم بأسرَعِ وَقتٍ، وأنَّ المُسلِمينَ ليس لهم هِمَّةٌ إلَّا قَصدُ البيت المُقَدَّس، فحينئذٍ اجتَمَعت النصرانيَّة وساروا على الصَّعبِ والذَّلول، وقَصَدوا الشام، وأمَّا زنكي فإنَّه جَدَّ في قتال الفرنج، فصبَروا وقَلَّت عليهم الذَّخيرةُ، فإنهم كانوا غيرَ مُستعدِّينَ، ولم يكونوا يعتَقِدونَ أنَّ أحدًا يَقدَمُ عليهم، بل كانوا يتوقَّعونَ أنَّه مَلَك باقيَ الشَّامِ، فلمَّا قَلَّت الذخيرةُ أكلوا دوابَّهم، وأذعنوا بالتَّسليمِ لِيُؤَمِّنَهم، ويَترُكَهم يعودونَ إلى بلادِهم، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فلمَّا سَمِعَ باجتِماعِ مَن بَقِيَ مِن الفرنجِ ووصولِ مَن قَرُب إليهم أعطى لِمَن في الحِصنِ الأمانَ، وقَرَّر عليهم خمسينَ ألف دينارٍ يحمِلونَها إليه، فأجابوه إلى ذلك فأطلَقَهم، فخرجوا وسَلَّموا إليه، وكان زنكي في مُدَّةِ مُقامِه عليهم قد فتح المَعَرَّة وكفْر طاب مِنَ الفِرنجِ، فكان أهلُها وأهلُ سائِرِ الوِلاياتِ التي بين حَلَب وحَماة مع أهلِ بعرين في الخِزيِ؛ لأنَّ الحَربَ بينهم قائِمةٌ على ساقٍ، والنَّهب والقَتل لا يزال بينهم، فلمَّا مَلَكَها أمِنَ النَّاسُ، وعَمَرت البلادُ وعَظُم دَخلُها، وكان فتحًا مُبينًا. قال ابنُ الأثير: "ومِن أحسَنِ الأعمالِ وأعدَلِها ما عَمِلَه زِنكي مع أهل المعرَّة؛ فإنَّ الفرنجَ لَمَّا مَلَكوا المعَرَّة كانوا قد أخذوا أموالَهم وأملاكَهم، فلمَّا فتَحَها زنكي الآن حضَرَ مَن بَقِيَ مِن أهلِها ومعهم أعقابُ مَن هَلَك، وطلبوا أملاكَهم، فطلب منهم كَتْبَها، فقالوا: إنَّ الفِرنجَ أخذوا كلَّ ما لنا، والكُتُب التي للأملاكِ فيها. فقال: اطلبوا دفاتِرَ حَلَب، وكُلُّ مَن عليه خراجٌ على مُلكٍ يُسَلَّم إليه، ففعلوا ذاك، وأعاد على النَّاسِ أملاكَهم، وهذا من أحسَنِ الأفعالِ وأعدَلِها".
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ القاضي: أبو بكر مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ بنِ مُحمَّد المعافري ابنُ العربيِّ الإشبيليُّ الأندلسيُّ المالكيُّ، صاحِبُ التَّصانيفِ, الحافِظُ المشهورُ مِن عُلَماءِ الأندلس، وُلِدَ ونشأ وتعلَّمَ بإشبيليَّة, كانت ولادتُه سنة 468, ثمَّ لَمَّا استولى المرابطونَ عليها رحل مع أبيه إلى المَشرِق, ثمَّ رجع إلى الأندلُسِ بعد أن دَفَنَ أباه في رِحلتِه إلى المشرق, ثم عاد مِن قُرطبةَ إلى مراكش وسُجِنَ فيها, ولَمَّا أُطلِقَ سَراحُه عاد إلى الأندلُسِ مَرَّةً أخرى. صَنَّفَ ابنُ العربيِّ وجَمَع، وبرَع في فُنونِ العِلمِ، وكان فصيحًا بليغًا خَطيبًا, واشتهر اسمُه، وكان رئيسًا مُحتَشِمًا وافِرَ الأموالِ، بحيث أنشأَ على إشبيليَّةَ سُورًا مِن ماله الخاصِّ، وهو أوَّلُ مَن أدخل بالأندلُسِ إسنادًا عاليًا، وعِلمًا جَمًّا, وكان ثاقِبَ الذِّهنِ، عَذْبَ المَنطِقِ، كريمَ الشمائلِ، كامِلَ السُّؤددِ، ولِيَ قَضاءَ إشبيليَّةَ، فحُمِدَت سياستُه، وكان ذا شِدَّةٍ وسَطوةٍ، فعُزِلَ وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وتدوينِه, ذكَرَه ابنُ بشكوال فقال: "هو الحافِظُ المُستَبحِر، خِتامُ عُلَماءِ الأندلُسِ، وآخِرُ أئمَّتِها وحُفَّاظها، لَقِيتُه بمدينةِ إشبيليَّةَ ضَحوةَ يوم الاثنين لِلَيلتَينِ خَلَتا من جمادى الآخرة سنة 516 فأخبَرَني أنَّه رحل إلى المشرق مع أبيه يومَ الأحد مُستهَلَّ شَهرِ ربيع الأول سنة 485 وأنَّه دخل الشَّامَ ولَقِيَ بها أبا بكر مُحَمَّدَ بنَ الوليد الطرطوشي، وتفَقَّه عنده، ودخل بغدادَ وسمِعَ بها مِن جماعةٍ مِن أعيانِ مَشايخِها، ثمَّ دخَلَ الحِجازَ فحَجَّ في موسمٍ سنة 489، ثمَّ عاد إلى بغدادَ وصَحِبَ بها أبا بكرٍ الشاشيَّ وأبا حامدٍ الغزالي وغيرَهما مِن العُلَماءِ والأُدَباء، ثمَّ صَدَرَ عنهم، ولَقِيَ بمصر والإسكندريَّةٍ جماعةً مِن المحدِّثينَ فكَتَبَ عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ثمَّ عاد إلى الأندلس سنة 493، وقَدِمَ إلى إشبيليَّةَ بعِلمٍ كَثيرٍ لم يُدخِلْه أحدٌ قبلَه مِمَّن كانت له رِحلةٌ إلى المشرق. وكان مِن أهلِ التفَنُّنِ في العلومِ والاستبحارِ فيها والجَمعِ لها، مُقَدَّمًا في المعارِفِ كُلِّها، مُتكَلِّمًا في أنواعِها، نافِذًا في جميعِها، حريصًا على أدائها ونَشرِها، ثاقِبَ الذِّهنِ في تمييزِ الصَّوابِ منها، ويجمَعُ إلى ذلك كُلِّه آدابَ الأخلاقِ مع حُسنِ المعاشرةِ ولِينِ الكَنَفِ وكثرةِ الاحتمالِ، وكَرَمِ النَّفسِ وحُسنِ العَهدِ وثَباتِ الوُدِّ. واستُقضِيَ ببلدةٍ فنَفَعَ اللهُ به أهلَها لصرامتِه وشِدَّتِه ونفوذِ أحكامِه، وكانت له في الظَّالِميَن سَوْرة مرهوبة، ثمَّ صُرِفَ عن القضاء، وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وبَثِّه". قال الذهبي: "كان أبوه أبو مُحمَّدٍ مِن كِبار أصحابِ أبي محمَّد بن حزم الظاهريِّ بخلاف ابنِه القاضي أبي بكر؛ فإنَّه مُنافِرٌ لابنِ حَزمٍ، مُحِطٌّ عليه بنَفسٍ ثائرةٍ" ولابن العربي تصانيفُ عديدةٌ، منها، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، وله أحكامُ القُرآنِ، والنَّاسِخُ والمنسوخ في القرآن، والمحصول في عِلْم الأصول، وله عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، وغَيرُها من الكتب. توفِّيَ في طريقه في المغيلة بالقُربِ مِن فاس عند رجوعِه مِن مراكش، ونُقِلَ إلى فاس، ودُفِنَ بمقبرة الجيَّاني.
أخرج الترمذي في سننه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أَعِزَّ الإسلامَ بأَحَبِّ هذين الرجُلَيْنِ إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ قال وكان أَحَبَّهُما إليه عمرُ)) وروى أهل السِّير أنَّ عمر خرج يومًا مُتوشِّحًا سَيفَهُ يُريدُ القضاءَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلقِيهُ رجلٌ فقال: أين تعمدُ يا عُمَرُ؟ قال: أريدُ أنْ أقتُلَ محمَّدًا. قال: كيف تأمنُ من بني هاشمٍ ومن بني زُهرةَ وقد قتلتَ محمَّدًا؟ فقال له عُمَرُ: ما أراك إلَّا قد صَبَوْتَ، وتركتَ دينَك الذي كنتَ عَليهِ، قال: أفلا أدُلُّك على العَجَبِ يا عُمَرُ? إنَّ أُختَك وخَتَنَكَ قد صَبَوَا، وتركا دينَك الذي أنت عَليهِ، فمشى عُمَرُ إليهِما، وعندهُما خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ، معه صَحيفةٌ فيها: سُورةُ [طه] يُقرِئهُما إيَّاها، فلمَّا سمِع خَبَّابٌ حِسَّ عُمَرَ تَوارى في البيتِ، وسَترتْ فاطمةُ أُختُ عُمَرَ الصَّحيفةَ، وكان قد سمِع عُمَرُ حين دنا مِنَ البيتِ قِراءةَ خَبَّابٍ إليهِما، فلمَّا دخل عليهِما قال: ما هذه الهَيْنَمَةُ التي سمعتُها عندكُم؟ فقالا: ما عَدا حديثًا تحدَّثناهُ بيننا. قال: فلَعلَّكُما قد صَبَوْتُما, فقال له خَتَنُهُ: يا عُمَرُ، أرأيتَ إنْ كان الحقُّ في غيرِ دينِك؟ فوثبَ عُمَرُ على خَتَنِهِ فَوَطِئَهُ وَطْئًا شَديدًا, فجاءتْ أختُه فرفعتْهُ عن زَوجِها، فَنَفَحَها نَفْحَةً بيدِه، فَدَمَّى وجهَها، فقالتْ، وهي غَضبى: يا عُمَرُ، إنْ كان الحقُّ في غيرِ دينِك، أشهدُ أنْ لا إلَه إلَّا الله، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله. فلمَّا يَئِسَ عُمَرُ، ورَأى ما بِأُختِه مِنَ الدَّمِ نَدِمَ واستَحْيا، وقال: أَعْطوني هذا الكتابَ الذي عندكُم فأَقرؤهُ، فقالتْ أختُه: إنَّك رِجْسٌ، ولا يَمَسُّهُ إلَّا المُطهَّرون، فقُمْ فاغْتسِلْ، فقام فاغتسَلَ، ثمَّ أخذَ الكتابَ، فقرأَ: بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أسماءُ طَيِّبَةٌ طاهرةٌ. ثمَّ قرأَ [طه] حتَّى انتهى إلى قولِه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) فقال: ما أحسنُ هذا الكلامَ وأَكرمَهُ؟ دِلُّوني على محمَّدٍ. فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَسلمَ عندَه، ثمَّ خرج المسلمون معهُ في صَفَّيْنِ حتَّى دخلوا المسجدَ، فلمَّا رأتهُم قُريشٌ أصابتْها كآبةٌ لم تُصبْها مِثلُها.
هو رُسْتُم فرخزاد قائدُ الجيشِ الفارسيِّ في عَهدِ آخر مُلوكِ الدَّولةِ السَّاسانيَّةِ يزدجرد الثَّالث أصلُه مِن أَرْمِينيَة، وكان يَخدُم مَلِكَ الفُرْسِ بإخلاصٍ، أرسل يزدجرد الثَّالث القائدَ رُستمَ مُجبِرًا إيَّاه قِيادةَ الجيش الفارسيِّ لِيواجِهَ جُيوشَ المسلمين التي كانت تَخْترِق العِراقَ تَمهيدًا لفتحِ بِلاد فارس، واجَه رُستم المسلمين في القادِسيَّة وفي رابعِ أيَّام القادسيَّة هَبَّتْ رِيحٌ شديدةٌ فرفعَتْ خِيامَ الفُرْس عن أماكنِها, وألْقَت سَريرَ رُستم الذي هو مَنصوب له، وتَقدَّم القَعقاعُ ومَن معه حتَّى عَثروا على سَريرِ رُستم وهُم لا يَرَوْنه مِن الغُبارِ، وكان رُستم قد ترَكه واسْتَظلَّ بِبَغْلٍ, فوقع على رُستم وهو لا يَشعُر به, فأزال مِن ظَهرِه فَقارًا، وهرَب رُستم نحو نهرِ العتيق لِينجوَ بِنفسه, ولكنَّ هِلالَ بن عَلقمةَ التَّميميَّ أدرَكهُ, فأَمْسكَ بِرِجلِه وسَحبَهُ ثمَّ قتَلَه، وصعَد السَّريرَ ثمَّ نادى: قَتلتُ رُستمَ ورَبِّ الكعبةِ، إليَّ، فأطافوا به, وما يرون السرير, وكبَّروا وتَنادوا.
لمَّا بُويِعَ لابنِ الزُّبير بالخِلافَة، وقَدِمَ الحُصينُ بن نُميرٍ ومَن معه إلى الشَّام أَخْبَرَ مَرْوانَ بما كان بينه وبين ابنِ الزُّبير، وقال له ولِبَنِي أُمَيَّة: نَراكُم في اخْتِلاطٍ فأقيموا أَميرَكُم قبلَ أن يَدخُلَ عليكم شامَكُم، فتكون فِتنَة عَمْياء صَمَّاء. وكان مِن رَأْيِ مَرْوان أن يَسيرَ إلى ابنِ الزُّبير فيُبايِعهُ بالخِلافَة، فقَدِمَ ابنُ زيادٍ مِن العِراق وبَلغَهُ ما يَريدُ مَرْوانُ أن يَفعلَ، فقال له: قد اسْتَحْيَيْتُ لك مِن ذلك، أنت كبيرُ قُريشٍ وسَيِّدُها تَمضي إلى أبي خُبَيبٍ فتُبايِعهُ -يعني ابنَ الزُّبير- فقال: ما فات شيءٌ بعدُ. فقام معه بنو أُمَيَّة ومواليهم وتَجمَّع إليه أهلُ اليَمنِ فسار إلى دِمشقَ وهو يقول: ما فات شيءٌ بعدُ، فقَدِمَ دِمشقَ وجَهَّزَ جُيوشًا لِيُثَبِّتوا له البَيْعَة فثَبَّتَ حُكْمَهُ بالشَّامِ, ثمَّ أرسَل جيشًا آخرَ للعِراق لِيأخُذ له البَيْعَة. ولكن لم تَدُمْ مُدَّةُ حُكمِه طويلًا، فقد تُوفِّي بعدَ تِسعَة أَشْهُر.
انتقلت قيادةُ الثورة في داغستان ضِدَّ الروس إلى الشيخ الإمام شامل بن دنكاو الداغستاني، وكان قد صَحِبَ منذ صغره الشيخَ المجاهد محمد الكمراوي قائدَ الثورة الأول في رحلته العلمية، وعكف معه على العلم والعبادة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قامت الثورةُ المباركة وكان الإمامُ شامل الذراعَ الأيمن لمحمد الكمراوي، وقائد جيوشه وشريكه في الأمور حتى ليلة استشهاده، ثم اشترك مع القائد الثاني حمزة بك علي حتى استشهاده أيضًا، فأجمع الناسُ على تولية الشيخ الإمام شامل قيادة الثورة، ومن يومها أصبح اسمُه الإمام شامل. حمل على عاتقِه إحياءَ الدين الإسلامي ونَشْر العلم، وتطبيق الشريعة، وإقامة العدل، وتطهير المجتمع من الآثار المرذولة التي خَلَّفها الاحتلال الروسي للبلاد، وجاءت خطواتُ الإمام شامل لتحقيقِ هذا الهدف بالقضاء على المنافقين؛ حيث قام بتطهير المجتمَعِ الداغستاني من العُملاء والموالين للاحتلال الروسي، ثم ضَمَّ الشيشان مع داغستان؛ حيث لم يكن هدفُ الإمام شامل تحرير داغستان فقط من الاحتلال الروسي، بل كان يهدفُ لتطهير منطقة القوقاز بأسْرِها من الروس، واستعادة الحُكم الإسلامي عليها مرةً أخرى؛ لذلك عَمِلَ الإمامُ شامل على توسيعِ قاعدة الدولة الإسلامية، فانتقل بالثورةِ إلى الشيشان، وصار قوة كبيرة يُخشى بأسُها، وأنزلت هذه القوةُ العديدَ من الهزائمِ المدوِّية على الجيش الروسي، خاصةً في معركة ويدانو سنة 1251هـ التي قُتِل فيها ستة آلاف صليبي روسي، ولقد انضمَّ للإمام شامل مجموعةٌ من العلماء العاملين المجاهدين المخلِصين، كما انضم له الكثيرُ مِن الشيشان، وانضَمَّ له من قبائل الشركس واللاز والأبخاز وغيرهم من أهل منطقة القوقاز، وبَقُوا يقاتِلون معه.
خرج السلطانُ صلاح الدين الأيوبي من دمشق في ثالث ربيع الأول, ونازل لشقيف أرنون, وكان منزعجًا لقرب انقضاء الهدنة مع بيمند صاحِبِ أنطاكيةَ، ولاجتماع الفرنجِ بصور، واتِّصال الأمداد بهم، فكانت للمُسلمين مع الفرنجِ في بلادهم الساحليَّة عِدَّةُ وقائع، قُتِلَ فيها من الفريقين عِدَّةٌ، وكثُرَ القتل في المسلمين، واشتدت نكايةُ الفرنج فيهم، فرحل السلطانُ إلى عكا، وقد سبقه الفرنجُ ونزلوا عليها. ونزل السلطان بمرج عكا وصار محاصِرًا للفرنج، والفرنجُ محاصرين للبلد. وتلاحقت به العساكِرُ الإسلامية، والأمداد تصل إلى الفرنجِ مِن البحر. فلم يقدِر السلطانُ على الوصول إلى البلد، ولا استطاع أهلُ عكا أن يصلوا إلى السُّلطان. وشرع السلطانُ في قتال الفرنج من أول شعبان، إلى أن تمكَّنَ من عكا، ودخلها في ثانيه، فما زالت الحربُ قائمةً إلى رابع رمضان. فتحَوَّل إلى الخروبة، وأغلق مَن في عكا من المسلمين أبوابَها، وحفر الفرنج خندقًا على مُعسكَرِهم حول عكا من البحرِ إلى البحر، وأداروا حولهم سورًا مستورًا بالستائر، ورتَّبوا عليه الرجال، فامتنع وصولُ المسلمين إلى عكا. وقدم العادل بعسكرِ مِصرَ في نصف شوال، ثم قَدِمَ أسطول من مصر إلى عكا في خمسين قطعة، وعليه الحاجِبُ لؤلؤ في منتصف ذي القعدة، فبدَّدَ شمل مراكب الفرنج، وظفِرَ المسلمون بطستين- سفينتين كبيرتين- للفرنج. فاستظهر المسلمون الذين بعكا، وقَوِيَ جأشهم بالأسطول، وكانوا نحو العشرة آلاف. وبعث السلطان إلى الأطراف يحثُّ الناس على الجهاد، وأرسل إلى أخيه سيف الإسلام طغتكين باليمن، يطلب منه الإعانةَ بالمال، وإلى مظفَّر الدين قر أرسلان صاحب العجم، وكتب إلى الخليفة. ووصلت الأمدادُ إلى الفرنج، وورد الخبَرُ من حلب بخروج ملك الألمان من القسطنطينيَّة في عِدَّة عظيمة تتجاوز الألف ألف، يريدون البلاد الإسلاميَّة، فاشتد الأمرُ على السلطان ومَن معه من المسلمين.
هو المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ بنُ أبي الحَسنِ عليٍّ الظاهر بن الحاكم الفاطِميُّ العُبيديُّ صاحِبُ مصر والشام، وُلِدَ سَنةَ 420هـ, ووَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ الظاهرِ وله سَبعُ سنين، في شعبان سنة 427هـ، وفي وَسطِ دَولتِه خُطِبَ له بإَمْرَةِ المؤمنين على مَنابرِ العِراقِ. قال ابنُ خلكان: "جَرَى في أَيامِه ما لم يَجرِ على أَيامِ أَحَدٍ مِن أَهلِ بَيتِه ممَّن تَقدَّمهُ ولا تَأخَّرهُ: منها قَضيةُ البساسيري فإنه لمَّا عَظُمَ أَمرُه، وكَبُرَ شأنُه ببغداد قَطعَ خُطبةَ الخَليفةِ العبَّاسيِّ القائمِ بأَمرِ الله، وخَطبَ للمُستَنصِر العُبيديِّ سَنةَ 450هـ، ودَعَا له على مَنابِرِها مُدَّةَ سَنَةٍ, ومنها أنه ثار في أَيامِه عليُّ بنُ محمدٍ الصليحيُّ ومَلَكَ بِلادَ اليَمنِ، ودَعَا للمُستَنصِر على مَنابِرِها, ومنها أنه أقامَ في الأَمرِ سِتِّينَ سَنَةً، وهذا أَمرٌ لم يَبلُغه أَحدٌ مِن أَهلِ بَيتِه ولا مِن بَنِي العبَّاسِ, ومنها أنه وَلِيَ الأَمرَ وهو ابنُ سَبعِ سِنين. ومنها أن دَعوتَهم لم تَزل قائمةً بالمَغربِ منذ قام جَدُّهُم المَهديُّ إلى أَيامِ المُعِزِّ ولمَّا تَوَجَّه المُعِزُّ إلى مصر واستَخلَف بلكين بن زيري، كانت الخُطبةُ في تلك النواحي لا زالت للعُبيديِّين، إلى أن قَطَعَها المُعِزُّ بن باديس في أَيامِ المُستَنصِر سَنةَ 443هـ، وفي سَنةِ 449هـ قُطِعَ اسمُ المُستَنصِر واسمُ آبائِه مِن الخُطبةِ في الحَرَمينِ، وذُكِرَ اسمُ المُقتدِي بأَمرِ الله خَليفةِ بغداد، ومنها أنه حَدَثَ في أَيامِه الغَلاءُ العَظيمُ الذي ما عُهِدَ مِثلُه منذ زَمانِ يوسف عليه السلام، وأقامَ سَبعَ سِنينَ، وأَكلَ الناسُ بَعضُهم بَعضًا، حتى قِيلَ: إنه بِيعَ رَغيفٌ واحدٌ بخَمسين دِينارًا، وكان المُستَنصِر في هذه الشِّدَّةِ يَركَب وَحدَه، وكلُّ مَن معه من الخَواصِّ مُتَرَجِّلون ليس لهم دَوابٌّ يَركَبونَها، وكانوا إذا مَشوا تَساقَطوا في الطُّرُقاتِ من الجُوعِ، وآخِرُ الأمرِ تَوجَّهَت أُمُّ المُستَنصِر وبَناتُه إلى بغداد من فَرْطِ الجُوعِ سَنةَ 462هـ، وتَفَرَّق أَهلُ مصر في البِلادِ وتَشتَّتوا"، وتُوفِّي المُستَنصِر لَيلةَ الخميسِ لاثنتي عشرة لَيلةً بَقِينَ من ذي الحجَّةِ سَنةَ 487هـ وكانت مُدَّةُ حُكمِه سِتِّينَ سَنةً وأربعةَ أَشهُر، ولمَّا مات وَلِيَ بَعدَه ابنُه أبو القاسمِ أحمدَ المُستَعلِي بالله، وكان قد عَهِدَ في حَياتِه لابنِه نزار، فخَلَعهُ الأفضلُ أبو القسمِ شاهنشاه بن أَميرِ الجُيوشِ وبايَعَ المُستَعلِي بالله، وسَببُ خَلعِه أن الأفضلَ رَكِبَ مَرَّةً، أَيامَ المُستَنصِر، ودَخلَ دِهليزَ القَصرِ من بابِ الذَّهبِ راكِبًا، ونزار خارِجٌ، والمَجازُ مُظلِمٌ، فلم يَرَهُ الأفضلُ، فصاحَ به نزار: انزِل، يا أرمني، كلب، عن الفَرَسِ، ما أَقَلَّ أَدَبَك! فحَقَدَها عليه، فلمَّا مات المُستَنصِر خَلَعهُ خَوفًا منه على نَفسِه، وبايَعَ المُستَعلي، فهَرَب نزار إلى الإسكندريةِ، وبها ناصِرُ الدولةِ أفتكين، فبايَعَهُ أَهلُ الإسكندريةِ وسَمَّوهُ المُصطفَى لدِينِ الله، فخَطَبَ الناسَ، ولَعنَ الأَفضلَ، وأَعانَه أيضًا القاضي جَلالُ الدولةِ بنُ عَمَّارٍ، قاضي الإسكندريةِ، فسار إليه الأَفضلُ، وحاصَرَهُ بالإسكندريةِ، فعاد عنه مَقهورًا، ثم ازدادَ عَسكرًا، وسار إليه، فحَصَرهُ وأَخَذهُ، وأَخذَ أفتكين فقَتَلهُ، وتَسلَّم المُستعلِي نزارًا فبَنَى عليه حائِطًا فماتَ، وقَتَلَ القاضيَ جَلالَ الدولةِ بنَ عَمَّارٍ ومَن أَعانَه.
هو العلامة الفقيه المحدث القاضي الشاعر الأديب قاضي القضاة محبُّ الدّين أبو الوليد محمد بن محمد بن محمود بن غازي ابن أيوب بن الشِّحنة محمود، والشِّحنة جدُّه الأعلى محمود، الشهير بابن الشِّحنة التُّركي الأصل الحلبي الحنفي، وأسرة آل الشحنة المشهورين بحلب من قبيلة ثقيف، وظهر منهم علماء أجلاء. ولد أبو الوليد سنة 749، وحفظ القرآن العظيم وعدة متون، وتفقَّه وبرع في الفقه، والأصول، والنحو، والأدب، وأفتى ودرّس، وتولى قضاء قضاة الحنفية بحلب، ثم دمشق، إلى أن قبض عليه الظَّاهر برقوق، وقدم به إلى القاهرة، ثم أُفرِجَ عنه ورجع إلى حلب، فأقام بها إلى أن قبض عليه الملك الناصر فرج سنة 813 لقيامه مع جماعةٍ على الناصر، ثم أفرج عنه فقدمَ القاهرة، ثم عاد إلى دمشق بصحبة الملك الناصر سنة أربع عشرة، فلما انكسر الناصر وحوصر بدمشق ولَّاه قضاء الحنفية بالقاهرة، فلم يتمَّ؛ لأنه لما أزيلت دولة الناصر أعيد ابن العديم لقضاء الدِّيار المصرية، واستقرَّ ابن الشِّحنة في قضاء حلب ودرس بدمشق. قال ابن حجر: "كان كثير الدعوى والاستحضار، عالي الهمَّة، وعمل تاريخًا لطيفًا فيه أوهام عديدة، وله نظم فائق وخط رائق" له ألفية رجز تشتمل على عشرة علوم، وألفية اختصر فيها منظومة النَّسَفي وضم إليها مذهب أحمد. وله تآليف أخرى في الفقه، والأصول، والتفسير. توفي بحلب يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر. ومحب الدين هو والد أبي الفضل
كُتِبَ ببغدادَ مَحضَرٌ يتضَمَّنُ الطَّعنَ والقَدحَ في نَسَبِ الفاطميِّينَ، وهم ملوكُ مِصرَ فليسُوا كذلك، وإنَّما نسَبُهم إلى عُبيدِ بنِ سَعدٍ الجَرميِّ، وكَتَب في ذلك جماعةٌ من العُلَماءِ والقُضاة والأشراف والعُدول، والصالحين والفُقهاء، والمحَدِّثين، وشَهِدوا جميعًا أنَّ الحاكِمَ بمِصرَ: منصورُ بنُ نِزارِ الملَقَّب بالحاكم- حَكَمَ اللهُ عليه بالبَوارِ والخِزيِ والدَّمارِ- بن مَعد بنِ إسماعيلَ بنِ عبد الله بن سعيد، لا أسعَدُه الله؛ فإنَّه لَمَّا صار إلى بلاد المغرِبِ تَسمَّى بعُبَيد الله، وتلَقَّب بالمهديِّ، وأنَّ مَن تقَدَّمَ مِن سَلَفِه أدعياءُ خوارِجُ، لا نسَبَ لهم في ولدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ولا يتعَلَّقونَ بسَببٍ، وأنَّه مُنَزَّهٌ عن باطلهم، وأنَّ الذي ادَّعَوه إليه باطِلٌ وزُورٌ، وأنَّهم لا يَعلَمونَ أحدًا مِن أهل بيوتاتِ عليِّ بنِ أبي طالب توقَّف عن إطلاقِ القَولِ في أنَّهم خوارِجُ كَذَبةٌ، وقد كان هذا الإنكارُ لباطِلِهم شائعًا في الحَرَمينِ، وفي أوَّلِ أمْرِهم بالمَغربِ مُنتشِرًا انتشارًا يمنع أن يُدَلَّسَ أمرُهم على أحدٍ، أو يذهَبَ وَهمٌ إلى تَصديقِهم فيما ادَّعوه، وأنَّ هذا الحاكِمَ بمِصرَ هو وسَلَفُه كُفَّارٌ فُسَّاقٌ فُجَّارٌ، مُلحِدون زنادِقة، مُعَطِّلون، وللإسلامِ جاحدون، ولِمَذهب المجوسيَّة والثنويَّة مُعتَقِدونَ، قد عطَّلوا الحُدودَ، وأباحوا الفُروجَ، وأحلُّوا الخَمرَ، وسَفَكوا الدِّماءَ، وسَبَوا الأنبياءَ، ولَعَنوا السَّلَف، وادَّعَوا الرُّبوبيَّة.
وقد كتَبَ خَطَّه في المَحضَرِ خَلقٌ كَثيرٌ؛ فمِن العَلَويِّينَ: الشَّريفُ المُرتضى وأخوه الرَّضِي، وابن البطحاويِّ العَلَوي، وابن الأزرق المُوسَوي، والزكي أبو يعلى عمرُ بن محمد، ومن القُضاة: ابنُ الأكفاني، وابن الخرزي، وأبو العبَّاسِ الأبيوردي، وأبو عبدِ اللهِ بنُ النُّعمان، فقيه الشيعة، ومِن الفُقَهاءِ: أبو حامدٍ الإسفرايينيِّ، والكشفلي، والقُدوري، والصيمري، وأبو عبد الله بن البيضاوي، وأبو الفَضلِ النَّسَوي، ومن الشُّهودِ: أبو القاسِمِ التَّنوخيُّ في كثيرٍ منهم، وكَتَبَ فيه خلقٌ كثيرٌ غيرَهم. قال أبو الفرجِ بنُ الجوزي: "وممَّا يدُلُّ على أنَّ هؤلاء أدعياءُ كَذَبةٌ، كما ذكَرَ هؤلاء السَّادة العُلَماء، والأئِمَّة الفُضَلاء، وأنَّهم لا نسَبَ لهم إلى عليِّ بن أبي طالب، ولا إلى فاطمةَ، كما يَزعُمونَ؛ قَولُ ابنِ عُمَرَ للحُسَينِ بنِ علي حين أراد الذَّهابَ إلى العراق، وذلك حين كتَبَ عَوامُّ أهلِ الكوفةِ بالبَيعةِ إليه، فقال له ابنُ عمر: لا تذهَبْ إليهم؛ فإني أخافُ عليك أن تُقتَلَ، وإنَّ جَدَّك قد خُيِّرَ بين الدنيا والآخرةِ فاختار الآخِرةَ على الدنيا، وأنت بَضعةٌ منه، وإنَّه- والله- لا تنالها لا أنت ولا أحَدٌ مِن خَلَفِك ولا مِن أهلِ بَيتِك، فهذا الكلامُ الحسَنُ الصَّحيحُ المتوَجِّه المعقول، من هذا الصَّحابيِّ الجليلِ، يقتضي أنَّه لا يلي الخلافةَ أحَدٌ مِن أهلِ البَيتِ إلَّا مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ المهديُّ الذي يكونُ في آخِرِ الزَّمانِ عندَ نُزولِ عيسى بنِ مريم؛ رغبةً بهم عن الدُّنيا، وألَّا يُدَنَّسوا بها. ومعلومٌ أنَّ هؤلاء قد مَلَكوا ديارَ مِصرَ مُدَّةً طَويلةً، فدَلَّ ذلك دَلالةً قَويَّةً ظاهِرةً على أنَّهم ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، كما نَصَّ عليه سادةُ الفُقَهاءِ". قال ابن كثير: "وقد صَنَّف القاضي الباقلَّاني كتابًا في الردِّ على هؤلاء، وسَمَّاه: (كَشْف الأسرارِ وهَتْك الأستار) بيَّنَ فيه فضائِحَهم وقبائِحَهم، ووضَّحَ أمْرَهم لكُلِّ أحدٍ، ووضوحُ أمْرِهم يُنبئُ عن مطاوي أفعالِهم وأقوالِهم، وقد كان الباقلَّاني يقولُ في عبارته عنهم: هم قومٌ يُظهِرونَ الرَّفضَ، ويُبطِنونَ الكُفرَ المَحض". قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "وهؤلاء القومُ- يعني العُبَيديِّينَ- يَشهَدُ عليهم عُلَماءُ الأمَّةِ وأئمَّتُها وجماهيرُها أنَّهم كانوا مُنافِقينَ زَنادقةً، يُظهِرونَ الإسلامَ ويُبطِنونَ الكُفرَ, وقد عُلِمَ أنَّ جُمهورَ الأمَّة تَطعَنُ في نَسَبِهم، وَيذكُرونَ أنَّهم من أولادِ المجوسِ أو اليهودِ، هذا مشهورٌ مِن شهادةِ عُلَماءِ الطَّوائِفِ: من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعية والحنابلة وأهلِ الحديثِ، وأهلِ الكلامِ، وعُلَماءِ النَّسَبِ، والعامَّة وغيرهم, وهذا أمرٌ قد ذكَرَه عامَّةُ المُصَنِّفينَ لأخبارِ النَّاسِ وأيَّامِهم، حتى بعض مَن قد يتوقَّفُ في أمْرِهم، كابنِ الأثيرِ المَوصليِّ في تاريخِه، ونحوه؛ فإنَّه ذكَرَ ما كتَبَه عُلَماءُ المُسلِمينَ بخُطوطِهم في القَدحِ في نَسَبِهم"
غزا يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين بهاطيةَ مِن أعمالِ الهِندِ، وهي وراءَ الملتان، وصاحِبُها يُعرَفُ ببحيرا، وهي مدينةٌ حَصينةٌ، عاليةُ السُّورِ، يُحيطُ بها خَندقٌ عَميقٌ، فامتنَعَ صاحِبُها بها، ثمَّ خرج هو وجُندُه إلى ظاهرِ المدينةِ، فقاتلوا المُسلِمينَ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثمَّ انهزموا في الرَّابِعِ، وطَلَبوا المدينةَ ليَدخُلوها، فسَبَقَهم المُسلِمونَ إلى بابِ المدينةِ فمَلَكوه عليهم، وأخذَتْهم السُّيوفُ مِن بينِ أيديهم ومِن خَلفِهم، فقُتِلَ المُقاتِلةُ وسُبِيَت الذُّرِّية وأُخِذَت الأموالُ، وأمَّا بحيرا فإنَّه لَمَّا عاين الهلاكَ، أخذ جماعةً مِن ثقاتِه وسار إلى رؤوسِ تلك الجبالِ، فسَيَّرَ إليه يمينُ الدولة سَرِيَّةً، فلم يشعُرْ بهم بحيرا إلَّا وقد أ حاطوا به، وحَكموا السُّيوفَ في أصحابِه، فلمَّا أيقَنَ بالعَطبِ أخَذَ خِنجرًا معه فقتَلَ به نفسَه، وأقام يمينُ الدَّولةِ ببهاطية حتى أصلَحَ أمْرَها، ورَتَّبَ قواعِدَها، وعاد عنها إلى غزنةَ. واستخلَفَ بها من يُعلِّمُ من أسلَمَ مِن أهْلِها وما يجِبُ عليهم تعَلُّمُه، ولَقِيَ يمينُ الدولة في عَودِه شِدَّةً شديدةً من الأمطارِ، وزيادة الأنهارِ، فغَرِقَ منها مِن عَسكَرِه عدَدٌ كبيرٌ.