بعد وفاةِ الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب قَدِمَ ابنُه المعظَّم توران شاه, وكان في حصنِ كيفا، فسار من حصنِ كيفا إلى دمشق، لإحدى عشرةَ ليلةً مضت من شهر رمضان، فنزل عانةً في خمسين فارسًا من أصحابه، يوم الخميس النِّصفَ من شهر رمضان وخرج منها يوم الأحدِ يريد دمشق على طريقِ السماوة في البرية فنَزَل القصيرَ في دهليز ضربه له الأميرُ جمال الدين موسى بن يغمور نائب دمشق يوم الجمعة لليلتين بَقِيَتا من شهر رمضان، ودخل المعظَّم توران شاه من الغد - وهو يوم السبتِ آخره - إلى دمشقَ، ونزل بقلعتِها، فكان يومًا مشهودًا وأفرَجَ عَمَّن كان بدمشق في حَبسِ أبيه، وأتته الرسلُ مِن حَماة وحَلَب تهنئه بالقدوم، ولأربع مضينَ من شوال سقطت البطائقُ إلى العسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظَّم إلى دمشق وسلطته بها فضُرِبَت البشائر بالمعسكر وبالقاهرة، وسار السلطانُ توران شاه من دمشق يوم الأربعاء السابع عشر يريدُ مِصرَ، وقَدِمَ معه القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان مقيمًا بدمشقَ عند الأمير جمال الدين، وقَدِمَ معه أيضًا هبة الله بن أبي الزهر بن حشيش الكاتب النصرانيُّ، وقد وعده السلطان بوزارة مصر، فأسلم وتلقَّب بالقاضي مُعين الدين، وعندما تواترت الأخبارُ في القاهرة بقدوم السلطان، خرج قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلَقِيَه بغزة وقَدِمَ معه وخرج الأميرُ حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان إلى الصالحية، فلقيه بها يوم السبت لأربع عشرة ليلة بَقِيَت من ذي القعدة، ونزل السلطان المعظم توران شاه في قصر أبيه، ومنه يومئذٍ أعلن بموتِ الملك الصالحِ نجم الدين أيوب ولم يكنْ أحدٌ قبل هذا اليوم ينطق بموتِه، بل كانت الأمور على حالها، فتسَلَّم السلطان المعظم مملكةَ مصر، ثم إنه رحل من الصالحية ونزل تلبانة، ثم نزل بعدها منزلة ثالثةً، وسار منها إلى المنصورة، وقد تلقَّاه الأمراء المماليك، فنزل في قصرِ أبيه وجَدِّه يوم الخميس لتسعٍ بَقِينَ من ذي القعدة، فأوَّل ما بدأ أن أخذ مماليكَ الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار بدون القيمة، ولم يعطِ ورثته شيئًا، وكان ذلك بنحوِ الخمسة عشر ألف دينار، وأخذ يسُبُّ فخر الدين ويقول: أطلق السكَّر والكتان، وأنفِقِ المال وأطلق المحابيسَ إيش ترك لي.
هو أبو الفَتحِ مَودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الغزنويُّ، صاحِبُ غزنة، لَمَّا ملَكَ مودودٌ قَبَض على عمِّه عبدِ الرَّشيدِ بنِ محمود وسَجَنَه في قلعة ميدين، بطريقِ بست، وكاتَبَ أصحابَ الأطرافِ ودعاهم إلى نُصْرَتِه، وبذل لهم الأموالَ والإمرةَ على بلادِ خُراسان فأجابوه، منهم: أبو كاليجار صاحِبُ أصبهان، فإنَّه سار بجيوشِه في المفازة فهلك كثيرٌ مِن عسكره، ومَرِضَ هو ورجع، ومنهم خاقان التُّرك فإنَّه أتى ترمذ فنهَبَ وخَرَّب وصادَرَ، وسار مودودٌ مِن غزنة فاعتراه قولنج، فرجع وبَعَث وزيرَه لأخذ سجستان من الغز، وكان مَوتُه بغزنة, ومُدَّةُ مُلكِه تِسعَ سنين وعشرة أشهر،، ثم قام في المُلكِ بعده ولَدُه، فبقي خمسة أيام ثمَّ عَدَل النَّاسُ عنه إلى عَمِّه علي بن مسعود، فنزل عبدُ الرشيد إلى العَسكَرِ ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة، فلمَّا قارَبَها هرب عنها عليُّ بنُ مسعود، ومَلَك عبد الرشيد، واستقَرَّ الأمر له، ولُقِّبَ شمس دين الله سيف الدَّولة، وقيل جمال الدَّولة، ودفع اللهُ شَرَّ مودود عن داود.
لمَّا رجَع خالدُ بنُ الوليدِ مِن هَدْمِ العُزَّى بعَثهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جَذيمَةَ داعِيًا إلى الإسلامِ لا مُقاتِلًا, فخرَج في ثلاثمائةٍ وخمسين رجلًا مِنَ المُهاجرين والأنصارِ وبني سُليمٍ، فانتهى إليهم فدَعاهُم إلى الإسلامِ فلم يُحسِنوا أن يَقولوا: أَسلَمْنا، فجعلوا يَقولون: صَبَأْنا، صَبَأْنا. -فحملها خالد على أنها سُخرية بالإسلام لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم صبأ تعييرا له- فجعَل خالدٌ يَقتُلُهم ويَأْسِرُهُم, ودفَع إلى كُلِّ رجلٍ ممَّن كان معه أَسِيرًا، فأمَر يومًا أن يَقتُلَ كُلُّ رجلٍ أَسِيرَهُ, فأبى ابنُ عُمَرَ وأصحابُه حتَّى قَدِموا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكَروا له، فرفَع صلى الله عليه وسلم يَديهِ وقال: (اللَّهمَّ إنِّي أَبْرَأُ إليك ممَّا صنَع خالدٌ) مَرَّتين. وكانت بنو سُليمٍ هُم الذين قَتَلوا أَسْراهُم دون المُهاجرين والأنصارِ, وبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علِيًّا, فَوَدَى لهم قَتلاهُم وما ذهَب منهم.
هو العبَّاسُ بن عبدِ المُطَّلِب بن هاشمِ بن عبدِ مَنافٍ، أبو الفَضلِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن أكابرِ قُريشٍ في الجاهِليَّةِ والإسلامِ، وجَدُّ الخُلفاءِ العبَّاسيِّين رضِي الله عنه. كان مُحسِنًا لِقومِه، سَديدَ الرَّأيِ، واسعَ العَقلِ، مُولَعًا بإعْتاقِ العَبيدِ، كارِهًا للرِّقِّ، اشْتَرى 70 عبدًا وأَعتَقَهم، وكانت له سِقايةُ الحاجِّ، وعِمارةُ المسجدِ الحرامِ -وهي أن لا يَدَعَ أحدًا يَسُبّ أحدًا في المسجدِ ولا يَقولُ فيه هَجْرًا- أَسلَم قبلَ الهِجرَةِ وكتَم إسلامَه، وأقام بمكَّةَ يَكتُب إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبارَ المشركين، ثمَّ هاجَر إلى المدينةِ، وشَهِدَ وَقعةَ "حُنين" فكان ممَّن ثبَت حين انْهزَم النَّاسُ، وشَهِدَ فَتحَ مكَّةَ، وعَمِيَ في آخرِ عُمُرِهِ، وكان إذا مَرَّ بعُمَرَ في أيَّام خِلافَتِه تَرَجَّلَ عُمَرُ إجلالًا له، وكذلك عُثمانُ، وكانت وَفاتُه في المدينةِ عن عشرةِ أولادٍ ذُكورٍ سِوَى الإناثِ، وله في كُتُبِ الحديثِ 35 حديثًا تَقريبًا، وإليه تُنْسَبُ الدَّولةُ العبَّاسيَّة التي حَكَمت ما يَزيد عن خمسةِ قُرونٍ.
لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو السلجوقي بن صاحب ملطية وسيواس - وإنما قيل له ابن الدانشمند -معنى الدانشمند المعلم- لأن أباه كان معلمًا للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى مَلضك، وهو صاحِبُ ملطية وسيواس وغيرهما- بيمند الفرنجي، وهو من مقدَّمي الفرنج، قريبَ ملطية، وكان صاحبُها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسةِ آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأُسِر. ثم وصل من البحر سبعةُ قمامصة -كبار القساوسة- من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقَتَلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعًا كثيرًا، ولقي الفرنجَ، وجعل له كمينًا، وقاتلهم، وخرج الكمينُ عليهم، فلم يُفلتْ أحد من الفرنج -وكانوا ثلاثمائة ألف- غيرُ ثلاثة آلاف، هربوا ليلًا وأفلتوا مجروحين. وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقِيَهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
هو العلَّامة أبو الحُسَين أحمدُ بنُ محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان الحنفيُّ الفقيهُ البغدادي المشهورُ بالقُدوري. ولِدَ ببغداد سنة 362. قال أبو بكر الخطيب: "لم يحدِّثْ إلَّا شيئًا يسيرًا، وكان صَدوقًا، انتهت إليه بالعراقِ رياسةُ أصحابِ أبي حنيفة، وعَظُم عندهم قَدرُه وارتفع جاهُه، وكان حسَنَ العبارةِ في النَّظَرِ، جريءَ اللسان، مُديمًا للتلاوة"، وهو مُصَنِّف مُختَصَر القُدوري في فقه الحنفيَّة، ويُعتَبَر من أشهَرِ المُختَصَرات في الفقهِ الحَنَفي، وشَرَح مُختَصَر الكَرخيِّ في عدَّة مجلدات، وأملى التجريدَ في الخلافيَّات سنة خمس وأربعمِئَة، وأبان فيه عن حِفظِه لِما عند الدارقطني من أحاديثِ الأحكام وعِلَلِها، وصَنَّف كتابَ التَّقريب الأوَّل في الفقهِ في خلافِ أبي حنيفة وأصحابِه في مجلد، والتَّقريب الثاني في عِدَّة مجلدات. قال ابنُ كثير عنه: "كان إمامًا بارعًا عالِمًا، وثَبتًا مناظِرًا، وهو الذي تولَّى مناظرةَ الشَّيخِ أبي حامدٍ الإسفرايينيِّ مِن الحنفيَّة" كانت وفاتُه ببغداد في الخامِسِ مِن رجب وله ستونَ سنة, ودُفِنَ إلى جانب الفقيه أبي بكرٍ الخوارزميِّ الحنَفيِّ.
وصلت عساكِرُ مِصرَ العُبَيديَّة إلى حَلَب في جمعٍ كثيرٍ فحَصَروها، وبها مُعِزُّ الدَّولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي، فجمع جمعًا كثيرًا بلغوا خمسةَ آلاف فارس وراجل، فلمَّا نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قِتالًا شديدًا صبَرَ فيه لهم إلى الليل، ثم دخل البلدَ، فلمَّا كان الغد اقتتلوا إلى آخِرِ النهار، وصبر أيضًا ثمال، وكذلك أيضًا اليوم الثالث، فلما رأى المصريُّونَ صَبْرَ ثمال، وكانوا يظنُّونَ أنَّ أحدًا لا يقوم بين أيديهم رحلوا عن البلد، فاتَّفَق أن جاء مطر عظيمٌ تلك الليلة لم يَرَ النَّاسُ مثله، وجاءت المدودُ إلى منزل، فبلغ الماءُ ما يقارب قامتين، ولو بَقُوا لغرقوا، لكنهم رحلوا إلى الشامِ الأعلى.
كان أهلُ العبث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت، وفِعلِ ما أرادوا، فإذا نُهوا لم ينتهوا، فلما كان الآن تقدمَ المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور، منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره، وحبسهم في ربيع الآخر، وقال: أنتم الذين أطمعتم المفسدين حتى فعلوا هذه الفِعال، ولو أردتم منعهم لامتنعوا، وقتل من أهل الفساد جماعةً، فخربت نيسابور بالكلية، ومن جملة ما خُرِّبَ مسجدُ عقيل، كان مَجمَعًا لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافعِ نيسابور، وخُرِّب أيضًا من المدارس ثماني مدارس للحنفية، وسبع عشرة مدرسة للشافعية، وأُحرق خمسُ خزائن للكتب، ونُهِب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان.
هو السلطانُ الملك الناصر، ناصر الدين أبو الفتح محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وُلِدَ الملك الناصر سنة 684، وكان قد أقيمَ النَّاصِرُ في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة 693، وعُمُرُه تسع سنين ثمَّ خُلِعَ في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وأُرسِلَ إلى الكرك, ثمَّ أعيد إلى المُلكِ ثانيًا وعمره خمس عشرة سنة، فأقام في المُلك إلى سنة 708، وخرج يريدُ الحَجَّ، فتوجه إلى الكرك متبرمًا من سلار وبيبرس الجاشنكير أستاذ الدار وحَجْرِهما عليه ومَنْعِهما له من التصَرُّف، فأعرض الناصِرُ عن مصر، فوثب الجاشنكير على السلطنة وتسلطَنَ، ثم اضطربت أموره، وقَدِمَ الناصر من الشام إلى مصر، فمَلَكَ مَرَّةً ثالثة في شوال سنة 709 واستبَدَّ الناصر من حينئذ بالأمرِ مِن غير معارضٍ مدة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يومًا، كانت له فيها سِيَرٌ وأنباء، وكان الناصِرُ أطولَ ملوك زمانه عُمُرًا وأعظَمَهم مهابةً, ودانت له البلادُ ومَلَك الأطرافَ بالطاعة، لما زاد مرض السلطان بالإسهال وخارت قواه، أشار عليه بعضُ الأمراء أن يَعهَدَ بالمُلكِ إلى أحد أولادِه، فأجاب إلى ذلك فجعل ابنَه أبا بكر سلطانًا بعده، وأوصاه بالأمراءِ، وأوصى الأمراءَ به، وعَهِدَ إليهم ألا يُخرِجوا ابنَه أحمد من الكَركِ وحَذَّرَهم من إقامته سُلطانًا، وجعل قوصون وبشتاك وصِيَّيه، وإليهما تدبيرُ ابنِه أبي بكر وحلَّفَهما، ثمَّ حَلَّفَ السلطانُ الأمراءَ والخاصكية، وأكَّدَ على ولده في الوصيَّة بالأمراء، وأفرج عن الأمراءِ المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء، فبات السلطانُ ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخَلَّت عنه قوته، وأخذ في النزعِ يوم الأربعاء، فاشتَدَّ عليه كَربُ الموتِ حتى مات أول ليلة الخميس الحادي عشر من ذي الحجة، وله من العُمُرِ سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرًا وخمسة أيام, ودُفِنَ بالمدرسة المنصورية بين القصرين، أما السلطان الجديد فلقَّبَه الأمراء الأكابِرُ بالملك المنصور، وجَلَسوا حوله، واتَّفَقوا على إقامة الأمير سَيفِ الدين طقزدمر الحموي- زوج أمه- نائِبَ السُّلطةِ بديار مصر، وأن يكون الأميرُ قوصون مدبِّرَ الدولة ورأس المشورة، ويشارِكه في الرأي الأميرُ بشتاك.
يقول ابن بشر: "كانت هذه البلدةُ -الدِّرعية- أقوى البلادِ، وقوَّةُ أهلها وكثرةُ رجالهم وأموالهم لا يحصيه التَّعداد، فلو ذهبت أعددُ أحوالهم وإقبالَهم فيها وإدبارَهم في كتايب الخيل والنجايب العمانيات، وما يدخلُ على أهلها من أحمالِ الأموالِ مِن سائر الأجناس التي لهم مع المسافرينَ منهم، ومن أهل الأقطار- لم يسَعْه كتاب، ولرأيت العجَبَ العجاب، وكان الداخِلُ في موسمها لا يفقد أحدًا من أهل الآفاقِ مِن اليمن وتهامة والحجاز وعمان، والبحرين وبادية الشام والعراق، وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاقِ ممن يطول عَدُّه، هذا داخِلٌ فيها وهذا خارجٌ منها، وهذا مستوطِنٌ فيها، وكانت الدورُ لا تُباعُ فيها إلا نادرًا، وأثمانُها سبعة آلاف ريال وخمسة آلاف، والداني بألف ريال، وأقل وأكثر، وكلُّ شيء يقدره على هذا التقدير من الصغير والكبير، وكروة الدكان الواحد بلغت في الشَّهرِ الواحد خمسةً وأربعين ريالًا، وكروة الدكان الواحد من سائر الدكاكين بريالٍ في اليوم، والنازل بنصفٍ، وذُكر لي: أن القافلة من الهدم -الملابس- إذا أتت إليها بلغَت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة أريُل، وأراد رجلٌ منهم أن يوسِّعَ بيته ويعمره فاشترى نخلاتٍ تحت هذا البيت يريدُ قطعها ويعمر موضِعَها، كل نخلة بأربعين ريالًا أو خمسين ريالًا، فقطع النخل وعمر البيت، ولكِنَّه وقع عليه الهدم قبل تمامِه، وذَكر لي من أثقُ به أن رجلًا من أهل الدرعية قال له: إني أردت ميزابًا في بيتي فاشتريتُ خشبة طولها ثلاثة أذرع بثلاثة أريُل، وأجرة نَجْره وبِناه ريال, وكان غلاء الحطب فيها والخشب إلى حدِّ الغاية، حتى قيل: إنَّ حملَ الحطب بلغَ خمسة أريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال، وكل غالبِ بيوتها مقاصير، وقصور كأنَّ ساكنيها لم يكونوا من أبناء ساكني القبور، فإذا وقفْتَ في مكان مرتفع ونظرت موسمها وكثرة ما فيها من الخلائق وتزايلهم فيه وإقبالهم وإدبارهم، ثم سمعتُ رنَّتَهم فيه ونجناجهم فيه، إذا كأنه دويُّ السيل القوي إذا انصَبَّ من عالي جبل، فسبحان من لا يزولُ مُلكُه ولا يُضامُ سُلطانُه ولا يُرامُ عِزُّه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] "
انْتدَب ثلاثةٌ مِن الخَوارجِ، وهُم: عبدُ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ المُراديُّ، والبَرْكُ بن عبدِ الله التَّميميُّ، وعَمرُو بن بكرٍ التَّميميُّ، فاجتمعوا بمكَّةَ، فتَعاهَدوا وتَعاقَدوا لَيَقْتُلَنَّ هؤلاء الثَّلاثةُ: عَلِيَّ بن أبي طالبٍ رضِي الله عنه، مُعاويةَ بن أبي سُفيانَ، وعَمرَو بن العاصِ، ويُريحوا العِبادَ منهم، فقال ابنُ مُلْجِمٍ: أنا لِعَلِيٍّ. وقال البَرْكُ: أنا لِمُعاويةَ، وقال الآخرُ: أنا أَكْفِيكُم عَمْرًا، فتَواثَقوا أن لا يَنكُصوا، واتَّعَدوا بينهم أن يَقَعَ ذلك ليلةَ سبعَ عشرةَ مِن رمضانَ، ثمَّ تَوجَّه كلُّ رجلٍ منهم إلى بلدٍ بها صاحِبُه، فقَدِمَ ابنُ مُلْجِمٍ الكوفةَ، وبَقِيَ ابنُ مُلْجِمٍ في اللَّيلةِ التي عزَم فيها على قَتْلِ عَلِيٍّ يُناجي الأشعثَ بن قيسٍ في مَسجدِه حتَّى طلَع الفجرُ، فقال له الأشعثُ: ضَحِكَ الصُّبحُ، فقام وشَبِيبٌ فأخَذا أَسْيافَهُما، ثمَّ جاءا حتَّى جلَسا مُقابِلَ السُّدَّةِ التي يَخرُج منها عَلِيٌّ، فضرَب عَلِيًّا بسَيْفِه المَسمومِ على رَأسِه، فلمَّا قُتِلَ أَخَذوا عبدَ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ وعَذَّبوهُ فقَتَلوهُ. وكانت مُدَّةُ خِلافةِ عَلِيٍّ خمسَ سنين، فجَزاهُ الله عن المسلمين خيرًا، ورضِي عنه وأَرضاهُ، وهو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ.
كان أَمرُ الدَّعوة العَبَّاسِيَّة قد اسْتَفحَل خِلالَ السَّنوات الماضِيَة وقَوِيَ أَمرُها جِدًّا في خُراسان وما حولها، حتَّى بَدأَت البُعوثُ تَسيرُ إلى العِراق فخَرَج مَرْوان بن محمَّد بِجَيشٍ إليهم مِن حَرَّان حتَّى بلَغ الزَّاب وحَفَر خَندقًا وكان في عِشرين ومائة ألف، وسار أبو عَوْن وهو القادِمُ إلى العِراق للدَّعوة العَبَّاسِيَّة إلى الزَّاب، فوَجَّه أبو سَلمَة إلى أبي عَوْن عُيينَة بن موسى، والمِنْهالِ بن فَتَّان، وإسحاق بن طَلحَة، كُلُّ واحدٍ في ثلاثةِ آلاف، فعَبَر عُيينَة بن موسى في خَمسةِ آلاف، فانْتَهى إلى عَسكرِ مَرْوان، فقاتَلَهم حتَّى أَمْسَوا، ورَجَع إلى عبدِ الله بن عَلِيٍّ وأَصبحَ مَرْوان فعَقَد الجِسرَ وعَبَر عليه، فنَهاهُ وُزراؤهُ عن ذلك، فلم يَقبَل وسَيَّرَ ابنَه عبدَ الله، فنَزَل أَسفلَ مِن عَسكرِ عبدِ الله بن عَلِيٍّ، فبَعَث عبدُ الله بن عَلِيٍّ المُخارِقَ في أَربعةِ آلاف نحو عبدِ الله بن مَرْوان، فسَرَّح إليه ابنُ مَرْوان الوَليدَ بن مُعاوِيَة بن مَرْوان بن الحَكَم، فالْتَقَيا، فانْهزَم أصحابُ المُخارِق وثَبت هو فأُسِرَ هو وجَماعَة وسَيَّرَهم إلى مَرْوان مع رُؤوسِ القَتلى، وأَرسَل مَرْوان إلى عبدِ الله يَسأَله المُوادَعَة فلم يَقبَل ثمَّ حَصَل قِتالٌ بينهم كانت فيه هَزيمةُ مَرْوان ومَن معه وَفَرَّ مَرْوان إلى حَرَّان.