أمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جامِعِه في موقع كنيسة بيزنطة القديمة التي دمَّرها الصليبيون أثناء الحملة الصليبية الرابعة، وسمي الجامعُ باسم جامع الفاتح نسبةً إليه، وأمر كذلك أن يُبنى بجانب مسجده ثماني مدارس، على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسَّطُها صَحنٌ فسيح، وفيها يقضي الطالبُ المرحلة الأخيرة من دراسته، وأُلحقت بهذه المدارس مساكِنُ للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامَهم، ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وكان الموسمُ الدراسي على طول السنة في هذه المدارس، وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة، وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحرًا في أسماء الكتب والمؤلِّفين، وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين ما يطلبونَه من الكتب بطريقةٍ منظمة دقيقة ويسجل أسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص، وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي في عهدته، ومسؤول عن سلامة أوراقها، وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلاثة أشهر على الأقل، وكانت مناهج هذه المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص، وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضًا، ثم صار الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في إنشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية، وكان الفاتح مهتمًّا باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة في ذلك العهد، وليس أدلَّ على اهتمام الفاتح باللغة العربية من أنه طلب إلى المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة، كالصحاح، والتكملة، والقاموس، وأمثالها، ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة، وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم. كان السلطان محمد الفاتح مغرمًا ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات، والخانات والحمامات، والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة، وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات، وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقًا، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتمامًا خاصًّا، وكان حريصًا على أن يجعلها حاضرة العلوم والفنون، وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر، واهتم بدُور الشفاء ووضع لها نظامًا مثاليًّا في غاية الروعة والدقة والجمال؛ فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب، ثم زيد إلى اثنين من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحَّال- طبيب عيون- وجراح وصيدلي، وجماعة من الخدم والبوابين، ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وألا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفًا بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان، ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم!
هو الإمامُ تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، من أمراءِ نجد، وَلِيَها بعد مقتل ابنِ عَمِّه مشاري بن سعود. كان تركي بن عبد الله فارًّا من وجه التُّرك وعُمَّال والي مصر محمد علي، في الخَرجِ بنجد، وعلم بأنَّ مشاري بن معمر قبض على ابنِ عَمِّه مشاري وسَلَّمه إلى الترك فقَتَلوه، فخرج من مخبئه ودخل العارضَ فنازع ابن معمر برهةً مِن الزمن، ثم قتَلَه بابن عمه، وتولى الحكمَ مكانه. وبولايةِ تركي بن عبد الله انتقل الحكمُ في آل سعود من سلالةِ عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد بن سعود، وكان تركي شجاعًا؛ أخذ على عاتقه إخراجَ الترك ومَن معهم من المصريين عن بلادِه، فاستردَّ الأحساء والقطيف، وصالحَه أميرُ حائل، وانبسط نفوذُه في القصيم. واستمَرَّ إلى أن قام مشاري بن عبد الرحمن ابن أخت تركي بن عبد الله -وهو ابنُ عمه أيضًا- بقَتلِه غدرًا، قال ابن بشر: "عزم مشاري على إظهارِ ما أبطن وجَرَّد سيفه لإثارة الفِتَن، وذلك بمساعدة رجالٍ أسافِلَ مِن الخدمِ الأراذلِ، وقد تواعدوا عليه بعد صلاةِ الجمعة إذا خرج من المسجِدِ، فلما صلى الجمعة وخرج.. من المسجدِ، وقف له البغاة عند الدكاكين بين القصر والمسجد، وبيده مكتوبٌ يقرؤه، وفي جنبه رَجُلٌ على يساره، واعترضهم منهم عبدٌ خادم لهم يقال له إبراهيم بن حمزة، فأدخل الطبنجة مع كُمِّه وهو غافِلٌ فثورها فيه، فخَرَّ صريعًا، فلم تخط قلبه، وإذا مشاري قد خرج من المسجد فشَهَر سيفَه وتهدَّد الناس وتوعَّدَهم، وشهر أناسٌ سُيوفَهم معه فبُهِتَ الناس وعَلِموا أن الأمر تشاوروا فيه وقُضِيَ بليلٍ، فلما رأى زويد العبد المشهور مملوكُ تركي عمَّه صريعًا، شهر سيفه ولَحِقَ برجلٍ من رجاجيل مشاري فجَرَحَه.. ثم إن مشاري دخل القصرَ من ساعته وأعوانه معه.. وجلس للناسِ يدعوهم إلى البيعةِ، فلما علم آلُ الشيخِ وقوعَ هذا الأمر جلسوا في المسجد، فلم يخرجوا منه حتى أرسل إليهم مشاري يدعوهم فأبَوا أن يأتوا إلا بالأمانِ، فكتب لهم بالأمان، فأتوا إليه وطلب منهم المبايعةَ فبايعوه، ثمَّ نُقِلَ تركي من موضعه ذلك، وأدخلوه بيت زويد فجُهِّزَ وصلى عليه المسلمون بعد صلاة العصر، ودُفِنَ في مقبرة الرياض آخر ساعة من يوم الجمعة"، وكان قتلُ تركي بن عبد الله على يد ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن أوَّل جريمةٍ مِن نوعِها في آل سعود. وكان ابنُه فيصل في القطيف على رأس جيشٍ، فلما علم بمقتلِ أبيه رجع من فوره واستطاع أن يقتُلَ مشاري، ثم يتولى الإمامةَ والحُكمَ.
هو الشَّيخُ العلَّامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي مفتي الديار السعودية. وُلِدَ يوم عاشوراء من عام 1311هـ، ونشأ نشأةً عِلميَّةً في بيتِ عِلمٍ ودين، فحَفِظَ القرآنَ مبكرًا، ثم بدأ الطلَبَ على العلماء قبل أن يبلُغَ السادسة عشرة، ثم أصيب بمرَضٍ في عينيه وهو في هذه السن ولازمه حتى فَقَد بصَرَه وهو في سن السابعة عشرة، وكان يَعرِفُ القراءة والكتابة قبل فَقدِه لبصرِه. كان متوسِّطَ الطول، مليءَ الجِسم، متوسِّط اللون، ليس بالأبيض ولا بالأسمر، خفيفَ شعرِ العارِضَين جدًّا، يوجَدُ شَعرٌ قليل على ذَقَنِه، إذا مشى يمشي بوقارٍ وسكينة، وكان كثيرَ الصَّمت، وإذا تكلَّم لا يتكلَّم إلَّا بما يفيد، وكان ذكيًّا، و كان صاحِبَ غَيرة شديدة على دين الله، مع حزمٍ وشِدَّة يرهب لها الجميع، وكان رغمَ شِدَّتِه وحزمه وهيبةِ الناسِ له صاحِبَ دُعابةٍ خُصوصًا مع خاصَّته، ومن مشايخِه الذين تعَلَّم عليهم عَمُّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخُ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع. ومن أعمالِه أنَّه تولى القضاءَ في الغطغط، وكان إمامًا وخطيبًا للجامع الكبير بالرياض، ولما افتُتِحَت رئاسةُ المعاهد والكليات كان هو الرئيسَ، ولما تأسَّسَت رئاسةُ القضاء عُمِّد رسميًّا برئاسةِ القضاء، ولما افتُتِحَت رئاسةُ البنات كان هو المشرفَ العامَّ عليها، وكان هو مفتي البلاد، ولما افتُتِحَت رابطةُ العالم الإسلامي كان هو رئيسَ المجلس التأسيسي لها، وكان أمينُ الرابطة وقتها محمد سرور الصبان، ولما افتُتِحَت الجامعة الإسلامية في المدينة كان هو المؤسِّسَ لها، وعَيَّن نائبًا له الشيخ عبد العزيز بن باز, وفي سنة 1373 هـ أنشأ المكتبةَ السعودية العامة في الرياض، وجمع فيها حوالي 15.000 كتابٍ مطبوعٍ، و 117 مخطوطًا، وأملى من تأليفِه كُتُبًا، منها: ((الجواب المستقيم))، و ((تحكيم القوانين))، ومجموعة من أحاديث الأحكام، والفتاوى في عدة مجلَّدات، وكان الملكُ عبد العزيز قد أمر بجَمعِها وطباعتها. ومن تلاميذه: الشيخ عبد الله بن حُمَيد، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سليمان بن عبيد، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد الله بن جبرين. وقد أصيب الشيخُ بمرضٍ، فصدر أمرٌ ملَكيٌّ بنقله إلى لندن لمواصلة العلاج، فلما وصل لندن أجرَوا له الفحوصاتِ اللازمةَ فرأوا أنَّ المرضَ بلغَ غايةً لا ينفَعُ معها علاجٌ، ثم دخل في غيبوبة وهو هناك، فأُتيَ به إلى الرياضِ على طائرة خاصة، وبَقِيَ في غيبوبة حتى وافته المنيَّةُ -رحمه الله- صباحَ يوم الأربعاء 24 رمضان، وصلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من نفس اليوم، وأمَّ النَّاسَ عليه الشيخُ ابن باز، وامتلأ المسجِدُ وجميعُ الطُّرُقات المؤدية إليه، حتى إن كثيرًا من النَّاسِ لم يُدركوا الصلاةَ عليه، ودُفِن في مقبرة العود.
كان أوَّلَ ما بُدِئ بهِ الوحيُ هو الرُّؤيا الصَّادقةُ في النَّومِ، وكان لا يَرى رُؤيا إلا جاءتْ مِثلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم حُبِّبَ إليهِ الخَلاءُ، فكان يَخلو في غارِ حِراءٍ ويَتَحَنَّثُ فيهِ مُتعبِّدًا، حتَّى جاءهُ جبريلُ عَليهِ السَّلامُ وهو في الغارِ بقولِه تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق: 1 - 6]. فَقَصَّ ذلك على زوجتِه خَديجةَ التي قَصَّتْ ما حدث على وَرقةَ بنِ نَوفلٍ فصدَّقهُ، وقال: إنَّه النَّاموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى، ثمَّ انقطع الوحيُ فَترةً مِنَ الزَّمنِ، ثمَّ عاد إليهِ جبريلُ وهو قاعدٌ على كُرسيٍّ، فخاف منه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهلِه قائلًا: زَمِّلوني زَمِّلوني. فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5]. فكان ذلك أوَّلَ النُّبوَّةِ والأمرَ بالتَّبليغِ.
هو محمَّد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، أبو عبد الله، ويقال: أبو موسى الهاشمي العباسي، وأمه أمُّ جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، كان مولده بالرصافة سنة سبعين ومائة, وأتته الخلافةُ بعد وفاة والده الرشيدِ بوصيةٍ منه له بولايةِ العهد، ثمَّ نازعه أخوه المأمونُ على الخلافة. كان طويلًا سمينًا أبيضَ أقنى الأنفِ صغيرَ العينين، عظيمَ الكراديس، بعيدًا ما بين المنكِبَين. وقد رماه بعضُهم بكثرة اللَّعِب والشُّرب وقِلَّة الصلاة، والإكثار من اقتناءِ السُّودان والخِصيان، وإعطائِهم الأموالَ والجواهر، وأمْرِه بإحضار الملاهي والمغنِّين من سائر البلاد، وذُكِرَ أنه كان كثيرَ الأدبِ فصيحًا يقولُ الشعرَ ويعطي عليه الجوائِزَ الكثيرةَ، وكان شاعرُه أبو نُواس، وقد امتدحه أبو نُواس في بعض أشعارِه بأقبَح في معناه من صنيع الأمين. قُتِلَ بعد حروب دامية بينه وبين أخيه المأمون، قتَلَه قُرَيش الدنداني، وحمَلَ رأسَه إلى طاهر بن الحسين، فنَصَبَه على رمحٍ, وكانت ولايتُه أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام.
لَمَّا فرغ محمَّدُ بن حميد الطوسي مِن أمْرِ المتغَلِّبينَ على طريقِه إلى بابك الخُرمي سار نحوه وقد جمع العساكر، والآلاتِ والميرة، فاجتمع معه عالمٌ كثير من المتطوِّعةِ مِن سائر الأمصار، فسلك المضايقَ إلى بابك، وكان كلَّما جاوز مضيقًا أو عقبةً ترك عليه من يحفَظُه من أصحابِه إلى أن نزل بهشتادسر (جبل في إيران)، وحفَر خندقًا وشاور في دخولِ بلد بابك، فأشاروا عليه بدخولِه مِن وجهٍ ذكروه له، فقَبِلَ رأيهم، وعبَّأ أصحابه، فكان بابك يُشرِفُ عليهم من الجبل، وقد كمَنَ لهم الرجالُ تحت كلِّ صخرةٍ، فلما تقدَّمَ أصحابُ محمد، وصَعِدوا في الجبل خرج عليهم الكُمَناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه، وانهزم الناسُ، وصبَرَ محمَّد بن حميد مكانَه، وفرَّ من كان معه غيرَ رجلٍ واحد، وسارا يطلبانِ الخلاص، فرأى جماعةً وقِتالًا فقَصَدهم، فرأى الخرميَّة يقاتلونَ طائفةً مِن أصحابه، فحين رآه الخرميَّة قصدوه؛ لِما رأَوا من حسن هيئتِه، فقاتَلَهم، وقاتلوه، وضربوا فَرَسه بزراق، فسقط إلى الأرضِ، وأكبُّوا على محمد بن حميد فقتلوه.
هو حَيدرُ بنُ كاوس الملقَّب بالأفشين، أصلُه من التُّرك مِن أشروسنة تركستان، كان مجوسيًّا مِن سُلالةِ حُكَّام أشروسنة، اعتنق الإسلامَ زمنَ المأمونِ وأقام ببغدادَ عند المعتصِم، وعَظُم محلُّه عنده, وهو من كِبارِ قادةِ المأمونِ والمعتَصِم، تولى إخمادَ الكثيرِ مِن الفِتَن والثَّوراتِ، وأهمُّها ثورةُ بابك الخرمي، ولكن كان يطمَحُ لتولِّي خُراسان بدل عبدالله بن طاهرٍ، فقيل: إنَّه هو الذي حرَّضَ المازيار للخروجِ على ابنِ طاهرٍ حتى يولِّيَه المعتَصِمُ حَربَه، ومِن ثمَّ ولايةَ خُراسان، ولَمَّا قُبِض على المازيار أقَرَّ بكُتُب الأفشين له، فغَضِبَ المعتَصِمُ منه وأمر بالقبضِ عليه، فتمَّ ذلك ليلًا فحبَسَه ثمَّ عَمِلَ له مجلِسَ قَضاءٍ بحُضورِ أحمدَ بنِ أبي دؤاد المعتزلي، ووزيرِه محمَّد بن عبد الملك بن الزيَّات، ونائبِه إسحاقَ بنِ إبراهيم بن مصعب، فاتُّهِم الأفشينُ في هذا المجلس بأشياءَ تدُلُّ على أنَّه باقٍ على دينِ أجدادِه مِن الفُرسِ، وكان ذلك في أواخِرِ عام 225هـ، ثم بقي في السجنِ إلى أن مات فيه، ثم أُخرِجَ فصُلِبَ بجَنبِ بابك الخرمي ثمَّ أُنزِلَ وأُحرِقَ.
أقام أحمد بن طولون مسجدًا ضخمًا أنفق في بنائه 120 ألف دينار، وقد اهتمَّ بالأمور الهندسية في بنائه، ويُعَدُّ مسجد ابن طولون المسجِدَ الوحيدَ بمصرَ الذي غلَبَ عليه طرازُ سامِرَّاء؛ حيث المئذنةُ الملوية المُدرَّجة. وقام السلطان لاجين بإدخالِ بعض الإصلاحات فيه، وعيَّنَ لذلك مجموعةً من الصناع، كما أمر بصناعةِ ساعة فيه، فجُعِلَت قبةً فيها طيقانٌ صغيرة على عددِ ساعاتِ الليل والنهار وفتحة، فإذا مَرَّت ساعة انغلقت الطاقةُ التي هي لتلك الساعة وهكذا، ثم تعود كلَّ مرة ثانية. وفي عهد الأيوبيين أصبح جامع ابن طولون جامعةً تُدَرَّسُ فيه المذاهِبُ الفقهيَّة الأربعة، وكذلك الحديثُ والطِّبُّ، إلى جانب تعليم الأيتام, وكان أحمد بن طولون قد بنى قصره عند سَفحِ المقَطَّم، وأنشأ الميدانَ أمامه، وبعد أن انتهى من تأسيس مدينة القطائع، شَيَّد جامِعَه على جبل يشكر, وتمَّ بناؤه سنة 265ه، وهذا التاريخُ مُدَوَّن على لوحٍ رُخاميٍّ مُثبت على أحدِ أكتاف رُواق القبلة, والجامِعُ وإن كان ثالِثَ الجوامِعِ التي أُنشِئَت بمصر، يعَدُّ أقدَمَ جامِعٍ احتفظَ بتخطيطِه وكثيرٍ مِن تفاصيلِه المعماريَّة الأصليَّة.
لَمَّا عزَلَ المُقتَدِرُ ابنَ الفرات قلَّدَ أبا علي محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان قليلَ الخبرةِ في تدبير أمور الوزارة, فانحَلَّت أمور الدولة؛ لأنَّه كان ضجورًا، ضَيِّقَ الصَّدرِ، مُهمِلًا لقِراءةِ كتُبِ العُمَّال، وجِبايةِ الأموال، وكان يتقَرَّبُ إلى الخاصة والعامة، فمنَعَ خَدَمَ السُّلطانِ وخَواصَّه أن يخاطِبوه بالعبدِ، وكان إذا سأله أحدٌ حاجةً دقَّ صَدرَه، وقال: نعمْ وكرامةً، فسُمِّي "دق صَدرَه"، إلَّا أنَّه قَصَّرَ في إطلاقِ الأموال للفرسان والقُوَّاد، فنفروا عنه واتَّضَعت الوَزارةُ بفِعلِه. وكان أولادُه قد تحَكَّموا فيه، وكان يولِّي في الأيام القليلة عِدَّةً من العُمَّال، حتى إنَّه ولَّى بالكوفةِ في مدةِ عشرينَ يومًا، سبعةً مِن العمال، فاجتمعوا في الطريقِ، فعَرَضوا توقيعاتِهم، فسار الأخيرُ منهم، وعاد الباقونَ يطلُبونَ ما خَدَموا به أولادَه، ثم زاد الأمرُ حتى تحكَّمَ أصحابُه، فكانوا يُطلِقونَ الأموالَ ويُفسِدونَ الأحوال، فانحَلَّت القواعِدُ، وخَبُثَت النيَّات، واشتغل الخليفةُ بعَزلِ وُزرائِه والقَبضِ عليهم، والرُّجوعِ إلى قَولِ النِّساءِ والخَدَم، والتصَرُّف على مقتضى آرائِهم، فخرجت الممالِكُ، وطَمِعَ العُمَّالُ في الأطراف.
خرج الراضي أميرُ المؤمنينَ إلى المَوصِل لمحاربةِ ناصرِ الدولة الحسَنِ بنِ عبد الله بن حمدان نائبِها، وبين يديه بجكم أميرُ الأمراء، وقاضي القضاة أبو الحُسَين عمر بن محمد بن يوسف، وقد استخلف على بغداد ولَده القاضيَ أبا نصر يوسف بن عمر، في منصبِ القضاء، عن أمرِ الخليفةِ بذلك، ولما انتهى بجكم إلى الموصل ومعه الخليفةُ. واقَعَ الحسَن بن عبد الله بن حمدان فهزم بجكم ابنَ حمدان، وقرَّرَ الخليفة الموصِلَ والجزيرة، وولَّى فيها، فاغتنم محمَّد بن رائق غيبةَ الخليفةِ عن بغداد ليستَرِدَّ منصب أمير الأمراء فاستجاش بألفٍ مِن القرامطة وجاء بهم فدخل بغدادَ، فأكثر فيها الفساد، غيرَ أنَّه لم يتعَرَّضْ لدار الخلافة، ثم بعث إلى الخليفةِ يطلُبُ منه المصالحةَ والعفوَ عما جنى، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه قاضيَ القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف، وترحَّلَ ابنُ رائق عن بغداد ودخَلَها الخليفةُ في جمادى الأولى، ففرح المسلِمونَ بذلك.
استمَرَّ محمَّدُ بنُ هشامِ بنِ عبدِ الجبَّار بن عبد الرحمن النَّاصر المهدي في خِلافةِ الأندلُسِ، إلى أن خرجَ عليه سُلَيمانُ بنُ الحَكَم بنِ سليمان بن عبد الرحمن النَّاصر، فهرب المهديُّ مُحمَّدُ بنُ هشام، واستولى سُلَيمانُ على الخلافة في أوائِلِ شوَّال سنة 400هـ، ثم جمع المهديُّ مُحمَّدُ بنُ هشامٍ جمعًا وقصَدَ سُلَيمانَ بقُرطُبةَ، فهَرَب سُلَيمانُ وعاد المهديُّ إلى الخلافةِ في منتصف شوال، ثم اجتمَعَ كِبارُ العَسكَرِ وقبضوا على المهديِّ، وأخرجوا المؤيَّدَ مِن الحَبسِ، وأعادوه إلى الخلافةِ في سابِعَ ذي الحِجَّة من هذه السَّنة، وأحضروا المهديَّ بين يَدَيه، فأمَرَ بقَتلِه، فقُتِلَ، واستمَرَّ المؤيَّدُ في الخلافة، وقام بتدبيرِ أمْرِه واضِحُ العامريُّ، ثمَّ قبض المؤيَّدُ على واضحٍ العامريِّ وقَتَله، فكَثُرَت الفِتَنُ على المؤَيَّد، واتَّفَقَت البربرُ مع سليمانَ بنِ الحَكَمِ بنِ سُلَيمان بن عبد الرحمن الناصر، وسار وحَصَر المؤيَّدَ بقُرطُبة، ومَلَكَها سليمانُ عَنوةً، وأخرَجَ المُؤَيَّدَ من القَصرِ، ولم يتحَقَّقْ للمُؤَيَّد خَبَرٌ بعد ذلك، وبُويع لسُلَيمانَ بالخلافةِ في منتصف شوال من سنة ثلاث وأربعمِئَة، وتلَقَّب بالمستعين باللهِ.
سار يَمينُ الدَّولةِ الغزنوي عندما خرج الشِّتاءُ غازيًا إلى الهندِ في جمعٍ عَظيمٍ وحَشدٍ كثيرٍ، وقصَدَ واسِطةَ البلادِ مِن الهند، فسار شَهرينِ، حتى قارَبَ مَقصِدَه، ورتَّب أصحابَه وعساكِرَه، فسَمِعَ عَظيمُ الهند به، فجَمَع مَن عِندَه مِن قُوَّادِه وأصحابِه، وبرز إلى جَبَلٍ هناك، صَعبِ المرتقى، ضَيِّقِ المسلَكِ، فاحتمى به، وكتَبَ إلى الهنودِ يستدعيهم مِن كُلِّ ناحية، فاجتمع عليه منهم كلُّ مَن يحمِلُ سلاحًا، فلمَّا تكامَلَت عِدَّتُه نزل مِن الجَبَل، وتصافَّ هو والمُسلِمونَ، واشتَدَّ القِتالُ وعَظُم الأمرُ، ثمَّ إنَّ الله تعالى منح المسلمينَ أكتافَهم فهَزَموهم، وأكثَروا القَتَل فيهم، وغَنِموا ما معهم من مالٍ وفيلٍ وسلاحٍ، وغير ذلك، وفتَحَ اللهُ نادرين, ووجد المسلمونَ في بَيتِ الصَّنَمِ حَجَرًا عظيمًا منقوشًا عليه، دلَّت كتابتُه على أنَّه مبنيٌّ منذ قرونٍ طويلة، فعَجِبَ المسلمونَ لقِلَّةِ عُقولِهم, فلمَّا فرغ الغزنويُّ مِن غَزوتِه عاد إلى غزنة، وأرسل إلى القادِرِ بالله يطلُبُ منه مَنشورًا، وعهدًا بخراسانَ وما بيده من المَمالِك، فكتب له بذلك، ولُقِّبَ نظامَ الدين.
زاد شَغبُ الأتراكِ بهَمذانَ على صاحِبِهم شَمسِ الدَّولةِ بنِ فَخرِ الدَّولة، وكان قد تقَدَّمَ ذلك منهم غيرَ مَرَّة، وهو يحلُمُ عنهم بل يَعجِزُ، فقَوِيَ طمَعُهم، فزادوا في التوثُّبِ والشغبِ، وأرادوا إخراجَ القُوَّادِ القوهيَّة الأكرادِ مِن عنده، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فعَزَموا على الإيقاعِ بهم بغيرِ أمْرِه، فاعتَزَل الأكرادُ مع وزيرِه تاجِ الملك أبي نصر بنِ بهرامَ إلى قلعةِ برجين، فسار الأتراكُ إليهم فحَصَروهم، ولم يلتَفِتوا إلى شمسِ الدَّولة، فكتب الوزيرُ إلى أبي جعفرِ بنِ كاكويه، صاحبِ أصبهان، يستنجِدُه، وعَيَّنَ له ليلةً يكونُ قُدومُ العساكِرِ إليه فيها بغتةً، ليخرُجَ هو أيضًا تلك الليلةَ لِيَكبِسوا الأتراك. فعل أبو جعفرٍ ذلك، وسيَّرَ ألفَي فارس، وضَبَطوا الطرقَ لِئَلَّا يسبِقَهم الخبَرُ، وكبسوا الأتراك سَحَرًا على غفلةٍ، ونزل الوزيرُ والقوهيَّةُ من القلعةِ، فوضعوا فيهم السَّيفَ، فأكثَروا القَتلَ، وأخَذوا المالَ، ومَن سلِمَ مِن الأتراكِ نجا فقيرًا، وفعَلَ شَمسُ الدَّولة بمَن عندَه في همذان كذلك، وأخرَجَهم، فمضى ثلاثُمِئَة منهم إلى كرمان، وخدموا أبا الفوارِسِ بنَ بهاء الدَّولة صاحِبَها.
وصل مَلِكُ الرُّومِ إلى الشَّامِ وخافه النَّاسُ خَوفًا عظيمًا، وقصَدَ بزاعةَ فحَصَرها، وهي مدينةٌ قَريبةٌ مِن حَلَب، فمضى جماعةٌ مِن أعيانِ حَلَب إلى أتابك زنكي وهو يحاصِرُ حمص، فاستغاثوا به واستنصَروه، فسَيَّرَ معهم كثيرًا من العساكِرِ، فدخلوا إلى حَلَب ليَمنَعوها من الرُّومِ إن حَصَروها، ثمَّ إنَّ مَلِكَ الرومِ قاتل بزاعة، ونَصَب عليها منجنيقاتٍ، وضَيَّق على مَن بها فمَلَكَها بالأمانِ في الخامسِ والعشرينَ مِن رَجَب، ثم غدَرَ بأهلِها فقَتَل منهم وأسَرَ وسَبى، وكان عِدَّةُ مَن جُرِحَ فيها مِن أهلِها خَمسةُ آلافٍ وثمانمئة نفسٍ، وتنصَّرَ قاضيها وجماعةٌ مِن أعيانها نحو أربعمئة نفس؛ خوفًا مِن القَتلِ, فلِلَّهِ الأمرُ، وأقام الرومُ بعد مُلكِها عشرةَ أيَّامٍ يتطَلَّبونَ مَن اختَفى، فقيل لهم: إنَّ جَمعًا كثيرًا مِن أهلِ هذه الناحيةِ قد نزلوا إلى المغاراتِ، فدخنوا عليهم، وهَلَكوا في المغاوِرِ، "وبلغ خبَرُ احتلالِ الرومِ بزاعةَ، وقتْلِهم الذكورَ وسبْيِ النِّساءِ والصِّبيان، فاستنفر النَّاسُ السُّلطانَ للدِّفاعِ عن المُسلِمينَ في الشام، ومنعوا الخُطبةَ والخُطَباء ببغداد وقَلَعوا طوابيقَ الجوامِعِ
عَظُمَ أمرُ ابنِ بَكرانَ العَيَّار بالعراقِ، وكَثُرَ أتباعُه، وصار يَركَبُ ظاهِرًا في جمعٍ من المُفسِدينَ، وخافه الشَّريفُ أبو الكرم الوالي ببغدادَ، فأمر أبا القاسِمِ ابنَ أخيه حاميَ بابِ الأزجِ أن يشتَدَّ عليه ليأمَنَ شَرَّه، وكان ابنُ بكران يُكثِرُ المُقامَ بالسَّوادِ، ومعه رفيقٌ له يُعرَفُ بابن البزاز، فانتهى أمرُهما إلى أنَّهما أرادا أن يضرِبَا باسمِهما سكَّةً في الأنبارِ، فأرسل الشحنةُ والوزيرُ شَرَفُ الدين الزينبي إلى الوالي أبي الكرَمِ وقالا: إمَّا أن تَقتُلَ ابنَ بَكرانَ، وإمَّا أن نَقتُلَك، فأحضَرَ ابن أخيه وعَرَّفَه ما جرى، وقال له: إمَّا أن تختارَني ونَفسَك، وإمَّا أن تختارَ ابنَ بَكرانَ، فقال أنا أقتُلُه، وكان لابنِ بكران عادةٌ يجيءُ في بعضِ اللَّيالي إلى ابنِ أخي أبي الكرمِ، فيُقيمُ في دارِه ويَشرَبُ عنده، فلمَّا جاء على عادَتِه وشَرِبَ، أخذ أبو القاسِمِ سلاحَه ووثَبَ به فقتَلَه وأراح النَّاسَ مِن شَرِّه، ثمَّ أُخِذَ بَعدَه بيَسيرٍ رَفيقَه ابنَ البزازِ وصُلِبَ، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن الحراميَّة، فسَكَن النَّاسُ واطمأنُّوا وهدأت الفِتنةُ.