تَبوكُ مَوضِعٌ بين وادي القُرى والشَّامِ، قال أبو موسى الأَشعريُّ رضي الله عنه: (أَرسلَني أَصحابي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَسأَلُه الحُمْلانَ لهم إذ هُم معه في جَيشِ العُسْرَةِ، وهي غَزوةُ تَبوكَ..). وحديث أبي موسى رضي الله عنه فيه دِلالةٌ على ما كان عليه الصَّحابةُ مِنَ العُسْرِ الشَّديدِ في المالِ والزَّادِ والرَّكائِبِ، كما رَوى مُسلمٌ أيضًا عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه ما وقع للمسلمين في طَريقِ هذه الغَزوةِ مِن نَقْصٍ في الزَّادِ حتَّى مَصُّوا النَّوَى وشَرِبوا عليه الماءَ، وفي رِوايةٍ أُخرى لمُسلمٍ: أنَّهم اسْتأذَنوا الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم في نَحْرِ مَطاياهُم لِيأكُلوا. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]. قال ابنُ كَثيرٍ: فعزَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قِتالِ الرُّومِ؛ لأنَّهم أَقربُ النَّاسِ إليه؛ وأَوْلى النَّاسِ بالدَّعوَةِ إلى الحقِّ لقُربِهِم إلى الإسلامِ وأَهلِه، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]. وقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم وِجْهَةَ هذه الغَزوةِ، فعن مُعاذٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (سَتأْتون غدًا إن شاء الله عَيْنَ تَبوكَ، وإنَّكم لن تَأْتوها حتَّى يَضْحى النَّهارُ، فمَن جاءَها مِنكم فلا يَمَسَّ مِن مائِها شيئًا حتَّى آتي). والمشهورُ والرَّاجحُ أنَّ جَيشَ تَبوكَ كان ثلاثين ألفًا، ولكنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَلْقَ حَربًا مِنَ الأعداءِ، فرجَع إلى المدينةِ مُنتصِرًا بعدَ أن أقامَ بتَبوكَ عِشرين ليلةً.
لمَّا أصاب خالدٌ يومَ الوَلَجَةِ ما أصاب مِن نَصارى بكرِ بن وائلٍ الذين أعانوا الفُرْسَ غَضِبَ لهم نَصارى قَوْمِهم، فكاتَبوا الفُرْسَ، واجتمعوا على أَلَّيْس وعليهم عبدُ الأسودِ العِجْليُّ وكتَبَ أَرْدَشِير إلى بهمن جاذُوَيْهِ يأمُرهُ بالقُدومِ على نَصارى العربِ بأُلَّيْس، فقَدِمَ بهمن جاذُوَيْهِ جابانَ إليهم، فاجتمع على جابان نَصارى العربِ مِن أهلِ الحِيرَةِ. وكان خالدٌ لمَّا بَلغَهُ تَجَمُّعُ نَصارى بكرٍ وغيرِهم سار إليهم ولا يَشعُرُ بِدُنُوِّ جابان. فلمَّا طلَع جابانُ بأُلَّيْس قالت العَجَمُ له: أَنُعاجِلُهُم أم نغدي النَّاس ولا نُريهِم أَنَّا نَحْفَلُ بهم، ثمَّ نُقاتِلهم؟ فقال جابانُ: إن تَركوكُم فتَهاوَنوا بهم. فعَصَوْهُ وبَسَطوا الطَّعامَ، وانتهى خالدٌ إليهم وحطَّ الأثقالَ، فلمَّا وُضِعت تَوجَّه إليهم، وطلَب مُبارزةَ عبدِ الأسودِ وابنِ أَبْجَرَ ومالكِ بن قيسٍ، فبرَز إليه مالكٌ مِن بينهم، فقَتلَهُ خالدٌ وأَعجَل الأعاجمَ عن طعامِهم. فقال لهم جابانُ: حيث لم تَقدِروا على الأكلِ فسُمُّوا الطَّعامَ، فإن ظَفرتُم فأَيْسَرُ هالِكٍ، وإن كانت لهم هَلكوا بأَكْلِهِ. فلم يفعلوا، واقتتلوا قِتالًا شديدًا، والمشركون يَزيدُهم ثُبوتًا تَوقُّعُهم قُدومِ بهمن جاذُوَيْهِ، فصابَروا المسلمين، فقال خالدٌ: اللَّهمَّ إن هَزمتَهُم فعَلَيَّ أن لا أَسْتَبْقِي منهم مَن أَقدِر عليه حتَّى أُجري مِن دمائهِم نَهرَهُم. فانهزمت فارِسُ فنادى مُنادي خالدٍ: الأُسَراءُ الأُسَراءُ، إلَّا مَن امتنع فاقتلوه. فأقبل بهم المسلمون أُسَراء، ووَكَّل بهم مَن يَضرِب أعناقَهُم يومًا وليلةً. فقال له القَعْقاعُ وغيرُه: لو قتلتَ أهلَ الأرضِ لم تَجْرِ دِماؤهُم، فأَرْسِلْ عليها الماءَ تَبَرَّ يَمينُك، ففعَل فَسالَ النَّهرُ دَمًا عَبيطًا، فلذلك سُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ إلى اليومِ، ووقَف خالدٌ على الطَّعامِ وقال للمسلمين: قد نَفَّلْتُكُموه، فتَعشَّى به المسلمون، وجعَل مَن لم يَرَ الرِّقاقَ يقول: ما هذه الرِّقاقُ البِيضُ؟
هو يَزيدُ بن مُعاوِيَة بن أبي سُفيان الأُمَويُّ القُرشيُّ الدِّمشقيُّ، وُلِدَ في 23 رمضان 26 هـ في خِلافَة عُثمان بن عفَّان رضي الله عنه في قَريةِ الماطِرُون، وأُمُّهُ مَيْسونُ بنتُ بَحْدَل الكَلْبِيَّةُ، طَلَّقَها مُعاوِيَةُ فيما بعدُ. عاش فَترةً مِن حياتِه في البادِيَةِ بين أخوالِه، تَوَلَّى الخِلافَة بعدَ وَفاةِ والدِه في سنة 60 للهِجرَةِ، ولم يُبْقِ مِن مُعارِضي تَوْلِيَتِهِ الخِلافَة غيرَ الحُسينِ بن عَلِيٍّ، وعبدِ الله بن الزُّبيرِ. حدَث في عَهدِه ثلاثةُ حوادِث في سنة 61هـ، وقَعةُ كَرْبَلاء التي قُتِلَ فيها الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه بعدَ تَحريضِ شِيعَةِ العِراق له بالخُروجِ إليهم ثمَّ تَخَلّيهم عنه. والثَّاني سنة 63 هـ مُعارضَةُ عبدِ الله بن الزُّبير في الحِجاز، وما تَرَتَّب عليها مِن اسْتِباحَةِ الحَرَمِ واحْتِراقِ الكَعبَةِ. والثَّالث مُعارضَةُ أهلِ المدينةِ سنة 63 هـ على يَزيدَ وخَلْعُ بَيْعَتِه ممَّا أَدَّى إلى حِصارِ المدينةِ ثمَّ اسْتِباحَتِها في وَقعةِ الحَرَّةِ. تُوفِّي يَزيدُ بن مُعاوِيَة أثناءَ حِصارِ الجيشِ لمكَّة، وكان هو في الشَّامِ وقد كان عَهِدَ لابنِه مُعاوِيَة بن يَزيدَ بالخِلافَة مِن بَعدِه, وبعدَ وَفاةِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة تَبايَنَت الآراءُ حول شَخْصِيَّتِه. والنَّاسُ فيه طَرَفان ووَسَطٌ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ: "إنَّه كان مَلِكًا مِن مُلوكِ المسلمين، له حسنات وسَيِّئات، ولم يُولد إلَّا في خِلافَة عُثمانَ، ولم يكُن كافرًا؛ ولكن جَرى بِسبَبِه ما جَرى مِن مَصرَعِ الحُسينِ، وفعَل ما فعَل بأهلِ الحَرَّةِ، ولم يكُن صاحبًا ولا مِن أوْلِياءِ الله الصَّالحين، وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العَقلِ والعِلْمِ والسُّنَّةِ والجَماعةِ. ثمَّ افْتَرقوا ثلاث فِرَق: فِرْقَة لَعَنَتْهُ، وفِرْقَة أَحَبَّتْهُ، وفِرْقَة لا تَسُبُّهُ ولا تُحِبُّهُ، وهذا هو المنصوصُ عن الإمامِ أحمد، وعليه المُقْتَصِدون مِن أصحابِه وغيرِهم مِن جَميعِ المسلمين.
أقام عبدُ الملك بن مَرْوان بدِمشقَ بعدَ رُجوعِه مِن قِنَّسْرين ما شاء الله أن يُقيمَ، ثمَّ سار يُريدُ قَرْقِيسِيا وبها زُفَرُ بن الحارثِ الكِلابيُّ، وكان عَمرُو بن سعيدٍ مع عبدِ الملك، فلمَّا بلَغ بُطْنانَ حَبيبٍ رجَع عَمرٌو ليلًا ومعه حُميدُ بن حُرَيثٍ الكَلبيُّ، وزُهيرُ بن الأَبْرَدِ الكَلبيُّ، فأَتى دِمشقَ وعليها عبدُ الرَّحمن بن أُمِّ الحكمِ الثَّقفيُّ قد اسْتَخلَفَهُ عبدُ الملكِ، فلمَّا بَلغهُ رُجوعُ عَمرِو بن سعيدٍ هرَب عنها، ودَخلَها عَمرٌو فغَلَب عليها وعلى خَزائِنِه، وهَدَم دارَ ابنِ أُمِّ الحكمِ، واجتمع النَّاسُ إليه فخَطَبهم ونَهاهُم ووَعَدهُم، فأصبح عبدُ الملكِ وقد فَقَدَ عَمرًا، فسَألَ عنه فأُخْبِرَ خَبرُه، فرجَع إلى دِمشقَ فقاتَلهُ أيَّامًا، وكان عَمرٌو إذا أُخْرِج حُميدُ بن حُرَيثٍ على الخيلِ أَخرَج إليه عبدُ الملك سُفيانَ بن الأَبْرَدِ الكَلبيَّ، وإذا أُخْرِج عَمرٌو زُهيرُ بن الأبردِ أَخرَج إليه عبدُ الملك حسَّانَ بن مالكِ بن بَحْدَل. ثمَّ إنَّ عبدَ الملك وعَمرًا اصْطَلحا وكَتَبا بينهما كِتابًا وآمَنَهُ عبدُ الملك، فخرَج عَمرٌو في الخيلِ إلى عبدِ الملك فأَقبَل حتَّى أَوْطَأ فَرَسَهُ أَطْنابَ عبدِ الملكِ فانْقَطَعت وسَقَط السُّرادِق، ثمَّ دخَل على عبدِ الملك فاجْتَمَعا، ودخَل عبدُ الملك دِمشقَ يومَ الخميسِ، فلمَّا كان بعدَ دُخولِ عبدِ الملك بأربعةِ أيَّام أَرسَل إلى عَمرٍو: أنِ ائْتِنِي. فلمَّا كان العِشاءُ لَبِسَ عَمرٌو دِرْعًا ولَبِسَ عليها القُباءَ وتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، ودخل عَمرٌو فرَحَّبَ به عبدُ الملك فأَجْلَسَهُ معه على السَّريرِ وجعَل يُحادِثُه طَويلًا، ثمَّ أَوْثَقَهُ وأَمَر بِقَتلِه، ثمَّ تَوَلَّى قَتْلَهُ بِنَفسِه فذَبَحهُ.
بُويِعَ لِيَزيد بن الوَليدِ الذي يُقالُ له: النَّاقِص، وإنَّما سُمِّيَ النَّاقِصَ لأنَّه نَقَصَ الزِّيادَة التي كان الوَليدُ زادَها في عَطِيَّاتِ النَّاس، وهي عشرة عشرة، ورَدَّ العَطاءَ إلى ما كان أيَّام هِشام، لمَّا قُتِلَ الوليد بن يَزيد خَطَب يَزيدُ بن وَليد النَّاسَ فذَمَّ الوَليدَ بن يَزيد وأنَّه قَتلَه لِفِعلِه الخَبيث. قال: (... ظَهَر الجَبَّارُ العَنيد، المُستَحِلُّ الحُرْمَة، والرَّاكِب البِدعَة، والمُغَيِّر السُّنَّة، فلمَّا رأيتُ ذَلِكَ أَشفَقتُ إذ غَشِيَتكم ظُلْمَة لا تَقلَع عَنكم عَلَى كَثرَةٍ مِن ذُنوبِكم، وقَسوَةٍ مِن قُلوبِكم، وأَشفَقتُ أن يَدعو كَثيرٌ مِن النَّاس إِلَى ما هُوَ عَليهِ، فيُجيبُه مَن أَجابَه مِنكم، فاستَخرتُ اللَّه فِي أَمرِي، وسَألتُه ألا يِكِلَني إِلَى نَفسِي، ودَعوتُ إلى ذلك مَن أَجابَني مِن أَهلِي وأَهلِ وِلايَتِي، وهو ابْنُ عَمِّي فِي نَسَبي وكُفْئِي فِي حَسَبي، فأَراحَ اللَّه مِنه العِبادَ، وطَهَّر مِنه البِلادَ، وِلايَةً مِن اللَّه، وعَونًا بِلا حَوْلٍ مِنَّا ولا قُوَّة، ولكن بِحَوْلِ اللَّه وقُوَّتِه ووِلايَتِه وعَوْنِه. ثمَّ قال: أيُّها النَّاس إنَّ لكم عَليَّ أن لا أَضَعَ حَجرًا على حَجَر ولا لَبِنَة، ولا أَكتَري نَهرًا، ولا أُكثِر مالًا، ولا أُعطِيَه زَوجةً ووَلدًا، ولا أَنقُل مالًا عن بَلدٍ حتَّى أَسُدَّ ثَغرَه وخَصاصَة أَهلِه بما يُغنيهم، فما فَضَل نَقلتُه إلى البَلدِ الذي يَليهِ، ولا أُجَمِّرَكُم في ثُغورِكم فأَفتِنَكم، ولا أُغلِق بابي دونكم، ولا أَحمِل على أَهلِ جِزْيَتِكم، ولكم أُعطِياتُكم كُلَّ سَنَة، وأَرزاقُكم في كُلِّ شَهر حتَّى يكونَ أَقصاكُم كَأدناكُم، فإن وَفَّيتُ لكم بما قلتُ فعليكم السَّمعُ والطَّاعة وحُسْنُ الوِزارَة، وإن لم أَفِ فلكم أن تَخلَعوني إلَّا أن أَتوبَ، وإن عَلِمتُم أَحدًا ممَّن يُعرَف بالصَّلاح يُعطيكم مِن نَفسِه مِثلَ ما أُعطيكم وأَردتُم أن تُبايِعوه فأنا أوَّلُ مَن يُبايعهُ. أيُّها النَّاس لا طاعةَ لِمَخلوقٍ في مَعصِيةِ الخالِق).
هو أبو إسحاقَ محمَّد المعتَصِم بالله بن هارون الرَّشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ثامِنُ الخُلَفاءِ العباسيِّينَ، وُلِدَ سنة 179ه يوم الخميسِ لثماني عشرة مَضَت من ربيع الأول، بُويع بالخلافةِ يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلةً بَقِيَت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبعد ذلك بأيَّامٍ اجتمع جماعةٌ من الجند وشغَّبوا وتحدَّثوا في بيعةِ العبَّاسِ بنِ المأمونِ وأظهروا خلافَ المعتَصِم، ومَضَوا بأسْرِهم إلى مضارِبِ العبَّاسِ فخرج إليهم وقال لهم: أيَّ شيءٍ تُريدونَ منِّي؟ قالوا: نبايعُك بالخلافةِ، قال: أنا قد بايعتُ عمِّي ورَضيتُ به، وهو كبيرى وعندي بمنزلةِ المأمونِ، فانصرفوا خائبينَ، واستمَرَّت في عهدِه فِتنةُ القَولِ بخَلقِ القُرآن, وإنَّما حثَّ المعتَصِمَ على ذلك وحمَلَه على ما فعل به أحمَدُ بنُ أبى دؤادَ؛ لأنَّه كان معتزليًّا، وكان الإمامُ أحمدُ إمامَ السُّنَّة. وحين أحضَرَه المعتَصِم بين يديه سلَّم وتكلَّم بكلامٍ أعجب النَّاسَ، فالتَفَت المعتَصِمُ إلى ابنِ أبى دؤاد، وقال: ذكرتُم أنَّ الرجُلَ عامِّيٌّ، وأراه يذكُرُ بَيتًا قديمًا وشهد له كلُّ من حضر بأنَّه مِن سُراةِ بني شَيبانَ، ثمَّ قال: وذكَرْتُم لي أنَّه جاهِلٌ، وما أراه إلَّا مُعرِبًا فَصيحًا، فأكرَمَ الإمامَ أحمدَ. وكان الإمامُ أحمَدُ بنُ حنبل إلى أن مات يُثني على المعتَصِم ويذكُرُ فِعلَه به ويترحَّمُ عليه. غزا المعتَصِمُ مدينةَ عَمُّوريَّة، وهي من أعظَمِ مُدُنِ الرُّوم كالقُسطنطينيَّة لرَدِّ عدوانِ مَلِك الرومِ على المسلمينَ في زبطرة، فكانت غزوةً مشهورةً نصر اللهُ فيها الإسلامَ والمُسلِمينَ، وكان بدءُ عِلَّتِه أنَّه احتجم أوَّلَ يومٍ في المحَرَّم، واعتَلَّ عِندَها،وكانت خلافتُه ثماني سنينَ وثمانية أشهُر ويومين، وتوفِّيَ بمدينةِ سامِرَّاء.
كانت وَقعةً للزنج انهزموا فيها، وكان سببَها أنَّ محمد بن عبيد الله كتب إلى عليِّ بن أبان بعدَ الصُّلحِ يَسألُه المعونةَ على الأكرادِ الدارنان، على أن يجعلَ له ولأصحابه غنائِمَهم، فكتب عليٌّ إلى صاحبه يستأذِنُه، فكتب إليه أن وجِّهْ إليه جيشًا وأقِمْ أنت، ولا تُنفِذ أحدًا حتى تستوثِقَ منه بالرهائنِ، ولا يأمن غزوه والطلب بثأره. فكتب عليٌّ إلى محمد يطلبُ منه اليمين والرهائن، فبذَلَ له اليمينَ، ومَطَله بالرهائِنِ، ولِحرصِ عليٍّ على الغنائم أنفذ إليه جيشًا، فسيَّرَ محمد معهم طائفةً من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكرادُ فقاتلوهم، ونشبت الحرب، فتخلَّى أصحاب محمد عن الزنج، فانهزموا وقَتَلت الأكرادُ منهم خلقًا كثيرًا، وكان محمَّدٌ قد أعدَّ لهم من يتعَرَّضُهم إذا انهزموا، فصادفوهم وأوقعوا بهم، وسَلَبوهم وأخذوا دوابَّهم، ورجعوا بأسوأ حالٍ، فأظهر الخبيثُ الغضَبَ على ابنِ أبان، فأرسل محمَّد إلى بهبود، ومحمد بن يحيى الكرماني، وكانا أقربَ الناسِ إلى علي، فضَمِنَ لهما مالًا إن أصلحا له عليًّا وصاحِبَه، ففعلا ذلك، فأجابهما الخبيثُ إلى الرضا عن محمد على أن يخطُبَ له على منابِرِ بلاده، وأعلما محمدًا بذلك، فأجابهما إلى كلِّ ما طلبا، وجعل يراوِغُ في الدعاءِ له على المنابر، ثم إنَّ عليًّا استعدَّ لمتوث- وهي بلدة بين قرقوب وكور الاهواز- فسار إليها فلم يظفَرْ بها فرَجَع، وعمِلَ السلاليم والآلات التي يصعَدُ بها إلى السور، واستعَدَّ لقَصدِها، فعرف ذلك مسرور البلخي، وهو يومئذٍ بكور الأهواز، فلما سار عليٌّ إليها سار إليه مسرورٌ، فوافاه قبل المغربِ وهو نازلٌ عليها، فلما عاين الزنج أوائِلَ خيل مسرور انهزموا أقبحَ هزيمة، وترَكوا جميعَ ما كانوا أعدُّوه، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وانصرف عليٌّ مهزومًا، فلم يلبثْ إلا يسيرًا حتى أتته الأخبارُ بإقبال الموفق، ولم يكن لعليٍّ بعد متوث وقعة، فكتب إليه صاحِبُه يأمره بالعودِ إليه، ويستحِثُّه حثًّا شديدًا.
سار محمَّدُ بن سليمان إلى حدودِ مِصرَ لحرب هارونَ بنِ خمارَوَيه بن أحمد بن طولون، وسببُ ذلك أنَّ محمَّدَ بنَ سُلَيمان لَمَّا تخلَّفَ عن المكتفي، وعاد عن محاربةِ القرامطة، واستقصى محمَّد في طلَبِهم، فلما بلغ ما أراد عزمَ على العودِ إلى العراق، أتاه كتابُ بدرٍ الحمامي غلامِ ابن طولون، وكتابُ فائق، وهما بدمشق، يدعوانِه إلى قصد البلاد بالعساكِرَ يُساعدانه على أخذها، فلما عاد إلى بغداد أنهى ذلك إلى المُكتفي، فأمره بالعَودِ، وسيَّرَ معه الجنود والأموال، ووجَّه المكتفي دميانة غلامَ بازمار، وأمره بركوبِ البحر إلى مصر، ودخول النيل، وقطْع الموادِّ عن مصر، ففعل وضَيَّق عليهم، وزحف إليهم محمَّدُ بنُ سليمان في الجيوش في البَرِّ، حتى دنا من مصرَ وكاتَبَ مَن بها من القوَّاد، وكان أوَّلَ من خرج إليه بدرٌ الحمامي، وكان رئيسَهم، فكَسَرهم ذلك، وتتابعه المُستأمَنة من قوَّاد المصريين، وفي بعض الأيام ثارت عصبيَّةٌ، فاقتتلوا فخرج هارون يسَكِّنُهم، فرماه بعضُ المغاربة بمزراق معه فقَتَله، فلما قُتِلَ قام عمُّه شيبان بالأمر من بعده، وبذلَ المالَ للجُند، فأطاعوه وقاتلوا معه، فأتَتهم كتُبُ بدرٍ يدعوهم إلى الأمانِ، فأجابوه إلى ذلك، فلما عَلِمَ محمد بن سليمان الخبَرَ سار إلى مصر، فأرسل إليه شيبانُ يطلُبُ الأمان، فأجابه، فخرج إليه ليلًا، ولم يعلَمْ به أحد من الجند، فلما أصبحوا قصَدوا داره ولم يجدوه، فبَقُوا حيارى، ولما وصل محمَّد مصرَ دخلها واستولى على دورِ طولونَ وأموالهم، وأخذَهم جميعًا وهم بضعةَ عشرَ رجُلًا فقيَّدَهم، وحبسهم واستقصى أموالَهم، وكتب بالفتحِ إلى المكتفي، فأمره بإشخاصِ آلِ طولون وترحيلِهم من مصر والشام إلى بغداد، ولا يَترُك منهم أحدًا ففعل ذلك، وعاد إلى بغداد، وولَّى معونةَ مصرَ عيسى النوشري، فكانت مدَّةُ الدولة الطولونية 38 عامًا مِن حكم أحمد بن طولون.
سَيَّرَ المَلِكُ الرَّحيمُ ابن أبى كاليجار البويهي الشِّيعي أخاهُ الأميرَ أبا سعد في جَيشٍ إلى بلادِ فارس، وكان سببُ ذلك أنَّ المُقيمَ في قَلعةِ إصطخر، وهو أبو نصر بن خسرو، وكان له أَخَوان قَبَضَ عليهما هزارسبُ بن بنكير بِأَمْرِ الأَميرِ أبي منصور بن المَلِكِ أبي كاليجار، فكتَبَ إلى المَلِكِ الرَّحيم البويهي الشِّيعي يَبذُل له الطَّاعة والمُساعَدة، ويَطلُب أن يُسَيِّر إليه أخاهُ لِيُمَلِّكَهُ بلادَ فارس، فسَيَّرَ إليه أخاهُ أبا سعد في جَيشٍ، فوصَلَ إلى دولةِ أباذ، فأتاه كَثيرٌ مِن عَساكر فارس: الدَّيلمِ، والتُّرْكِ، والعَرَبِ، والأَكرادِ، وسار منها إلى قَلعةِ إصطخر، فنزل إليه صاحبُها أبو نصر، فلَقِيَهُ وأَصعدَهُ إلى القَلعةِ، وحمَلَ له وللعَساكر التي معه الإقامات والخِلَعِ وغيرها، ثم ساروا منها إلى قَلعةِ بهندر فحَصَروها، وأتاهُ كُتُبُ بعضِ مُستَحفِظي البلادِ الفارسيَّة بالطَّاعةِ، منها مُستَحفِظ درابجرد وغيرها، ثم سار إلى شيراز فمَلكَها في رمضان، فلمَّا سَمِعَ أخوهُ الأميرُ أبو منصور، وهزارسب، ومنصور بن الحسين الأسديُّ ذلك ساروا في عَسكرِهم إلى المَلِكِ الرَّحيم فهَزَموه، وفارَق الأهوازَ إلى واسط، ثم عَطَفوا من الأهوازِ إلى شِيراز لِإجلاءِ الأميرِ أبي سعدٍ عنها، فلمَّا قاربوها لَقِيَهم أبو سعدٍ وقاتَلَهم فهَزمَهم، فالتجَأُوا إلى جبلِ قَلعةِ بهندر، وتَكرَّرت الحروبُ بين الطائِفَتينِ إلى مُنتصفِ شَوَّال، فتَقدَّمت طائفةٌ من عَسكرِ أبي سعدٍ فاقتَتَلوا عامَّة النَّهارِ ثم عادوا، فلمَّا كان الغدُ التقى العَسكرانِ جميعًا واقتَتَلوا، فانهَزمَ عَسكرُ الأميرِ أبي منصور، وظَفَر أبو سعدٍ، وقَتَل منهم خَلْقًا كَثيرًا، واستَأمَن إليه كثيرٌ منهم، وصعد أبو منصور إلى قَلعةِ بهندر واحتَمَى بها، وأقام إلى أن عاد إلى مُلكِه، ولما فارَق الأميرُ أبو منصور الأهوازَ أُعيدَت الخطبة للمَلِكِ الرَّحيم، وأَرسلَ مَن بها مِن الجُندِ يَستدعونَه إليهم.
هو الشيخُ، الإمامُ، المُحَدِّثُ، المُفِيدُ، الكَبيرُ، المُصَنِّفُ، أبو القاسمِ عبدُ الرحمن بن الحافظِ الكَبيرِ أبي عبدِ الله محمدِ بن إسحاقَ بن محمدِ بن يحيى بن إبراهيمَ بن أبي عبدِ الله بن مَنده العَبدِيُّ الأصبهانيُّ. وُلِدَ سَنةَ 381هـ. سَمِعَ أَباهُ وابنَ مَرْدَوَيْهِ وخَلْقًا في أقاليمَ شَتَّى، سافَر إليها وجَمعَ شَيئًا كَثيرًا، وكان ذا وَقارٍ وسَمْتٍ حَسَنٍ، واتِّباعٍ للسُّنَّةِ وفَهْمٍ جَيِّدٍ، كَثيرَ الأَمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ، لا يَخافُ في الله لَوْمَةَ لائِمٍ، وكان صاحِبَ خُلُقٍ وفُتُوَّةٍ وسَخاءٍ وبَهاءٍ، وكانت الإجازةُ عنده قَوِيَّةً، وكان يقول: "ما حَدَّثتُ بحَديثٍ إلَّا على سَبيلِ الإجازَةِ كَيْلَا أُوبَق". وله تَصانيفُ كَثيرةٌ، ورُدودٌ على المُبتَدِعَةِ وكان سعدُ الزنجانيُّ يقول: حَفِظَ الله الإسلامَ بهِ، وبعبدِ الله الأنصاريِّ الهَرويِّ"، كان عبدُ الرحمن بن مَندَه يقول: "قد عَجِبتُ من حالي، فإنِّي قد وَجدتُ أَكثرَ من لَقيتُه إنْ صَدَّقتُه فيما يقوله مُداراةً له؛ سَمَّاني مُوافِقًا، وإنْ وَقفتُ في حَرفٍ مِن قَولِه أو في شيءٍ مِن فِعلِه؛ سَمَّاني مُخالِفًا، وإنْ ذَكرتُ في واحدٍ منهما أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ بخِلافِ ذلك سَمَّاني خارِجِيًّا، وإنْ قُرئَ عليَّ حَديثٌ في التَّوحيدِ؛ سَمَّاني مُشَبِّهًا، وإنْ كان في الرُّؤْيَةِ؛ سَمَّاني سالِمِيًّا..., وأنا مُتَمسِّكٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، مُتَبَرِّئٌ إلى الله مِن الشَّبَهِ والمِثْلِ والنِّدِّ والضِّدِّ والأعضاءِ والجِسْمِ والآلاتِ، ومِن كلِّ ما يَنسُبهُ النَّاسِبون إليَّ، ويَدَّعِيه المُدَّعونَ عليَّ من أنْ أَقولَ في الله تعالى شَيئًا من ذلك، أو قُلتهُ، أو أَراهُ، أو أَتَوَهَّمهُ، أو أَصِفهُ به" قال يحيى بن مَندَه: "كان عَمِّي سَيْفًا على أَهلِ البِدَعِ، وهو أَكبرُ من أن يُثنِي عليه مِثلي، كان والله آمِرًا بالمعروفِ، ناهِيًا عن المُنكرِ، كَثيرَ الذِّكْرِ، قاهرًا لِنَفسِه، عَظيمَ الحِلْمِ، كَثيرَ العِلمِ"، تُوفِّي بأصبهان عن سبعٍ وثمانين سَنةً، وحَضرَ جَنازتُه خَلْقٌ كَثيرٌ لا يَعلمُهم إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
هو أبو المَعالِي عبدُ المَلِكِ ابنِ الشيخِ أبي محمدٍ عبدِ الله بن يوسفَ بن محمدِ بن حيويهِ، الجُوينيُّ، الفَقيهُ الشافعيُّ، المُلَقَّب ضِياءَ الدِّين، المعروف بإمامِ الحَرمَينِ؛ أَعلمُ المُتأخِّرين مِن أَصحابِ الإمامِ الشافعيِّ على الإطلاقِ، المُجْمَع على إِمامَتِه، المُتَّفَق على غَزارَةِ مادَّتِه، وتَفَنُّنِه في العُلومِ من الأُصولِ والفُروعِ والأَدَبِ وغَيرِ ذلك، وُلِدَ في مُحرَّم سَنةَ 419هـ, وقد رُزِقَ مِن التَّوَسُّعِ في العِبارَةِ ما لم يُعهَد مِن غَيرِه، وكان يَذكُر دُروسًا يَقعُ كلُّ واحدٍ منها في عِدَّةِ أَوراقٍ ولا يَتَلَعْثَم في كَلمةٍ منها، وتَفَقَّهَ في صِباهُ على والدِهِ أبي محمدٍ، وكان يُعْجَبُ بِطَبْعِه وتَحصيلِه وجَودَةِ قَريحَتِه، وما يَظهَر عليه من مخايلِ الإقبالِ، فأَتَى على جَميعِ مُصنَّفاتِ والدِه وتَصرَّف فيها، حتى زاد عليه في التَّحقيقِ والتَّدقيقِ. ولمَّا تُوفِّي والدُه قَعَدَ مَكانَه للتَّدريسِ، وإذا فَرغَ منه مضى إلى الأستاذِ أبي القاسمِ الإسكافيِّ الإسفرايني بمَدرسةِ البَيهقيِّ حتى حَصَّلَ عليه عِلْمَ الأُصولِ، ثم سافرَ إلى بغداد ولَقِيَ بها جَماعةً من العُلماءِ، ثم خَرجَ إلى الحِجازِ وجاوَرَ بمكَّةَ أربعَ سِنينَ، ثم انتَقلَ إلى المدينةِ، يُدَرِّسُ ويُفتِي ويَجمَع طُرُقَ المَذهبِ، فلهذا قِيلَ له: إمام الحَرمَين، ثم عادَ إلى نيسابور في أَوائلِ وِلايَةِ السُّلطانِ ألب أرسلان السلجوقي، والوَزيرُ يَومئذٍ نِظامُ المُلْكِ، فبَنَى له فيها المَدرسةَ النِّظاميَّةَ، وتَولَّى الخَطابةَ بها، وكان يَجلِس للوَعظِ والمُناظَرةِ، وظَهرَت تَصانيفُه، وحَضرَ دُروسَه الأكابرُ من الأئمَّةِ وانتَهَت إليه رِياسَةُ الأصحابِ، وفُوِّضَ إليه أُمورُ الأوقافِ، وبَقِيَ على ذلك قَريبًا من ثلاثين سَنَةً غيرَ مُزَاحَمٍ ولا مُدَافَع، مُسَلَّم له المِحرابُ والمِنبرُ والخَطابةُ والتَّدريسُ ومَجلِسُ التَّذكيرِ يومَ الجُمعةِ. تُوفِّي بنيسابور عن 59 عامًا، له من التَّصانيفِ: العديدة ((العقيدة النِّظاميَّة))، و((الشامل)) و((الإرشاد إلى قواطع الأدلة)) في أصول الدين، و((البرهان في أصول الفقه))، وغيرُها من الكُتبِ، وكان من فُقهاءِ الشَّافعيَّة المُبرَزين في الأُصولِ والفِقهِ.
تَزوَّج الخَليفةُ المُقتَدِي بابنةِ السُّلطانِ ملكشاه فاشتَرطَت عليه أن لا يُبقِي تَحتَه لا زَوجةً ولا سُرِّيَّةً إلا هي وَحدَها، فأُجِيبَت رَغبتُها. فنُقِلَ جِهازُها إلى دارِ الخِلافَةِ على مائةٍ وثلاثين جَمَلًا مُجَلَّلَةً بالدِّيباجِ الرُّوميِّ، وكان أَكثرَ الأحمالِ الذهبُ والفِضَّةُ وعلى أربعٍ وسبعين بَغْلًا مُجَلَّلَةً بأَنواعِ الدِّيباجِ المَلَكِيِّ، وأَجراسُها وقَلائدُها من الذهبِ والفِضَّةِ، وكان على سِتَّةٍ منها اثنا عشر صُندوقًا من فِضَّةٍ لا يُقَدَّر ما فيها من الجَواهرِ والحُلِيِّ، وبين يدي البِغالِ ثلاثةٌ وثلاثون فَرَسًا من الخَيْلِ الرَّائقَةِ، عليها مَراكِبُ الذهبِ مُرَصَّعَةً بأَنواعِ الجَوهَرِ، ومَهْدٌ عَظيمٌ كَثيرُ الذَّهبِ، وسار بين يدي الجِهازِ سعدُ الدولةِ كوهرائين، والأَميرُ برسق، وغيرُهما، ونَثَرَ أَهلُ نَهرِ معلى عليهم الدَّنانيرَ والثِّيابَ، وكان السُّلطانُ قد خَرجَ عن بغدادَ مُتَصَيِّدًا، ثم أَرسلَ الخَليفةُ الوَزيرَ أبا شُجاعٍ إلى تركان خاتون، زَوجَةِ السُّلطانِ، وبين يَديهِ نحو ثلاثمائة مَوْكِبِيَّةٍ، ومِثلُها مَشاعِلُ، ولم يَبقَ في الحَريمِ دُكَّانٌ إلَّا وقد أُشعِل فيها الشَّمعةُ والاثنتانِ وأكثرُ من ذلك، وأَرسلَ الخَليفةُ مع ظُفَر خادمِه مَحِفَّةً لم يُرَ مِثلُها حُسْنًا، وقال الوَزيرُ لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أَميرُ المؤمنين يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد أَذِنَ في نَقلِ الوَديعَةِ إلى دارِه. فأَجابَت بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وحَضَرَ نِظامُ المُلْكِ فمَن دُونَه مِن أَعيانِ دَولةِ السُّلطانِ، ثم جاءَت الخاتون ابنةُ السُّلطانِ بعدَ الجَميعِ، في مَحِفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، عليها من الذهبِ والجَواهرِ أكثرُ شيءٍ، وقد أَحاطَ بالمَحِفَّةِ مائتا جاريةٍ من الأتراكِ بالمَراكبِ العَجيبةِ، وسارَت إلى دارِ الخِلافةِ، وكانت ليلةً مَشهودَةً لم يُرَ ببغدادَ مِثلُها، فلمَّا كان الغَدُ أَحضرَ الخَليفةُ أُمراءَ السُّلطانِ لِسِماطٍ أَمَرَ بِعَمَلِهِ وخَلَعَ عليهم كُلِّهم، وعلى كلِّ مَن له ذِكْرٌ في العَسكرِ، وأَرسلَ الخِلَعَ إلى الخاتون زَوجةِ السُّلطانِ، وإلى جَميعِ الخَواتين.
كَثُرَت الفِتَنُ ببغداد بين الشِّيعةِ من أَهلِ الكَرخِ وغَيرِها من المَحالِّ مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وقُتِلَ بينهم عَددٌ كَثيرٌ، واستَولَى أَهلُ المَحالِّ على قِطعَةٍ كَبيرةٍ من نَهرِ الدَّجاجِ، فنَهَبوها، وأَحرَقوها، فنَزل شِحْنَةُ بغداد -المسؤول عن ضبط بغداد- وهو خمارتكين النائبُ عن كوهرائين، على دِجلَة في خَيْلِه ورَجِلِه، لِيَكُفَّ الناسَ عن الفِتنةِ، فلم يَنتَهوا، وكان أهلُ الكَرخِ يَجرُون عليه وعلى أَصحابِه الجِراياتِ والإقاماتِ، وفي بعضِ الأيامِ وَصَلَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ إلى سُويقَةِ غالبٍ، فخَرجَ مِن أَهلِ الكَرخِ مَن لم تَجرِ عادَتُه بالقِتالِ، فقاتَلوهُم حتى كَشَفوهُ،. فرَكِبَ خَدَمُ الخَليفةِ، والحُجَّابُ، والنُّقَباءُ، وغَيرُهم من أَعيانِ الحَنابِلَةِ، إلى خمارتكين، وساروا معه إلى أَهلِ الكَرخِ، فقَرأَ عليهم كِتابًا من الخَليفةِ يَأمُرهم بالكَفِّ، ومُعاوَدَةِ السُّكونِ، وحُضورِ الجَماعةِ والجُمعةِ، والتَّدَيُّنِ بمَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ، فأجابوا إلى الطاعةِ، فبينما هم كذلك أَتاهُم الصَّارِخُ من نَهرِ الدَّجاجِ بأن السُّنَّةَ قد قَصَدوهُم، والقِتالُ عندهم، فمَضوا مع خمارتكين، ومُنِعوا من الفِتنَةِ، وسَكَنَ الناسُ، وكَتَبَ سُنَّةٌ مِن أَهلِ الكَرخِ على أَبوابِ مَساجِدِهم: "خَيرُ الناسِ بعدَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبو بكرٍ ثم عُمَرُ ثم عُثمانُ ثم عَلِيٌّ، ومِن عند هذا اليومِ ثارَ شِيعَةٌ من أَهلِ الكَرخِ، وقَصَدوا شارعَ ابنِ أبي عَوفٍ ونَهَبوهُ، ورَفعَ العامَّةُ الصُلبانَ وهَجَموا على الوَزيرِ في حُجرَتِه، وأَكثَروا من الكَلامِ الشَّنيعِ، وقُتِلَ ذلك اليومَ رَجلٌ هاشِميٌّ مِن أَهلِ بابِ الأزج بسَهمٍ أَصابَهُ، فثارَ العامَّةُ هناك بعَلَوِيٍّ كان مُقِيمًا بينهم، فقَتَلوهُ وحَرَقوهُ، وجَرَى مِن النَّهْبِ، والقَتْلِ، والفَسادِ أُمورٌ عَظيمةٌ، فأَرسلَ الخَليفةُ إلى سَيفِ الدَّولةِ صَدَقةَ بنِ مزيد، فأَرسلَ عَسكرًا إلى بغداد، فطَلَبوا المُفسِدين والعَيَّارِين، فهَرَبوا منهم، فهُدِمَت دُورُهم، وقُتِلَ منهم ونُفِيَ وسَكنَت الفِتنةُ، وأَمِنَ الناسُ.
اجتمعت الكرج في خلقٍ كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل، ودخلوا بلاد الإسلام، وقصدوا مدينةَ دوين من أذربيجان، فملكوها ونَهَبوها، وقتلوا من أهلِها وسوادها نحوَ عشرة آلاف قتيل، وأخذوا النساءَ سبايا، وأسَرُوا كثيرًا، وأعرَوُا النساءَ وقادوهم حُفاةً عُراةً، وأحرقوا الجوامِعَ والمساجِدَ، فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساءُ الكرج ما فعلوا بنساءِ المسلمين، وقُلْنَ لهم قد أحوجتُم المسلمين أن يفعلوا بنا مثلَ ما فعلتُم بنسائهم؛ وكسونَهنَّ، ولَمَّا بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز، صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان، جمع عساكِرَه وحشَدَها، وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي، صاحب خلاط، وابن آقسنقر، صاحب مراغة وغيرها، فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل، وساروا إلى بلاد الكرج في صَفَر سنة ثمان وخمسين ونهبوها، وسَبَوا النساءَ والصبيان، وأسَروا الرِّجالَ، ولقيهم الكرج، واقتتلوا أشدَّ قتالٍ صبَرَ فيه الفريقان، ودامت الحربُ بينهم أكثر من شهر، وكان الظَّفَرُ للمسلمين، فانهزم الكرج وقُتِلَ منهم كثيرٌ وأُسِرَ كذلك، وكان سببُ الهزيمة أن بعض الكرج حضر عند إيلدكز، فأسلم على يديه، وقال له: تعطيني عسكَرًا حتى أسيرَ بهم في طريق أعرِفُها وأجيء إلى الكرجِ مِن ورائهم وهم لا يشعرون، فاستوثق منه، وسيَّرَ معه عسكرًا وواعده يومًا يصِلُ فيه إلى الكرج، فلما كان ذلك اليومُ، قاتل المسلمون الكرج، فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكرُ، وكبَّروا وحملوا على الكرج من ورائهم، فانهزموا، وكثُرَ القتل فيهم والأسرُ، وغنم المسلمون من أموالِهم ما لا يدخُلُ تحت الإحصاءِ لِكَثرتِه؛ فإنهم كانوا متيقِّنين النَّصرَ لكثرتهم، فخَيَّبَ الله ظنَّهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثةَ أيام بلياليها، وعاد المسلمون منصورين قاهرين.
هو السُّلطانُ الملك العزيز أبو الفتح عماد الدين عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب ديار مصر، وُلِدَ سنة 567، جمادى الأولى. وحدَّث عن أبي طاهر السِّلَفي، وابنِ عوف. قال الذهبي: "وتمَلَّك بعد أبيه، وكان لا بأسَ بسيرتِه، قَدمَ دمشق وحاصَرَ أخاه الأفضل. نَقَلْتُ من خط الضياء الحافظ، قال: خرجَ إلى الصيد، فجاءته كُتُبٌ مِن دمشق في أذيَّة أصحابِنا الحنابلةِ في فِتنةِ الحافظ عبد الغني المقدسي, فقال: إذا رَجَعْنا من هذه السَّفرةِ، كُلُّ مَن كان يقولُ بمقالتهم أخرجناه مِن بلَدِنا. قال: فرماه فَرَسٌ، ووقع عليه، فخسَف صَدرَه، كذا حدثني يوسف بن الطفيل، وهو الذي غسَّلَه"وقيل: كان سبب موته أنَّه خرج إلى الصيد، فوصل إلى الفيومِ متصَيِّدًا، فرأى ذئبًا فركَضَ فرَسَه في طَلَبِه، فعثر الفرسُ فسَقَطَ عنه في الأرض ولَحِقَته حُمَّى، فعاد إلى القاهرة مريضًا، فبَقِيَ كذلك إلى أن توفي، عاش ثمانيًا وعشرين سنة، ومات في العشرين من المحرم، ودُفِنَ بقبة الشافعي, وأُقيمَ بعده ولدٌ له صبيٌّ, فلم يَتِمَّ له ذلك, وقيل: لَمَّا مات العزيز كان الغالِبُ على أمره مملوكَ والده فخر الدين جهاركس، وهو الحاكِمُ في بلده، فأحضَرَ إنسانًا كان عندهم من أصحابِ الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأراه العزيزَ ميِّتًا، وسَيَّرَه إلى العادل وهو يحاصِرُ ماردين، ويستدعيه ليمَلِّكَه البلاد، وكان الأفضَلُ مُحَبَّبًا إلى الناس يريدونه، فراسله الأمراءُ مِن مِصرَ يَدعونَه إليهم ليُمَلِّكوه، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر، متنكرًا في تسعة عشر نَفسًا؛ لأن البلادَ كانت للعادل، ويَضبِطُ نُوَّابُه الطرق؛ لئلَّا يجوز إلى مصرَ ليجيءَ العادِلُ ويَملِكَها، ثم دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول، وأصلَحَ الأمور، وقَرَّرَ القواعِدَ والمرجِعَ في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج.