بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
وصل والي قوص ممَّن معه إلى اتجاه الجزيرة التي بها عامون ملك النوبة، فرأوا بها عدة من مراكب النوبة، فبعثوا إليه في الدخولِ في الطاعةِ وأمَّنوه فلم يقبَلْ، فأقام العسكرُ تجاهه ثلاثة أيام، فخاف عامون من مجيءِ الحراريق والمراكبِ إليه، فانهزم إلى جهةِ الأبواب، وهي خارجةٌ عن مملكتِه وبينها وبين الجزيرة التي كان فيها ثلاثةُ أيام، ففارقه السواكرة وهم الأمراء وفارقه الأسقُفُ والقُسوس، ومعهم الصليبُ الفِضَّة الذي كان يُحمَلُ على رأسِ الملك، وتاجُ الملك، وسألوا الأمان فأمَّنَهم والي قوص وخلَعَ على أكابِرِهم، وعادوا إلى مدينةِ دنقلة وهم جمعٌ كبير، وعند وصولهم عبر الأمير عزُّ الدين الأفرم وقبجاق إلى البر الشرقي، وأقام العسكرُ مكانه، واجتمع الأمراءُ بدنقلة، ولبس العسكرُ آلةَ الحرب وطلبوا من الجانبينِ، وزُيِّنَت الحراريق في البحر، ولعب الزرَّاقون بالنِّفاط، ومدَّ الأمراء السماط في كنيسةِ أسوس أكبَرِ كنائس دنقلة وأكلوا، ثم ملَّكوا الرجلَ الذي بعثه السلطانُ قلاوون وألبسوه التاجَ، وحلفوا وسائِرَ الأكابرِ، وعينوا طائفةً من العسكر تقيمُ عندهم وعليها بيبرس العزي مملوكُ الأمير عزِّ الدين والي قوص، وعاد العسكرُ إلى أسوان بعدما غاب عنها ستة أشهر، وساروا إلى القاهرةِ في آخر جمادى الأولى بغنائِمَ كثيرة، وأما عامون فإنَّه عاد بعد رجوع العسكرِ إلى دنقلة مختفيًا، وصار بطريقِ باب كلِّ واحد من السواكرة ويستدعيه، فإذا خرج ورآه قَبَّلَ له الأرضَ وحلف له، فما طلع الفجرُ حتى ركِبَ معه سائرُ عَسكرِه، وزحف عامون بعسكره على دار الملك، وأخرج بيبرس العزي ومَن معه إلى قوص، وقَبَض على الذي تمَلَّك مَوضِعَه وعرَّاه من ثيابه، وألبسه جلدَ ثورٍ كما ذُبِحَ بعدما قَدَّه سيورًا ولَفَّها عليه، ثمَّ أقامه مع خشبةٍ وتركه حتى مات، وقُتِلَ جريس أيضًا، وكتب عامون إلى السلطانِ يسأله العفو، وأنَّه يقوم بالبقط المقرَّر وزيادة، وبعث رقيقًا وغيره تقدمةً فقَبِلَ منه، وأقرَّه السلطانُ بعد ذلك بالنوبةِ.
هو السلطانُ المؤيَّد المظفَّر أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر بن همايون بن بابر التيموري الكوركاني، أكبرُ ملوك الهند وأشهرُهم في الذِّكر، ولِدَ في قلعة أمركوث من أرض السِّند في ثاني ربيع الأول سنة 949هـ من "حميده بانو". حين انهزم والده همايون من شير شاه، ثم رجع بعد بضعة سنين فافتتح قندهار وكابل وأكثر بلاد الهند، فلما مات همايون جلس ولدُه جلال الدين على سريره تحت وصاية الوزير بيرم خان؛ لأن سنَّه حينئذ نحو ثلاث عشرة سنة، ولما بلغ أكبرُ أشُدَّه استقَلَّ بالملك، وسافر إلى الحرمين الشريفين، ثم افتتح أمره بالعدل والسخاء، وقرَّب إليه أهل العلم والصلاح، وكان يستمع الحديث، وبنى مساجد وزوايا له، وبنى مدينة بأرضه وجعلها عاصمة بلاد الهند، وبنى بها قصرًا وسماه (عبادت خانه) وقسَّمه على أربعة منازل وأمر أن يجتمع فيه علماء البراهمة والنصارى والمجوس وأهل الإسلام، فيجتمعون في ذلك القصر ويتباحثون في الخلافيات بحضرة السلطان، حتى دخل في مجلسه من أهل الشبهات والشهوات كأبي الفيض وصنوه أبي الفضل والحكيم أبي الفتح ومحمد اليزدي، فجعلهم فريقًا لأهل الصلاح فدسُّوا في قلبه أشياء ورغَّبوه عن أهل الصلاح وقالوا: لا ينبغي للسلطان أن يقلِّدَ أحدًا من الفقهاء المجتهدين، فانشرح صدر السلطان، وفتح أبواب الاجتهاد، فجوَّز متعة النساء، ونكاحَ المسلم بالوثنية، حتى اجترأ على الطعن والتشنيع على السلف الصالح، لا سيما الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وأمر بإخراج المشائخ والعلماء من الهند، واجتمع لديه شِرذمة من علماء الوثنيين والنصارى والمجوس ومن أحبار الهنود ومن الشيعة، وكان كل واحد منهم يجتهد أن يرغِّبَه إلى مذهبه، وكانت تحته طائفة من الأميرات الوثنيات بنات ملوك الهند، وصار حوله من يزيِّن له عبادة الأصنام، وتعظيم النار والشمس، فتدرج في الاجتهاد وترقى من الفروع إلى الأصول، وقال بخلق القرآن، واستحالة الوحي، والتشكيك في النبوات، وأنكر الجن، والمَلَك، والحشر والنشر، وسائر المغيبات، وأنكر المعجزات، وجوز التناسُخ، وحرَّم ذبح البقرة، وحطَّ الجزية عن أهل الذمة، وأحلَّ الخمر والميسِر والمحرَّمات الأُخر، وأمر بإيقاد النار في حَرَمِه على طريق المجوس، وأن يعظِّم الشمس وقت طلوعه على طريق مشركي الهند، وقرَّر أن الحق دائر بين الأديان كلها، فينبغي أن يُقتَبَس من كلها أشياء، وكان يسجد للشمس والنار في كل سنة يوم النيروز بالإعلان، وشرع ذلك من سنة خمس وعشرين الجلوسية، ورسم القشقة على جبينه يوم العيد الثامن من شهر سنبله، وربط سلكًا من الجواهر عن أيدي البراهمة تبركًا، وكذلك كان يفعل كلَّ ما يفعله كفار الهند، ويستحسنه ويحرِّض أصحابه على ما فعله، ويحثهم على ترك التقليد، يعني به دين الإسلام، ويهجِّنه ويقول: إن واضِعَه فقراء الأعراب، وأمر أن لا يقرأ من العلوم العربية غير النجوم والحساب والطب والفلسفة، فكان هذا الدين الذي اخترعه مصدرَ كراهيةٍ شديدة له في نفوس أهل الإسلام، حتى انتهى الأمر بهم مرَّةً إلى شق عصا الطاعة علنًا، بل قيل: إن ابنه الأمير جهانكير ثار عليه وأخذ يدبِّر له المكائدَ خُفْية، فحشد جهانكير جيشًا من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرِّخَ القصر وأحبَّ الأصدقاء إلى نفس أبيه، فحَطَّمت قوَّته النفسيَّة وتنكَّر له أبناؤه في أواخر أيامه، ومات الملك أكبر في سكندر آباد قريب آكره، بعد أن حكم أربعين سنة، مات بمرض الديسنتاريا، وقيل: مات مسمومًا بتدبير ابنه جهانكير، ولم يجد من يصلِّي عليه من أنصار أيَّةِ عقيدة أو مذهب ممَّن جمعهم حوله. وفي مطلع القرن العشرين الميلادي عملت إنجلترا على تشجيع مرزا غلام أحمد القادياني في الهند على إحياء ما دعا إليه الملك المغولي جلال الدين محمد أكبر!!
في سادس جمادى الآخرة، فتح أتابك عمادُ الدين زنكي بن آقسنقر مدينةَ الرَّها من الفرنج، وفتَحَ غَيرَها مِن حُصونِهم بالجزيرةِ أيضًا، وكان ضَرَرُهم قد عَمَّ بلادَ الجزيرة وشَرَّهم قد استطار فيها، ووصَلَت غاراتُهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلَغَت آمِدَ ونصيبين ورأسَ عَين والرقَّة، وكانت مملكَتُهم بهذه الديارِ مِن قَريبِ ماردين إلى الفُرات مثل الرَّها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير، وحملين، والموزر، والقرادي، وغير ذلك. وكانت هذه الأعمالُ مع غيرِها ممَّا هو غَرْبَ الفرات لجوسلين، وكان صاحِبَ رأي الفرنجِ والمُقَدَّم على عساكِرِهم؛ لِما هو عليه من الشَّجاعةِ والمكرِ، وكان زنكي يَعلَمُ أنَّه متى قَصَد حَصْرَ الرَّها، اجتمع فيها مِن الفرنجِ مَن يَمنَعُها، فيتعَذَّر عليه مِلكُها لِما هي عليه من الحَصانةِ، فاشتغل بقِتالِ الملوك الأرتقيَّة بديارِ بَكرٍ ليُوهِمَ الفرنجَ أنَّه غيرُ مُتفَرِّغٍ لقَصدِ بلادِهم، فلمَّا رأَوْا أنَّه غيرُ قادر على تَرْكِ الملوك الأرتقيَّة وغيرِهم من ملوكِ ديارِ بَكرٍ، حيث إنَّه محارب لهم، اطمأنُّوا، وفارق جوسلين الرَّها وعبَرَ الفراتَ إلى بلاد الغربية، فجاءت عيونُ أتابك إليه فأخبَرَته فنادى العسكَرَ بالرحيلِ وألَّا يتخَلَّفَ عن الرَّها أحَدٌ مِن غَدِ يَومِه، وجمَعَ الأمراءَ عنده، وقال: قَدِّموا الطعامَ، وقال: لا يأكُلْ معي على مائدتي هذه إلَّا مَن يَطعنُ غدًا معي على بابِ الرَّها، فلم يتقَدَّمْ إليه غيرُ أميرٍ واحدٍ وصَبيٍّ لا يُعرَف؛ لِما يَعلَمونَ مِن إقدامِه وشجاعته، وأنَّ أحدًا لا يَقدِرُعلى مُجاراتِه في الحَربِ، فقال الأميرُ لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقامِ؟ فقال أتابك: دَعْه فواللهِ إنِّي أرى وجهًا لا يتخَلَّفُ عني، وسار والعساكِرُ معه، ووصل إلى الرَّها، وكان هو أوَّلَ مَن حمل على الفرنجِ ومعه ذلك الصبيُّ، وحمَلَ فارِسٌ مِن خَيَّالة الفرنج على أتابك عرضًا، فاعتَرَضه ذلك الأميرُ فطَعَنَه فقَتَلَه، وسَلِمَ الشهيدُ، ونازل البَلَدَ، وقاتله ثمانيةً وعشرين يومًا، فزحَفَ إليه عِدَّةَ دَفعاتٍ، وقَدَّم النقَّابينَ فنَقَبوا سورَ البَلَدِ، وطَرَحوا فيه الحَطَب والنَّارَ فتهَدَّمَ، ودخلها فحاربهم، ولجَّ في قتالِه خَوفًا من اجتماعِ الفرنج والمسيرِ إليه واستنقاذِ البلد منه، فأخذ البَلَدَ عَنوةً وقهرًا، وحَصَرَ قلعةَ الرَّها فمَلَكها أيضًا, فنصَرَ اللهُ المُسلمينَ وغَنِموا غنائِمَ عَظيمةً، وخَلَّصوا أُسارى مُسلِمينَ يَزيدونَ على خمسِمئة. ونهب النَّاسُ الأموالَ وسَبَوا الذُّريَّةَ وقَتَلوا الرجالَ، فلمَّا رأى أتابك زنكي البلدَ أعجَبَه، ورأى أنَّ تَخريبَ مِثلِه لا يجوزُ في السِّياسة، فأمَرَ فنُودِيَ في العساكِرِ برَدِّ مَن أخذوه من الرِّجالِ والنِّساءِ والأطفالِ إلى بُيوتِهم، وإعادةِ ما غَنِموه من أثاثِهم وأمتِعَتِهم، فرَدُّوا الجميعَ عن آخِرِهم لم يُفقَدْ منهم أحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ النَّادِرُ الذي أُخِذَ وفارَقَ مَن أخَذَه العَسكَرُ، فعاد البلدُ إلى حالِه الأوَّلِ، وجعَلَ فيه عسكرًا يَحفَظُه، وكان جمالُ الدين أبو المعالي فضلُ الله بن ماهان رئيسُ حرَّان هو الذي يحُثُّ أتابك في جميعِ الأوقاتِ على أخْذِ الرَّها، ويُسَهِّلُ عليه أمْرَها, ثمَّ رَحَل إلى سروجٍ ففَتَحَها، وهَرَب الفرنجُ منها، وتسَلَّمَ سائِرَ الأماكِنِ التي كانت بيَدِ الفِرنجِ شَرقيَّ الفُراتِ ما عدا البيرةَ؛ فإنَّها حصينةٌ مَنيعةٌ، وعلى شاطئِ الفُراتِ، فسار إليها وحاصَرَها، وكانوا قد أكثَروا مِيرتَها ورِجالَها، فبَقِيَ على حِصارِها إلى أن رحَلَ عنها عندما جاءَه الخبَرُ مِن المَوصِل أنَّ نَصيرَ الدِّينِ جقر نائبه بالموصِلِ قُتِلَ، فخاف عليها، وتَرَك البيرةَ بعد أن قارَبَ أخْذَها, وسار جِهةَ المَوصِلِ، ولَمَّا بلَغَ زنكي خبَرُ قَتْلِ مَن قَتَلَ جقر، سكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلبُه.
هو العلامةُ ضياءُ الدين أبو محمَّد عبد الله بن أحمد المالقي النباتي المعروفُ بابن البيطار، الطبيبُ، ولد في مالقةَ بالأندلس، كان عالمًا بالنبات وصفاتِه ومنافِعِه وأماكِنِه، سافر في البلادِ إلى اليونان والمغرب ومصر وبلاد الشام، وكان كلَّ ذلك يدرس علمَ النبات ويجمع العيِّنات، كان ثقةً فيما ينقُلُه حُجَّةً, وإليه انتهت معرفة النباتِ وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه. كان لا يجارَى في ذلك. سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم. وأخذ فنَّ النبات عن جماعة، وكان ذكيًّا فَطِنًا. قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة: "شاهدت معه كثيرًا من النبات في أماكِنِه بظاهر دمشق. وقرأت عليه تفسيرَه لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجِدُ من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جِدًّا. ثم ذكر الموفَّقُ فَصلًا في براعته في النبات والحشائش، ثم قال: وأعجَبُ من ذلك أنه كان ما يذكرُ دواء إلا ويُعَيِّن في أي مقالة هو في كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة". وكان في خدمة الملكِ الكامِلِ، وكان يَعتَمِدُ عليه في الأدوية المفردة والحشائِش، ثم خَدَمَ بعده ابنَه الملك الصالح. وكان متقدِّمًا في أيامه، حظيًّا عنده. عُيِّنَ في مصر رئيسًا للعشَّابين وأصحاب البسطات, ثم رحل إلى دمشق، ومن أشهر مصنَّفاته: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية،كتاب الأدوية المفردة الذي لم يصنف مثله. وصَفَ فيه لألف وأربعمائة نوع من أنواع النبات والعقاقير بتراكيبها الكيميائية مع ملاحظات دقيقة على طرق الاستخدام في العلاج، وله المغني في الأدوية المفردة والأغذية، وله ميزان الطبيب، وكتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة، فكان ابنُ البيطار يعتبَرُ من أشهر أطباء الأعشاب في عصره، توفِّيَ في دمشق.
هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ الكَبيرُ، الصادِقُ القدوة، العابد الأثَري المتَّبع، عالِم الحفاظ: تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي، صاحب التصانيف المشهورة، ولد سنة 541 بجماعيل, وهي قرية من أعمال نابلس وكان أكبَرَ مِن الشيخ موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي بأربعة أشهر، وهما ابنا خالة، كان إمامًا حافظًا متقنًا مصنفًا ثقة، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وكتب الكثير، وسيرته مذكورة في جزأين، ألفها الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله المقدسي. كان الحافظ عبد الغني ليس بالأبيض بل يميل إلى السمرة، حسن الشَّعر، كثَّ اللحية، واسِعَ الجبين، عظيمَ الخَلقِ، تامَّ القامة، كأنَّ النور يخرج من وجهه. هاجر صغيرًا إلى دمشق بعد الخمسين، فسمع بها ثم ارتحَلَ إلى بغداد فالإسكندرية ثم أصبهان. قال ابن كثير: " كان قدوم الحافظِ وابن خالته الموفَّق مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجِدِ أبي صالح أولًا بدمشق، ثم انتقلوا إلى السفح فعُرِفَت المحلة بهم، فقيل لها الصالحية، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن، وسمع الحديث" قال السبط ابن الجوزي: "كان عبد الغني ورعًا زاهدًا عابدًا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة، كَوِردِ الإمامِ أحمد بن حنبل، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريمًا جوادًا لا يدَّخِرُ شيئا، ويتصَدَّقُ على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يُرَقِّعُ ثوبه ويؤثِرُ بثَمَن الجديد، وكان قد ضَعُف بصره من كثرة المطالعة والبكاءِ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ", وهو أحد أكابر أهل الحديث وأعيان حُفَّاظهم، قال ضياء الدين: "كان شيخُنا الحافظ لا يكاد يُسألُ عن حديث إلا ذكَرَه وبينه، وذكَرَ صِحَّته أو سَقَمَه، ولا يُسأل عن رجلٍ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكُرُ نَسَبَه، فكان أميرَ المؤمنين في الحديث، سمعته يقول: كنتُ عند الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين رجلٍ منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري. فقلتُ: ليس هو فيه. قال: فكَتَبَه في رقعة، ورفَعَها إلى أبي موسى المديني يسألُه، قال: فناولني أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول؟ فقلتُ: ما هو في البخاري، فخَجِلَ الرجُل" وقال ابنه عبد الرحمن: "سمعت بعضَ أهلنا يقول: إنَّ الحافِظَ سُئل: لم لا تقرأُ مِن غير كتاب؟ قال: أخاف العُجبَ". كان مجتهدًا على الطلب، يُكرِم الطلبة، ويُحسِنُ إليهم، وإذا صار عنده طالبٌ يفهَمُ، أمَرَه بالرِّحلةِ، ويفرح لهم بسماع ما يحَصِّلونه. وقَعَت له محن على الاعتقادِ ونُفِيَ إلى مصر بسَبَبِ ذلك فاستقبله فيها أهلُ الحديث وأكرموه. قال ابن كثير: "رحل إلى أصبهان فسَمِعَ بها الكثير، ووقف على مصَنَّف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته في أماكِنَ مِن الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فأبَغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في إزار. ولما دخلَ في طريقه إلى الموصل سَمِع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفيَّةُ بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفًا يترقَّبُ، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديثَ بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلةِ مِن جامع دمشق، فاجتمعَ الناس عليه وإليه، وكان رقيقَ القلب سريع الدمعة، فحصل له قَبولٌ مِن الناس جدًّا، فحَسَده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشِقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجَهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكَلَّم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهَرَ بصَوتِه مهما أمكنه، حتى يشَوِّشَ عليه، فحَوَّل عبد الغني ميعادَه إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدتَه على الكرسيِّ، فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين. وتكلموا معه في مسألةِ العلو ومسألة النزول، ومسألة الحَرفِ والصوت، وطال الكلامُ وظهر عليهم بالحُجَّة، فقال له برغش نائب القلعة: كلُّ هؤلاء على الضلالةِ وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغَضِبَ برغش من ذلك وأمره بالخروجِ من البلد، فارتحل بعد ثلاثٍ إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديثَ بها فثار عليه الفُقَهاءُ بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودُفِنَ بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق". قال تاج الدين الكندي: هو أعلم من الدارقطني والحافظ أبي موسى المديني" ولعبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال، وكتاب أشراط الساعة، وغير ذلك. قال ابن كثير: "وقد هَذَّب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي كتابه الكمال في أسماء الرجال- رجال الكتب الستة- بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوًا من ألف موضع، وذلك الإمام المِزِّي الذي لا يُمارى ولا يُجارى، وكتابه التهذيب لم يُسبَق إلى مثله، ولا يُلحَق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادِرَين في زمانهما في أسماء الرجال حِفظًا وإتقانًا، وسماعًا وإسماعًا وسَردًا للمتون وأسماء الرجال، والحاسِدُ لا يُفلحُ ولا ينال منالًا طائلًا." قال الذهبي: " ولم يَزَل يطلب ويسمَع، ويكتب ويسهر، ويدأب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتقي الله ويتعبد ويصوم، ويتهجد وينشر العلم، إلى أن مات. رحل إلى بغداد مرتين، وإلى مصر مرتين، سافر إلى بغدادَ هو وابن خاله الشيخ الموفق في أول سنة إحدى وستين، فكانا يخرجان معًا، ويذهب أحدهما في صحبة رفيقِه إلى درسه وسماعه، كانا شابَّين مختطَّين- يعني: أول ظهور الشعر في وجهيهما- وخوَّفهما الناس من أهل بغداد، وكان الحافظ مَيلُه إلى الحديث، والموفَّق يريد الفقه، فتفَقَّه الحافظ، وسَمِعَ الموفَّق معه الكثير، فلما رآهما العُقَلاء على التصَوُّن وقلة المخالطة أحبوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا عِلمًا جَمًّا، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، ونزلا أولًا عند الشيخ عبد القادر الجيلي- وكان لا يترك أحدًا ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما النجابة- فأحسن إليهما، ثم مات بعد قدومهما بخمسين ليلة، ثم اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المني". قال موفق الدين: "كان الحافظ عبد الغني جامعًا للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، ورفيقي في طلب العلم، وما كنا نستَبِقُ إلى خير إلَّا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورُزِقَ العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّر, وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيتُ أحدًا أشد محافظة على وقته من أخي". قال الحافظ: "أضافني رجلٌ بأصبهان، فلما تعشَّينا، كان عنده رجلٌ أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يُصَلِّ، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجلٌ شمسي- أي من عبدة الشمس- فضاق صدري، وقلتُ للرجل: ما أضفتَني إلا مع كافر! قال: إنَّه كاتبٌ، ولنا عنده راحة، ثم قمتُ بالليل أصلي، وذاك يستَمِعُ، فلما سمع القرآن تزفَّرَ، ثم أسلَمَ بعد أيَّام، وقال: لَمَّا سمعتك تقرأ، وقع الإسلامُ في قلبي". كان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَه بيده أو بلسانه، وكان لا تأخُذُه في الله لومة لائم. أهرق مرةً خَمرًا، فجَبَذ صاحِبُه السيفَ فلم يَخَف عبد الغني منه، وأخذ السيفَ مِن يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق يُنكِرُ ويكسِرُ الطنابير والشبَّابات, فقد كان لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. قال الضياء قال الحافظ: "كنت يومًا مع عبد الهادي عند حمام كافور، إذا قومٌ كثيرٌ معهم عِصِيٌّ، فخفَّفتُ المشي، وجعلت أقولُ: حسبي الله ونعم الوكيل، فلمَّا صرت على الجسر، لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كَسَرتُ لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر. قال: فإذا فارسٌ يركض، فترجَّلَ، وقبَّل يدي، وقال: الصبيانُ ما عرفوك, وكان قد وضع اللهُ له هيبةً في النفوس". دخل الحافظ على العادل، فقام له، فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ، فقالوا: آمَنَّا بكراماتِك يا حافظ. وذكروا أن العادِلَ قال: ما خِفتُ مِن أحد ما خِفتُ من هذا. فقلنا: أيُّها الملك، هذا رجلٌ فقيه. قال: لَمَّا دخل ما خُيِّلَ إليَّ إلا أنَّه سَبُع. قال الضياء: رأيتُ بخط الحافظ: "والملك العادِلُ اجتمعْتُ به، وما رأيتُ منه إلا الجميل، فأقبل عليَّ وقام لي والتزمني، ودعوتُ له، ثم قلت: عندنا قصورٌ هو الذي يوجِبُ التقصير. فقال: ما عندك لا تقصيرٌ ولا قصورٌ، وذكَرَ أمْرَ السُّنَّة، فقال: ما عندك شيءٌ تعاب به لا في الدين ولا الدنيا، ولا بُدَّ للناس من حاسِدينَ.
وبلغني بعدُ عنه- قاله الضياء- أن العادل قال: ما رأيتُ بالشامِ ولا مصر مثلَ الحافظ؛ دخَلَ عليَّ فخُيِّلَ إليَّ أنه أسد، وهذا ببركة دعائِكم ودعاء الأصحاب. ثم قال الضياء: كانوا قد وغروا عليه صدر العادل، وتكَلَّموا فيه، وكان بعضُهم أرسل إلى العادل يبذُلُ في قتل الحافِظِ خمسة آلاف دينار. قلتُ-الضياء: جرَّ هذه الفتنةَ نَشرُ الحافظ أحاديث النزول والصفات، فقاموا عليه، ورموه بالتجسيم، فما دارى كما كان يداريهم الشيخُ الموفَّق". قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن الطحان، يقول: كان في دولة الأفضَلِ جعلوا الملاهيَ عند الدَّرَج، فجاء الحافِظُ فكسَّرَ شيئًا كثيرا، ثم صَعِدَ يقرأ الحديث، فجاء رسولُ القاضي يأمره بالمشيِ إليه ليناظره في الدفِّ والشبابة، فقال: ذاك عندي حرامٌ، ولا أمشي إليه، ثم قرأ الحديث. فعاد الرَّسولُ، فقال: لا بدَّ مِن المشي إليه، أنت قد بَطَّلتَ هذه الأشياء على السلطان. فقال الحافظ: ضَرَبَ الله رقبَتَه ورقبة السلطان. فمضى الرسولُ وخفنا، فما جاء أحدٌ". مات عبد الغني يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة.
خرج أربعةٌ من رهبان النصارى بمدينة القدس، ودَعَوا الفقهاء لِمناظرتهم، فلما اجتمع الناس لهم جهَروا بالسوء من القول، وصرَّحوا بذم الملة الإسلامية، والإزراء على القائم بها، وأنَّه كذابٌ وساحر، وما الحق إلا في دين عيسى! فقُبِض عليهم وقُتِلوا وحُرقوا بالنار، فكان من الأيام المشهورة بالقدس.
هو أبو المعالي محمد بن الملك العادل، الملقب بالملك الكامل ناصر الدين، ولد سنة 576، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفُّر معرفته، ملك مصر ثلاثينَ سنة، وكانت الطرقاتُ في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسَرُ أحد أن يظلم أحدًا، وكانت له اليد البيضاء في رد ثغرِ دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج، فرابطهم أربعَ سنين حتى استنقذه منهم، وكان يومُ أخْذِه له واسترجاعه إياه يومًا مشهودًا، مع أنه هو من سلم القدسَ مرة أخرى للفرنج بصلحٍ معهم. قال ابن خلكان: "رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معًا ويلعبان بالكرةِ في الميدان الأخضر الكبير كلَّ يوم، ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئًا كثيرًا، ثمَّ وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرفُ عن طاعة الكامل، ووافقَته الملوكُ بأسرها على الخروج على الملك الكامل، ولم يبقَ مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحبِ الكرك؛ فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية. فتحالفوا وتحزَّبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل" لما استراح خاطرُ الملك الكامل من جهة الفرنج تفرَّغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد، وبدَّد شملهم وشَرَّدَهم، ثم دخل إلى القاهرة, وشرع في عمارة البلاد وبنى بها دار حديث ورتَّب لها وقفًا جيدًا، واستخرج الأموال من جهاتها، وكان سلطانًا عظيم القدر جميل الذكر محبًّا للعلماء متمسكًا بالسنة النبوية، حسن الاعتقاد معاشرًا لأرباب الفضائل، حازمًا في أموره، لا يضع الشيءَ إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكانت تبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فنٍّ، وهو معهم كواحد منهم. في سنة 629 قصد آمد، وأخذها مع حصن كيفا من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح, قال ابن خلكان: "لقد رأيتُه بدمشق في سنة 633 عند رجوعه من بلاد الشرق واستنقاذه إياها من يد علاء الدين بن كيخسرو السلجوقي صاحب بلاد الروم، في خدمته يومئذ بضعةَ عشر ملكًا، منهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزَلْ في علو شأنه وعظم سلطانه إلى أن مَرِضَ بعد أخذ دمشق ولم يركَبْ بعدها", وقد تملك الكامل دمشق سنة 635 مدة شهرين بعد وفاة الأشرف صاحبها، ثم أخذته أمراض مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موتُه في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفِّيَ فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجدوه ميتًا، وقيل: بل حدث له زكام، فدخل في ابتدائه إلى الحمام، وصبَّ على رأسه الماء الحار، فاندفعت المراد إلى معدته، فتورم وعرضت له حمى، فنهاه الأطباء عن القيء، وحذروه منه، فاتفق أنه تقيأ لوقته، في آخر نهار الأربعاء حادي عشر شهر رجب، وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع، فنقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، وكان قد عهد لولده العادل- وكان صغيرًا- بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، ولولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الأمراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الأمراء بها.
لَمَّا ثبت الفرنج في دمياط بثُّوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظُم الخطب واشتدَّ البلاء، وندب السلطانُ الملك الكامل الناسَ وفَرَّقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون النَّاسَ لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع الكاملُ في بناء الحور –خيام من جلد أبيض- والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورةِ، وجهَّزَ الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحرِ إلى عكا وبرزوا من مدينةِ دمياط يريدون أخذَ مصرَ والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، واجتمع الناسُ من أهل مصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ونودِيَ بالنفير العام، وألَّا يبقى أحد, وذكروا أن مَلِكَ الفرنج قد أقطع ديارَ مصر لأصحابه, وأنزل الكامِلُ على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين مرادِهم، وسارت الشواني- ومعها حراقة كبيرة- إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأميرُ بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرةُ عن الفرنج من البر والبحر، وقَدِمَت النجدات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدَدَ الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائفُ لا يحصى لهم عدد فلما تكاملَ جمعُهم بدمياط خرجوا منها، وقد زُيِّنَ لهم سوءُ عمَلِهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليكِ البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات من المسلمين هال الفرنجَ ما رأوا، وكان قدومُ هذه النجدات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفًا، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة- سفن حربية ضخمة- وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضًا بثلاث قطائع فتضعضع الفرنجُ لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصُّلحِ.
توفِّيَ الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، صاحب حلب، وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة، وكان القيِّمُ عليه لؤلؤًا الخادم، وكانت أمور رضوان غير محمودة؛ قَتَل أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقِلَّة دينه، وكان الباطنية قد كثُروا بحلب في أيامه، حتى خافهم ابن بديع رئيس حلب، وأعيان أهلها، فلما توفي الملك رضوان قال ابن بديع لألب أرسلان بن رضوان في قَتْل الإسماعيلية والإيقاع بهم، فأمره بذلك، فقَبَض على مُقدَّمِهم أبي طاهر الصائغ، وعلى جميع أصحابه، فقتل أبا طاهر وجماعةً من أعيانهم، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم؛ فمنهم من قصد الفرنج، وتفرقوا في البلاد، وسار أكثرهم إلى دمشق، وتولى تنظيم أمورهم فيها زعيم له اسمه بهرام.
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ شَيخُ الإسلامِ: أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ مُحمَّدِ بنِ الفَضلِ بنِ عليِّ بنِ أحمد بن طاهر القرشي، التيمي، ثم الطلحي، الأصبهاني، المُلَقَّب: بقَوَّام السنة، وُلِدَ سنة 457 ووالدته كانت من ذريَّةِ طَلحةَ بنِ عُبَيد الله التيمي- رضي الله عنه- أحَدِ العَشرةِ المُبشَّرينَ بالجنَّةِ. طَلَب العِلمَ وهو حدَثٌ. قال إسماعيل: "سَمِعتُ مِن عائشةَ- بنتِ الحَسَن الوركانيَّة- وأنا ابنُ أربع سنين"، وقال أبو موسى: "وقد سَمِعَ من أبي القاسِمِ بنِ عليك في سنة إحدى وستين، ولا أعلم أحدًا عاب عليه قولًا ولا فِعلًا، ولا عاندَه أحَدٌ إلَّا ونصَرَه الله، وكان نَزِهَ النَّفسِ عن المطامع، لا يدخُلُ على السَّلاطينِ، ولا على من اتَّصَل بهم، قد أخلى دارًا مِن مِلْكِه لأهلِ العلمِ مع خِفَّةِ ذات يَدِه، ولو أعطاه الرجُلُ الدُّنيا بأسْرِها لم يرتَفِعْ عنده، أملى ثلاثةَ آلاف وخمسمئة مجلس، وكان يُملي على البديهة". وقال الحافِظُ يحيى بن مَندة: "كان أبو القاسم حسَنَ الاعتقادِ، جميلَ الطريقةِ، قليلَ الكلامِ، ليس في وَقتِه مِثلُه". سافر أبو القاسمِ البلادَ وسَمِعَ الكثيرَ وبَرَع في فنون. سَمِعَ بمكة، وجاور سَنَةً، وأملى وصَنَّف، وجَرَّح وعَدَّل، وكان من أئمَّةِ العَربيَّة، وإمامًا في التفسيرِ والحديثِ والفِقهِ، وهو أحَدُ الحُفَّاظ المُتقِنينَ، له تصانيفُ، منها الإيضاحُ في التَّفسيرِ، وله تفسيرٌ بالفارسيَّة، وله دلائِلُ النبُوَّة، وسِيَرُ السَّلَف، والترغيبُ والترهيبُ، وشَرحُ الصَّحيحَينِ، ومات بأصبهان في يومِ عيدِ النَّحرِ.
لم تكن الفتنةُ بين عبد الله وسعود أبناء فيصل بن تركي وليدةَ الساعة بعد وفاة والدهما، بل كانت روحُ التنافس موجودة بينهما من أيام والدهما؛ ولذلك جعل فيصل سعودًا أميرًا على الخَرجِ والأفلاج ومناطق جنوب بلاد العارض، وما أن توفي فيصل حتى ثار سعودٌ على أخيه عبد الله ينازعه في الحكمِ، واتجه إلى عسير ونزل على حكامِها آل عايض يطلب العونَ والمساعدة في حربِه على أخيه بحجَّةِ أنه كان يهينُه ولم يَرْعَ حَقَّه، وحاول عبد الله أن يثني سعودًا عن غرضه، ووعده بأن يلبي له طلبه إذا عاد إلى الرياض، لكِنَّ سعودًا لم ينثنِ عن عزمِه، ولَمَّا لم يجد العون من آل عايض اتجه إلى نجران يستنصِرُ بصاحبها، وهو في الأصل عدو لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك عدو لبيت آل سعود، فوعده بالنصرة، كما وقف مع سعود بن فيصل ضِدَّ أخيه عددٌ من القبائل، منهم العجمان، ويعض قبائل بدو الدواسر، وبنو مرة، وبدو نجران وأميرها الذي ساعده بالمال. وقد حَذَّر علماءُ أئمة الدعوة من هذه الفتنةِ، وأصدروا الفتاوى وبيَّنوا للعامَّةِ والخاصة بغيَ سعود على أخيه عبد الله، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوانِ، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنَّ الجماعةَ فرضٌ على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلامِ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولا تحصل الجماعةُ إلا بالسمع والطاعة لِمَن ولاه الله أمرَ المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العِرباضِ بن ساريةَ، قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفت منها العيونُ،.... الحديث، وقد جمع الله أوائِلَ الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعةِ مَن خرج، وفتح الله لهم الفتوحَ، وجمع الله الناسَ عليهم، وتفهمون أنَّ الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامِكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل، فالذي بايع بايعَ وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايعَ لهم كبارُهم، واجتمع عليه أهلُ نجدٍ باديهم وحاضِرُهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحدٌ منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمرِ المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحدٌ من المسلمين. ونقَضَ البيعة، وتبيَّنَ لكم أمرُه أنه ساعٍ في شَقِّ العصا، واختلافِ المسلمين على إمامهم، وساعٍ في نقض بيعةِ الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91،92] وسعى سعودٌ في ثلاثة أمور كُلُّها مُنكَرة: نَقَض البيعةَ بنفسِه، وفارق الجماعةَ، ودعا الناس إلى نقضِ بيعة الإمام، فعلى هذا يجِبُ قتالُه وقِتالُ من أعانه".
هو أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، ولد سنة 546. كان يذكر أنه من ولد دحية الكلبي، وأنه سبطُ أبي البسام الحسيني الفاطمي. كان بصيرًا بالحديث معتنيًا بتقييده، مكبًّا على سماعه، حسنَ الحَطِّ معروفًا بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ومشاركة في العربية وغيرها. وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكامليَّة بها، وقد كان يتزيد في كلامه، فترك الناس الرواية عنه وكذَّبوه، وقد كان الكامِلُ مقبلًا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي بالقاهرة ودفن بقرافة مصر، قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقنًا لعلم الحديث وما يتعلَّقُ به، عارفًا بالنحو واللغة وأيَّام العرب وأشعارها، اشتغل ببلادِ المغرِب، ثمَّ رحل إلى الشام ثم إلى العراق، واجتاز بإربل سنة 604، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب " التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار، ولي قضاء دانية مرتين، ثم صُرِف عن ذلك لسيرة نُعِتَت عليه، فرحل منها. روى عنه الدبيثي فقال: "كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وأنسة بالحديث، فقيهًا على مذهب مالك، وكان يقول: إنه حفظ " صحيح مسلم " جميعه، وأنه قرأه على بعض شيوخ المغرب من حفظه، ويدعي أشياء كثيرة. قلت (الذهبي): كان صاحب فنون، وله يد طولي في اللغة، ومعرفة جيدة بالحديث على ضعف فيه. قرأت بخط الضياء الحافظ قال: لقيت الكلبيَّ بأصبهان، ولم أسمع منه شيئًا، ولم يعجبني حالُه، وكان كثير الوقيعة في الأئمة، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب، وأن مشايخ المغرب كتبوا له جرحه وتضعيفَه. وقد رأيتُ منه أنا غير شيء ممَّا يدل على ذلك" قال ابن نقطة: "كان موصوفًا بالمعرفة والفضل، ولم أره إلَّا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها. ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - ثقة - قال: نزل عندنا ابنُ دحية، فكان يقول: أحفظ " صحيح مسلم "، و" الترمذي "، قال: فأخذت خمسة أحاديث من " الترمذي "، وخمسة من " المسند " وخمسة من الموضوعات فجعلتها في جزء، ثم عرضتُ عليه حديثًا مِن " الترمذي "، فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه. ولم يعرف منها شيئًا. قلت (الذهبي): ما أحسن الصدق، لقد أفسد هذا المرءُ نَفسَه". قال ابن كثير: وقد تكلَّمَ الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضعِ حديثٍ في قَصرِ صلاة المغرب، ولابن دحية مصنفات منها: المطرب في أشعار أهل المغرب، ونهاية السول في خصائص الرسول، والنبراس في خلفاء بني العباس، وغيرها.
لما ملك شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك، واستقلَّ بممالك العجَم وعراقة، وعظُمَ أمرُه وهابَتْه الملوك، وحُمِدَت سيرته، وشُكِرت أفعالُه، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطن الملك الأشرف برسباي، طلب شاه رخ أن يكسو البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنَّه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرف برسباي إلى كلامه، ورد قُصَّاده إليه بالخيبة. ثم أرسل بعد ذلك شاه رخ بجماعة أُخرى وزعم أنهم أشراف، وعلى يدِهم خلعة للملك الأشرف برسباي، فجلس الأشرف مجلسًا عامًّا للحكم بالإصطبل السلطاني على عادة الملوك، ثم طلب القصَّاد رسل شاه رخ، فحضروا ومعهم الخِلعة، فأمر بها الأشرف فمُزِّقت الخلعة شذَرَ مذَرَ، ثم أمر بضرب حامِلِها عظيم القصَّاد، فضُرِبَ بين يديه ضربًا مُبَرِّحًا أشرف منه على الهلاك، ثم ضَرَب الباقين، ثم أمر بهم فأُلقوا في فسقية ماء بالإصطبل السلطاني منكوسين، رؤوسُهم إلى أسفل وأرجلهم إلى فوق، والأوجاقية تمسِكُهم بأرجلهم، واستمرُّوا يغمسِونَهم في الماء حتى أشرفوا على الهلاكِ، ولا يستجرئُ أحد من الأمراء يشفَعُ فيهم ولا يتكلَّم؛ لشدة غضب السلطان في أمرِهم بكلمةٍ واحدة، والسلطان يسبُّ شاه رخ جهارًا، ويحطُّ من قَدْره، على أنه كان قليلَ الفحش والسبِّ لآحاد الناس، وصار لونُه يتغير لعِظَمِ حَنَقِه، ثم طلب القصَّادَ بين يديه، وحدَّثَهم بكلام طويل، محصولُه أنه قال لهم: قولوا لشاه رخ: الكلامُ الكثيرُ ما يصلحُ إلا من النساء، وأما الرجالُ فإن كلامهم فعلٌ، لا سيما الملوك، فإن كان له مادة وقوَّة فيتقَدَّم ويسير نحوي، وأنا ألقاه حيث شاء، وإن كان بعد ذلك ما ينتجُ منه أمرٌ فكلامُه كله فشارٌ، وهو أفشَرُ من كلامه، وكتب له بأشياءَ من هذا المعنى، وانفَضَّ الموكب، فتحققَّ كل واحد بمجيء شاه رخ إلى البلاد الشاميَّةِ، وقاسوا على أنَّه ما أرسل هذه الخِلعةَ إلا وهو قد تهيأ للقتال، وقد أفحش الأشرفُ أيضًا وأمعن في الجوابِ. فلما بلغ القان شاه رخ ما فعل الأشرف بقصَّاده، ما زاده ذلك إلا رعبًا، وسكت عن كسوةِ الكعبة، ولم يذكُرْها بعد ذلك إلى أن مات الملِكُ الأشرف، وآل المُلكُ إلى الملك الظاهر جقمق، فبعث شاه رخ رسُلَه إلى الملك الظاهر بهدايا وتُحَف، وأظهر السرورَ الزائد بسلطنته، وأنَّه لما بلغه سلطنة الملك الظاهر جقمق دُقَّت البشائر بهراة، وزُيِّنت له أيامًا، فأكرم الملك الظاهر جقمق قصَّاده وأنعم عليهم، ثم بعث السلطان إليه في الرسلية الأمير ششك بغا دوادار السلطان بدمشق، فتوجَّه إليه وعاد إلى السلطان الملك الظاهر جقمق بأجوبة مرضية. ثم بعد ذلك في سنة 846، أرسل شاه رخ يستأذِنُ في إرسال ما نذر قديمًا أنه يكسو الكعبة، فأذِنَ له السلطان الملك الظاهر جقمق في ذلك، فأرسل شاه رخ بعد ذلك كسوةً للكعبة. فصعب ذلك على الأمراء وعلى أعيان الديار المصريةِ، فلم يلتفِت السلطانُ لكلامهم، وأمر أن يأخُذَها ناظِرُ الكسوة بالقاهرة، ويبعَثَها كي تلبسَ من داخل البيت، وتكون كسوةُ السلطان من خارج البيت على العادةِ، قال ابن تغري بردي: "رأيتُ أنا الكسوةَ المذكورة، وما أظنُّها تساوي ألف دينار".
هو السُّلطانُ الكبير، أبو يعقوبَ يوسفُ بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب, تمَلَّك بعد أخيه المخلوع محمد بن علي؛ لطَيشِه، وشُربِه الخمر، فخُلِعَ بعد شهر ونصف، وبُويع أبو يعقوب، وكان شابًّا مليحًا، أبيض بحُمرة، مستديرَ الوجه، أفوَهَ، أعيَنَ، تامَّ القامة، حُلوَ الكلام، فصيحًا، حُلوَ المفاكهةِ، عارفا باللغة والأخبار والفِقه، متفنِّنًا، عاليَ الهمة، سخيًّا، جوادًا، مَهيبًا شجاعًا، خليقًا للمُلك. قال عبد الواحد بن علي التميمي: "صحَّ عندي أنَّه كان يحفَظُ أحد (الصحيحين)، أظنُّه البخاري", وكان فقيهًا، يتكلم في المذاهب، ويقول: قولُ فلان صواب، ودليلُه من الكتاب والسنة كذا وكذا. نظر في الطبِّ والفلسفة، وجمع كُتُب الفلاسفة، وتطَلَّبَها من الأقطار، وكان يصحَبُه أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف، فكان لا يصبِرُ عنه. قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي: "لما دخلتُ على أبي يعقوب وجدتُه هو وابن طفيل فقط, فأخذ ابنُ طفيل يطريني، فكان أوَّلَ ما فاتحني أن قال: ما رأيُهم في السماء؟ أقديمةٌ أم حادثة؟ فخِفتُ، وتعَلَّلتُ، وأنكرتُ الفلسفة، ففَهِمَ، فالتفَتُّ إلى ابنِ طفيل، وذكرَ قول أرسطو فيها، وأورد حُجَجَ أهل الإسلام، فرأيتُ منه غزارة حِفظٍ لم أكن أظنُّها في عالِم، ولم يَزَلْ يبسطني، حتى تكَلَّمتُ، ثم أمر لي بخِلعةٍ ومال ومركوب". قال عبد الواحد: "لما تجهَّز أبو يعقوب لغزوِ الروم، أمَرَ العلماء أن يجمعوا أحاديثَ في الجهاد تُملى على الجند، وكان هو يُملي بنفسه، وكبارُ الموحدين يكتبونَ في ألواحهم". وكان يَسهُلُ عليه بذل الأموال لسَعةِ الخراج، فقد كان يأتيه من إفريقيَّةَ في العام مائة وخمسون وقرَ بغل, كان سديد الملوكيَّة، بعيدَ الهمَّة، جوادًا، استغنى الناسُ في أيامه. وزر له أخوه عمر أيامًا، ثم رفَعَ منزلته عن الوزارة، وولى إدريسَ بنَ جامع، إلى أن استأصله، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تولى السلطة بعده، وكان له مِن الولد ستة عشر ابنًا. قال ابن خلكان: "كان يوسفُ فقيهًا حافظًا متقنًا؛ لأن أباه هَذَّبه وقرن به وبإخوتِه أكمَلَ رجال الحرب والمعارف، فنشؤوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسانِ، وفي قراءةِ العلم بين أفاضِلِ العلماء, وكان ميلُه إلى الحكمة والفلسفة أكثَرَ مِن ميله إلى الأدب وبقيَّة العلوم، وكان جمَّاعًا منَّاعًا ضابطًا لخراجِ مملكته عارفًا بسياسة رعيته، وكان ربما يحضُرُ حتى لا يكادُ يغيبُ، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نُوَّاب وخلفاء وحكام قد فوَّضَ الأمور إليهم؛ لِمَا علم من صلاحِهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبةٌ إليه. فلما مُهِّدَت له الأمورُ واستقَرَّت قواعِدُ مُلكِه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالحِ دولته وتَفقُّد أحوالها. ثم استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج". دخل الأندلسَ في سنة سبع وستين للجهاد، وهو يضمِرُ الاستيلاء على باقي الجزيرة، فجهَّزَ الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش صاحِبِ مرسية، فالتقوا بقرب مرسية، فانكسر محمَّد، ثم ضايقه الموحِّدون بمرسية مدة، فمات، وأخذ أبو يعقوب بلاده، ثم سار فنازل مدينةَ وبذى، فحاصر فيها الفرنجَ أشهُرًا، وكادوا أن يسلِّموها من العَطَشِ، ثم استُسقُوا فسُقُوا، وامتلأت صهاريجُهم، فرحل بعد أن هادَنَهم، وأقام بإشبيليَّةَ سنتين ونصفًا، ودانت له الأندلس، ثم رجع إلى السوس، وفي سنة خمس وسبعين سار حتى أتى مدينةَ قفصة، فحاصرها، وقبضَ على ابن الرند. وهادَنَ صاحب صقلية، على أن يحمِلَ كُلَّ سنة ضريبة على الفرنج، وفي سنة تسع وسبعين استنفَرَ أهلَ السهل والجبل والعرب، فعَبَرَ إلى الأندلس، وقصد شنترين بيد ابن الريقِ فحاصر فيها الفرنجَ مُدَّةً، وجاء البرد، فقال: غدًا نترحل. فكان أوَّلَ من قَوَّض مخيمَه عليُّ بن القاضي الخطيب، فلما رآه الناسُ، قوَّضوا أخبيتهم، فكَثُر ذلك، وعَبَرَ ليلتئذ العسكر النهر، وتقدموا خوف الازدحام، ولم يَدْرِ بذلك أبو يعقوب، وعَرَفَت الروم، فانتهزوا الفرصةَ، وبرزوا، فحَمَلوا على الناس، فكشفوهم، ووصلوا إلى مخيَّم السلطان، فقُتِلَ على بابه خلقٌ من الأبطال، وخُلِصَ إلى السلطان، فطُعِنَ تحت سُرَّتِه طعنةً مات بعد أيام منها، وتدارك الناسُ، فهزموا الرومَ إلى البلد، وهرب الخطيبُ، ودخل إلى صاحِبِ شنترين، فأكرمه، واحترمه، ثم أخذ يكاتِبُ المسلمين، ويدلُّ على عورة العدو، فأحرقوه. ولما طُعِنَ أبو يعقوب ساروا به ليلتين، ثم توفِّي، فصُلِّيَ عليه، وصُيِّرَ في تابوت، ثم بعث إلى تينمل، فدُفِنَ مع أبيه، وابن تومرت. مات في سابع رجب، وكانت مدَّة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا، ومات عن غيرِ وصية بالمُلك لأحد من أولاده، فاتَّفَق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليكِ ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فمَلَّكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه؛ لئلا يكونوا بغيرِ مُلكٍ يَجمَعُ كَلِمتَهم لقُربِهم من العدُوِّ.