هو الأميرُ أحمد بن محمد آل خليفة، الملقَّب بالفاتِحِ؛ لأنَّه يعتبَرُ المؤسِّسَ لإمارة البحرين والمثَبِّت الحقيقيَّ لحكم آل خليفة في الجزيرة البحرينية وشبه الجزيرة القطرية، وهو عتبي عنزي أسدي، من آلِ خليفةٍ، ولِدَ بالكويت في النصف الأول من القرن الثامن عشر، انتقل مع والده على رأس الأسرة إلى قطر عام (1175هـ/1762م) حيث أسَّسوا الزبارة كانت إقامته بالزبارة (على الساحل المقابل للبحرين) مع أخيه شيخ الزبارة خليفة بن محمد، الذي كان ذهب للحَجِّ فناب عنه أخوه أحمد، فنشبت حينها فتنةٌ بين أهل البحرين وبين أهل الزبارة التي انتهت بانتصارِ أهلِ الزبارة، وبالتالي دخل أحمد البحرين، واستولى عليها سنة 1197، وجاء الخبَرُ بوفاة أخيه خليفة في مكة، فأصبح أحمد هو الآمِرَ الفعليَّ، فحكم البحرين واعتُبِرَ مؤسِّسَها، وبقي متنقلًا بين البحرين والزبارة مقويًا شأنَه فيهما إلى أن توفي في هذه السنةِ، ودُفِن في المنامة، فخَلَفه بعده ابنُه سليمان.
اشتدَّ الغلاء والقحط على الناس في نجد وما يليها، وسقط كثير من أهل اليمن ومات أكثر إبلِهم وأغنامهم، وفي آخر هذا العام بلغ البُرُّ ثلاثة أصوع بريال, وبلغ التمر سبع وزنات بريال، وبِيعَ في ناحية الوشم والقصيم خمس وزنات بريال, وأمَّا في مكة فالأمر فيها أعظَمُ بسبب الحرب والحصار بعد نقض الشريف غالب الصلحَ مع الإمام سعود، فسُدَّت كُلُّ الطرق عن مكة من جهة اليمن والحجاز وتهامة ونجد؛ لأن أهل هذه البلدان كلُّهم رعايا لدولة الإمام سعود في الدرعية, وأمَّا في نجد فاشتدَّ الجوع فيها على الناس واستمَرَّ الغلاء والجوع في نجدٍ نحو ست سنوات. لكِنَّ الله جعل لهم في الأمن عوضًا عن الجوع والغلاء، فالرجل يسافر إلى أقصى البلاد من اليمن وعمان والشام والعراق وغيرها لا يخشى أحدًا إلا الله, وقد صارت الدرعية لهم رداءً كالبصرة والأحساء، فمن أتاها بنفسه وعياله وسَّعَ الله عليه دنياه.
وقع سِبابٌ بين سليمان بن عبد الله الصميط من سبيعٍ، ومِن أهلِ حرمة وبين عبد الرحمن بن مبارك بن راشد، رئيس أهل حرمة، فوثب رجلٌ من آل راشد فقتَلَ سليمانَ، فكمن رجلٌ من الصميط لناصر بن راشد أمير الزبير فقتَلَه، وحصل مجاولات بين الفريقين، انضَمَّ إلى آل راشد آلُ زهير، ثم وقع الصلح بينهم واجتمعوا له وحضره العُلَماء والرؤساء والمشايخ، وكتبوا بينهم سِجِلًّا أودعوا فيه شيئًا عظيمًا من المواثيق، وشَهِدَ عليه 28 من المشايخ والعلماء والرؤساء، ثمَّ إن آل زهير وآل رشيد نقضوا الصُّلحَ وتآمروا على قَتلِ جاسر بن فوزان الصميط وهو يومئذٍ رئيسُ القوم، فتفرق قومُه في الكويت وقَدِمَ إلى الزبير أميرًا عليها علي بن يوسف بن زهير وصار له فيها قُوَّةٌ وشُهرةٌ، وتعاظَمَ أمرُه إلى أن هلك في الوباء الذي أصاب الزبير ونواحيَه، ثم صار هلاكُ آل زهير على يدِ أعوانهم آل راشد!
انتهت الدولة السعوديُة الثانية عام 1308هـ واستطاع محمدُ ابنُ رشيد السيطرةَ على كل المناطق التي كانت تحت حُكمِ آل سعود في نجدٍ وما حولها، وبقِيَ الأمرُ على ذلك إلى عام 1319هـ، وكان كُلَّ هذه الفترة عبدُالرحمن بن فيصل مع أسرتِه في الكويت، ثمَّ إن أمير حائل عبد العزيز بن متعب استعَدَّ لقتال الشيخ مبارك أميرِ الكويت، فاقترح عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل على الشيخِ مبارك أن يسيرَ بقوَّةٍ إلى الرياضِ فيأخُذَها من آلِ رشيدٍ، فتَضعُف قوَّتُهم عن محاربةِ الشيخ مبارك، فلاقى ذلك قبولًا عنده، فلمَّا اتجَه الشيخُ مبارك بقواتِه إلى جهة القصيم واشتَبَك مع ابن رشيد في معركةٍ حامية بالقُربِ مِن مكانٍ يُسمَّى بالصريف على مقربةٍ مِن الطرفية في القصيم، كان عبد العزيز قد سار بقوةٍ إلى الرياض ـ وحاصَرَها ولم يستَطِعْ دُخولَها، فاضطر للانسحابِ منها، ثمَّ عاد إلى الكويت بعد أن بلَغَه هزيمة الشيخ مبارك أمامَ ابن رشيد في معركةِ الصريفِ.
قام أحمد الشقيري مندوب فلسطين في الجامعة العربية بناءً على تكليفٍ من مؤتمر القمة العربية الأول في القاهرة بإجراء اتصالات مع الدول العربية والفعاليات والجمعيات والهيئات الفلسطينية، وقد أسفرت هذه الاتصالاتُ عن عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس بتاريخ 28 مايو، وصدرت عنه قرارات، أهمها:
1- قيامُ إسرائيل خَطَرٌ أساسي يجب دَفْعُه سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا.
2- إنشاءُ قيادة عربية موحَّدة لجيوش الدول العربية يبدأ تشكيلُها في كنف الجامعة العربية بالقاهرة.
3- إنشاء "هيئة استغلال مياه نهر الأردن" لها شخصيةٌ اعتبارية في إطار جامعة الدول العربية، مهمَّتُها تخطيطُ وتنسيقُ وملاحظة المشاريع الخاصة باستغلال مياه نهر الأردن.
4- إقامةُ قواعِدَ سليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني؛ لتمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره. وتمَّ توكيل أحمد الشقيري أمرَ تنظيمِ الشعب الفلسطيني.
تُوفِّي الأميرُ بدرُ بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله نائبُ رئيسِ الحرسِ الوطنيِّ السعودي السابقُ. وقد شارَك في عددٍ من الوُفود واللِّجان بالمملكة، ورافقَ الملكَ فيصلَ بنَ عبد العزيز في زياراتِه الرسميَّةِ لبعضِ الدُّول العربية والإسلامية. وعُيِّن وَزيرًا للمُواصَلات عامَ (1381هـ-1961م)، وأصدر الملكُ فيصلٌ أمْرَه بتعيينِه نائبًا لرئيس الحرس الوطنيِّ في (3/11/1387هـ) الموافِقِ (1967م). وشارَك في وَضعِ خُطَطِ تطويرِ الحرسِ الوطنيِّ والإشرافِ عليها وتنفيذِها. وللأميرِ مُشاركاتٌ ثقافيةٌ، ورياضيَّةٌ، واجتماعيةٌ أُخرى، سواءٌ رسميةٌ أو خاصةٌ؛ فقد كان نائبًا لرئيس مجلس إدارة نادي الفُروسِيَّة، ورئيسًا للَّجنة العليا للمِهرجان الوطني للتُّراث والثَّقافة، ورئيسَ هيئةِ الإشرافِ على مَجَلَّة الحرس الوطني العسكريَّة. وقد أُقيمت صلاةُ الجنازة عليه بجامِعِ الإمام تركي بن عبد الله بمدينة الرياض.
في يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا في أمرِه إلى الغاية، فبينما هو جالسٌ بقاعة قلعة الدهيشة، وكانت الخدمةُ بطالةً في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلِّيَ السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطانُ يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات-جمع قرقل وهو ثوب بغير كمين- التي وعدهم السلطان بها من الزردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أول الشهر، فتركوه ومضَوا، فلقوا الشيخ عليًّا الخراساني الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان، فاستقبلوه بالضرب المبَرِّح المتلِف، وأخذوا عمامتَه من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطاني حتى نجا، ثم إنَّ الصياح قوي ثانيًا فعُلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأميرُ يونس الدوادار، فسألهم يونس عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا- المخصصات- كل واحد سبعة أشرفية ذهبًا في كل شهر، وكانت جامكية الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبًا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيَّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا: ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أي على ثلاث نفقات كما كانت قديمًا، ونريد أيضًا أن يكون عليقنا السلطاني الذي نأخذه من الشونة مُغَرْبلًا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينًا, فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوَّه به إلى السلطان، وتربص عن ردِّ الجواب على السلطان حتى يفرغَ السلطان من أكل السماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانًا مقدَّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضًا ولم يخبِر السلطان بشيء حتى فرغ من أكل السماطِ، فعند ذلك عرفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانًا المقدَّم يعرفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيًا إلى السلطان بالكلام الأول، وصار يتردُّد مرجان بين السلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصمِّمون على مقالتهم، والسلطان ممتنع من ذلك، وامتنع الناس من الدخول والخروج إلى السلطان خوفًا من المماليك؛ لما فعلوه مع العجمي المحتسِب، فلما طال الأمر على السلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعةٌ من الأمراء والمباشرين، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم، فلما رأى شدةَ الرجم، قصد العودَ إلى الدهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلَّا أن يوصلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقي السلطان في خواصِّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابي أحمد، فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرجمُ المفرط من كل جهة، فأسرع في مشيته والرجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكي الذي كان حامِلَ ترس السلطان من الرجم، فأخذ الترسَ خاصكيٌّ آخر فضُرِبَ الآخر فوقع وقام، وشج دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردةُ نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنَّه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلًا، فقصدوه أيضًا بالرجم، فقام ودخل من باب الحريم وتوجه إلى الدهيشة، واستمر وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركةٍ في يوم الجمعة مراعاةً لصلاة الجمعة، وأصبح السلطان وصلَّى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان في أمرهم بما معناه أنه لا بد لهم من شيء يطيب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأخذونها في السنة مرة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف درهم، وزادوهم أيضًا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسًا واحدًا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رُسِمَ لهم أن تكون تفرقة الجامكية على ثلاث نفقات في ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرَضُوا بذلك وخَمَدت الفتنة.
هو أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي، أميرُ الشعراء، ولد بالقاهرة سنة 1285 ونشأ بها، أمَّا أصلُه فأبوه تركي، وأمُّه يونانية. يقول شوقي عن نفسه: إني عربي، تركي، يوناني، جركسي، أصولٌ أربعة في فروع مجتمعة، تكفلها له مصر، وقد سمع أباه يردُّه إلى الأكراد فالعرب، ويقول: إنَّ والده قَدِمَ هذه الديار يافعًا يحمِلُ وصاةً من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد على باشا، فأدخَلَه في معيَّتِه، وظَلَّ يتقَلَّبُ في المناصب السامية حتى أقامه سعيد باشا أمينًا للجمارك المصرية. نشأ أحمد شوقي في بيئة مُترَفة؛ إذ عاش في قصر خديوي مصر؛ حيث كانت جدَّتُه من وصيفات القصر، ودخل كتَّابَ الشيخ صالح بحي السيدة زينب بالقاهرة وهو في الرابعة من عمره، ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، ومنها إلى المدرسة التجهيزية، وقد مُنِحَ المجانية نظرًا لتفوُّقِه؛ قال الشعر في الرابعة عشرة من عمره، وأُعجِبَ به أستاذه الشيخ (حسين المرصفي).
وممَّا يدُلُّ على نبوغه الشعري المبكر أنَّ أستاذه في اللغة العربية، وكان شاعرًا فصيحًا بهر بشاعريَّتِه، فكان يجلِسُ منه مجلسَ التلميذ من أستاذه، وكان هذا الشيخُ يَنظِمُ القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق، كلما حلَّ موسم أو جاء عيد، وقبل أن يرسِلَها إلى القصر لكي تُنشَرَ في الصحف يَعرِضُها على شوقي، فيُصلِحُ شوقي فيها، فيمحو هذه الكلمة أو تلك، ويعدل هذا الشطر أو ذاك، أو يُسقِطُ بعض الأبيات، وبعد أن أتمَّ أحمد شوقي تعليمه الثانوي التحق بمدرسة الحقوق لدراسة القانون، وقضى بها سنتين، ثم انضمَّ إلى قسم الترجمة ونال بعد سنتين إجازة للترجمة. وبحُكم تربيته في قصر الخديوي فقد أخذ يُنشِدُ قصائده في مدح الخديوي توفيق، وقد نُشِرَت أولى قصائده في جريدة الوقائع المصرية، ونظرًا لصلة شوقي بالقصر فقد أرسله الخديوي على نفقته في بعثة إلى فرنسا لإتمام دراسته في الحقوق والآداب بجامعة مونبليه بباريس، وعاد شوقي إلى مصر، فعَمِلَ في قسم الترجمة بالقصر، وظلَّ يتدرَّجُ في المناصب حتى أصبح رئيسًا لهذا القسم، وأصبح قريبًا من الخديوي عباس حلمي الذي خلف الخديوي توفيق، وأنيسَ مجلِسِه ورفيق رحلته، وأخذ شوقي يمدحُه بقصائده، حتى سمِّيَ (شاعر الأمير) ولَمَّا شبَّت الحرب العالمية الأولى خلعت إنجلترا بقوةِ الاحتلالِ الخديوي عن عرش مصر، ورأى الإنجليز يومئذ أن يغادر أحمد شوقي البلادَ بسبب شدة ولائه للخديوي، فاختار شوقي برشلونة من أعمال إسبانيا مقرًّا له ولأسرته، ولم يَعُدْ إلى مصر إلا بعد أن عاد السلام إلى العالم، فجُعِلَ من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أن توفي. عالج شوقي أكثَرَ فنون الشعر: مديحًا، وغزلًا، ورثاءً، ووصفًا، ثم تناول الأحداثَ السياسية والاجتماعية في مصر والشرق والعالم الإسلامي، فجرى شعرُه على كل لسان. وكانت حياتُه كلها (للشعر) يستوحيه من المشاهدات ومن الحوادث. اتسعت ثروته، وعاش مُترَفًا في نعمة واسعة، ودَعةٍ تتخَلَّلُها ليال (نواسية) وسمَّى منزله (كرمة ابن هاني) وبستانًا له (عشَّ البلبل) وكان يَغشى في أكثر العشيات بالقاهرة مجالِسَ من يأنس بهم من أصدقائه، يلبثُ مع بعضهم ما دامت النكتةُ تسود الحديث، فإذا تحوَّلوا إلى جدل في سياسة أو نقاش في (حزبية) تسلَّل من بينهم، وأَمَّ سواهم. وهو أوَّلُ من جوَّد القَصَص الشعري التمثيلي، بالعربية، وقد حاول قبله أفرادٌ فبَزَّهم وتفَرَّد. وأراد أن يجمَعَ بين عنصرَيِ البيان: الشعر والنثر، فكتب نثرًا مسجوعًا على نمط المقامات، فلم يلقَ نجاحًا، فعاد منصرفًا إلى الشعر، وكان شوقي شاعرًا ذا طبع دقيق، وحِسٍّ صادق، وذوق سليم، وقد عالج شوقي الشعرَ التمثيلي، فنَظَم رواياته المعروفة؛ ومن آثاره: مصرع كليوباترا قصة شعرية، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعلي الكبير، والست هدى، وقد جُمِعَ شِعرُه في ديوانه الشوقيات، يقع في أربعة أجزاء. وله في الشعر أيضًا كتاب عظماء الإسلام، ولشوقي نثر مسجوع جمع طائفةً كبيرة منه في كتاب اسمه: أسواق الذهب. توفي في القاهرة.
كان ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنَّه أصابته فاقةٌ شديدةٌ فدخل سامرَّا فسأل وصيفًا أن يجري عليه رزقًا فأغلظ له القولَ، فرجع إلى أرض الكوفة فاجتمع عليه خلقٌ من الأعراب، وخرج إليه خلقٌ من أهل الكوفة، فنزل على الفلوجة، وقد كثُرَ الجمع معه، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر نائبُ العراق إلى عامِلِه يأمُرُه بقتالِه، وظهر أمرُه بالكوفة واستحكم بها، والتفَّ عليه خلقٌ من الزيدية وغيرِهم، ثم خرج من الكوفة إلى سوادِها ثم كرَّ راجِعًا إليها، فتلقاه عبد الرحمن بن الخطاب الملقَّب وجه الفلس، فقاتله قتالًا شديدًا، فانهزم وجه الفلس، ودخل يحيى بن عمر الكوفةَ ودعا إلى الرضى من آل محمد، وقوي أمرُه جدًّا، وصار إليه جماعةٌ كثيرة من أهل الكوفة، وتولَّاه أهل بغداد من العامَّة وغيرِهم ممَّن يُنسَبُ إلى التشيُّع، وأحبوه أكثَرَ من كل من خرج قبله من أهل البيتِ، وشرع في تحصيلِ السلاحِ وإعداد آلاتِ الحرب وجَمْعِ الرجال، وقد هرب الحسينُ بن إسماعيل نائبُ الكوفة منها إلى ظاهِرِها، واجتمع إليه أمدادٌ كثيرة من جهة الخليفة مع محمد بنِ عبد الله بن طاهر، واستراحوا وجمَعوا خيولَهم، فلما كان اليومُ الثاني عشر من رجب، أشار من أشار على يحيى بن عمر ممَّن لا رأي له، أن يركَبَ ويناجز الحُسين بن إسماعيل ويكبِسَ جيشه، فركب في جيشٍ كثير من خلقٍ من الفرسان والمشاة أيضًا من عامَّة أهل الكوفة بغير أسلحةٍ، فساروا إليهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا في ظلمة آخر الليل، فما طلع الفجرُ إلَّا وقد انكشف أصحابُ يحيى بن عمر، وقد تقنطَرَ به فرسه، ثم طُعِنَ في ظهرِه فخَرَّ، فأخذوه وحزُّوا رأسَه وحملوه إلى الأمير الحسين بن إسماعيل فبعَثَه إلى ابن طاهر، فأرسله إلى الخليفة من الغدِ مع رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب، فنُصِبَ بسامرَّا ساعة من النهار ثم بُعِثَ به إلى بغداد فنُصِبَ عند الجسر، ولم يمكِنْ نصبُه من كثرة العامَّة فجُعِلَ في خزائن السلاح، وكان الخليفة قد وجَّه أميرًا إلى الحسين بن إسماعيل نائب الكوفة، فلما قُتِلَ يحيى بن عمر دخلوا الكوفة فأراد ذلك الأميرُ أن يضع في أهلِها السيفَ، فمنعه الحسين وأمَّنَ الأسودَ والأبيض، وأطفأ اللهُ هذه الفتنة.
كانت الحَربُ بين عَسكَرِ عبدِ المُؤمِنِ والعَرَبِ عند مدينة سطيف، وسَبَبُ ذلك أنَّ العَرَبَ- وهم بنو هلالٍ، والأبتح، وعدي، ورياح، وزغب، وغيرهم من العرب- لَمَّا مَلَك عبدُ المؤمِنِ بلادَ بني حَمَّاد اجتَمَعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إنْ جاوَرَنا عبدُ المؤمِنِ أجلانا من المَغرِبِ، وليس الرأيُ إلَّا إلقاءَ الجِدِّ معه، وإخراجَه من البلاد قبل أن يتمَكَّنَ، وتحالَفوا على التعاوُنِ والتَّضافُرِ، وألَّا يَخونَ بَعضُهم بعضًا، وعَزَموا على لقائِه بالرِّجالِ والأهلِ والمالِ؛ ليُقاتِلوا قِتالَ الحريم، واتَّصَل الخبَرُ بالملك رجار الفرنجي، صاحِبِ صقَليَّة، فأرسل إلى أمراءِ العَرَبِ، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى بن حسن وغيرهم يَحُثُّهم على لقاءِ عبدِ المؤمنِ ويَعرِضُ عليهم أن يُرسِلَ إليهم خمسةَ آلاف فارس من الفِرنجِ يُقاتِلونَ معهم على شَرطِ أن يُرسِلوا إليه الرَّهائِنَ، فشَكَروه وقالوا: ما بنا حاجةٌ إلى نَجدَتِه ولا نَستَعينُ بغير المُسلِمينَ، وساروا في عددٍ لا يحصى، وكان عبدُ المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلادِ المغرب، فلَمَّا بلغه خبَرُهم جَهَّزَ جَيشًا من الموحِّدينَ يزيدُ على ثلاثين ألفَ فارس، واستعمل عليهم عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ الهنتاني، وسعدَ اللهِ بنَ يحيى، وكان العَرَبُ أضعافَهم، فاستجَرَّهم الموحِّدونَ وتَبِعَهم العَرَبُ إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف بين جبال، فحَمَلَ عليهم جَيشُ عبد المؤمن فجأةً والعَرَبُ على غيرِ أُهبةٍ، والتقى الجَمعانِ، واقتتلوا أشَدَّ قتالٍ وأعظَمَه، فانجَلَتِ المعركةُ عن انهزامِ العَرَبِ ونُصرةِ المُوحِّدينَ، وتَرَك العَرَبُ جميعَ ما لهم من أهلٍ ومالٍ وأثاثٍ ونَعَمٍ، فأخذ الموحِّدونَ جميعَ ذلك، وعاد الجيشُ إلى عبدِ المُؤمِنِ بجَميعِه، فقَسَّمَ جميعَ الأموالِ على عَسكَرِه، وتَرَك النِّساءَ والأولادَ تحت الاحتياط، وكَّلَ بهم من الخَدَمِ الخِصيانِ مَن يَخدُمهم ويقومُ بحَوائِجِهم، وأمَرَ بصِيانتِهم، فلمَّا وصلوا معه إلى مراكش أنزَلَهم في المساكنِ الفَسيحةِ، وأجرى لهم النَّفَقاتِ الواسِعةَ، وأمَرَ عبدُ المؤمِنِ ابنَه مُحمَّدًا أن يكاتِبَ أُمَراءَ العَرَبِ ويُعلِمُهم أنَّ نِساءهم تحت الحِفظِ والصِّيانة، وأمَرَهم أن يَحضُروا ليُسَلِّمَ إليهم أبوه ذلك جَميعَه، وأنَّه قد بذل لهم الأمانَ والكَرامةَ، فلمَّا وَصَلَ كِتابُ مُحَمَّدٍ إلى العَرَبِ سارعوا إلى المسيرِ إلى مراكش، فلمَّا وصلوا إليها أعطاهم عبدُ المؤمِنِ نِساءَهم وأولادَهم، وأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلةً، فاستَرَقَّ قُلوبَهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حَفِيًّا، واستعان بهم على ولايةِ ابنِه مُحمَّدٍ للعَهدِ.
هو السُّلطانُ مُعِزُّ الدِّينِ أبو الحارِثِ سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن جغريبك بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق؛ الغُزِّيُّ، التُّركيُّ، السَّلجوقيُّ سُلطانُ خراسان وغُزنَة وما وَراءَ النَّهرِ. كانت وِلادَتُه يومَ الجُمعةِ لِخَمسٍ بَقِينَ من رجب سَنةَ 479هـ بظاهِرِ مَدينةِ سنجار، ولذلك سُمِّيَ بسنجر. نَشأَ ببلادِ الخَزَر، ثم سَكنَ خراسان. كان مِن أَعظمِ المُلوكِ هِمَّةً، وأَكثرِهم عَطاءً، ذُكِرَ عنه أنه اصطَبَحَ خَمسةَ أيامٍ مُتوالِيَة ذَهَبَ في الجُودِ بها كلَّ مَذهَبٍ، فبَلَغَ ما وَهَبَهُ مِن العَينِ سبعمائة ألف دينار، غيرَ ما أَنعمَ من الخَيلِ والخِلَعِ والأَثاثِ وغيرِ ذلك. وَلِيَ نِيابةً عن أَخيهِ السُّلطانِ بركياروق سَنةَ 490هـ، ثم استَقَلَّ بالمُلْكِ في سَنةِ 512هـ. كان في أَيامِ أَخيهِ يُلَقَّب بالمَلِكِ المُظَفَّر إلى أن تُوفِّيَ أَخوهُ محمدٌ بالعِراقِ، آخرَ سَنةِ 511هـ، فتَسَلْطَنَ، وَرِثَ المُلْكَ عن آبائهِ، وزادَ عليهم، ومَلَكَ البِلادَ، وقَهَرَ العِبادَ، وكان وَقورًا حَيِيًّا، كَريمًا سَخِيًّا، مُشفِقًا، ناصِحًا لِرَعِيَّتِه، كَثيرَ الصَّفْحِ، جَلَسَ على سَريرِ المُلْكِ قَريبًا من سِتِّين سَنةً, وضُرِبَت السِّكَّةُ باسمِه في الخافِقَينِ. كان قد خُوطِبَ سنجر بالسُّلطانِ بعدَ وَفاةِ أَخيهِ محمدٍ، فاستَقامَ أَمرُه، وأَطاعَهُ السَّلاطينُ، وخُطِبَ له على أَكثرِ مَنابرِ الإسلامِ بالسَّلطَنَةِ نحوَ أربعين سَنَةً، وكان قَبلَها يُخاطَب بالمَلِكِ عِشرينَ سَنةً, ولم يَزَل أَمرُهُ عالِيًا وَجَدُّهُ مُتراقِيًا إلى أن أَسَرَهُ الغُزُّ الأَتراكُ التُّركمان، ثم إنه خُلِّصَ مِن الأَسْرِ بعدَ مُدَّةٍ وجَمَعَ إليه أَطرافَهُ بمَرو، وكاد يعودُ إليه مُلْكُه، لولا أنه أَدرَكَهُ أَجَلُه، فقد أَصابَهُ قولنج، ثم إسهال، فماتَ منه، ولمَّا مات دُفِنَ في قُبَّةٍ بَناها لِنَفسِه سَمَّاها دارَ الآخِرَةِ؛ ولمَّا وَصَلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد قُطِعَت خُطبتُه، ولم يُجلَس له في الدِّيوانِ للعَزاءِ، وانقَطَع بمَوتِه استِبدادُ المُلوكِ السَّلجوقيَّة بخراسان، واستَولَى على أَكثرِ مَملَكتِه خوارزم شاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين، وهو جَدُّ السُّلطانِ محمدِ بن تكش خوارزم شاه، فسُبحان مَن لا يَزولُ مُلْكُه. كان السُّلطانُ سنجر لمَّا حَضَرَهُ المَوتُ استَخلَفَ على خراسان المَلِكَ محمودَ بنَ محمدِ بنِ بغراجان، وهو ابنُ أُختِ السُّلطانِ سنجر، فأَقامَ بها خائِفًا من الغُزِّ، فقَصَدَ جرجان يَستَظهِر بها، وعاد الغُزُّ إلى مَرو وخراسان، واجتَمَعَ طائفةٌ من عَساكرِ خراسان على أي أبه المؤيد -أحد مماليك سنجر السلجوقي- فاستَولَى على طَرفٍ من خراسان. وبَقِيَت خراسان على هذا الاختِلالِ إلى سَنةِ أربعٍ وخمسين.
هو المَلِكُ المظَفَّر رُكنُ الدين بيبرس البرجي الجاشنكير- متذوِّق طعام السلطان- المنصوري. كان يُعرَف بالعثماني كان أبيضَ أشقرَ مُستدير اللحية، فيه عقل ودِينٌ، وله أموالٌ لا تحصى، وله إقطاعٌ كبيرٌ فيه عدَّة إقطاعات لأمراءَ، كان أستاذ دار الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلار نائبًا فحَكَما في البلاد وتصَرَّفا في العباد، وللسُّلطانِ الاسمُ لا غير، وكان نواب الشام خوشداشية- زملاء مهنته- الجاشنكير وحزبه من البرجيه قويًّا، فلما توجه الملك الناصر إلى الحجاز ورَدَّ من الطريق إلى الكرك وأقام بها، لَعِبَ الأميرُ سيف الدين سلار بالجاشنكير وسَلْطَنَه وسُمِّيَ بالملك المظَفَّر، وفَوَّضَ الخليفةُ إليه ذلك وأفتى جماعةٌ من الفقهاء له بذلك، وكُتِبَ تقليدُه وركب بخِلعةِ الخلافةِ السَّوداء والعمامة المدوَّرة والتقليد على رأسِ الوزير، وناب له الأمير سيف الدين سلار واستوسق له الأمر، فأطاعه أهل الشام ومصر وحلفوا له في شوال سنة ثمانٍ وإلى وسط سنة تسع، فغضب منه الأمير سيف الدين برلغي وجماعةٌ من الخاصكية نحو المائة وخامروا عليه إلى الكرك، فخرج السلطان الناصر بن قلاوون المخلوع من الكرك وحضر إلى دمشقَ وسار في عسكر الشام إلى غزَّة، فجَهَّز المظفر يزكا- طلائع- قَدَّمَ عليهم الأميرَ سيفَ الدين برلغي فخامر إلى الناصر فذَلَّ المظَفَّر وهرب في مماليكه نحو الغرب, فلما خرج الأميرُ سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجِّهًا إلى نيابة الشام عِوَضًا عن الأفرم، فلمَّا كان بغزَّة في سابع ذي القعدة ضرب حلقةً لأجل الصيد، فوقع في وسَطِها بيبرس الجاشنكير في ثلاثمائةٍ من أصحابه فأُحيطَ بهم وتفَرَّقَ عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن، فلما كان بالخطارة تلقَّاهم استدمر فتسَلَّمَه منهم، ورجعا إلى عسكَرِهم، ودخل به استدمر على السُّلطانِ فعاتبه ولامه، وكان آخِرَ العهد به، فقُتِلَ ودُفِنَ بالقرافة ولم ينفَعْه شَيءٌ ولا أمواله، بل قُتِلَ شَرَّ قِتلةٍ، حيث أحضره السلطانُ فقَرَّره بكلِّ ما فعله من شنائِعَ على السلطان وهو يقِرُّ بذلك، ثمَّ أمَرَ به فخُنِقَ بين يديه بوَتَرٍ حتى كاد يَتلَف، ثمَّ سَيَّبَه حتى أفاق، وعنَّفَه وزاد في شَتمِه، ثم خنَقَه ثانيًا حتى مات، وأنزل على جنوية إلى الإسطبل السلطاني فغُسِّلَ ودُفِنَ خلف قلعةِ الجبل، وذلك في ليلةِ الجمعة خامس عشر ذي القعدة، وكانت أيام المظفَّر هذا في سلطنة مصر عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا لم يتهَنَّ فيها من الفِتَنِ والحركةِ!!
لما كان يومُ الرابع والعشرين شعبان ركب الأتابكُ برقوق من الإسطبل السلطاني في حواشيه ومماليكه للتسير على عادته، وكان الأميرُ بركة الجوباني مسافرًا بالبحيرة للصيد، فلما بلغ إينال اليوسفي أمير سلاح ركوبُ برقوق من الإسطبل السلطاني، انتهز الفرصة لركوبِ برقوق وغَيبة بركة، وركب بمماليكِه وهجم الإسطبلَ السلطانيَّ ومَلَكَه، ومسَكَ الأميرَ جركس الخليلي، وكان مع إينال جماعةٌ من الأمراء ولما طلع إينال إلى باب السلسلة وملكها، أرسل الأميرَ قماري ليَنزِلَ بالسلطان الملك المنصور إلى الإسطبل، فأبى السلطانُ من نزوله ومنعه، ثم كبس إينال زردخاناه-خزانة السلاح- برقوق، وأخرج منها اللَّبوسَ وآلة الحرب، وأخذ مماليكَ برقوق الذين كانوا وافقوه وألبسهم السلاحَ وأوقفهم معه وأوعدهم بمالٍ كبير وإمريات، وبلغ برقوقًا الخبَرُ فعاد مسرعًا، وجاء إلى بيت الأمير أيتمش البجاسي بالقرب من باب الوزير وألبس مماليكَه هناك، وجاءه جماعةٌ من أصحابه، فطلع بالجميع إلى تحت القلعة وواقعوا إينال اليوسفي، وأرسل برقوقٌ الأميرَ قرط في جماعة إلى باب السلسلة الذي من جهةِ باب المدرج، فأحرَقَه، ثم تسَلَّقَ قرط من عند باب سر قلعة الجبل، ونزل ففتح لأصحابِه الباب المتَّصِلَ إلى الإسطبل السلطاني، فدخلت أصحابُ برقوق منه وقاتلت إينال، وصار برقوقٌ بمن معه يقاتل من الرميلة، فانكسَرَ إينال ونزل إلى بيته جريحًا من سَهمٍ أصابه في رقبَتِه من بعض مماليك برقوق، وطلع برقوقٌ إلى الإسطبل وملكه، وأرسل إلى إينال من أحضره، فلما حضَرَ قَبَض عليه وحَبَسه بالزردخاناه، وقَرَّره بالليل فأقَرَّ أنه ما كان قصده إلَّا مَسْكَ بركة لا غير، ثم إن برقوق مسك جماعةً من الأمراء وغيرِهم من أصحاب إينال اليوسفي، ما خلا سودون النوروزي، جمق الناصري وشَخصًا جنديًّا يسمى أزبك كان يدعي أنه من أقارب برقوق، ثمَّ حُمِلَ إينال في تلك الليلة إلى سجن الإسكندرية ومعه سودون جركس، ثمَّ أخذ برقوق في القبض على مماليك إينال اليوسفي، ونودِيَ عليهم بالقاهرة ومصر، ثم في الثامن والعشرين من شعبان حضر الأمير بركة من السرحة، فركب الأتابك برقوق وتلقَّاه من السحر وأعلمه بما وقع من إينال اليوسفي في حَقِّه، ثم اتفقا على طلب الأمير يلبغا الناصري من نيابة طرابلس، فحضر وأنعم عليه بإقطاع إينال اليوسفي ووظيفته إمرة سلاح، وكانت وظيفةُ يلبغا قبل إينال، وتولَّى مكانَه في نيابة طرابلس منكلي بغا الأحمدي البلدي، ثم استقَرَّ بلوط الصرغتمشي في نيابة الإسكندرية.
هو أبو عبدِ الرَّحمن مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان الأُمَويُّ القُرشيُّ، مِن أصحابِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأحدُ كُتَّابِ الوَحْي، سادِسُ الخُلفاءِ في الإسلامِ، وأوَّلُ مُلوكِ المسلمين، ومُؤَسِّسُ الدَّولةِ الأُمويَّة في الشَّام، وُلِدَ بمكَّة وتَعَلَّم الكِتابَةَ والحِسابَ، أَسلَم مُعاوِيَةُ رضي الله عنه يومَ الفَتحِ، وقِيلَ: في عُمرَةِ القَضاءِ وكان يَكتُم إسلامَهُ خَوفًا مِن أَبيهِ، وقد اسْتَعمَله رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على كِتابَةِ الوَحْي، واسْتَعمَلَه على الشَّامِ الخُلفاءُ: عُمَرُ، وعُثمانُ، وبَقِيَ على الشَّام في خِلافَة عَلِيٍّ بغَيرِ رِضاهُ، فبَقِيَ كذلك قُرابةَ العِشرين سنة، ثمَّ تَمَّ له الأَمْرُ بعدَ تَنازُلِ الحسنِ بن عَلِيٍّ له، وبَقِيَ خَليفَةً مُدَّةَ تِسعةَ عشرَ عامًا وأَشْهُر، فتَح الله له فيها الكثيرَ مِن البِلادِ، واشْتُهِرَ بالحِكمَةِ في سِياسَتِه للنَّاس، ومُداراتِه لهم، وكان قد عَهِدَ لابنِه يَزيدَ قبلَ مَوتِه، وبعَث في البِلادِ لِيأخُذوا له ذلك، وتُوفِّي في دِمشقَ وصلَّى عليه الضَّحَّاكُ بن قيسٍ، ودُفِنَ فيها، جَزاهُ الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
هو موسى الهادي بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبو محمد وَلِيَ الخلافةَ في محرم سنة تسع وستين ومائة. مات وله من العمُرِ ثلاث وعشرون سنة، ويقال: إنَّه لم يلِ الخلافةَ أحدٌ قبلَه في سِنِّه، وكان حسنًا جميلًا طويلًا، أبيض، وكان قويًّا شَهمًا خبيرًا بالمُلك كريمًا، ومن كلامه: "ما أُصلِحَ الملكُ بمثل تعجيلِ العقوبةِ للجاني، والعفوِ عن الزلَّات، ليقِلَّ الطَّمعُ عن الملك". سار على طريقةِ أبيه المهدي في تتبُّعِ الزنادقة واستئصالهم. واختُلِفَ في سبب وفاته، فقيل: كان سببها قرحةً كانت في جوفه، وقيل: مَرِضَ وهو بحديثة الموصل، وعاد منها مريضًا فتوفِّيَ، وقيل: إنَّ وفاته كانت من قبَل جَوارٍ لأمِّه الخيزُران كانت أمَرَتهنَّ بقتله، وكان سببُ أمرِها بذلك أنَّه لَمَّا وَلِيَ الخلافةَ منعها من أن تتصَرَّف بأي شيءٍ في أمور الخلافةِ أو الشَّفاعات وغيرها, وصلَّى عليه الرشيدُ، ودُفِنَ بعيساباذ الكبرى في بستانِه، فكانت خلافتُه سنة وثلاثة أشهر.