تَوَلَّى عبدُ الرَّحمن الغافِقِيُّ أُمورَ القِيادَةِ على الشَّاطِئ الشَّرقيِّ مِن الأَندَلُس مِن قِبَل عُبيدَة بن عبدِ الرَّحمن القَيْسِي صاحِب أفريقيا في عَهْدِ هِشامِ بن عبدِ الملك مُدَّةَ سَنتينِ ونِصف، وطِيلَة تلك المُدَد كان يَقوم بالغَزْوِ والفَتْح، وكانت انْتِصاراتُه على البَرْبَر مَشهودَةً، وساعَد على ذلك حُسْنُ مُعامَلتِه للبَرْبَر ممَّا كان له الأَثَر الكَبير في دُخولِ كَثيرٍ منهم إلى الإسلام، وقاتَل معه الكَثيرُ في حُروبِه وكان عبدُ الرَّحمن قد أَوْغَل داخِل فَرنسا ثمَّ بَقِيَ كذلك حتَّى حَصَلت مَعركَة بَلاط الشُّهَداء التي اسْتُشْهِد فيها هو وكَثيرٌ ممَّن كان معه.
استولى على جزيرةِ صقليَّة فيمي الروميُّ الذي غلَبَ عامِلَ قُسطنطينَ عليها، وكان فيمي طلبَ مِن زيادةِ الله النَّجدةَ، فجهز زيادةُ الله جيشًا كبيرًا بإمرة أسَدِ بنِ الفُرات قاضي القيروان، الذي سار إليهم فانتصرَ المسلمون بالبداية، ثم جاءت نجداتُ الروم إلى نصارى صقلية وانقلبَ فيمي اللعينُ على المسلمينَ، ومات أسدُ بنُ الفرات، فلم يتوغَّلوا داخِلَ الجزيرةِ، لكِنَّ النجدة جاءت من القيروان كما وصلَت سفُنٌ مِن الأندلس ساعدت المسلمينَ، فحاصر المسلمونَ بلرم عام 215هـ وفتحوها في العام التالي.
جرى في بلاد سواحِلِ الشام حريقٌ مِن بلاد طرابلس إلى آخِرِ معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبالَ كُلَّها ومات الوحوش كلُّها، مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوشِ مَوضِعٌ يهربون فيها، وبقي الحريقُ عليه أيامًا، وهرب الناس إلى جانب البحر خوفًا من النار، واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطرُ أطفأه بإذن الله تعالى، ومن العجب أن ورقة من شجرةٍ وقعت في بيتٍ مِن مدخنته، فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدروز والرَّافضة.
استمَرَّ الحالُ على الغلاء في الأسعار بشكلٍ فاحشٍ جِدًّا وهلك معظَمُ الدوابِّ لعَدَمِ العَلَفِ، حتى لم توجَدْ دابة للكِراءِ، وهلكت الكلاب والقِطَطُ من الجوع، وانكشف حالُ كثيرٍ مِن الناس، وشَحَّت الأنفسُ حتى صار أكابِرُ الأمراء يمنعونَ مَن يدخُلُ عليهم من الأعيانِ عند مَدِّ أسمِطَتِهم، وكثُرَ تعزير محتَسِب القاهرة ومِصر لبيَّاعي لحوم الكلاب والمَيتات، ثمَّ تفاقم الأمر فأكل الناسُ الميتةَ مِن الكلابِ والمواشي وبني آدم، وأكل النِّساءُ أولادَهنَّ الموتى، ثم إن الأسعارَ انحَلَّت في شهرِ رَجَب ثم في شوال تزايد السِّعرُ وساءت ظنونُ الناس، وكثُرَ الشحُّ وضاقت الأرزاق ووَقَفَت الأحوال، واشتَدَّ البكاء وعَظُمَ ضجيجُ النَّاسِ في الأسواق من شِدَّةِ الغلاء، وتزايد الوباءُ بحيث كان يخرجُ مِن كل باب من أبواب القاهرةِ في كل يوم ما يزيدُ على سبعمائة ميت، ويُغَسَّل في الميضأة من الغرباءِ الطُّرَحاء في كلِّ يَومٍ نحوُ المائة والخمسين ميتًا، ولا يكاد يوجد باب أحدٍ من المستورين بالقاهرة ومصر إلَّا ويصبِحُ على بابه عِدَّةُ أمواتٍ قد طُرِحوا حتى يكَفِّنَهم، فيَشتَغِلَ نهارَه، ثم تزايد الأمر فصارت الأمواتُ تُدفَنُ بغير غسل ولا كفَنٍ، فإنه يدفَنُ الواحد في ثوبٍ ثم ساعة ما يوضع في حُفرتِه يؤخَذُ ثَوبُه حتى يُلبَسَ لميت آخرَ، فيكَفَّنُ في الثوب الواحد عدةُ أمواتٍ!! وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتِهم وقِلَّة من يحفرُ لهم، فعملت حفائِرُ كِبارٌ ألقِيَت فيها الأمواتُ من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرةُ، ثم تطَمُّ بالترابِ، وانتُدِبَ أناسٌ لحَملِ الأموات ورَمْيهم في الحفر، فكانوا يأخذونَ عن كلِّ مَيتٍ نِصفَ درهم، فيحمِلُه الواحد منهم ويلقيه إمَّا في حفرة أو في النيلِ إن كان قريبًا منه، وصارت الولاةُ بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال، ويعلِّقونَ الميِّتَ بيديه ورجليه من الجانبين، ويُرمى في الحفر بالكيمانِ مِن غير غُسلٍ ولا كفنٍ! ورُمِيَ كثيرٌ من الأموات في الآبار حتى تُملأَ ثمَّ تُردَم، ومات كثير من الناس بأطرافِ البلاد فبَقِيَ على الطرقات حتى أكلَته الكلابُ، وأكل كثيرًا منها بنو آدم أيضًا، وحُصِرَ في شَهرٍ واحد من هذه السنة عِدَّةُ مَن مات ممَّن قُدِرَ على معرفته، فبَلَغَت العدَّةُ مائة ألفٍ وسبعةً وعشرين ألف إنسان، وعَظُم الموتانُ في أعمال مصر كلِّها حتى خلت القرى، وتأخَّر المطرُ ببلاد الشام حتى دخل فصلُ الشتاء ليلة الخميسِ سادس صفر وهو سادس عشر ديسمبر ولم يقَعِ المطر، فتزايدت الأسعارُ في سائر بلاد الشام، وجَفَّت المياه، فكانت الدابةُ تُسقى بدرهمٍ شَربةً واحدةً، ويشرَبُ الرجُلُ برُبعِ دِرهمٍ شَربةً واحدة، ولم يبق عُشبٌ ولا مرعى، واشتد الغلاءُ بالحِجازِ!!
ابتدأ الوباءُ في النَّاسِ في القاهرة ومِصرَ في نصف جمادى الآخر، وكَثُر مَوتُ الفقراء والمساكين بالجوع، وقد توقَّفَت أحوال الناس من قِلَّة المكاسب؛ لشِدَّة الغلاء وعَدَمِ وجودِ ما يُقتاتُ به، وشَحَّ الأغنياءُ وقَلَّت رَحمتُهم، فمن كان يكتَسِبُ في اليوم درهمًا يقومُ بحالِه ويَفضُلُ له منه شيء، صار الدِّرهَمُ لا يجدي شيئًا، فمات ومات أمثالُه من الأُجَراء والعُمَّال والصنَّاع والفلاحين والسُّؤَّال من الفقراء، وفي شَهرَي رجب وشعبان: اشتَدَّ الغلاء، وشَفَع الموت في الفُقَراءِ مِن شِدَّة البَردِ والجوعِ والعُري، وهم يَستغيثونَ فلا يُغاثُونَ، وأكَلَ أكثَرُ النَّاسِ خُبزَ الفولِ والنخال، عجزًا عن خبزِ القمح، وكَثُرَ الخَطفُ من أيدي النَّاسِ، ورُمِيَ طينٌ بالسجنِ لعمارة حائطٍ به، فأكله المسجونونَ مِن شِدَّةِ جُوعِهم، وعزَّ وجود الدوابِّ لِمَوتها جوعًا، وفي رابِع عشرين شعبان انتدب الأميرُ منجك نائب السلطان لتفرقةِ الفُقَراء على الأمراء وغيرهم، فجمع أهلَ الحاجة والمَسكَنة، وبعث إلى كلِّ أميرٍ مِن أمراء الألوف مائةَ فقير، وإلى مَن عدا أمراء الألوف على قَدرِ حالِه، وفَرَّق على الدواوين والتجَّار وأرباب الأموال كل واحدٍ عددًا من الفقراءِ، ثم نودي في القاهرة ومصر بألا يتصَدَّقَ أحَدٌ على حرفوش، وأيُّ حرفوش شَحَذ صُلِبَ، فآوى كلُّ أحدٍ فُقراءَه في مكانٍ، وقام لهم من الغِذاء بما يمُدُّ رَمَقَهم على قَدرِ هِمَّتِه وسَماح نفسِه، ومنعهم من التَّطوافِ لسُؤالِ النَّاسِ، فخَفَّت تلك الشناعات التي كانت بين النَّاسِ إلَّا أن الموات عَظُم، حتى كان يموتُ في كُلِّ يوم من الطُّرَحاء على الطرقات ما يزيدُ على خمسمائة نفر، ويُطلَقُ من ديوان المواريث ما يُنيفُ على مائتي نفس، وتزايَدَ في شهر رمضان مَرَضُ الناس وموتهم، ونَفِدَت الأقوات، واشتَدَّ الأمر، فبلغت عِدَّةُ مَن يرد اسمُه للديوان في كلِّ يوم خمسمائة، وبلغت عِدَّةُ الطرحاء زيادةً على خمسمائة طريح، فقام بمواراةِ الطُّرَحاء الأميرُ ناصر الدين محمد بن الأمير أقبغا آص، والأمير سودن الشيخوني، وغيرهما، وكان من أتى بميِّتٍ طريح أعطَوه درهمًا، فأتاهم الناسُ بالأموات، فقاموا بتغسيلِهم وتكفينِهم ودَفْنِهم- أحسَنَ قيامٍ، بعد ما شاهد النَّاسُ الكلابَ تأكل الموتى من الطُّرَحاء، فلما فَنِيَ مُعظَمُ الفقراء، وخَلَت دورٌ كثيرة خارج القاهرة ومصر لِمَوت أهلها، فَشَت الأمراضُ مِن أُخرَيات شهر رمضان في الأغنياءِ، ووقع الموتُ فيهم، فازداد سِعرُ الأدوية، واشتَدَّ الأمر في شوَّال إلى الغاية، وفي أوَّلِ ذي القعدة وصَلَت تراويج القمح الجديد، فانحَلَّ السِّعرُ، ثم تناقَصَت الأسعارُ.
هو المَلِكُ شِهابُ الدِّينِ، أبو القاسِمِ محمودُ بنُ تاج الملوك بوري بن الأتابك طغتكين صاحِب دمشقَ. تمَلَّك بعد مَقتَلِ أخيه شمسِ الملوك، بإعانةِ أمِّه زمرد، وكان مُقَدَّمَ عَسكَرِه مُعينُ الدين أنر. قال ابنُ عساكر: "كانت الأمورُ تجري في أيَّامه على استقامةٍ، إلى أن وثَبَ عليه جماعةٌ مِن خَدَمِه، فقتلوه في شوَّال، هذه السنة"، قُتِلَ على فِراشِه غِيلةً، قتله ثلاثةٌ مِن غِلمانِه هم خواصُّه وأقربُ النَّاسِ منه في خَلوتِه، وكانوا ينامونَ عنده ليلًا، فقَتَلوه وخرجوا من القلعة وهربوا، فنجا أحدُهم، وأُخِذَ الآخَرانِ فصُلِبا، وكَتَب مَن بدمشقَ إلى أخيه جمالِ الدينِ مُحمَّدِ بنِ بوري صاحب بعلبك، بصورة الحالِ واستدعَوه ليملِكَ بدَلَ أخيه، فحضر في أسرَعِ وَقتٍ، فلمَّا دخل البلد جلسَ للعزاء بأخيه، وحلَفَ له الجندُ وأعيانُ الرعيَّة، وسكن النَّاسُ، وفَوَّضَ أمرَ دَولتِه إلى مُعين الدين أنر، مملوكِ جَدِّه، وزاد في علوِّ مَرتبةِ مُعين الدين، وصار الجُملة والتفصيل، وقد كان خَيِّرًا عاقِلًا حَسَن السِّيرةِ، فجَرَت الأمورُ عنده على أحسَنِ نِظامٍ.
سارت مراكِبُ الفِرنجِ مِن صقليَّةَ إلى طرابلس الغَربِ فحَصَروها، وسبَبُ ذلك أنَّ أهلَها في أيَّامِ الأمير الحَسَن صاحِبِ إفريقيَّة، لم يَدخُلوا في طاعته، ولم يَزالُوا مخالِفينَ مُشاقِّينَ له، فقَدَّموا عليهم من بني مطروح مشايخَ يُدَبِّرونَ أمْرَهم، فلمَّا رآهم مَلِكُ صَقليَّةَ كذلك جهَّزَ إليهم جيشًا في البحر، فوصلوا إليهم تاسِعَ ذي الحجة، فنازلوا البلدَ وقاتلوه، وعَلَّقوا الكلاليبَ في سُورِه ونَقَبوه، فلمَّا كان الغدُ وصل جماعةٌ مِن العَرَبِ نجدةً لأهلِ البلد، فقَوِيَ أهلُ طرابلس فيهم، فخرجوا إلى الأسطوليَّة، فحَمَلوا على الإفرنجِ حَملةً مُنكَرةً، فانهزم الإفرنجُ هزيمةً فاحِشةً، وقُتِلَ منهم خلقٌ كَثيرٌ، ولحِقَ الباقون بالأسطولِ، وتَرَكوا الأسلحةَ والأثقالَ والدوابَّ، فنَهَبَها العَرَبُ وأهل البلد. ورجَعَ الفرنجُ إلى صَقليَّةَ، فجَدَّدوا أسلحَتَهم وعادوا إلى المَغربِ، فوصلوا إلى جيجل، فلمَّا رآهم أهلُ البلد هَرَبوا إلى البراري والجبال، فدخلها الفرنجُ وسَبَوا مَن أدركوا فيها وهَدَموها، وأحرَقوا القَصرَ الذي بناه يحيى بنُ عبد العزيز بن حماد للنُّزهة ثمَّ عادوا.
لَمَّا دخلت الدَّولةُ العُثمانيةُ في عِدَّةِ حُروبٍ في آنٍ واحدٍ مع الروسِ واليونانيِّين والبلغار والرومان والأرمن واليوغسلاف، أصبحت عاجزةً عن حمايةِ ولاياتِها وفَرْضِ النظامِ والتحَكُّمِ في الولاةِ الذين صاروا يَنصِبون ويَعزِلون حسَبَ نزواتِ الجُندِ في جوٍّ مشحون بالمؤامراتِ والعُنفِ. وفي كثيرٍ مِن الأحيان لم يبقَ الوالي في منصِبِه أكثَرَ مِن عام واحد، حتى إنه في الفترة ما بين سنة (1672 م-1711 م) تولى الحُكمَ أربعة وعشرون واليًا في ليبيا! ولقد مرَّت ليبيا بأوقاتٍ عصيبة عانى الليبيُّون فيها الويلاتِ نتيجةً لاضطراب الأمنِ وعدم الاستقرار، وفي هذه السَّنةِ قاد أحمد القره مانلي ثورةً شعبيةً أطاحت بالوالي العثماني، وكان أحمدُ هذا ضابطًا في الجيش العثماني، فقَرَّر تخليصَ ليبيا من الحكَّامِ الفاسدين ووضْعَ حدٍّ للفوضى، ولَمَّا كان شعب ليبيا قد ضاق ذَرعًا بالحُكمِ الصارمِ المستَبِدِّ، فقد رحَّب بأحمد القره مانلي الذي تعهَّد بحُكمٍ أفضَلَ، وقد وافق السلطانُ على تعيينه باشا على ليبيا، ومنحه قدرًا كبيرًا مِن الحُكمِ الذاتي، ولكِنَّ القره مانليين كانوا يعتبرون حتى الشؤون الخارجيَّة من اختصاصاتِهم.
انتصر الجيشُ العثماني بقيادة السلطانِ عبد الحميد الأول على الجيشِ النمساوي الذي يقودُه الإمبراطور جوزيف الثاني، وذلك في معركة "شبش" داخِلَ حدود النمسا. قامت مجموعةٌ مِن كشَّافة الجيش النمساوي بالتقَدُّم؛ لاستطلاعِ موقِفِ الجيش العثماني. وفي طريقِهم وجدوا تجمُّعًا للغجرِ حيث يباعُ الخمرُ، فجَلَسوا وسَكِروا حتي الثمالة. بعد قليلٍ جاءت مجموعةٌ مِن المشاة النمساويين للانضمامِ للمجموعةِ الأولى فرفَضوا انضمامَهم لهم واتَّخذوا وضعَ الدِّفاعِ, ثمَّ عمَّت حالةٌ من الفوضى وصلت إلى المعسكَرِ، وحدث قتالٌ بينهم. كلُّ طرفٍ منهم يظُنُّ أنَّ الطرفَ الآخِرَ هم الأتراكُ، فوقعت حربٌ شديدةٌ بينهم، قُتِلَ منهم أعدادٌ كبيرة، قيل بلغ عددُ القتلى 10 آلاف قتيل, فلما وصل الجيشُ العثماني بقيادة السلطان عبد الحميد الأوَّلِ ومعه الصدرُ الأعظمُ قوجا يوسف باشا تمكَّنَ مِن أسرِ 50 ألفَ نمساوي في هذه المعركةِ التي تعتبر أكبَرَ انتصارٍ حَقَّقه السلطانُ في عهدِه، والذي توفِّيَ بالسكتة القلبية في طريقِ عودتِه قبل وصولِه إسطنبول.
جرت عِدَّةُ معاهدات بشأن الحدود بين الدولتين العثمانية والإيرانية، ومنها: معاهدة أرضروم الثانية 1263هـ غير أنَّها فشلت واستمَرَّت الاشتباكات على الحدود، وفشلت لجنة التخطيط بناءً على المعاهدة المذكورة في إنهاء المشكلة، كما بدأ الخلاف في تفسير نصوص المعاهدة، وكانت كلٌّ من إنجلترا وروسيا ترغبان في إنهاء هذا الموضوع؛ حيث أصبحت المنطقة ساحةَ نفوذ لكلٍّ مِن الدولتين، فدعا ذلك لإجراء مفاوضات مباشِرة بتوسط إنجلترا وروسيا، وانتهت باتفاق طهران في اليوم الأول من عام 1330هـ/ 21 ديسمبر، وتضَمَّن خمس نقاط: تعيين لجنة مشتركة لتثبيت الحدود. تزويد أعضاء اللجنة بجميع الوثائق والبيانات المطلوبة. في حال الفشل في تفسير النصوص وحَلِّ القضايا تحالُ إلى محكمة التحكيم في لاهاي. تكون معاهدة أرضروم الثانية الأساسَ الذي تستند إليه قرارات اللجنة. لا يتخذ أي من الطرفين من احتلال الأراضي المتنازع عليها حجة قانونية للاحتفاظ بها والسيطرة عليها. واستمرَّت المفاوضات أكثرَ مِن خمسة أشهر دون الوصولِ إلى اتفاق، وتقرر استمرارُ المباحثات في استانبول، ولكن الأحداث الجارية من الحرب العالمية وغيرها أوقفت الموضوع.
استولى مُحمَّدُ بنُ رائق على بلاد الشامِ فدخل حمصَ أوَّلًا فأخذها، ثم جاء إلى دمشقَ وعليها بدر بن عبد الله الإخشيد المعروف ببدر الإخشيد وهو محمَّد بن طغج، فأخرجه ابنُ رائق من دمشق قهرًا واستولى عليها، ثم ركبَ ابن رائق في جيشٍ إلى الرملة فأخذها، ثمَّ إلى عريش مصر فأراد دخولَها فلقيه محمد بن طغج الإخشيدي فاقتتلا هناك فهَزَمه ابنُ رائق واشتغل أصحابُه بالنهبِ ونزلوا بخيام المصريين، فكَرَّ عليهم المصريونَ فقَتَلوهم قتلًا عظيما، وهرب ابنُ رائق في سبعين رجلًا من أصحابه، فدخل دمشقَ في أسوأِ حالٍ وشَرِّها، وأرسل له ابنُ ظغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيشٍ فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابنُ رائق المصريين وقُتِلَ أخو الإخشيد فيمن قُتل، فغَسَّلَه ابنُ رائق وكفَّنَه وبعث به إلى أخيه بمصرَ وأرسل معه ولَدَه وكتب إليه يحلِفُ أنَّه ما أراد قَتْلَه، ولقد شَقَّ عليه، وهذا ولدي فاقتَدْ منه، فأكرَمَ الإخشيدُ ولدَ مُحمَّد بن رائق، واصطلحا على أن تكونَ الرَّملةُ وما بعدها إلى ديار مصرَ للإخشيد، ويحمِلُ إليه الإخشيد في كلِّ سَنةٍ مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملةِ إلى جهة دمشق تكونُ لابنِ رائقٍ.
سار الأميرُ حُسام الدين طرنطاي نائبُ السلطنة بعسكَرٍ كثيفٍ إلى الكرك، فتلَقَّاه عسكَرُ دِمشقَ صحبة الأمير بدر الدين الصوابي، فتوجَّهَ معه إليها، وضايقَها وقطَعَ الميرةَ عنها حتى بعث المَلِكُ المسعود بن الظاهر بيبرس أخاه خضر يطلبُ الأمان، فبعث إليه السلطانُ قلاوون الأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار من قلعة الجبل بالأمانِ، فنزل الملك المسعود وأخوه بدر الدين سلامش إلى الأميرِ طرنطاي في خامس صفر، واستقَرَّ الأمير عزُّ الدين أيبك الموصلي نائبُ الشوبك في نيابة الكرك، ووردت البشارة بأخذِ الكركِ إلى قلعةِ الجَبَل في ثامن صفر، وقَدِمَ الأمير طرنطاي بأولاد الظاهرِ إلى القاهرة، فخرج السلطانُ إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأول، وأكرم السلطانُ الملكَ المسعود وسلامش، وأمَّرَ كُلًّا منهما إمرةَ مائة فارس، وصارا يركبان في الموكب والميادين، ورتبا يركبان مع الملك الصالح علي، وفي سابع رجب توجَّه السلطان إلى الكرك، فوصلها وعرَضَ حواصِلَها ورجالها وشحَنَ بها ألفي غرارة قمح، وقرَّرَ بها بحريَّةً ورتَّبَ أمورَها، ونظَّف البركة، وجعل في نيابة الكرك الأميرَ ركن الدين بيبرس الدوادار، ونقل عز الدين أيبك إلى نيابة غزَّة، ثم نقله إلى نيابةِ صَفد.
سَبَبُه أنَّه لَمَّا قُبِضَ على الوزير منجك، خرج الأميرُ قمارى الحموي، وبيده ملطفات لأمراء صفد بالقَبضِ على أحمد، فبلغه ذلك من هجان جَهَّزه إليه أخوه، فندب الأمير أحمد الساقي طائفةً من مماليكه لتلَقِّي قمارى، وطلب نائب قلعة صفد وديوانه، وأمره أن يقرأَ عليه كم له بالقلعة من غَلَّة، فأمر لمماليكه منها بشيءٍ فَرَّقه عليهم إعانةً لهم على ما حصَل من المحْلِ في البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعندما طلعوا القلعة شَهَروا سيوفهم ومَلَكوها، فقَبَض الأمير أحمد الساقي على عِدَّة من الأمراء، وطلع بحريمِه إلى القلعة وحَصَّنَها، وأخذ مماليكُه قمارى، وأتوه به فكتب السلطان لنائب غزة ونائب الشام تجريدَ العسكر إليه، ورسَمَ بالإفراج عن فياض بن مهنا وعيسى بن حسن الهجان أمير العايد، وخلَعَ عليه وجهَّزه، وأخذت الهجن من جمال الدين بقر أمير عرب الشرقية، وأعيدت إلى علي بن حسن، وكانت الأراجيفُ قد كثرت بأن الأمير طاز قد تحالف هو والأمير بيبغا روس بعقبة أيلة، فخرج الأمير فياض وعيسى بن حسن أمير العايد؛ ليقيما على عقبة أيلة، بسبب بيبغا روس، وكتب لعرب شطي وبني عقبة وبني مهدي بالقيامِ مع الأمير فضل، وكتب لنائب غزَّة بإرسال السوقة إلى العقبة.
لما فُقِدَ الملك الناصر وقتَ الظهر من يوم الأحد خامس عشرين ربيع الأول بادر الأمراء بالركوب إلى القلعة، وهم طائفتان: الطائفة التي خالفت الناصر وحاربته، ويرجع أمرُهم إلى الأمير يشبك الدوادار، والطائفة الأخرى هي التي وَفَت للناصر، وكبيرهم الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر، وحاربت يشبك الدوادار ومن معه، فلما صار الفريقان إلى القلعة، منعهم الأمير سودون تلى المحمدي أمير أخور من صعود القلعة، وهم يضرعون إليه من بعد نصف النهار إلى بعد غروب الشمس، ثم مكَّنهم من العبور من باب السلسلة، وقد أحضروا الخليفة والقضاة الأربعة، واستدعوا الأمير عبد العزيز بن الظاهر برقوق، وقد ألبسه سعد الدين إبراهيم بن غراب الخِلعة الخليفتية، وعمَّمه، فعهد إليه الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بالسلطنة، ولقَّبوه الملك المنصور عز الدين، وكنَّوه بأبي العز، وذلك عند أذان عشاء الآخرة، من ليلة الاثنين سادس عشرين ربيع الأول، وقد ناهز الاحتلام، وقام سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب سر مصر بأعباء المملكة، يدبر الأمراء كيف شاء، والمنصور تحت كفالة أمِّه، ليس له من السلطنة سوى مجرد الاسم في الخطبة، وعلى أطراف المراسيم.