بقي الخليفة العباسي المستعين بالله سلطانًا بعد خلع السلطان الناصر فرج أول السنة، ولكن الأمير شيخ المحمودي بيده كل شيء من أمر ونهي وعزل حتى تسمى بالأمير الكبير، ثم لما عَظُم أمره بعد موت بكتمر، وهو مقدم الألوف في الجيش، رأى شيخ المحمودي أن الجوَّ قد خلا له فلا مانع من سلطنته، فطلب الأمراء وكلَّمهم في ذلك، فأجاب الجميع بالسمع والطاعة طوعًا وكرهًا واتفقوا على سلطنته، فلما كان يوم الاثنين مستهل شعبان، وعمل الموكب عنده على عادته بالإسطبل السلطاني، واجتمع القضاة الأربعة، قام فتح الله كاتب السر على قدميه في الملأ وقال لمن حضر: إن الأحوال ضائقة، ولم يعهد أهل نواحي مصر اسم خليفة، ولا تستقيم الأمور إلا بأن يقوم سلطان على العادة، ودعاهم إلى الأتابك شيخ المحمودي، فقال الأمير شيخ: هذا لا يتم إلا برضا الجماعة، فقال من حضر بلسان واحد: نحن راضون بالأمير الكبير، فمدَّ قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني يدَه وبايعه، فلم يختلف عليه اثنان، وخُلِعَ الخليفة المستعين بالله العباس من السلطنة بغير رضاه، وبعد مبايعته بالسلطنة لُقِّب بالملك المؤيد شيخ، ثم جلس على كرسي الملك، وبعث إلى الخليفة القضاة ليسلِّموا عليه، ويشهدوا عليه أنه فوَّض إلى الأمير شيخ السلطنة على العادة، فدخلوا إليه وكلموه في ذلك، فتوقف في الإشهاد عليه بتفويض السلطنة توقفًا كبيرًا، ثم اشترط في أن يؤذَنَ له في النزول من القلعة إلى داره، وأن يحلف له السلطان بأنه يناصِحَه سرًّا وجهرًا، ويكون سِلمًا لمن سالمه وحَربًا لمن حاربه، فعاد القضاة إلى السلطان وردوا الخبر عليه، وحَسَّنوا له العبارة في القول، فأجاب: يُمهَل علينا أيامًا في النزول إلى داره، ثم يُرسَم له بالنزول، فأعادوا عليه الجواب بذلك وشهدوا عليه، وتوجَّهوا إلى حال سبيلهم، وأقام الخليفة بقلعة الجبل محتفظًا به على عادته أولًا خليفة، فكانت مدة سلطنته من يوم جلس سلطانًا خارج دمشق إلى يوم خلعه يوم الاثنين أول شعبان، سبعة أشهر وخمسة أيام، فلما حان يوم الاثنين مستهل شعبان حضر القضاة وأعيان الأمراء وجميع العساكر وطلعوا إلى باب السلسلة، وتقدم قاضي القضاة جلال الدين البلقيني وبايعه بالسلطنة، ثم قام الأمير شيخ من مجلسه ودخل مبيت الحراقة بباب السلسلة، وخرج وعليه خِلعة السلطنة السوداء الخليفتي على العادة، وركب فرس النوبة بشعار السلطنة، والأمراء وأرباب الدولة مشاة بين يديه، والقبة والطير على رأسه حتى طلع إلى القلعة، ونزل ودخل إلى القصر السلطاني، وجلس على تخت الملك، وقَبَّلت الأمراءُ الأرض بين يديه، ودُقَّت البشائر، ثم نودي بالقاهرة ومصر باسمه وسلطنته، وخُلِع على القضاة والأمراء ومن له عادة في ذلك اليوم.
هو الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله المحمدي الظاهري، الشهير بتلي، يعني مجنونًا، كان من مماليك الملك الظاهر برقوق، ومن أعيان خاصكيته، وترقى في الدولة الناصرية فرج بن برقوق إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف. ثم قُبِضَ عليه وحُبِسَ بثغر الإسكندرية، هو وبيبرس الصغير الدوادار، وجانم بن حسن شاه، في يوم الخميس سابع عشر ذي الحجة سنة 806، فاستمروا في السجن إلى أن أُفرج عنهم في شوال سنة 807. وقَدِموا القاهرة، فأقام سودون المحمدي بالقاهرة، من جملة الأمراء، إلى يوم الخميس ثامن شوال سنة 808، استقر أمير آخورا كبيرًا، عوضًا عن جرباش الشيخي الظاهري بحكم عزله. فاستمر في وظيفته إلى أن اختفى الملك الناصر فرج، وخُلع وتسلطن أخوه الملك المنصور عبد العزيز ابن الملك الظاهر برقوق، فاستمر سودون المحمدي على وظيفته، إلى أن ظهر الملك الناصر وأراد الطلوع إلى القلعة، فمنعه سودون المحمدي مع من منعه من الأمراء، وقاتلوه قتالًا ليس بالقويِّ، ثم انهزم سودون ومن معه فملك الناصِرُ القلعة وتسلطن ثانيًا، وخلع المنصور عبد العزيز، فأمسك بسودون وأخرجه إلى دمشق على إقطاع الأمير سودون اليوسفي، واستقَرَّ الأمير أخورية من بعده الأمير جاركس القاسمي المصارع, ولما توجه سودون المحمدي إلى دمشق قبض عليه نائبها الأمير شيخ المحمودي، وحبسه بقلعتها إلى أوائل سنة 809، إلى أن فرَّ من السجن، ولحق بالأمير نوروز الحافظي، وهو إذ ذاك خارج عن طاعة الملك الناصر فرج. واستمر بتلك البلاد سنين، ووقع له أمور ومحن، وملك مدينة غزة، وشنَّ بها الغارات إلى أن ظفر به الأمير شيخ ثانيًا، وحبسه أيضًا بقلعة دمشق مدة، وحبس معه سودون اليوسفي وغيره من الأمراء. وبلغ الملك الناصر مسْكه، فبعث بطلبه مع الأمير كمشبغا الجمالي، فامتنع شيخ من إرسال سودون ورفقته، ثم أطلقهم وخرج شيخ أيضًا عن الطاعة، وذلك في سنة 812. فعاد الجمالي إلى الناصر بغير طائل، وصار سودون المحمودي من أعزِّ أصحاب شيخ، ودام معه إلى أن ملك صفد من جهة شيخ، ثم خرج عن طاعة شيخ وفرَّ إلى نوروز ثانيًا، ثم اصطلح الجميع على العصيان. واستمرَّ مع شيخ ونوروز إلى أن قُتِلَ الملك الناصر فرج، وقدِمَ سودون بصحبة الأمير شيخ إلى الديار المصرية، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف, واستمرَّ على ذلك إلى أن قبض عليه الملك المؤيد شيخ في شوال سنة 815 وحبسه بثغر الإسكندرية، فاستمر بها إلى أن قُتِلَ سودون في المحرم سنة ثماني عشرة وثمانمائة، وقتل معه الأمير دمرداش المحمدي والأمير طوغان الحسني, وسودون هذا غير الأمير سودون بن عبد الله النوروزي المعروف بالعجمي المتوفى سنة 847
لما عُزِل الشريف حسن بن عجلان بالشريف رميثة في صفر من السنة الحالية، ودخل رميثة إلى مكة لم يتعرض إليه الشريف حسن، حتى بعث ابنه بركات، وقائده شكر إلى السلطان، فقدما فكتب السلطان بإعادة الشريف حسن إلى الإمرة في ثامن عشر شهر رمضان، وجهز إليه تشريفه وتقليده، فقدما عليه وهو بجدة في ثاني شوال، فبعث إلى القواد العمرية -وكانوا باينوه من شعبان ولحقوا برميثة في مكة- يرغبهم في طاعته، فأبوا عليه وجمعوا لحربه، فسار إلى مكة وعسكر بالزاهر ظاهِرَ مكة في يوم السبت الثاني والعشرين شوال، ومعه الأشراف: آل أبي نمي، وآل عبد الكريم، والأدارسة، ومعه الأمير الشريف مقبل بن مختار الحسني أمير ينبع بعسكره، ومعه مائة وعشرون من الأتراك، فبعث إلى العمرية يدعوهم إلى طاعته، فندبوا إليه ثلاثة منهم، فلما أتوه خوَّفهم عاقبة الحرب وحذرهم، ومضوا إلى مكة فلم يعودوا إليه؛ لتماديهم وقومهم على مخالفته، فركب يوم الاثنين الرابع والعشرين من الزاهر، وخيَّم بقرب العسيلة أعلى الأبطح، وأصبح يوم الثلاثاء زاحفًا في ثلاثمائة فارس وألف راجل، فخرج إليه رميثة في قدر الثلث من هؤلاء فلما بلغ الشريف حسن إلى المعابدة، بعث يدعوهم، فلم يجيبوه فسار إلى المعلَّى ووقف على الباب ورمى من فوقه فانكشفوا عنه، وأُلقِيَت فيه النار فاحترق، وانبث أصحابُ حسن ينقبون السور ويرمون من الجبل بالنشاب والأحجار أصحاب رميثة، ثم اقتحموا السور عليهم وقاتلوهم حتى كثرت الجراحات في الفريقين، فتقدَّم بعض بني حسن وأجار من القتال، فانكف عند ذلك حسن، ومنع أصحابه من الحرب، فخرج القضاة والفقهاء والفقراء بالمصاحف والربعات إلى حسن، وسألوه أن يكفَّ عن القتال، فأجابهم بشرط أن يخرج رميثة ومن معه من مكة، فمضوا إلى رميثة وما زالوا به حتى تأخر عن موضعه إلى جوف مكة، ودخل الشريف حسن بجميع عسكره، وخيم حول بركتي المعلى، وبات بها، وسار يوم الأربعاء السادس والعشرين وعليه التشريف السلطاني ومعه عسكره، إلى المسجد، فنزل وطاف بالبيت سبعًا، والمؤذِّنُ قائم على بئر زمزم يدعو له حتى فرغ من ركعتي الطواف، ثم مضى إلى باب الصفا فجلس عنده، وقرئ تقليده إمرة مكة هناك، ثم قرئ كتاب السلطان إليه بتسلُّم مكة من رميثة، وقد حضره عامة الناس، ثم ركب وطاف البلد، ونودي بالأمان، وأجَّل رميثة ومن معه خمسة أيام، فلما مضت سار بهم إلى جهة اليمن، واستقرَّ أمر الشريف حسن بمكة على عادته، وثبت من غير منازِع.
في سابع شهر صفر قدم الخبر بأن الأمير جقمق نائب الشام أخذ قلعة دمشق واستولى على ما فيها من الأموال وغيرها، وكان بها نحو المائة ألف دينار، فاضطرب أهلُ الدولة؛ وذلك لما بلغه من أن الأمير ططر قام بأمور السلطنة كلها وتفرد بها، وفي ثامن عشر ربيع الآخر قدم الخبر بأن عساكر دمشق برزت منها، وأنها نزلت باللجون، فركب الأمير ططر في يوم الثلاثاء التاسع عشر من قلعة الجبل ومعه السلطان الملك المظفر أحمد والأمراء، يريد السفر إلى الشام، ونزل بهم في المخيم ظاهر القاهرة، وخرج الناس أفواجًا في إثره، وأصبح يوم الأربعاء الأمير تنبك ميق راحلًا، ومعه عدة من الأمراء وغيرهم، ثم استقل الأمير ططر بالمسير ومعه السلطان والخليفة وبقية العسكر في يوم الجمعة الثاني والعشرين، وفي يوم الأحد ثاني شهر جمادى الأولى دخل الأمير ططر بالسلطان إلى غزة، فقدم إليه طائعًا كثيرٌ ممن خرج من عسكر دمشق، منهم الأمير جلبان أمير أخور أحد المجردين إلى حلب في أيام المؤيد، والأمير أينال نائب حماة، فسُرَّ بهم، وأنعم عليهم، وفرَّ ممن كان معهم الأمير مقبل الدوادار في طائفة يريد دمشق، فلما كان في يوم الاثنين ثالثه: بلغ القرمشي عن جقمق بأنه يريد أن يقبض عليه، فبادر القرمشي إلى محاربته، وركب في جماعته بآلة الحرب، ووقف بهم تجاه القلعة، وقد رفع الصنجق السلطاني، فأتاه جماعة عديدة راغبين في الطاعة، وكانت بينه وبين جقمق وقعة طول النهار، فانكسر جقمق ومضى هو والأمير طوغان أمير أخور والأمير مقبل الدوادار في نحو الخمسين فارسًا إلى جهة صرخد، وأن القرمشي استولى على مدينة دمشق وتقدم إلى القضاة والأعيان أن يتوجهوا إلى ملاقاة السلطان، فقدموا إلى العسكر، وسار الأمير ططر بمن معه إلى دمشق، فدخلها بكرة يوم الأحد الخامس عشر، وأول ما بدأ به أن قبض على القرمشي والمرقبي وجرباش، وعلى الأمير أردبغا من أمراء الألوف بدمشق، وعلى الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين أستادار المؤيد، وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس كان بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الإسطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور، فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما، وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشر شعبان، وأنه قدم بهم إلى دمشق في الثالث والعشرين، فقتل جقمق نائب الشام.
جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبى عبد الله، ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، امتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن علي بن عثمان وله عصبة وقوة، فاستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فانهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فانهزم أبو عمرو بعدما قتل أبو الحسن عدةً من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلةَ في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحُمِل رأسه إليه بتونس، ففَتَّ ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت العساكر بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن علي إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد اجتمع به الأعيان، وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح، وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس، فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلًا حتى نزل جبل عجيسة، فأقر عساكرَه حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسُرَّ أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها واستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة، فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى تونس، فكثُرَ جمع أبي الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء.
هو السلطان الغازي مراد الثاني بن محمد جلبي بن بايزيد بن مراد الأول بن أورخان بن عثمان بن أرطغرل, وهو سادس سلاطين العثمانيين. ولد مراد الثاني سنة 806 (1403م) وتولى سنة 824 (1421م) بعد موت أبيه وعمره ثماني عشرة سنة. كانت أيام حكمه مليئة بالجهاد والحروب, وقد افتتح أعماله بإبرام الصلح مع أمير القرمان والاتفاق مع ملك المجر على هدنة خمسِ سنوات حتى يتفرَّغ لإرجاع ما شقَّ عصا الطاعة من ولايات آسيا لكنْ حدَثَ ما شغله عن هذا العمل، وذلك أن إيمانويل إمبراطور القسطنطينية أطلق سراح عمه مصطفى بن بايزيد ليشغَلَه عن غزوه، فبدأ مراد بالقضاء على تمرد عمه مصطفى ابن بايزيد، فلما انتهى من القضاء على عمه توجه بقواته لحصار القسطنطينية سنة 825 (1421م) دون أن يتمكن من فتحها, ثم اتجه إلى ملوك أوربا فألزم أمير الصرب بدفع جزية سنوية وأن يزوِّجَه ابنته ويتنازل له عن بعض أراضي بلاده ويقطع علاقته بملك المجر, وأعاد مراد فتح مدينة سلانيك في ألبانيا, واعترف أمير الفلاخ بسيادة العثمانيين على بلاده, ثم تمرد أميرا الفلاخ والصرب بتحريض من ملك المجر فأخضعهما مراد الثاني بالقوة وأسر عشرات الآلاف من جنودهما، وفتَحَ مدينة سمندرية الواقعة في بلاد الصرب, ولما توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين حزن عليه حزنًا شديدًا وسئم الحياة فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر هو إلى ولاية آيدين للإقامة بعيدًا عن هموم الدنيا وغمومها، لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر ملك المجر فقام بجيشه لمحاربته فوجدهم محاصرين لمدينة وارنة الواقعة على البحر الأسود، فاشتبك القتال بين الجيشين وقُتِلَ ملك المجر, وبعد أن تم للمسلمين النصر واستخلاص مدينة وارنة رجع السلطان مراد إلى عزلته لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضًا لأن عساكر الإنكشارية ازدروا بملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة 1445 م وأخمد فتنتهم ثم تنازل مراد الثاني عن السلطة لولده محمد، لكنه كان يضطر للعودة إلى الساحة السياسية وساحة القتال أكثر من مرة إلى أن توفي سنة 855 في الخامس من محرم، عن عمر يناهز الخمسين بعد أن قضى أيامًا كثيرة مجاهدًا كأنه سياج الإسلام، وبوفاته أصبح ابنه محمد متوليًا للسلطة تمامًا بكل زمامها، وكان عمره يومها يقارب الاثنين وعشرين سنة، ومحمد هذا هو المعروف بالفاتح؛ لأنه هو الذي فتح القسطنطينية.
سيَّر سلمان باشا والي العراق العساكِرَ الكثيرة من العراق والأكراد والمحمرة، ومعهم من البوادي عُربان المنتفق مع رئيسِهم حمود بن ثامر، وعُربان آل بعيج، والزقاريط وآل قشعم، وجميع بوادي العراق، وعربان شمر والظفير، وسار معه أهل الزبير وما يليهم، وجعل على قيادةِ الحملة وزيره علي كيخيا، واتفق له قوةٌ هائلة من المدافع والقنابر وآلات الحروب، واجتمع معه جموع كثيرة، حتى قيل إنَّ الخيل الذي يعلَّقُ عليها ثمانية عشر ألف, فسار علي كيخيا بجميع تلك الجموع وقصد الأحساءَ، فلما نزل فيها تابعَه أهلُ المبرز والهفوف وقرى الشرق وجميع نواحيه، ونقضوا العهدَ مع دولة الدرعيَّة, وامتنع على حملةِ علي كيخيا قصر الصاهود بالمبرز وحصْن الهفوف، فزحف بجنوده على قصرِ الصاهود وحاصره شهرين، وبذل كُلَّ الأسباب لفتحِ بسوق الأبطال والرمي المتواصِلِ بالمدافع والقنابر، وحفر حفرًا في السورِ ملأها بالبارود، ثمَّ ثوَّرها عليهم دون طائلٍ حتى وقع فيهم الفشلُ، ولم يكن في داخل هذا القصر إلَّا 100 رجل أكثَرُهم من نجد مع سليمان بن محمد بن ماجد الناصر من أهل ثادق، وكان يتصف بالشجاعة فثبت هو ومن معه ولم يعطُوا الدنيَّةَ لعدُوِّهم حتى بطَلَ كَيدُهم ووقع في قلوبِ الكيخيا وعساكره الملَلُ والتخاذل, فارتحلوا راجعين وتركوا الأحساءَ، وانهزم معهم أهلُ الأحساء الخائنون الذين نقضوا العهد، وتركوا محالَّهم وأمتعتَهم وأموالهم، وقيل: لَمَّا أراد الكيخيا ومن معه الارتحال جمعوا سلالِمَهم وزحَّافات الخشب والجذوع التي أعدوها لحفر الحفر والجدران، وشيئًا من خيامهم ومتعهم وطعامهم وأشعلوا فيه النيران. أما الذين امتنعوا على الكيخيا في قصر الهفوف فرئيسُهم إبراهيم بن عفيصان لم يقع عليهم حصارٌ، ولكن حاولوا مرارًا عديدة لفتحِه ولم يحصلوا على طائلٍ, وكان الأميرُ سعود قد سار بأهل نجدٍ من البادي والحاضر وقصد الأحساءَ، فلما عَلِمَ برجوع الكيخيا رحل من مكانِه, ونزل على ثاج الماء المعروف في ديار بني خالد، فجمع اللهُ بينه وبين الكيخيا على غير ميعادٍ، فنزل الكيخيا الشباك ماء قريب من ماء ثاج, فجرى بينهم محاولة خيل وطراد، وأقاموا على ذلك أيامًا، ثم ألقيَ في قَلبِ الكيخيا وجنودِه الرعبُ ووقع فيهم الفشَلُ وطلبوا الصلح، وأنَّ كُلًّا من الفريقين يرحل على عافية وحقن دماء. وصالحهم سعود على ذلك وارتحلوا إلى أوطانِهم، ثم رحل سعودٌ ونزل الأحساء ورتَّب حصونَه وثغوره، وأقام فيه قريبًا من الشهرين، واستعمل فيه أميرًا سليمان بن محمد بن ماجد الناصر، ثم رحل سعود إلى وطنِه قافلًا.
فسدت طبيعةُ الانكشاريين وتغَيَّرت أخلاقهم، وتبدلَّت مهمَّتُهم، وأصبحوا مصدرًا للبلاءِ للدولة والشعوب التابعة لها، وصاروا يتدخَّلون في شؤونِ الدولة وتعَلَّقت أفئدتُهم بشهوةِ السلطة وانغمَسوا في الملذات والمحرمات، وشق عليهم أن ينفِروا في برودة الشتاءِ، وفرضوا العطايا السلطانية، ومالوا إلى النَّهبِ والسلب حين غَزوا البلاد، وتركوا الغاية التي من أجلِها وُجِدوا، وغَرَقوا في شرب الخمور، وأصبحت الهزائِمُ تأتي من قِبَلهم بسبب تَركِهم للشريعة والعقيدة والمبادئ، وبُعدِهم عن أسباب النصر الحقيقية، وقاموا بخَلعِ وقَتلِ السلاطين، فجمع السلطانُ مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضبَّاط الانكشارية في بيتِ المفتي، ثم أفتى المفتي بجوازِ العمل للقضاء على المتمَرِّدين. وقد أعلن الموافقةَ كُلُّ من حضر من ضباط الانكشارية مِن حيث الظاهِرُ، وأبطنوا خلافَ ذلك، ولما شعروا بقُربِ ضياع امتيازاتهِم وبوضع حدٍّ لتصرُّفاتهم، أخذوا يستعدون للثورة، واستجاب لهم بعضُ العوام. وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعضُ الانكشاريين بالتحَرُّش بالجنود أثناء أدائِهم تدريباتهم، ثم بدؤوا في عصيانهم، فجمع السلطان العلماءَ وأخبرهم بنيَّةِ المتمردين فشَجَّعوه على استئصالهم، فأصدر الأوامر للمدفعية حتى تستعِدَّ لقتالهم ملوِّحًا باللين والتساهل في الوقتِ نفسِه؛ خوفًا من تزايُدِ لهيب شرورهم. وفي صباح 9 ذي القعدة تقَدَّم السلطان ووراءه جنودُ المدفعية وتَبِعَهم العلماء والطلبة إلى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاةُ هناك يثيرون الشَّغبَ، وقيل: إن السلطانَ سار معه شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي والصدر الأعظم سليم باشا أمام الجُموعِ التي كانت تزيد على 60.000 نفسٍ، ثم أحاطت المدفعية بالميدانِ واحتَلَّت المرتفعات ووجَّهت قذائِفَها على الانكشارية، فحاولوا الهجومَ على المدافع ولكِنَّها صَبَّت حمَمَها فوق رؤوسهم، فاحتَمَوا بثكناتهم هروبًا من الموت، فأحرقت وهدمت فوقَهم وكذلك تكايا البكتاشية، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التالي صدر مرسومٌ سلطاني قضى بإلغاء فِئَتِهم وملابسهم واصطلاحاتهم وأسمائهم من جميعِ بلاد الدولة، وقتل من بقي منهم هاربًا إلى الولاياتِ أو نفيه، ثم قلَّد حسين باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في إبادتهم قائدًا عامًّا (سرعسكر) وبدأ بعدها نظامُ الجيش الجديد، ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حرًّا في تطوير جيشه، فترَسَّم خطى الحضارة الغربية، فاستبدل الطربوش الرومي بالعمامة، وتزيَّا بالزيِّ الأوروبي، وأمر أن يكونَ هو الزيَّ الرسميَّ لكُلِّ موظَّفي الدولة؛ العسكريين منهم والمدنيين، وأسَّس وسامًا دعاه وسامَ الافتخارِ، فكان أوَّلَ من فعل ذلك من سلاطين آلِ عثمان، وما قام به السلطان محمود من استبدال الطربوش بالعِمامةِ وفرْض اللِّباس الأوروبي على كافَّةِ المجموعات العسكرية: يدُلُّ على شعورهِ العميق بالهزيمة النفسيَّة.
وقَّعت روسيا اتفاقًا سريًّا مع الأفلاق والبغدان (رومانيا) وضَعَت رومانيا بموجِبِه جميع إمكانياتها تحت تصرُّف روسيا، ثم قطعت روسيا العلاقاتِ السياسية مع الدولةِ العثمانية، وأعلنت الحربَ عليها بناءً على رفضِ البابِ العالي للائحةِ لندن-البابُ العالي هو قصرٌ في استانبول يقيمُ فيه السلاطين العثمانيون- وأخبر الباب العالي دولَ أوربا ثانيةً عمَّا تصرَّفت به روسيا فلم يَلقَ أيَّ موقف إيجابي، وذلك عام 1294هـ رغم المعاهدة السابقة التي وُقِّعَت بعد حرب القرم، وكانت روسيا قد اختَرَقت حدودَ رومانيا وانتصَرَت على العثمانيين في عِدَّةِ مواقِعَ، ثم توقَّفَت بعد المقاومة التي اعترضتها، وانقلب وضعُ الجيوش العثمانية من مُدافَعةٍ إلى مُهاجَمةٍ، وبعد تقدُّمٍ بسيطٍ عاد النصرُ إلى جانب الروس، واضطر القائِدُ العثماني عثمان باشا إلى الاستسلامِ وهو جريحٌ، وتوقَّفَ القتال في الجبهة الأوربية، أمَّا في شرقيَّ الأناضولِ فقد حاصر الروسُ عِدَّةَ مدن وقلاعٍ، ومنها قارص وباطوم، إلا أنهم اضطروا لفكِّ الحصار عنها والتراجُعِ، بجهود أحمد مختار باشا، وإسماعيل حقي باشا، وانتصر العثمانيون على الروس في ستة وقائع، وقد طلب الروسُ إمداداتٍ فجاءتهم جيوشٌ جرَّارة، ولم يتمكَّن العثمانيون من إرسال الإمدادات إلى الجبهةِ، وجاء الهجوم الروسي الثاني فتراجعت الجيوشُ العثمانية؛ حيث انسحب أحمد مختار باشا، وبسقوطِ قارص في جبهة الأناضول وسقوط بلافنا بعدها بشهرٍ على الجبهة الأوربية استأسَدَ الصرب فأعلنوا الحربَ على الدولة العثمانية بعد لقاءٍ بين إمبراطور روسيا وأمير الصرب، كما تابع سكانُ الجبل الأسود قتالَهم للعثمانيين، فأصدر الباب العالي منشورًا يُعلِنُ عزل أمير الصرب عن إمارتِه ويوضِّحُ للسكان هذه الخيانةَ، فلم يُجْدِ ذلك نفعًا! وتقَدَّم الروس فاحتلوا صوفيا عاصمة بلغاريا اليوم، ومنها ساروا إلى أدرنة فدخلوها وانطلقوا منها نحو استانبول، ولم يبقَ بينهم وبينها سوى خمسين كَيلًا وعندما اقتربت الجيوشُ الروسية من أراضي البلغار انقَضَّ النصارى على المسلمين يفتِكون بهم ذبحًا وقتلًا، وفرَّت أعدادٌ كبيرة من المسلمين متَّجِهة نحو استانبول، وأرسل البابُ العالي وفدًا عسكريًّا من نامق باشا وسرور باشا لوقفِ القتال، فقابل الوفدَ الروسيَّ وتوقَّف القتالُ في مطلع هذا العام، وأعلن الباب العالي عن رفع الحصارِ عن سواحل البحر الأسود، ولما علمت إنكلترا أنَّ قوات روسيا أصبحت على مَقرُبة من استانبول أمرت قطعاتها البحرية بدخول مضيق البوسفور ولو بالقوةِ، وقد تم ذلك وأرادت روسيا مقابِلَ ذلك أن ترسِلَ قوات إلى استانبول بحجَّة حماية النصارى، ثم اتفقت الدولتان وهدأت الأوضاع.
هو فيصلُ بنُ سلطان بن فيصل بن نايف الدويش من أواخِر شيوخِ مطير، ومِن كبارِ أصحابِ الثورات في نجدٍ ضِدَّ الملك عبد العزيز. وهو من بني الدويش، ويقالُ لهم: الدُّوشان من بني علوة أصحابِ الرياسة في مطير، تمتَدُّ منازِلُ مطير من الصمَّان غربيَّ الأحساءِ إلى سهولِ الدبدبة فالقصيم فأطراف الحجاز، وكان فيصل بدويًّا قُحًّا، فيه شراسةٌ ودهاءٌ واعتزازٌ بعددِه الضخم. قام بزعامة مطير بعد أبيه. وكان لطبيعتِه البدوية متقلبًا يبدِّلُ مواقفه بسهولةٍ طِبقًا لِما يراه من رجحان كفَّةِ طرفٍ على آخرَ في أي لحظة، أو يوالي من يتوسَّمُ أنه سيهبه غنائِمَ أكثرَ، وكان لقوَّته وقوَّةِ جيشِه إذا انحاز إلى أحد الجانبين يرجِّحُ كِفَّتَه على الآخر، فكان يذهبُ إلى حائل ويمضي من عندِهم محمَّلًا بالهدايا والهبات، وفي أوقاتٍ أخرى يديرُ ظَهرَه لابنِ رشيدٍ، ويفِدُ على الرياض ويُقسِمُ يمين الولاء للملك عبد العزيز، لم يكُنْ مخلصًا لأحدٍ، قصد في شبابه أطرافَ العراق بجماعةٍ من عشيرته، فطاردته السلطاتُ العثمانية، فعاد إلى نجد بعد سنتين. وأنزله الملك عبدالعزيز في الأرطاوية، وهي دار هجرة كبيرة للإخوان، بين الزُّلفي والكويت. وانتدبه الملِكُ لإخضاع عشائِرَ مِن نجد خرجت عليه ولجأت إلى أطرافِ العراق، فمضى إليها ومزَّقَها، وظَفِرَ في معركة بينه وبين الشيخ سالم بن مبارك الصباح سنة 1920م فاحتل الجهرة من أراضي الكويت، وكاد يحتَلُّ الكويتَ، وتدخَّل البريطانيون فعُقِدَ اتفاق العقير سنة 1921م بتعيين الحدود بين الكويت ونجد. وحاصر المدينةَ المنورة في الحرب الحجازية سنة 1925م وطمع بإمارتها فخاف أهلُ المدينة بطْشَه، فكتبوا يلتمسون من الملك عبد العزيز إرسالَ أحد أبنائه ليتسَلَّمَها بدل الدويش، فأرسل ابنَه محمدًا فدخلها. تزوَّج فيصل ببنت سلطان بن بجاد شيخ عتيبة، فازدادت عصبيتُه قوَّةً. وعاد بعد حرب الحجاز إلى الأرطاوية غيرَ راضٍ عن سياسة الملك عبدالعزيز، فتآمر عليه مع جماعةٍ فقام الملك بزحف كبير سنة 1929م ضرَبَ به جموعَ الدويش على ماءٍ يقال له السبلة بقُربِ الزلفي، وجُرِحَ الدويشُ فحُمِل على نعشٍ تحفُّ به نساؤه وأولاده يندبون، وأُنزِلَ بين يديه، فلم يَرَ الإجهازَ عليه، وعفا عنه. وعولج في الأرطاوية، واندملت جراحه، فعاد يستنفِرُ القبائل للقيام على الملك عبد العزيز، وقام بمناوشات انفضَّت خلالها جماعاتُ الدويش. وضاقت في وجهِه السُّبُل، فلجأ إلى بادية العراق، ومنها إلى الكويت، واحتمى ببارجة بريطانية. وجيءَ بالدويش على طائرةٍ سنة 1930م فسُلِّمَ للملك عبد العزيز فأُرسِلَ إلى سجن الأحساء مكبَّلًا بالأغلال ومعه ابن حثلين وابن لامي، فمات في حبسِه بعد سبعة شهور.
أصدر مجلِسُ السوفييت الأعلى قرارًا بإلغاء "جمهورية القرم" ذات الاستقلال الذاتي؛ بذريعة خيانة شعب القرم للسوفييت أثناء الحرب العالمية الثانية، وتعاونهم مع الألمان. وشِبهُ جزيرة القرم جمهوريةٌ ذاتُ حكم ذاتي تقع حاليًّا في أوكرانيا، ويحيط بها البحرُ الأسود من الجنوب والغرب، وبحر أزوف من الشرق، وتبلغ مساحتها 27 ألف كم، وعدد سكانها 2.5 مليون نسمة. وقد تمكَّن الروسُ من غزوها في سنة 1198ه - 1783م في عهد كاترين الثانية إمبراطورة روسيا المتعصبة للنصرانية. وهكذا فقَدَت دولةُ تتار القرم حريتَّهَا، وبدأ الاضطهاد الديني لمسلِمي القرم، وطَرَد الروس من شبه جزيرة القرم نِصفَ مليون نسمة، وصدرت عدةُ قوانين تحَرِّم الدعوةَ إلى الإسلام، وظَلَّ هذا الغَبنُ مفروضًا على التتار المسلمين طيلةَ قرن وربع، ولَمَّا صدر قانون حرية التعبُّد أعلن التتار الدعوةَ الإسلامية، بعد أن كانوا يمارِسونَها سِرًّا بين جيرانهم، وزاد عدد الداخلين في الإسلام. ونَشِط تتار القرم في استعادة كيانهم منذ صدور قانون حرية العقيدة في روسيا القيصرية في سنة 1323ه - 1905م، فلما استولى الشيوعيُّون على حكم روسيا في سنة 1336ه - 1917م، وقاوم المسلِمون من تتار القرم الخضوعَ لهم، لجأ السوفييت الشيوعيون إلى حربِ التجويعِ والحصار، وقد نشرت جريدةُ أزفسيتا السوفيتية جانبًا من حرب التجويعِ التي فُرِضَت على تتار القرم، واستمَرَّت طيلة عام 1922، ومات في هذه المجاعة أكثر من ستين ألف مسلمٍ من تتار القرم، وقُتِلَ مئة ألف، وحُكِمَ على خمسين ألفا بالنفي!! وهكذا قَدَّم تتار القرم العديدَ من الضحايا قبل الاستسلام لحكمِ السوفييت، وأُعلِنَ قيام جمهورية القرم السوفييتية، وخضعت للحكم الذاتي. وفي سنة 1347ه - 1928م اتَّجه الروس إلى جَعلِ شبه جزيرة القرم موطِنًا ليهود روسيا، واحتجت حكومةُ القرم، فأُعدِمَ رئيسُ جمهوريتها وأعضاءُ حكومته، ونفيَ أربعون ألف مسلم من القرمِ إلى سيبيريا (تشمل منطقة آسيا الشمالية). وبعد قرار إلغاء "جمهورية القرم" شُرِّدَ تتارُ القرم وأُرغِمَ أهلُها على الهجرة الإجبارية إلى سيبيريا وآسيا الوسطى خصوصًا في أوزبكستان، وهرب مليون وربع مليون منهم إلى تركيا وأوروبا الغربية، وبعضهم إلى بلغاريا ورومانيا، وأُعدم الكثير، ولم يبقَ مِن خمسة ملايين مسلم من تتار القرم غير نصف مليون، وهدم السوفييت ألفًا وخمسمائة مسجد في شبه جزيرة القرم، والعديد من المعاهد والمدارس!! وفي سنة 1387ه - 1976م قرَّر مجلس السوفييت براءةَ تتار القرم من تهمة التعاون مع الألمان بعد تشريدِ شَعبٍ كاملٍ، وإلغاء جمهوريته؛ نتيجةَ تهمة باطلة أُلصِقَت به، وطالب تتار القرم بالعودةِ إلى وطنهم!!
دعَت السُّعودية واشنطن إلى الضَّغط على إسرائيلَ وحمْلِها على تنْفيذ قرارِ مجلِس الأمْن رقم (242) الصادرِ في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967، الذي يَقضي بالانسحابِ من جميع الأراضي العربيَّة المحتلَّة في حُزيران (يونيو) 1967، وإلَّا فإنَّ الولاياتِ المتحِدةَ سوف تُواجِه عقَبات تَقليص تَصديرِ النِّفط. لم تأخُذْ الولاياتُ المتحِدةُ وأوربَّا الغربية هذه التَّحذيراتِ على مَحملِ الجِدِّ، فألْمحتِ السُّعودية في صَيف 1973 إلى أنها ستُؤيِّد مصرَ عند نُشوب حربٍ جديدةٍ مع إسرائيلَ. بدأت الحربُ في 6 أكتوبر، وفي 7 أكتوبر -أي في اليوم الثاني للحرْبِ- أرسَل وزير الخارجيةِ الأمريكي كِيسنجر برقيةً إلى الملِك فَيصل يَدعوه فيها إلى إقناعِ مصرَ وسوريا بوَقْف العملياتِ الحربيةِ، وردَّ الملِكُ فَيصل بأنه يُؤيِّد مصرَ وسوريا تأييدًا تامًّا، ودَعا واشنطن إلى بَذْل الجهودِ لحمْلِ إسرائيلَ على الانسحاب مِن الأراضي التي تَحتلُّها. عقَدَ وُزراءُ النِّفط في عشْرة بُلدان عربيةٍ اجتماعًا في 17 أكتوبر، اتُّخِذ فيه قرارٌ بتَقليصِ استخراج النِّفط بنِسبة لا تقلُّ عن 5 % شهريًّا، حتى تتمَّ تَسوية النِّزاع في الشرْق الأوسط. وفي الواقع قلَّصت السُّعودية والكويتُ الإنتاجَ بنِسبة 10 % دفعةً واحدةً، ولمَّا أقامت الولاياتُ المتحِدةُ "جسرًا جويًّا" لتزويدِ إسرائيلَ بالسلاحِ، عمَدَت السُّعودية وسائرُ البُلدان العربيَّة إلى اتِّخاذ إجراءاتٍ تباعًا، وذلك بوَقْفِ ضَخِّ النِّفط إلى الولايات المتحِدةِ، ومِن ثَم إلى هُولندا التي اتَّخذت مَوقفًا مواليًا لإسرائيلَ، كما فُرِضَ الحظْرُ على تَصديرِ النِّفط الخامِّ لمعاملِ التَّكريرِ التي تُصدِّر مُشتقَّات النِّفط إلى الولايات المتحِدة، أو تَبيعها إلى الأسطولِ البَحريِّ الأمريكي. وعلاوةً على فرْض الحظْرِ قام العراقُ بتَأميم حِصَّة الولايات المتحِدة وهُولندا في "شركة نِفط البصرة". فجاء ردُّ فِعل دُولِ أوربَّا الغربية دون إبطاءٍ؛ ففي صباح 6 تشرين الثاني (نوفمبر) دعَت حُكومات البُلدان "التسعة" إلى تَنفيذ قَرارات مجلِس الأمْن حول العمليات الحربيةِ، وكذلك القرار رقم (242) بكلِّ بُنوده، بما في ذلك الجلاءُ عن الأراضي العربيَّة المحتلَّة عام 1967. وفي مَطلع ديسمبر (كانون الأول) 1973 قرَّر أعضاءُ منظَّمة البلدان العربيَّة المصدِّرة للنِّفط (أوبك التي أُسِّست عام 1968) المجتمِعون في الكويت إلغاءَ القرار القاضي بتَقليص استخراجِ النِّفط بنِسبة 5% في شهر ديسمبر (كانون الأول). وعزوا القرارَ إلى الرَّغبة في تحسينِ أوضاع البلدان الأعضاءِ في الجماعة الاقتصاديةِ الأوروبية التي اتَّخَذت موقفًا وُديًّا حيالَ العرَب. كما أشار البلاغُ الصادرُ عن اجتماع الكويتِ إلى أن الدُّول الإفريقية والإسلاميَّة سوف تَحصُل على النِّفط وَفق العقود المتَّفَق عليها. واستمرَّ لمدةٍ من الوقت حظْرُ تَصدير النِّفط إلى الولايات المتحِدة وهُولندا.
ورد الخبر بدخول منكوتمر أخي أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكيزخان إلى بلاد الروم بعساكر المغول، وأنه نزل بين قيسارية والأبلستين، فبعث السلطان قلاوون الكشافة، فلقوا طائفةً من التتار أسروا منهم شخصًا وبعثوا به إلى السلطان، فقَدِمَ إلى دمشق في العشرينَ مِن جمادى الأولى، فأتاه السلطانُ ولم ينزل به حتى أعلَمَه أن التتار في نحو ثمانين ألفًا، وإنهم يريدونَ بلاد الشام في أول رجب، فشرع السلطانُ في عرض العساكر، واستدعى الناس، فحضَرَ الأمير أحمد بن حجي من العراق في جماعة كبيرةٍ مِن آل مراتكون زهاء أربعة آلاف فارس، وقدمت نجدةٌ من الملك المسعود خضر بن الظاهر بيبرس صاحب الكرك، وقدمت عساكِرُ مصر وسائر العربان والتركمان وغيرهم، فوردت الأخبار بمسير التتار، وأنهم انقَسَموا فسارت فرقةٌ مع الملك أبغا بن هولاكو إلى الرحبة ومعه صاحب ماردين، وفرقة أخرى من جانب آخر، فخرج بجكا العلائي في طائفة من الكشافة إلى جهة الرحبة، وجفل الناسُ من حلب إلى حماة وحمص حتى خلت من أهلها، وعَظُم الإرجاف، وتتابع خروج العساكر من دمشق إلى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، فخرج السلطانُ إلى المرج، بمن بقي من العساكر وأقام به إلى آخر الشهر، ثم رحل يريد حمص فنزل عليها في حادي عشر رجب ومعه سائر العساكر، وحضر الأمير سنقر الأشقر من صهيون ومعه بعض أمرائه فسُرَّ السلطان قلاوون بذلك وأكرمهم وأنعم عليهم، وكان ذلك في ثاني عشر فنزل سنقر الأشقر على الميسرة، وقويت الأراجيف بقرب العدو، ووصل التتارُ إلى أطراف بلاد حلب، وقدم منكوتمر إلى عين تاب، ونازل الملك أبغا قلعة الرحبة في السادس عشر جمادى الآخرة، ومعه نحو ثلاثة آلاف فارس، وتقدم منكوتمر قليلًا قليلًا حتى وصل حماة، وأفسد نواحيها وخرب جواسقَ الملك المنصور صاحب حماة وبستانه فورد الخبر إلى السلطان قلاوون بذلك وهو على حمص، وأن منكوتمر في خمسين ألفًا من المغول وثلاثين ألفًا من الكرج والروم والأرمن والفرنجة، وأنَّه قد قفز إليه مملوك الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق ودله على عورات المسلمين، ثم ورد الخبَرُ بأن منكوتمر قد عزم أن يرحل عن حماة، ويكون اللقاء في يوم الخميس رابع عشر رجب، واتفق عند رحيله أن يدخل رجلٌ منهم إلى حماة وقال للنائب: اكتُبِ الساعة إلى السلطان قلاوون على جناحِ الطائر بأن القَومَ ثمانون ألف مقاتل، في القلب منهم أربعةٌ وأربعون ألفًا من المغول وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدًّا، فيقوي ميسرة المسلمين، ويحترز على السناجق، فسقط الطائر بذلك وعلم بمقتضاه، وبات المسلمون على ظهور خيولهم، وعند إسفار الصباح من يوم الخميس رابع عشر شهر رجب: ركب السلطان ورتب العساكِرَ: وجعل في الميسرة الأميرَ سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، ثم اختار السلطانُ مِن مماليكه مائتي فارس، وانفرد عن العصائب ووقف على تل، فكان إذا رأى طلبًا قد اختل أردفه بثلاثمائةٍ مِن مماليكه، فأشرَفت كراديس التتار وهم مِثْلَا عساكر المسلمين، ولم يعتدُّوا منذ عشرين سنة مثل هذه العِدَّة، ولا جمعوا مثل جَمعِهم هذا، فإنَّ أبغا عرض من سيره صحبة أخيه منكوتمر فكانوا خمسة وعشرين ألف فارس منتخبة، فالتحم القتال بين الفريقين بوطأة حمص، قريبًا من مشهد خالد بن الوليد، ويوم الخميس رابع عشر رجب، من ضحوة النهار إلى آخره، وقيل من الساعة الرابعة، فصدمت ميسرة التتار ميمنة المسلمينَ صَدمةً شديدة ثبتوا لها ثباتًا عظيمًا، وحملوا على ميسرةِ التتار فانكسرت وانتَهَت إلى القلب وبه منكوتمر، وصَدَمَت ميمنة التتار ميسرة المسلمين، فانكسرت الميسرةُ وانهزم من كان فيها، وانكسر جناحُ القلب الأيسر، وساق التتار خلفَ المسلمين حتى انتهوا إلى تحت حمص وقد غُلِّقَت أبوابها، ووقعوا في السوقةِ والعامة والرجَّالة والمجاهدين والغلمان بظاهر حمص، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأشرف الناس على التلاف، ولم يعلم المسلمون من أهل الميسرة بما جرى للمسلمين أهل الميمنة من النصر، ولا علم التتار الذين ساقوا خلف المسلمين ما نزل بميسرتِهم من الكسرة، ووصل بعض المنهزمين إلى صفد، وكثيرٌ منهم دخل دمشق، ومر بعضُهم إلى غزة، فاضطرب الناسُ بهذه البلاد وانزعجوا انزعاجًا عظيمًا، وأما التتار الذين ساقوا خلف المنهزمين من المسلمين أصحاب الميسرة، فإنهم نزلوا عن خيولهم وأيقنوا بالنَّصرِ، وأرسلوا خيولهم ترعى في مرج حمص، وأكلوا ونهبوا الأثقال والوطاقات والخزانة وهم يحسبون أن أصحابهم ستُدرِكُهم، فلما أبطأوا عليهم بعثوا من يكشف الخبر، فعادت كشافتُهم وأخبرتهم أن منكوتمر هرب، فركبوا وردُّوا راجعين، هذا ما كان من أمر ميمنة التتار وميسرة المسلمين، وأما ميمنة المسلمين فإنها ثبتت وهزمت ميسرة التتار حتى انتهت إلى القلب، إلا الملك المنصورَ قلاوون فإنه ثبت تحت السناجق –الرماح-، ولم يبقَ معه غير ثلاثمائة فارس، والكوسات تضرب، وتقدَّم سنقر الأشقر، وبيسري، وطيبرس الوزيري، وأمير سلاح، وأيتمش السعدي، ولاجين نائب دمشق، وطرنطاي نائب مصر، والدواداري، وأمثالهم من أعيان الأمراء إلى التتار، وأتاهم عيسى بن مهنا فيمن معه، فقتلوا من التتار مقتلةً عظيمة، وكان منكوتمر مقدم التتار قائمًا في جيشه، فلما أراده الله من هزيمته نزل عن فرسه ونظر من تحت أرجل الخيل، فرأى الأثقالَ والدواب فاعتقد أنَّها عساكر، ولم يكن الأمرُ كذلك، بل كان السلطان قلاوون قد تفرقت عنه عساكِرُه ما بين منهزم ومَن تقدم القتال، حتى بقي معه نحو الثلاثمائة فارس لا غير، فنهض منكوتمر من الأرض ليركَبَ فتقنطر عن فرسِه، فنزل التتار كلُّهم لأجله وأخذوه، فعندما رآهم المسلمون قد ترجَّلوا حملوا عليهم حملةً واحدة كان الله معهم فيها، فانتصروا على التتار، وقيل إنَّ الأمير عز الدين أزدمر الحاج حمل في عسكر التتار وأظهر أنه من المنهزِمين، فقَدِمَهم وسأل أن يوصَلَ إلى منكوتمر، فلما قرب منه حمل عليه وألقاه عن فَرَسِه إلى الأرض، فلما سقط نزل التتارُ إليه من أجل أنه وقع، فحمل المسلمون عليهم عند ذلك، فلم يثبُت منكوتمر وانهزم وهو مجروح، فتبعه جيشه وقد افترقوا فرقتين: فرقة أخذت نحو سلمية والبرية، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات، وأما ميمنة التتار التي كسرت ميسرة المسلمين، فإنها لما رجعت من تحت حمص كان السلطان قد أمر أن تلف السناجق ويبطل ضرب الكوسات، فإنَّه لم يبق معه إلَّا نحو الألف، فمرت به التتار ولم تعرض له، فلما تقدموه قليلًا ساق عليهم، فانهزموا هزيمةً قبيحة لا يلوون على شيء، وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروبِ الشمس من يوم الخميس، ومر هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل يريدون منكوتمر، فكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين، وإلَّا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين لما وجدوا فيهم قوة، ولكِنَّ الله نصر دينه، وهزَمَ عَدُوَّه مع قوتهم وكثرتهم، وانجلَت هذه الواقعة عن قتلى كثيرة من التتار لا يحصى عددهم، وعاد السلطانُ في بقية يومه إلى منزلتِه بعد انقضاء الحرب، وكتب البطائِقَ بالنصرة وبات ليلةَ الجمعة إلى السحر في منزلته، فثار صياحٌ لم يشك النَّاسُ في عود التتار، فبادر السلطان وركب وسائِرُ العساكر، فإذا العسكر الذي تبع التتار وقت الهزيمة قد عاد، وقتل من التتار في الهزيمة أكثَرَ ممن قتل في المصاف، واختفى كثيرٌ منهم بجانب الفرات، فأمر السلطان أن تُضرَمَ النيران بالأزوار التي على الفرات، فاحترق منهم طائفة عظيمة، وهلك كثير منهم في الطريق التي سلكوها من سلمية، وفي يوم الجمعة: خرج من العسكر طائفة في تتبع التتار، مقدمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، ورحل السلطان من ظاهر حمص إلى البحيرة ليبعد عن الجيف، وقتل من التتار صمغار، وهو من أكبر مقدميهم وعظمائهم، وكانت له إلى الشام غارات عديدة، واستشهد من المسلمين زيادة على مائتي رجل، وأمَّا أبغا بن هولاكو ملك التتار فإنه لم يشعر وهو على الرحبة إلا وقد وقعت بطاقة من السلطانِ إلى نائب الرحبة، بما منَّ الله به من النصر وكسرةِ التتار فعندما بلغه ذلك بدق بشائر القلعة رحل إلى بغداد، ووصل الأميرُ بدر الدين الأيدمري إلى حلب، وبعث في طلب التتار إلى الفرات، ففَرُّوا من الطلب وغرق منهم خلق كثير، وعبرت طائفة منهم على قلعة البيرة، فقاتلهم أهلُها وقتلوا منهم خمسمائة، وأسروا مائة وخمسين، وتوجَّه منهم ألف وخمسمائة فارس إلى بغراس، وفيهم أكابِرُ أصحاب سيس وأقاربهم فخرج عليهم الأميرُ شجاع الدين السيناني بمن معه، فقتَلَهم وأسَرَهم عن آخرهم بحيث لم يُفلِتْ منهم إلا دون العشرين، وتوجَّه منهم على سلمية نحو أربعة آلاف، فأخذ عليهم نواب الرحبة الطرقات والمعابر، فساروا في البرية فماتوا عطشًا وجوعًا، ولم يسلم منهم إلا نحو ستمائة فارس، فخرج إليهم أهل الرحبة فقتلوا أكثرهم، وأحضروا عِدَّةً منهم إلى الرحبة ضُرِبت أعناقهم بها، وأدرك بقية التتار الملك أبغا، وفيهم أخوه منكوتمر وهو مجروح، فغضب عليه وقال: " لم لا مت أنت والجيش ولا انهزمت" وغضب أيضًا على المقدمين، فلما دخل أبغا بغداد سار منها إلى جهة همذان وتوجه منكوتمر إلى بلاد الجزيرة فنزل بجزيرة ابن عمر، وكانت الجزيرة لأمه قد أعطاها إياها أبوه هولاكو لما أخذها.
أمرت الجمهوريةُ الفرنسيَّةُ بونابرت بالمسيرِ إلى مصر لفتحِها بغير إعلانِ حربٍ على الدولة العليَّة، وأوصَتْه بكتمانِ الأمر حتى لا تعلَمَ به إنكلترا فتسعى في إحباطِه، وكان القصدُ من الحملة منعَ مرور تجارة الإنجليز من مصرَ إلى الهند, كانت تلك الحملةُ صدًى للثورة الفرنسية المتأثِّرة بأفكارِها الثوريَّة الماسونية اليهودية، ورَفْع شعاراتها (الحرية, العدل, المساواة). فجهَّز جيشًا من 36 ألف مقاتل وعشرة آلاف بحري، وأضاف إلى جيشه 122 عالِمًا على اختلافِ العلوم والمعارف لدراسةِ القُطر المصري والبحث عما يلزم لإصلاحِه واستغلاله, وكان هذا العددُ من العلماء يزيدُ عن أضعاف العدد الذي اعتاد بونابرت أن يصحَبَه في حملاته الأوروبية، وقد تأثَّر فكرُ هؤلاء العلماء في الغالب بالدَّورِ الفرنسي الذي يسعى لإصلاحِ الكنيسة الكاثوليكية، ويعادي حركاتِ الإصلاح البروتستانتية، كما أنَّهم قد تأثَّروا بأفكار روسو وفولتير ومونتسكيو: أبرز مفكِّري الثورة الفرنسية والمعروفين بانتمائِهم للمحافل الماسونية اليهودية، مِن خلال ما رفعوه من شعاراتِ (الحرية، الإخاء، المساواة)، وكانت أهداف الحملةِ خليطًا من أهدافٍ اقتصادية وتوسعيَّة وسياسية ودينية، أو بالأحرى غزو عسكري فكري. في 19 مايو سنة 1798 رحل بونابرت بهذا الجيش بدون أن يُعلِم أحدًا بوجهتِه، فوصل جزيرة مالطة واحتلها بعد أن دافعَ عنها رهبان القديس يوحنا، وفي 17 محرم سنة 1213. وصل بونابرت مدينة الإسكندرية فدخلها عَنوةً، ثم ترك بها القائِدَ كليبر وسار هو للقاهرةِ، فقابله مراد بيك بشرذمة من المماليكِ عند مدينة شبراخيت بالبحيرة في 29 محرم، فهزمه بونابرت وواصل السير حتى وصل إلى مدينة إنبابة مقابل القاهرة، وحصلت بينه وبين إبراهيم بيك ومراد بيك من أمراء المماليك واقعةُ الأهرام الشهيرة في 7 صفر التي أظهر فيها المماليكُ من الشجاعة ما أدهش الفرنسيين، لكنهم تقهقروا أمام المدافِعِ الفرنسية، فدخل بونابرت وجيوشُه مدينة القاهرة، وأصدرت الحملة نداءً إلى الشعبِ بالاستكانة والتعاون، زاعمةً أن نابليون قد اعتنق الإسلامَ وأصبح صديقًا وحاميًا للإسلامِ، وأنَّه لم يأتِ لفتح مصر، بل إنَّه حليفٌ للباب العالي، أتى لتوطيد سُلطتِه ومحاربة المماليك العاصين لأوامِرِ الخليفة العثماني, ووجَّه نابليون بونابرت رسالةً إلى الشعب المصري يحثُّهم فيها على الطاعة وعدمِ المعصية، وأنَّه إنما جاء ليخَلِّصَهم من ظلم المماليك, ثم وجَّه بونابرت فرقةً احتلت مدينة القصير على البحر الأحمر، فصارت مصر في قبضة نابليون، لكِنْ لم يلبث أن وصلَه خبر واقعة أبي قير البحرية التي دمَّرَ فيها نلسن أمير البحر الإنجليزي جميعَ المراكِبِ والسفنِ الحربية الفرنسية, وقطَعَ الإنجليزُ في البحر المتوسط المواصلاتِ بينه وبين فرنسا, ولَمَّا علمت الدولة العلية باحتلال الفرنسيين لمصرَ، أخذت في الاستعدادِ لمحاربتِهم، لا سيما وأنَّها كانت مطمئنةً مِن جهة النمسا وروسيا اللتين كانتا مشتغلتين بمحاربةِ فرنسا خوفًا من امتداد مبادئها الحرَّة إلى بلادهما، ومن جهة أخرى عرض الإنجليزُ على الدولة العثمانية مساعدتَها على إخراج فرنسا من مصرَ، لا رغبةً في حفظ أملاكِ الدولة بل خوفًا على طريق الهند من أن يكونَ في قبضة دولة قوية كفرنسا, فقَبِلت الدولة العلية مساعدتَها، وكذلك عَرَضت عليها روسيا إمدادَها بمراكبها الحربية. أعلنت الدولةُ العثمانية الحربَ رسميًّا على فرنسا في 21 ربيع الأول سنة 1213هـ / 2 سبتمبر 1798م واجتمعت الجيوشُ بمدينة دمشق وجزيرة رودس لإرسالها إلى مصرَ, وفي 22 أغسطس غادر نابليون بونابرت قائدُ الحملة الفرنسية الإسكندريةَ قاصدًا فرنسا خفيةً مع بعض قوَّادِه حتى لا يضبِطَه الإنجليز بعد أن بلَغَه خبر تغلُّب النمسا على فرنسا ووقوع الفوضى في داخل فرنسا، فأراد بونابرت الرجوعَ إليها لاستمالةِ الخواطر إليه وتأليفِ حِزبٍ يعضِّدُه في الوصولِ إلى غرضِه، وهو أن يعيَّن رئيسًا للجمهورية الفرنسية, فغادر مصرَ تاركا القائد كليبر وكيلًا عنه، ويقال: إنه أذِنَ له بإخلاءِ مصر لو رأى تغلُّب القوى الخارجية عليه؛ لعدم إمكان مساعدته بالمال أو الرجالِ نظرًا لوجود السفن الإنجليزية في البحر الأبيض طولًا وعرضًا. بقي الجيشُ الفرنسي بمصر بدون مراكِبَ تحميه من الإنجليز والعثمانيين؛ ولذلك اتَّفَق كليبر مع الباب العالي والأميرال سدني سميث على أن تنسَحِبَ العساكر الفرنسية بسلاحِها ومدافعِها وترجع فرنسا على مراكب إنجليزية، لكن الإنجليز لم يقبلوا بهذا الاتفاقِ إلَّا إذا ألقى الفرنسيون سلاحَهم بين أيادي الإنجليز، فاغتاظ كليبر لذلك وسار لمحاربةِ الجيش التركي الذي أتى إلى مصرَ تحت قيادة الوزير يوسف باشا لتسلُّمِها من الفرنسيين، فتقابل الجيشان عند المطرية في 23 شوال 1214هـ وبعد قتالٍ عنيفٍ انتصر كليبر وعاد إلى القاهرة فوجدها في قبضةِ إبراهيم بيك أحد الأمراء المصريين، وكان دخلها حالَ اشتغال الفرنسيين بالحرب، فأطلق كليبر القنابِلَ على القاهرة وخرب منها جزءًا عظيمًا، واستمَرَّت الحرب في شوارعها نحو عشرة أيام، وبعد ذلك ساد الأمنُ بالقاهرة, وفي 21 محرم سنة 1215هـ / 14 يونيه سنة 1800م قَتَل شخصٌ اسمه سليمان الحلبي القائِدَ كليبر, وبعد كليبر عُيِّن مكانه الجنرال مينو، وكان قد أظهر أنه اعتنق الدين الاسلاميَّ وتسمى عبد الله مينو. لَمَّا علم الإنجليز والعثمانيون بموت كليبر وخروج بونابرت من مصر، أنزلوا بأبي قير 30 ألف مقاتل, وتمكَّنوا من هزيمة القائد الفرنسي مينو الذي عاد إلى الإسكندرية وتحصَّن بها, ثم سار الإنجليز والأتراك إلى القاهرة، وحصروا من بَقِيَ فيها من الفرنسيين حتى أخلوا القاهرة في 28 صفر سنة 1216هـ, وخرجو منها بجميع أسلحتهم ومدافعهم. أما القائدُ مينو فبقي محصورًا في الإسكندرية ولم يقبَلْ بالتسليم إلا في 22 ربيع الآخر سنة 1216هـ / 1 سبتمبر سنة 1801م فخرج منها إلى بلادِه على مراكب الإنجليز، وبذلك انتهت الحملة الفرنسية، ورجعت البلاد إلى حُكمِ الدولة العثمانية بعد أن وطئَ هامتَها الأجنبيُّ, وارتكب الفرنسيُّون فيها فظائع شنيعة، فكم من القُرى أُحرِقَت، وكم من الدُّورِ والأموال قد سُرِقت، وكم من أعراضِ النساء الحرائر انتُهِكت, وكم من الأُسَرِ قد شُرِّدت على يد فرنسا زعيمةِ الحرية والإخاءِ والمساواةِ والإنسانية؟!
كان انتِصارُ المسلمين في القادِسيَّة دافعًا لهم للاستمرار في زَحْفِهم نحو المدائنِ عاصِمَةِ الفُرْسِ، وسار سعدٌ بجُنودِه حتَّى وصَل إلى بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" وكانت إحدى حواضِر فارِسَ، فنزَل سعدٌ قريبًا منها، وأرسَل مجموعةً مِن جُنودِه لاستِطلاعِ المَوقِف، وعاد الجُنودُ وهُم يَسوقون أَمامَهم آلافَ الفَلَّاحين، مِن أهلِ تلك المدينةِ. وحينما عَلِمَ شيرزارُ دَهْقانُ -أمير- ساباط بالأَمْرِ أرسَل إلى سعدِ يَطلُب منه إطلاقَ سَراحِ هؤلاء الفَلَّاحين، ويُخبِره أنَّهم ليسوا مُقاتِلين، وإنَّما هُم مُجرَّد مُزارِعين أُجَراء، وأنَّهم لم يُقاتلوا جُنودَه؛ فكتب سعدٌ إلى عُمَر يَعرِض عليه المَوقِف ويَسألُه المَشورةَ: إِنَّا وَرَدْنا بَهُرَسِيرَ بعدَ الذي لَقِينا فيما بين القادِسيَّة وبَهُرَسِيرَ، فلم يأتِ أحدٌ لِقِتالٍ، فبَثَثْتُ الخُيولَ، فجمعتُ الفَلَّاحين مِن القُرى والآجامِ. فأجابه عُمَر: إنَّ مَن أتاكُم مِن الفَلَّاحين إذا كانوا مُقيمين لم يُعينوا عليكم فهو أَمانُهم، ومَن هرَب فأَدركْتُموهُ فشَأنُكم به. فلمَّا جاءهُ خِطابُ عُمَر خَلَّى سعدٌ سَبيلَهُم. وأرسَل سعدٌ إلى الدَّهاقين - رُؤساء المُدُن والأقاليم- يَدعوهُم إلى الإسلامِ، على أن يكونَ لهم ما هُم عليه مِن الإمارةِ والحُكْمِ، أو الجِزْيَة ولهم الذِّمَّةُ والمَنَعَةُ، فدخَل كثيرٌ منهم الإسلامَ لِما وَجدوه مِن سَماحةِ المسلمين وعَدْلِهم مع ما هُم عليه مِن بأسٍ وقُوَّةٍ، ولكنَّ بَهُرَسِيرَ امتنَعَت عنه، وظَنَّ أهلُها أنَّ حُصونَها تَحولُ دون فَتحِ المسلمين لها، فحاصَرها سعدٌ بِجُنودِه طُوالَ شَهرينِ يَرمونَها بالمجانيق، ويَدُكُّونها بالدَّباباتِ التي صنعوها مِن الجُلودِ والأخشابِ، ولكنَّ المدينةَ كانت مُحَصَّنةً فنصَب سعدٌ حولَها عِشرين مَنْجَنيقًا في أماكنَ مُتفرِّقةٍ لِيَشْغَلَهُم ويُصرِفَهم عن مُلاحظَةِ تَقَدُّمِ فِرْسانِه نحو المدينةِ لاقتِحامِها، وأَحَسَّ الفُرْسُ بمُحاولَةِ المسلمين اقْتِحامَ المدينة؛ فخرَج إليهم عددٌ كبيرٌ مِن الجُنودِ الفُرْس لِيُقاتِلوهم ويمنعوهم مِن دُخولِ المدينةِ، وضرَب المسلمون أَرْوَعَ الأمثلةِ في البُطولةِ والفِداءِ، وقُوَّةِ التَّحَمُّلِ والحِرصِ على الشَّهادةِ، وكان القائدُ زُهْرَةُ بن الجويّة واحدًا مِن أولئك الأبطالِ الشُّجْعانِ، استطاع أن يَصِلَ إلى قائدِ الفُرْسِ شهْربَرَاز، فضرَبه بِسَيفِه فقتَله، وما إن رأى جُنودُ الفُرْسِ قائِدَهم يَسقُط على الأرضِ مُضْرَجًا في دِمائِه حتَّى تَمَلَّكَهُم الهَلَعُ والذُّعْرُ، وتَفرَّق جمعُهم، وتتَشتَّت فِرْسانُهم، وظَلَّ المسلمون يُحاصِرون بَهُرَسِيرَ بعدَ أن فَرَّ الجُنودُ والْتَحَقوا بالفَيافِي والجِبالِ، واشْتَدَّ حِصارُ المسلمين على المدينةِ؛ حتَّى اضْطَرَّ أهلُها إلى أكلِ الكِلابِ والقِطَطِ، فأرسَل مَلِكُهم إلى المسلمين يَعرِض الصُّلْحَ على أن يكونَ للمسلمين ما فَتحوهُ إلى دِجْلَة، ولكنَّ المسلمين رَفَضوا وظَلُّوا يُحاصِرون المدينةَ، ويَضرِبونَها بالمجانيق، واسْتَمرَّ الحالُ على ذلك فَترةً مِن الوقتِ، وبَدَتْ المدينةُ هادِئةً يُخَيِّمُ عليها الصَّمتُ والسُّكونُ، وكأنَّهُ لا أثَرَ للحياةِ فيها، فحمَل المسلمون عليها ليلًا، وتَسَلَّقوا أَسوارَها وفَتحوها، ولكنَّ أحدًا لم يَعتَرِضْهُم مِن الجُنودِ، ودخَل المسلمون بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" فاتحين بعد أن حاصروها زمنًا طويلًا.