هو الخَليفةُ، أبو جَعفرٍ القائمُ بأَمرِ الله أَميرُ المؤمنين، عبدُ الله أبو جَعفرِ بن القادرِ بالله أبي العبَّاسِ أَحمدَ ابنِ الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر بالله أبي الفَضلِ جَعفرِ بن المُعتَضِد بالله أبي العبَّاسِ أَحمدَ. وُلِدَ سَنةَ إحدى وتِسعينَ وثلاثِ مائة في نِصفِ ذي القعدةِ، وأُمُّهُ بَدرُ الدُّجَى الأرمنية. وقِيلَ: قَطْرُ النَّدَى، بَقِيَت إلى أَثناءِ خِلافَتِه. وكان مَليحًا وَسيمًا أَبيضَ بِحُمْرَةٍ، قَوِيَّ النَّفْسِ، دَيِّنًا وَرِعًا مُتصَدِّقًا. بُويِعَ يومَ مَوتِ أَبيهِ بِعَهْدٍ له منه في ذي الحجَّةِ، سَنةَ 422هـ. وله إحدى وثلاثون سَنةً، وأَبوهُ هو الذي لَقَّبَهُ: القائمَ بأَمرِ الله. كان من خِيارِ بَنِي العبَّاسِ دِينًا واعتِقادًا ودَولَةً، وقد امتُحِنَ من بَينِهم بفِتنَةِ البساسيري التي اقتَضَت إخراجَه من دارِه ومُفارَقَتَه أَهلَه وأَولادَه ووَطَنَه، فأَقامَ بحديثة عانة سَنةً كامِلةً ثم أَعادَ الله تعالى نِعمَتَه وخِلافَتَه على يَدِ السُّلطانِ طُغرلبك مَلِكِ الغُزِّ بعدَ أن استَنْهَضَه القائمُ. في صَفَر من هذه السَّنةِ مَرِضَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله مَرضًا شَديدًا انتَفخَ منه حَلْقُه، وامتَنَع من الفَصْدِ، فلم يَزَل الوَزيرُ فَخرُ الدولةِ عليه حتى افتَصَدَ وانصَلَح الحالُ، وكان الناسُ قد انزَعَجوا ففَرِحوا بعافِيَتِه وفي شَعبانَ انفَجرَ فَصادُه، وخَرجَ منه دَمٌ كَثيرٌ ولم يَشعُر، فاستَيقظَ وقد ضَعُفَ وسَقطَت قُوَّتُه، فأَيقَنَ بالمَوتِ، فأَحضَر وَلِيَّ العَهْدِ، ووَصَّاهُ بوَصايا، وأَحضرَ النَّقيبين وقاضي القُضاةِ وغَيرَهم مع الوَزيرِ ابن جهير، وأَشهَدهُم على نَفسِه أنَّه جَعلَ ابنَ ابنِه أبا القاسمِ عبدَ الله بن محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله وَلِيَّ عَهْدِه, ولَقَّبَه: بالمُقتَدِي بأَمرِ الله، وكان أَبوهُ الذَّخيرَةُ محمدُ بن القائمِ قد تُوفِّي أيامَ القائمِ، ولم يكُن له غَيرُه، فأَيقنَ الناسُ بانقِراضِ نَسلِ القائمِ، وانتِقالِ الخِلافَةِ من البيتِ القادريِّ. وكان للذَّخيرَةِ جارِيةٌ تُسَمَّى أرجوان، فلمَّا ماتَ، ورَأَت أَباهُ قد جَزعَ ذَكرَت له أنَّها حامِلٌ، فتَعَلَّقَت الآمالُ بذلك الحَمْلِ. فوَلدَت هذا بعدَ مَوتِ أَبيهِ بسِتَّةِ أَشهُرٍ، فاشتَدَّ سُرورُ القائمِ به، وبالَغَ في الإشفاقِ عليه والمَحَبَّةِ له. وكان ابنَ أربعِ سِنين في فِتنَةِ البساسيري، فأَخفاهُ أَهلَهُ، وحَملَهُ أبو الغَنائمِ بن المحلبان إلى حرَّان، ولمَّا عاد القائمُ إلى بغداد أُعِيدَ المُقتدي، فلمَّا بَلغَ الحُلُمَ جَعلَهُ وَلِيَّ عَهْدِه، ولمَّا تُوفِّي القائمُ غَسَّلَهُ الشَّريفُ أبو جَعفرِ بن أبي موسى الهاشميُّ، وصلَّى عليه أبو القاسمِ المُقتدِي بأَمرِ الله، وكانت خِلافتُه أَربعًا وأَربعين سَنةً وثمانيةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا تُوفِّي القائمُ بأَمرِ الله بُويِعَ المُقتدِي بأَمرِ الله عبدُ الله بن محمدِ بن القائمِ بالخِلافَةِ، وحَضرَ مُؤَيِّدُ المُلْكِ بن نِظامِ المُلْكِ، والوَزيرُ فَخرُ الدولةِ بن جهير وابنُه عَميدُ الدولةِ، والشيخُ أبو إسحاقَ، وأبو نَصرِ بن الصَّبَّاغِ، ونَقيبُ النُّقَباءِ طراد، والنَّقيبُ الطاهِرُ المعمر بن محمدٍ، وقاضي القُضاةِ أبو عبدِ الله الدَّامغاني، وغَيرُهم من الأَعيانِ والأماثِل، فبَايَعُوهُ، وقِيلَ: كان أَوَّلَ مَن بايَعهُ الشَّريفُ أبو جَعفرِ بن أبي موسى الهاشميُّ.
كان المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمَدُ بن أمير المؤمنين الظاهِر مُعتقَلًا ببغداد فأُطلِقَ، وكان مع جماعةِ الأعراب بأرض العراق، ثم قصَدَ الظاهر بيبرس حين بلغه تسلطُنَه بمصر، فقدم إليه بصحبته جماعةٌ مِن أمراء الأعراب عشرةٌ منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب من هذه السنة، فخرج السلطانُ الظاهر ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلَقَّوه وكان يومًا مشهودًا، وخرج أهلُ التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل مِن باب النصر في أبهةٍ عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعةِ الجبل، والوزيرُ والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نَسَب الخليفة المستنصر بالله على الحاكِم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفةُ هو أخو المستنصر باني المستنصريَّة، وعم المستعصِم بالله، فبويع بالخلافةِ بمصرَ، بايعه المَلِك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافةِ بديار مصر والأمراء بين يديه والناسُ حَولَه، وشَقَّ القاهرة في ذلك اليوم، وهو الخليفة الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبًا، قال عز الدين بن عبد السلام: لما أخَذْنا في بيعة المستنصر باللهِ، قلت للملك الظاهر: بايِعْه، فقال: ما أُحسِنُ، لكن بايِعْه أنت أوَّلًا وأنا بعدك، فكان أوَّلَ من بايعه القاضي تاج الدين لما ثَبت نَسَبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضُرِبَ اسمُه على السكة وكان مَنصِبُ الخلافة قد شغر منذ ثلاثِ سنين ونصف؛ لأنَّ المستعصم بالله قُتِلَ في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة، وقد أُنزل الخليفةُ المستنصر بالله وحَشَمُه في البرج الكبير بقلعة الجبل، فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامِعِ بالقلعة فصَعِدَ المنبر وخطب خطبةً ذكر فيها شَرَفَ بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرًا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابةِ ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالنَّاسِ فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتًا حسنًا ويومًا مشهودًا، ثم لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفةُ والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحَل والعَقدِ إلى خيمة عظيمةٍ قد ضُرِبَت ظاهِرَ القاهرةِ فجلسوا فيها، فأُلبِسَ الخليفةُ السلطان بيده خلعةً سوداء، وطوقًا في عنقه، وقيدًا في رجليه وهما من ذهب، ثمَّ إن الخليفة طلب من السلطان أن يجَهِّزَه إلى بغداد، فرتَّبَ السلطان له جندًا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطانُ بصحبته قاصدين دمشق فدخلوا دمشقَ يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يومًا مشهودًا، وصلَّيَا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخولُ الخليفة من باب البريد، ودخل السلطانُ من باب الزيارة، وكان يومًا مشهودًا أيضًا، ثم جهَّزَ السلطان بيبرس الخليفةَ المستنصر بالله إلى بغداد ومعه أولاد صاحِبِ الموصل, وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقَلَّ معه من الجيش الذين يَرِدونَ عنه من الذَّهَب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرًا.
في العاشِرِ مِن ذي الحجة قُبِضَ على صاحب اليمن المَلِك المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر أبو سعيد المنصوري عمر بن رسول, وسَبَبُ ذلك أن الشريف ثقبة بن رميثة لَمَّا بلَغَه استقرار أخيه الشريف عجلان في إمرة مكَّة، توجَّهَ إلى اليمن، وأغرى المَلِكَ المجاهد علي صاحب اليمن بأخذِ مَكَّة وكسوةِ الكَعبةِ، فتجَهَّز المجاهد، وسار يريد الحَجَّ في جحفل كبير بأولادِه وأمه حتى قَرُب من مكة، وقد سبق حاجُّ مصر، فلَبِسَ عجلان آلة الحرب، وعَرَّف أمراءَ مِصرَ ما عزم عليه صاحِبُ اليمن، وحَذَّرَهم غائلَتَه، فبعثوا إليه بأنَّ "من يريدُ الحَجَّ إنما يدخُلُ مكَّةَ بذِلَّةٍ ومسكنة، وقد ابتَدَعْتَ من ركوبك والسِّلاحُ حولك بدعةً لا يمكِنُك أن تدخُلَ بها، وابعَثْ إلينا ثقبة ليكونَ عندنا حتى تنقَضِيَ أيام الحج، ثم نُرسِلُه إليك" فأجاب المجاهِدُ إلى ذلك، وبعث ثقبةَ رهينةً، فأكرمه الأمراء، وأركبوا الأميرَ طقطاي في جماعة إلى لقاء المجاهد، فتوجَّهوا إليه ومنعوا سلاحداريته من المشيِ معه بالسلاح، ولم يمكِّنوهم من حَملِ الغاشية، ودخَلوا به مكة، فطاف وسَمَّى، وسَلَّم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزلِه وصار كل منهم على حَذَرٍ حتى وقفوا بعرفةَ، وعادوا إلى الخيفِ مِن مِنًى، وقد تقرَّر الحال بين الشريف ثقبة وبين المجاهِدِ عليٍّ أنَّ الأمير طاز إذا سارا من مكة أوقعاه بأميرِ الركبِ ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسَلَّمَ ثُقبةُ مكَّةَ، فاتَّفَق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكَّة إلى منًى خادِمَ المجاهِدِ سائرًا، فبعث يستدعيه فلم يأتِه، وضرب مملوكَه- بعد مفاوضةٍ جَرَت بينهما- بحربةٍ في كتِفِه فماج الحاجُّ، وركب بزلار وقتَ الظهر إلى طاز فلم يَصِلْ إليه حتى أقبَلَت الناس جافلةً تُخبِرُ بركوب المجاهد بعسكَرِه للحرب، وظهرت لوامِعُ أسلحتهم، فركب طاز وبزلار والعسكَرُ، وأكثَرُهم بمكة، فكان أوَّلُ من صدم أهلَ اليمن الأميرَ بزلار وهو في ثلاثين فارسًا، فأخذوه في صدورِهم إلى أن أرمَوه قُربَ خَيمةٍ، ومَضَت فرقةٌ منهم إلى جهة طاز، فأوسع لهم، ثم عاد عليهم، ورَكِبَ الشريف عجلان والناس، فبعث طاز لعجلان "أنِ احفَظِ الحاجَّ، ولا تدخل بيننا في حَربٍ، ودَعْنا مع غريمنا"، واستمَرَّ القتال بينهم إلى بعد العصر، فركِبَ أهلَ اليَمَنِ الذلَّةُ، والتجأ المجاهِدُ إلى دهليزه، وقد أحيط به وقُطِعَت أطنابه، وألقَوه إلى الأرضِ، فمَرَّ المجاهِدُ على وجهِه ومعه أولادُه، فلم يجِدْ طريقًا، وعاد بمن معه وهم يصيحونَ: "الأمانَ يا مسلمين" فأخذوا وزيره، وتمَزَّقَت عساكره في تلك الجبال، وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونُهِبَت أموالهم وخيولُهم حتى لم يبقَ لهم شيء، وما انفصل الحالُ إلى غروب الشمس، وفَرَّ ثُقبة بعُربه، وأخذ عبيدُ عجلان جماعةً من الحجَّاج فيما بين مكَّةَ ومِنًى، وقتلوا جماعةً، فلما أراد الأميرُ طاز الرحيل من مِنًى سَلَّمَ أم المجاهد وحريمه لعجلان، وأوصاه بهِنَّ وركب الأمير طاز ومعه المجاهِدُ مُحتَفظًا به، وبالغَ في إكرامِه، وصَحِبَ معه أيضًا الأمير بيبغا روس مقيدًا، وبعث الأمير طنطاي مبشرًا، ولَمَّا قدم الأمير طاز المدينةَ النبويةَ قَبَضَ على الشريفِ طفيل.
هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
دعا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ رَضي اللهُ عنه، فقال له: "تَجهَّزْ؛ فإنِّي باعِثُك في سَريَّةٍ مِن يَومِك هذا، أو مِن الغَدِ إن شاءَ اللهُ تعالى"، فأصبَحَ عبدُ الرَّحمنِ فغَدا إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقعَدَه بين يَدَيه وعمَّمَه بيَدِهِ، ثمَّ عَقَد له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللواءَ بيَدِه، أو أمرَ بلالًا يَدفَعُه إليه، ثم قال له: "خُذه باسمِ اللهِ وبَرَكَتِه"، ثم حَمِد الله تعالى، ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اغزُ باسمِ الله، وفي سَبيلِ الله، فقاتِل مَن كَفَر بالله! ولا تَغُلَّ -الغُلولُ: هو الخيانةُ في المَغنَمِ والسَّرِقةُ من الغَنيمةِ قَبْلَ القِسمةِ-، ولا تَغدِرْ، ولا تَقتُلْ وَليدًا"، ثم أمَرَه رسولُ الله أن يَسيرَ إلى بني كَلْبٍ بدُومةِ الجَندَلِ، فيَدعوَهم إلى الإسلامِ، وقال له: "إنِ استَجابوا لَكَ فتَزَوَّجِ ابنةَ مَلِكِهِم". فسار عبدُ الرَّحمنِ رَضي اللهُ عنه بأصحابِه وكانوا سَبعَمِئةِ رَجلٍ، حتى قَدِمَ دُومةَ الجَندَلِ؛ فمَكَث ثلاثةَ أيَّامٍ يَدعوهم إلى الإسلامِ؛ فلمَّا كان اليومُ الثالِثُ أسلَمَ رأسُهم ومَلِكُهمُ الأصبَغُ بنُ عَمرٍو الكَلبيُّ، وكان نَصرانيًّا، وأسلَمَ معه ناسٌ كَثيرٌ من قَومِه؛ فبَعَث عبدُ الرحمنِ رافِعَ بنَ مَكيثٍ بَشيرًا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخبِرُه بما فَتَح الله عليه وكَتَب له بذلك، وتزوَّجَ عبدُ الرحمنِ تُماضِرَ بِنتَ الأصبَغِ وقَدِمَ بها المدينةَ، فوَلَدَت له بعد ذلك أبا سَلَمةَ بنَ عبدِ الرَّحمنِ بنَ عَوفٍ.
عَزَل مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان مُعاوِيَةَ بن خَديجٍ عن أفريقيا، واسْتَعمل عليها عُقبةَ بن نافعٍ الفِهْريَّ، وكان مُقِيمًا بِبَرْقَةَ وزَوِيلَةَ مُذْ فتَحها أيَّام عَمرِو بن العاصِ، وله في تلك البِلادِ جِهادٌ وفُتوحٌ. فلمَّا اسْتَعمله مُعاوِيَةُ سَيَّرَ إليه عشرةَ آلاف فارسٍ، فدخَل أفريقيا وانْضافَ إليه مَن أَسلَم مِن البَرْبَر، فكَثُرَ جَمْعُهُ، ووضَع السَّيفَ في أهلِ البِلادِ لأنَّهم كانوا إذا دخَل إليهم أميرٌ أطاعوا وأَظهَر بعضُهم الإسلامَ، فإذا عاد الأميرُ عنهم نَكَثوا وارْتَدَّ مَن أَسلَم، ثمَّ رأى أن يَتَّخِذَ مدينةً يكون بها عَسكرُ المسلمين وأَهلُهُم وأَموالُهم لِيأمَنوا مِن ثَورةٍ تكونُ مِن أهلِ البِلادِ، فقصَد مَوضِعَ القَيْروان، وبَنَى المسجدَ الجامعَ، وبَنَى النَّاسُ مَساجِدَهم ومَساكِنَهم, فأَمِنُوا واطْمَأنُّوا على المَقامِ فثَبَتَ الإسلامُ في تلك البلادِ المفتوحةِ. ثمَّ إنَّ مُعاوِيَة بن أبي سُفيان اسْتَعمل على مِصْر وأفريقيا مَسلَمةَ بن مَخْلَد الأنصاريَّ، فاسْتَعمل مَسلَمةُ على أفريقيا مَوْلًى له يُقالُ له: أبو المُهاجِر، فقَدِم أفريقيا وعزَل عُقبةَ واسْتَخَفَّ به، وسار عُقبةُ إلى الشَّامِ وعاتَبَ مُعاوِيَةَ على ما فَعلَهُ به أبو المُهاجِر، فاعْتَذَر إليه ووَعَدَهُ بإعادتِه إلى عَمَلِه، فتُوفِّي مُعاوِيَةُ ووَلِيَ بعدَه ابنُه يَزيدُ، فاسْتَعمل عُقبةَ بن نافعٍ على البِلادِ سنة اثنتين وسِتِّين، فسار إليها.
كان ابنُ الزُّبيرِ رضي الله عنه رافِضًا بَيْعَة يَزيدَ بن مُعاوِيَة منذ أن حاوَل مُعاوِيَةُ رضي الله عنه أَخْذَ البَيْعَة لابنِه يَزيدَ مِن ابنِ عُمَر والحُسينِ وابنِ الزُّبيرِ، وبعدَ وَفاةِ مُعاوِيَة رضي الله عنه انتقَل ابنُ الزُّبيرِ والحُسينُ بن عَلِيٍّ مِن المدينةِ إلى مكَّة, وبعدَ قَتْلِ الحُسينِ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه خلَع عبدُ الله بن الزُّبير عامِلَ يَزيدَ في مكَّة، وقَدَّمَ بدلًا عنه مُصعَبَ بن عبدِ الرَّحمن، ثمَّ ثار النَّاسُ بالمدينةِ وطَردوا والي يَزيدَ ووَلَّوْا عليهم عبدَ الله بن حَنظَلةَ، وحاصروا بني أُمَيَّة في دارِ مَرْوان بن الحَكَمِ، ثمَّ طَردوهُم مِن المدينةِ، ولمَّا وصَل الخبرُ ليَزيدَ أرسَل إليهم جيشًا وكانت وَقعةُ الحَرَّةِ، ثمَّ تابَع الجيشُ إلى مكَّة، وتُوفِّي قائدُهم مُسلمُ بن عُقبةَ في الطَّريقِ، وتَوَلَّى بَعدَهُ الحُصَينُ بن نُميرٍ الذي حاصر مكَّة، وتُوفِّي يَزيدُ أثناءَ ذلك، فلمَّا عَلِمَ بذلك الحُصينُ طلَب مِن ابنِ الزُّبيرِ أن يَسيرَ معه للشَّامِ فيُبايِعهُ فيها؛ لكنَّ ابنَ الزُّبيرِ رفَض فرجَع جيشُ الحُصينِ، ودَعا ابنُ الزُّبيرِ لِنَفسِه بالخِلافَة، فبايَعهُ أهلُ الحِجازِ وأهلُ مِصْرَ، وأمَّا أهلُ البَصْرَة فبايعوا ابنَ زيادٍ، ثمَّ بعدَ مُدَّةٍ اجتمَعَت البَصْرَةُ والكوفَةُ لابنِ الزُّبيرِ واليَمَنُ وخُراسانُ والشَّامُ إلَّا بعضَ المناطقِ.
هو أبو عبدِ الرَّحمنِ عبدُ الله بنُ أحمدَ بنِ محمد بن حنبل الشيباني البغدادي، الحافظ، مِن أهل بغداد، والده هو الإمامُ أحمد بن حنبل، ولد سنة 213 وأمُّه اسمها ريحانة، تزوجَّها الإمام أحمد بعد وفاةِ زوجته الأولى عبَّاسة أم ابنِه صالحٍ، وأنجبت له ريحانةُ ابنَه عبد الله. تعلَّمَ على يدِ أبيه فسَمِعَ منه المُسنَد، فكان مُكثِرًا في الروايةِ عن أبيه وعن غيره, وكان إمامًا ثِقةً حافِظًا ثَبتًا، قال ابن المنادي: لم يكُنْ أحدٌ أروى عن أبيه منه، روى عنه المسندَ ثلاثينَ ألفًا، والتفسير مائة ألفِ حديث وعشرون ألفًا، من ذلك سماعٌ، ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسِخُ والمنسوخ، والمقَدَّم والمؤخَّر، والمناسِك الكبير والصغير، وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخِ، وقال- أي ابن المنادي: وما زِلْنا نرى أكابِرَ شيوخِنا يشهدون له بمعرفةِ الرِّجالِ وعِلَل الحديث، والأسماءِ والكُنى، والمواظبة على طلَبِ الحديث في العراق وغيرها، ويذكُرونَ مِن أسلافهم الإقرارَ له بذلك، حتى إنَّ بعضَهم أسرفَ في تقريظه له بالمعرفة وزيادةِ السَّماعِ للحديث عن أبيه"، ولَمَّا مَرِضَ قيل له أين تُدفَنُ ؟ فقال: صحَّ عندي أنَّ بالقطعيَّة نبيًّا مدفونًا، ولَأن أكونَ بجوارِ نبيٍّ أحَبُّ إليَّ مِن أن أكونَ في جوار أبي، مات عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ من الناس، وصلَّى عليه زهير ابن أخيه، ودُفِنَ في مقابِرِ باب التين- رحمَه الله تعالى.
جهَّز المهديُّ العُبيدي صاحِبُ إفريقية جيشًا كثيفًا مع ابنِه أبي القاسم (الملقَّب بالقائم بأمر الله)، وسيَّرَهم إلى مصر، وهي المرَّة الثانية، فوصل إلى الإسكندريَّة في ربيع الآخر سنة 306، فخرج عامِلُ المقتَدِر عنها، ودخَلَها القائم، ورحل إلى مصر، فدخل الجيزةَ، وملك الأشمونينَ وكثيرًا من الصعيدِ، وكتب إلى أهلِ مكَّةَ يدعوهم إلى الدُّخولِ في طاعتِه فلم يقبلوا منه، ووردت بذلك الأخبارُ إلى بغداد، فبعث المقتَدِرُ بالله مُؤنِسًا الخادِمَ في شعبان، وجدَّ في السير فوصل إلى مصر، وكان بينه وبين القائمِ عِدَّةُ وقَعاتٍ، ووصل من إفريقيَّة ثمانون مركبًا نجدةً للقائمِ، فأرست بالإسكندريَّة، وعليها سليمان الخادم، ويعقوبُ الكتاميُّ، وكانا شجاعين، فأمر المقتدر بالله أن يسيَّرَ مراكب طرسُوس إليهم، فسار خمسة وعشرون مركبًا، وفيها النِّفط والعُدد، ومُقدَّمُها أبو اليمن، فالتقت المراكبُ بالمراكب، واقتتلوا على رشيدٍ، وكان الظَّفَرُ لمؤنس، فلُقِّب حينئذ بالمظفَّرِ، وأحرق كثيرًا من مراكب إفريقية، وهلك أكثَرُ أهلها, ووقع الوباءُ في عسكر القائم، والغَلاءُ، فمات منهم كثيرٌ من الناس والخيل، فعاد مَن سَلِمَ إلى إفريقية، فسار عسكرُ مصر في أثرهم، حتَّى أبعَدوا، فوصل القائمُ إلى المهديَّة في رجب من هذه السنة. وأُسِرَ منهم كثير، وكان في الأسرى سليمان الخادم، ويعقوب، فقُتل من الأسرى كثير، وأُطلقَ كثير، ومات سليمانُ في الحبس بمصر، وحُمِلَ يعقوب إلى بغداد، ثمَّ هرب منها وعاد إلى إفريقيَّة.
أغار مَلِكُ الرومِ على الرَّها ونواحيها، وسار في ديارِ الجزيرة الفراتية حتى بلغوا نصيبين، فغَنِموا، وسَبَوا، وأحرقوا وخرَّبوا البلاد، وفعلوا مثلَ ذلك بديارِ بكر، ولم يكُنْ من أبي تَغلِبَ بنِ حمدان في ذلك حركةٌ، ولا سعيَ في دَفعِه، لكنَّه حمل إليه مالًا كَفَّه به عن نفسِه، فسار جماعةٌ مِن أهل تلك البلادِ إلى بغداد مستنفرينَ، وقاموا في الجوامِعِ والمشاهِدِ، واستنفروا المسلمينَ، وذكروا ما فعَلَه الرومُ مِن النَّهب والقتل، والأسْرِ والسبيِ، فاستعظمه النَّاسُ، وخَوَّفَهم أهل الجزيرة من انفتاحِ الطَّريقِ وطَمَعِ الرُّومِ، وأنَّهم لا مانِعَ لهم عندهم، فاجتمع معهم أهلُ بغداد، وقصدوا دارَ الخليفة المطيع لله، وأرادوا الهُجومَ عليه، فمُنِعوا من ذلك، وأغلِقَت الأبوابُ، وكان بختيار عِزُّ الدولة بن معز البويهي حينئذٍ يتصَيَّدُ بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوهُ أهلِ بغداد مُستغيثين، مُنكِرينَ عليه اشتغالَه بالصَّيدِ، وقتالَ عِمرانَ بنِ شاهين وهو مُسلِمٌ, وتَركَ جِهادِ الروم، ومَنْعَهم عن بلادِ الإسلامِ حتى توغَّلوها، فوعدهم التجهُّزَ للغزاة، وأرسل إلى الحاجِبِ سبكتكين يأمُرُه بالتجهُّزِ للغَزوِ وأن يستنفِرَ العامَّةَ، ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمَعَ مِن العامَّةِ عدَدٌ كثير لا يُحصَونَ كَثرةً، وكتب بختيار إلى أبي تغلِبَ بن حمدان، صاحِبِ الموصِل، يأمُرُه بإعدادِ الميرة والعُلوفات، ويُعَرِّفُه عَزْمَه على الغزاة، فأجابه بإظهارِ الفَرَحِ، وإعدادِ ما طلب منه. ولَمَّا تَجهَّزَت العامَّةُ للغَزاةِ، وقعت بينهم فتنةٌ شديدةٌ بين الرَّوافِضِ وأهلِ السُّنَّة، ولم تتِمَّ الغزوةُ.
اصطلح عامةُ بغداد السُّنَّة والشيعة، وكان الشرُّ منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء والسلاطين والشُحن -المسؤولون عن ضبط الأمن- في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة، وكان السبب في ذلك أن السلطان محمدًا لما قَتَل ملك العرب صدقة خاف الشيعة ببغداد أهل الكرخ وغيرهم؛ لأن صدقة كان يتشيَّع هو وأهل بيته، فشنَّع أهل السُّنَّة عليهم بأنهم نالهم غمٌّ وهَمٌّ لقتله، فخاف الشيعة وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهَّز السُّنَّة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لِتُقطَعَ الفِتَنُ الحادثة بسببه، فلما تجهزوا للمسير اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأيُ أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السُّنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيءٌ كثير، وجاء أهل باب المراتب ومعهم فيل قد عُمِل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيَّعوهم حتى خرجوا من المحلة، وخرج الشيعة ليلة النصف منه إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السُّنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور.
في هذه السنة، وقيل سنة 514، كانت فتنة بين عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف، وبين أهل قرطبة. وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمدَّ عبد من عبيد أبي بكر يدَه إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرَّقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحدًا من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعُدَد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصَّن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصرَ، وأحرقوا جميع دُور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبحِ صورة. واتصل الخبر بأمير المسلمين فكَرِه ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم؛ فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراءُ بينهم، وسَعَوا في الصلح فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهَبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.
حَصَل اجتماعُ الأمراءِ والملوكِ، ببغداد، على خلافِ السُّلطانِ مسعود، والخُطبةِ للمَلِك داود بن أخيه السُّلطان محمود، فجمع السُّلطانُ مسعود العساكِرَ وسار إلى بغداد، ولَمَّا وصل السُّلطانُ نزل على بغداد وحَصَرها وجميعَ العساكِرِ فيها، وثار العيَّارون ببغداد وسائِرِ محالِّها، وأفسدوا ونَهَبوا، وقَتَلوا، وحصرهم السُّلطانُ نَيِّفًا وخمسين يومًا فلم يَظفَرْ بهم، فعاد إلى النهروان عازمًا على العَودِ إلى همذان، فوصله طرنطاي صاحِبُ واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إليها وعبَرَ فيها إلى غربيَّ دجلةَ، وأراد العَسكَرُ البغدادي مَنْعَه، فسبقهم إلى العبور، واختلفت كَلِمتُهم، فعاد الملك داودُ إلى بلاده وتفَرَّق الأمراء، وكان عماد الدين زنكي بالجانبِ الغربيِّ فعبَرَ إليه الخليفة الراشد بالله وسار معه إلى الموصِل في نفَرٍ يَسيرٍ مِن أصحابه، فلمَّا سَمِعَ السُّلطانُ مسعود بمفارقة الخليفة وزنكي بغداد سار إليها واستقَرَّ بها، ومنع أصحابَه من الأذى والنَّهبِ، وكان وصولُه مُنتصَفَ ذي القعدة، فسكنَ النَّاسُ واطمأنُّوا بعد الخوفِ الشَّديدِ، وأمَرَ فجُمِعَ القضاةُ والشُّهود والفُقَهاء وعَرَض عليهم اليمينَ التي حلف بها الراشِدُ بالله لمسعود، فأفتَوا بخروجه من الخلافةِ، فتقَدَّمَ السُّلطانُ بخَلعِه وإقامةِ مَن يَصلُحُ للخلافة، فخُلِعَ وقُطِعَت خُطبتُه في بغداد وسائِرِ البلاد، وكانت خلافتُه أحد عشر شهرًا وأحدَ عشر يومًا.
كان بمصر دار للشحنة تُسمَّى دار المعونة يُحبَسُ فيها من يريد حبسه، فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وأزال ما كان بها من الظُّلم، وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضًا، وبنى مدرسة أخرى للمالكية، وعزل القضاة المصريين، وكانوا شيعةً، وأقام قاضيًا شافعيًا في مصر، وولَّى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قُضاة شافعية، ومن حينئذ اشتهر مذهبُ الشافعي ومذهب مالك بديار مصر، وتظاهر الناس بهما، واختفى مذهب الشيعة من الإمامية الإسماعيلية. وبطل من حينئذ مجلسُ الدعوة بالجامع الأزهر وغيره، واشترى تقيُّ الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازِلَ العز بمصر، وبناها مدرسة للشافعية، كما أبطل صلاحُ الدين الأذان بحيَّ على خير العمل، محمد وعلي خير البشر، فكانت أوَّل وصمة دخلت على الدولة الفاطميَّة، ثم أمر أن يُذكَرَ في الخطبة يوم الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي، ثم أمر أن يذكر العاضِدُ في الخطبة بكلام يحتمل التلبيسَ على الشيعة، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلِحِ العاضد لدينِك، لا غيرُ، ثم أمر صلاح الدين بتغيير شعار الفاطميين، وأبطل ذِكرَ العاضد من الخطبة، وكان الخطيبُ يدعو للإمام أبي محمد، فتخالُه العامة والروافض العاضِدَ، وهو يريد أبا محمد الحسن المستضئ بأمر الله الخليفة العباسي! ثم أعلن بالعزم على إقامة الخطبة العباسيَّة.
نزل صلاحُ الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم يَرَ لأخذها وجهًا، فسار عنها إلى آمد، على طريق البارعيَّة، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبُه في كل وقتٍ بقَصدِها وأخْذِها وتَسلِيمها إليه، على ما استقَرَّت القاعدةُ بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ونازلها، وأقام يحاصِرُها، وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيقَ، وزحف إليها، وهي الغايةُ في الحصانة والمَنَعة، بها وبسورِها يُضرَبُ المثل، وابن نيسان على حالِه من الشُّحِّ بالمال، وتصَرُّفِه تصرُّفَ مَن ولَّت سعادته وأدبَرَت دولته، فلما رأى الناسُ ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجَنَحوا إلى السلامة، وأمَرَ صلاح الدين أن يكتب على السِّهامِ إلى أهلِ البلد يَعِدُهم الخيرَ والإحسان إن أطاعوه، ويتهَدَّدُهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعدًا وتخاذلًا، وأحبُّوا مُلكَه وتركوا القتال، فوصل النقَّابون إلى السور، فنَقَبوه وعَلِقوه- حازوه- فلما رأى الجندُ وأهلُ البلد ذلك، طمعوا في ابن نيسان واشتَطُّوا في المَطالَبِ، فحين صارت الحالُ كذلك أخرج ابن نيسان نساءَه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسألُه أن يأخُذَ له الأمان ولأهلِه وماله، وأن يؤخِّرَه ثلاثةَ أيام حتى ينقُلَ ما له بالبلدِ مِن الأموال والذخائر، فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاحُ الدين إليه، فسَلَّمَ البلد في العشر الأُوَل من المحرم، فلما تسَلَّمَها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحِبِ الحصنِ.