هو أبو سعيد آقسنقر البرسقي الغازي، الملقَّب قسيم الدولة سيف الدين، وكان مملوكًا تركيًّا صاحب الموصل والرحبة وتلك النواحي، ملَكَها بعد مودود بن التونتكين، وكان مودود بالموصل وببلاد الشام من جهة السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، فقُتِل مودود سنة 507، وآقسنقر يومئذ شحنة بغداد، كان ولَّاه إياها السلطان محمد في سنة 498، فلما قتل مودود أرسل السلطان محمد البرسقي واليًا على الموصل وأمره بالاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصِل وملكها وغزا، ودفع الفرنج عن حلب وقد ضايقوها بالحصار، فلما استنجد به أهلها، فأجابهم ونادى الغزاة، ولما أشرف على حلب تقهقرت الفرنج، ورتَّب أمور البلد، وأمدَّهم بالغلَّات، ورتَّب بها ابنه فيها، ثم عاد إلى الموصل وأقام بها إلى أن قُتل. وهو من كبراء الدولة السلجوقية، وله شهرة كبيرة بينهم. كان عادلًا حميد الأخلاق، شديد التدين، محبًّا للخير وأهله، مُكرِمًا للفقهاء والصالحين، ليِّنًا حسن المعاشرة، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة؛ يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجِّدًا، عالي الهمة، كان من خيار الولاة, وكان شجاعًا محل ثقة الخلفاء والملوك وتقديرهم. قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة 520، قتله الباطنية في مقصورة الجامع بالموصل، وقيل: إنهم جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحًا؛ وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبَّعَهم وقتل منهم عصبةً كبيرة، وتولى ولَدُه عز الدين مسعود موضِعَه، ثم توفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 521، وملك بعده عماد الدين زنكي بن آقسنقر, وكان من مماليك السلطان طغرلبك أبي طالب محمد، وكان من أمراء السلاجقة المشار إليهم فيها، المعدودين من أعيانهم.
دعمت فرنسا الموارنةَ في لبنان على حين دعَمَت إنكلترا الدروز، فاعتدى الدروزُ على الموارنة في عام 1257هـ ودخلوا ديرَ القمر وارتكبوا أبشَعَ الأعمال، وكرَّروا الاعتداء عام 1261هـ، فعزل الخليفةُ العثماني الأميرَ بشير الشهابي ووضع واليًا عثمانيًّا مكانه، وحَرَم الجبل مما كان له من امتيازات، ولم تقبل الدولُ الأوربية بذلك فاضطرَّ أن يعيد للجبل امتيازاتِه، وأن يعيِّنَ قائمينِ درزي وآخر ماروني، وذلك في عام 1258هـ، ولكن الأمر لم يستقِمْ لاختلاط الطوائِفِ في القرى، فرأى الخليفة ضمَّ شمال الجبل -أي منطقة الموارنة- إلى ولاية طرابلس، فاحتَجَّ الموارنة فأرسل من يدرس الموضوعَ ويقَدِّمُ الحلول، فلم يفد ذلك شيئًا، وأصر الدروز أن يبقى الموارنة تحت سلطانِهم، وفَضَّل الموارنة بعدئذ أن يتَّبِعوا ولاية أخرى من أن يكونوا تحت سلطانِ الدروز، فاستحسن الخليفةُ الرأيَ.
تأسَّست حركة الإخوان -وكان مقرها الرئيسي الأرطاوية- على يد الملك عبدالعزيز لخوض المعارك ضد خصومه، وكانوا تستعِرُ داخِلَهم جذوةُ الدين وأصبحوا لا يُقهَرون، وكان شعارهم في الحرب: (هَبَّت هبوبُ الجنة، أين أنت يا باغيها؟ وكلٌّ يبغيها)؛ لذلك فكانوا يحاربون، وقلَّما ينهزمون، يرون أنَّ الجنَّةَ أمامهم والنارَ خلفهم، فلا يتقهقرون ولا يولون الدبر، فانتشر خبرهم وذاع صيتهم حتى بلغ الدوائر الإنجليزية والشريف حسين الذي هابهم وأبلغ الانجليز عن قلقه منهم وتحريضه لهم للقضاء عليهم والضغط على الملك عبدالعزيز للإلغائهم والتخلص منهم.
تمكن الكولونيل هاملتون خلال رحلة له في الرياض أن يقضيَ يوما في الأرطاوية في أكتوبر 1917 أحدِ أهمِّ مراكز الإخوان، ليتعرف عليهم عن كثب فقدَّر عدد سكان الأرطاوية ب 35 ألف نسمة، وأرسل تقريره إلى جُدة ثم القاهرة فانتشر وأثار لديهم فزعًا ليس بقليل.
هو السُّلطانُ المَلِكُ المظَفَّر سيف الدين حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون، تولَّى السلطنةَ بعد قَتْلِ أخيه السلطان الكامل شعبان، وعُمُرُه خمس عشرة سنة، وقد حلف للأمراءِ ألَّا يؤذيَهم وحَلَفوا له على الطاعةِ، لكِنْ لَمَّا كَثُرَ اشتِغالُه في اللَّعِبِ بالحَمامِ وتقريب الأوباش واللعَّابين وغيرِهم من أرباب الملاهي والفساد، أنكر عليه الأمراءُ أكثَرَ مِن مَرَّة، حتى حصل بينه وبينهم جفاءٌ, وعمل السلطان على التدبيرِ لقَتلِ بَعضِهم، وهم كذلك عَمِلوا على تدبير قَتْلِه، فتحادث الأمراءُ فيما بينهم واتفقوا وتواكدوا جميعًا في يوم الخميس تاسِعَ رمضان على الركوبِ في يوم الأحد ثاني عشر، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمَعِهم لابسين آلةَ الحرب، عند قُبَّة النصر ومعهم النائِبُ أرقطاي، فأرسل السلطان المظفَّر الرَّسولَ إليهم يستخبِرُه عمَّا يريدونَه منه حتى يفعَلَه لهم، فأعادوا جوابَه أنَّهم لا بُدَّ أن يُسلطِنوا غيره، فقال: ما أموتُ إلَّا على ظَهرِ فَرسي، فقَبَضوا على رسولِه، وهمُّوا بالزحف إليه، فمنعهم الأميرُ أرقطاي النائب، فبادر السلطانُ بالركوب إليهم، وأقام أرغون الكاملي وشيخو في الميسرة، وأقام عِدَّةَ أمراء في الميمنة، وسار بمماليكِه حتى وصل إلى قريبِ قُبَّة النصر، فكان أوَّلَ من تركه الأمير أرغون الكاملي والأمير ملكتمر السعيدي، ثمَّ الأمير شيخو، وأتوا الأمير أرقطاي النائب والأمراء، وبقي السلطانُ في نحو عشرين فارسًا، فبَرَز له الأميرُ بيبغا روس والأمير ألجيبغا، فولى فرَسَه وانهزم عنهم، فأدركوه وأحاطوا به، فتقَدَّمَ إليه بيبغا روس، فضربه السلطانُ بطير، فأخذ الضربةَ بتُرسِه، وحمل عليه بيبغا بالرمح، وتكاثروا عليه حتى قَلَعوه مِن سَرجِه، فكان بيبغا روس هو الذي أرداه، وضرَبَه طنيرق فجرح وجهَه وأصابِعَه، وساروا به على فَرَسٍ إلى تربة آقسنقر الرومي تحت الجبل، وذبَحوه من ساعته قبل العَصرِ، وكانوا لَمَّا أنزلوه وأرادوا ذبحه توسَّل إلى الأمراء، وهو يقول: بالله لا تستعجِلوا على قتلي، وخَلُّوني ساعة، فقالوا: فكيف استعجَلْتَ على قتل الناس، لو صَبَرْتَ عليهم صبَرْنا عليك، وصَعِدَ الأمراء إلى القلعة في يومِهم، ونادوا في القاهرة بالأمانِ والاطمئنان، وباتوا بها ليلةَ الاثنين، وقد اتفقوا على مكاتبةِ الأمير أرغون شاه نائب الشام بما وقع، وأن يأخذوا رأيَه فيمن يقيمونَه سلطانًا، فأصبحوا وقد اجتمع المماليكُ على إقامة حسن بن الناصر محمد بن قلاوون في السلطة، ووقعت بينه وبينهم مُراسَلات، فقَبَض الأمراء على عِدَّةٍ مِن المماليك، ووكلوا الأميرَ طاز بباب حسن، حتى لا يجتَمِعَ به أحد، وغَلَّقوا باب القلعة، وهم بآلة الحرب يومَهم وليلة الثلاثاء، وقَصَد المماليك إقامةَ الفتنة، فخاف الأمراء تأخير السلطة حتى يستشيروا نائِبَ الشام أن يقَعَ مِن المماليك ما لا يُدرَكُ فارِطُه، فوقع اتفاقُهم عند ذلك على حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، فتَمَّ أمره، فكانت مُدَّةُ المظَفَّر حاجي سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يومًا، وعُمُره نحو عشرينَ سنة، فقام الأمراءُ بسلطنة حسن هذا، وأركبوه بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان، سنة 748، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان، ولَقَّبوه بالملك الناصر سيفِ الدين قمارى، فقال السلطان للأمير أرقطاى نائب السلطة: يا بة! ما اسمي قمارى، إنَّما اسمي حسن، فقال أرقطاى: يا خوند- يا سيد- واللهِ، إن هذا اسم حَسَنٌ على خيرة الله، فاستقرت سلطنتُه، وحلف له الأمراء على العادة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة.
بعد أن رأى الكثيرُ من السوريين أنَّ الكفاحَ المسلَّحَ لا يتكافأُ مع القوات الفرنسية لجؤوا إلى الكفاح الدبلوماسيِّ، فبدأت تظهَرُ الكتلة الوطنية والجمعية التأسيسية التي دعت لوضع دستورٍ للبلاد، وعمَلِ انتخابات نيابية حُرَّة، وإلغاءِ الأحكام العرفية، ثم حصلت تطوراتٌ في إصدار دساتير عديدة، أحدها لدولة سوريا، وآخر لدولة العلويين في اللاذقية، وثالث للدروز، ثمَّ حُلَّت الحكومة المؤقتة، وعملت انتخابات جديدة، وحصل محمد علي العابد على رئاسة الجمهورية، ولكِنْ في أواخر سنة 1935م قام إضرابٌ عام في دمشق استمر خمسين يومًا، وحصلت اضطراباتٌ، واستقالت أكثَرُ من وزارة، وبسبب ذلك تم الاتفاقُ على معاهدة تضع حدًّا للانتداب، فشُكِّلَ وَفدٌ سوريٌّ مكَلَّفٌ بالتفاوضِ مع الحكومة الفرنسية برئاسة هاشم الأتاسي، وعضوية كلٍّ من فارس الخوري، جميل مردم، سعد الله الجابري: ممثِّلين عن الكتلة الوطنية، ومصطفى الشهابي، إدمون حمصي: ممثلين عن الحكومة، ونعيم أنطاكي سكرتيرًا، والقائم مقام أحمد اللحام أحد ضباط الجيش العربي سابقًا خبيرًا ومستشارًا عسكريًّا، التقى الوفدُ بسياسي وزارة خارجية فرنسا، وكانت العقبةُ الأساسية الأولى التي اختلف عليها الطرفان هي قضية توحيد الأراضي؛ فقد أصرَّ الجانِبُ السوري المفاوِضُ على وَحدة الأراضي السورية بالشَّكلِ الذي كانت عليه في عهد العثمانيين، وتوصَّل الطرفان المتفاوضان إلى حَلٍّ وَسطٍ يقضي بقيام دولتين مستقلَّتين في المنطقة سورية ولبنان، وأن يبقى لبنانُ ضِمنَ حدوده الراهنة، مقابِلَ موافقة الوفد الفرنسي على إعادة توحيد إقليمي جبل الدروز وجبل العلويين مع سورية، وأمَّا بالنسبة لسنجق الإسكندرونة فقد أقرَّت فرنسا بتبعيته لسورية، ولكنْ بشرط أن يكون له وضعٌ خاصٌّ يُتَّفَق عليه فيما بعد. وكانت العقبةُ الثانية أمام نجاح المفاوضات هي المتعلقة بالقوات السورية الخاصة بعد توقيع المعاهدة، وأصرَّ الوفدُ السوري على استعادة القوات فورًا؛ نظرًا لأنَّ نفقاتِها كانت من الموازنة السورية طيلةَ السنوات العشر الأخيرة، أمَّا الجانب الفرنسي فكان يرغَبُ بإبقائها تحت قيادة ضباط فرنسيين خلالَ فترة معينة يمكِنُ بعدها تسليمُها إلى الحكومة السورية بعد توقيع اتفاق عسكري معها، فتَمَّ الاتفاق على أنه يجوز للحكومة الفرنسية أن تحتَفِظَ ولمدة خمس سنوات ببعض القوات خارج المدن وبمطارين، وبقوات محدودةٍ ضِمنَ محافظتي جبل الدروز ومنطقة العلويين، على أن تعترف المعاهدةُ باستقلال سوريا. لكِنَّ المعاهدة لم يُنفَّذ منها شيء؛ لأنها لم تُعرَض على البرلمان الفرنسي، واقترح إضافة ملاحق جديدة على المعاهدة، منها إعطاءُ حكم ذاتي للدروز والنصيريين وسكان الجزيرة الفراتية حكمًا ذاتيًّا، وتعدى الاتفاق العسكري الذي يوجِبُ جلاء الجيش الفرنسي عن البلاد بحيث يصبِحُ هذا الوجود دائمًا.
هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين، القرشي، المخزومي، بن قطب الدين المقدسي الصوفي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية بالأندلس. المشهور بابن سبعين، ولِدَ سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، فتولَّدَ له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنَّفَ فيه، وكان يعرف السيميا، وكان يلَبِّسُ بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويزعُمُ أنه حال من أحوال القوم، وله المصنفات منها كتاب البدوي، وكتاب الهو، رسالة النصيحة النورية، عهد ابن سبعين، الإحاطة، الرسالة الفقيرية، الحكم والمواعظ، الرسالة القبرصية, وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها أبي نمي بن أبي سعد. وشاع صيتُه وكثر أتباعه بين أهل مكة بسبب سخائه وعِلمِه، وقد ظل ابن سبعين في مكَّة حتى توفي به، وجاور في بعض الأوقاتِ بغار حراء يرتجي فيما يُنقَلُ عنه أن يأتيه فيه وحيٌ، كما أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم!! بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك, وقد كان إذا رأى ابن سبعين الطائفينَ حول البيت يقول عنهم كأنهم الحميرُ حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضَلَ من طوافهم بالبيتِ، وقد نُقِلَت عنه عظائم من الأقوال والأفعال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصار بعضُهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقُه فيقول كما كان ابن سبعين يقول: "لقد زرَّب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي" أو يرى لكونه أشد تعظيمًا للشريعة أن باب النبوة قد أغلق فيدعي أن الولاية أعظم من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء!! ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا، وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية؛ لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول!! وهذا بناء على أصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم أكفر من اليهود والنصارى". وقال شيخ الإسلام: "ابن سبعين أحد أئمة الاتحادية ومحققيهم وأذكيائهم، أنه قال عن كلام ابن عربي: "فلسفة مخموجة" وكلامه هو أدخل في الفلسفة وأبعد عن الإسلام، ولا ريب أن هؤلاء من جنس الملاحدة الباطنية القرامطة، وهؤلاء الفلاسفة مشتركون في الضلال ومذاهب هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات من أشد المذاهب اضطرابًا وتناقضًا وقولًا لا حقيقة له، فلما كان مذهبهم المقارنة التي هي في الحقيقة تعطيل الصنع والخلق والإبداع وإن كانوا يدَّعون أنهم يثبتون واجبًا غير العالم، فهذا دعواهم، وإلا ففي الحقيقة يلزمهم ألا يكون ثَمَّ واجِبُ الوجود غير العالم، وهذا حقيقة قول الاتحادية وهو الذي أظهره إمام هؤلاء فرعون؛ فإن الاتحادية تنتحله وتعظمه والباطنية تنتحله وتعظمه وهو على مقتضى أصول الفلاسفة الصابئة المشركين الذين هم من أعظم الناس إيمانًا بالجبت والطاغوت" قال الذهبي: "كان ابن سبعين صوفيًّا على قاعدة زهاد الفلاسفة وتصوفهم، وله كلام كثير في العرفان على طريق الاتحاد والزندقة, وقد ذكرنا محط هؤلاء الجنس في ترجمة " ابن الفارض "، و " ابن العربي " وغيرهما. فيا حسرة على العباد كيف لا يغضبون لله تعالى ولا يقومون في الذبِّ عن معبودهم، تبارك اسمُه وتقدست في ذاته، عن أن يمتزج بخَلقِه أو يحِلَّ فيهم, وتعالى الله عن أن يكون هو عينَ السموات والأرض وما بينهما, فإن هذا الكلام شر من مقالة من قال بقدم العالم، ومن عرف هؤلاء الباطنية عذرني، أو هو زنديق مبطن للاتحاد يذب عن الاتحادية والحلولية، ومن لم يعرفهم فالله يثيبه على حسن قصده. وينبغي للمرء أن يكون غضَبُه لربه إذا انتُهِكَت حرماته أكثَرَ من غضبه لفقير غير معصوم من الزَّلَل. فكيف بفقير يحتمل أن يكون في الباطن كافرًا، مع أنا لا نشهد على أعيان هؤلاء بإيمان ولا كفر لجواز توبتهم قبل الموت. وأمرهم مُشكِل وحسابُهم على الله, وأما مقالاتهم فلا ريب في أنها شر من الشرك، فيا أخي ويا حبيبي أعطِ القوس باريَها ودعني ومعرفتي بذلك، فإنني أخاف الله أن يعذبني على سكوتي، كما أخاف أن يعذبني على الكلام في أوليائه. وأنا لو قلت لرجل مسلم: يا كافر، لقد بؤتُ بالكفر، فكيف لو قلتُه لرجل صالح أو ولي لله تعالى؟ " توفي ابن سبعين في الثامن والعشرين من شوال بمكة.
كان سببُها أنَّه لمَّا قُتِلَ أصحابُ بِئرِ مَعونةَ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأَفْلَتَ منهم عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ، فلمَّا كان في أَثناءِ الطَّريقِ راجعًا إلى المدينةِ قَتَلَ رجُلينِ مِن بني عامرٍ، وكان معهما عهدٌ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَمانٌ لم يَعلَمْ به عَمرٌو، فلمَّا رجَع أَخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم... فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النَّضيرِ يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ الرَّجلينِ، وكانت مَنازِلُ بني النَّضيرِ ظاهِرَ المدينةِ على أَميالٍ منها شَرقِيَّها. قال محمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسارٍ في كتابِه السِّيرة: ثمَّ خرج رسولُ الله إلى بني النَّضيرِ، يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلَينِ مِن بني عامرٍ، اللَّذينِ قَتَلَ عَمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمريُّ؛ للجِوارِ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عقَد لهما.... فلمَّا أتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستَعينُهم في دِيَةِ ذَيْنِكَ القَتيلينِ قالوا: نعم، يا أبا القاسمِ، نُعينُك على ما أَحببتَ، ممَّا اسْتعَنتَ بِنا عليه. ثمَّ خلا بعضُهم ببعضٍ فقالوا: إنَّكم لن تَجِدوا الرَّجلَ على مِثلِ حالِه هذه -ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنبِ جِدارٍ مِن بُيوتِهم- فَمَن رجلٌ يَعلو على هذا البيتِ، فيُلقي عليه صَخرةً، فيُريحُنا منه؟ فانْتدَب لذلك عَمرُو بنُ جَحَّاشِ بنِ كعبٍ أحدُهم، فقال: أنا لذلك. فصعَدَ ليُلقِيَ عليه صَخرةً كما قال، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نَفَرٍ مِن أصحابِه، فيهم أبو بكرٍ وعُمَرُ وعليٌّ رضي الله عنهم. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ مِن السَّماءِ بما أراد القومُ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينةِ، فلمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أصحابُه قاموا في طَلبِه فلَقوا رجلًا مُقبِلًا مِنَ المدينةِ، فسألوهُ عنه، فقال: رأيتُه داخلًا المدينةَ. فأقبل أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى انتهوا إليه، فأخبرَهُم الخبرَ بما كانت يَهودُ أرادت مِنَ الغَدْرِ به، وأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتَّهَيُّؤِ لِحربِهم والمَسيرِ إليهم. ثمَّ سار حتَّى نزل بهم فتَحصَّنوا منه في الحُصون، فأمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطعِ النَّخلِ والتَّحريقِ فيها. فنادوهُ: أن يا محمَّدُ، قد كنتَ تَنهى عن الفسادِ وتَعيبُه على مَن صنَعه، فما بالُ قطعِ النَّخلِ وتَحريقِها؟! وقد كان رَهْطٌ مِن بني عَوفِ بنِ الخَزرجِ، منهم عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ، ووَديعَةُ، ومالكُ بنُ أبي قَوْقَلٍ، وسُوَيدٌ، وداعِسٌ، قد بعثوا إلى بني النَّضيرِ: أنِ اثْبُتوا وتَمَنَّعوا فإنَّا لن نُسْلِمَكُم، إن قوتِلْتُم قاتلنا معكم، وإن أُخرِجتُم خَرَجنا معكم فتَرَبَّصوا ذلك مِن نَصرِهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرُّعبَ، فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِيَهم ويَكُفَّ عن دِمائهِم، على أنَّ لهم ما حمَلتِ الإبلُ مِن أموالهِم، إلَّا الحَلَقَةَ، ففعَل، فاحتملوا مِن أموالهم ما اسْتقلَّتْ به الإبلُ، فكان الرَّجلُ منهم يَهدِم بيتَه عن نِجافِ بابِه، فيضَعُه على ظهرِ بَعيرهِ فينطلِقُ به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم مَن سار إلى الشَّامِ، وخَلَّوْا الأموالَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لِرسولِ الله خاصَّةً)، وقد ثبَت في البُخاريِّ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قد أَجلى بني النَّضيرِ. وفيهم نزلت سورةُ الحَشْرِ.
ركِب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راحِلتَه مِن قُباءٍ فسار يمشي معه النَّاسُ حتَّى برَكتْ عند مسجدِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ، وهو يُصلِّي فيه يَومئذٍ رجالٌ مِنَ المسلمين، وكان مِرْبَدًا للتَّمرِ، لِسُهيلٍ وسَهلٍ غُلامَينِ يَتيمَينِ في حَجْرِ أَسعدَ بنِ زُرارةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين بَركتْ به راحِلتُه: «هذا إن شاء الله المنزِلُ». ثمَّ دَعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغُلامَينِ فَساوَمَهُما بالمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مسجدًا، فقالا: لا، بل نَهَبُهُ لك يا رسولَ الله، فأبى رسولُ الله أن يَقبلَهُ منهُما هِبَةً حتَّى ابتاعَهُ منهُما، ثمَّ بناهُ مسجدًا، وطَفِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنقُلُ معهم اللَّبِنَ في بُنيانِهِ ويقولُ، وهو يَنقُلُ اللَّبِنَ: "هذا الحِمالُ لا حِمالَ خَيبرْ، هذا أَبَرُّ رَبَّنا وأَطهرْ. ويقول: اللَّهمَّ إنَّ الأجرَ أجرُ الآخِرهْ، فارْحَمِ الأنصارَ، والمُهاجِرهْ" وعن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فنزل أعلى المدينةِ في حَيٍّ يُقالُ لهم: بنو عَمرِو بنِ عَوفٍ. فأقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيهِم أربعَ عشرةَ ليلةً، ثمَّ أرسل إلى بني النَّجَّارِ، فجاءوا مُتَقَلِّدي السُّيوفِ كأنِّي أنظرُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على راحِلتِهِ، وأبو بكرٍ رِدْفُهُ ومَلَأُ بني النَّجَّارِ حولَه حتَّى أَلقى بفِناءِ أبي أيُّوبَ، وكان يُحِبُّ أن يُصلِّيَ حيث أدركتهُ الصَّلاةُ، ويُصلِّي في مَرابضِ الغَنَمِ، وأنَّه أَمَرَ ببِناءِ المسجدِ، فأرسل إلى مَلإٍ مِن بني النَّجَّارِ فقال: «يا بَني النَّجَّارِ ثامِنوني بحائِطِكُم هذا». قالوا: لا والله لا نطلبُ ثَمَنَهُ إلَّا إلى الله. فقال أنسٌ: فكان فيه ما أقولُ لكم: قُبورُ المشركين، وفيه خَرِبٌ وفيه نَخلٌ، فأَمَر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقُبورِ المشركين فنُبِشَتْ، ثمَّ بالخَرِبِ فسُوِّيَتْ، وبالنَّخلِ فقُطِعَ، فصَفُّوا النَّخلَ قِبلةَ المسجدِ، وجعلوا عِضادَتَيْهِ الحِجارةَ، وجعلوا يَنقُلون الصَّخرَ وهُم يَرتَجِزون والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: «اللَّهمَّ لا خيرَ إلَّا خيرُ الآخرهْ، فاغْفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرهْ». قال عبدُ الله بنُ عُمَرَ، " إنَّ المسجدَ كان على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا باللَّبِنِ، وسَقْفُهُ الجَريدُ، وعُمُدُهُ خَشبُ النَّخلِ.
كانت عَصماءُ بِنتُ مَرْوانَ مِن بني أُمَيَّةَ بنِ زَيدٍ، زَوجةُ يَزيدَ بنِ زَيدِ بنِ حِصنٍ الخَطْميِّ، تَعيبُ الإسلامَ وتُؤذي رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتُحرِّضُ عليه.
وكانت تَطرَحُ المَحايِضَ في مسجِدِ بني خَطْمةَ؛ فأهدَرَ رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَمَها، فنَذَر عُمَيرُ بنُ عَديٍّ لئن رَجَعَ رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بَدرٍ إلى المدينة ليَقتُلَنَّها، وقد فعل رضي الله عنه وأرضاه.
فلمَّا رَجَع عُميرٌ وَجَد بَنيها في جماعةٍ يَدفِنونَها. فقالوا: يا عُمَيرُ، أنتَ قَتَلْتَها؟ قال: "نَعَم، فكيدوني جَميعًا ثم لا تُنظِرونِ، فَوَالَّذي نَفسي بيَدِه لو قلتُم بأجمَعِكُم ما قالَت لضَرَبتُكُم بسَيفي هذا حتَّى أموتَ أو أقتُلَكُم". فيومَئذٍ ظَهَر الإسلامُ في بني خَطْمةَ، وكان يَستخفي بإسلامِه فيهم مَن أسلَمَ، فكان أولُ مَن أسلَمَ مِن بني خَطْمةَ عُمَيرَ بنَ عَديٍّ، وهو الذي يُدعَى القارِئَ.
كان مِن آثارِ هِجرتِه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينةِ تلك المُؤاخاةُ التي حَدثت بين المُهاجرين والأنصارِ رضي الله عنهم، حتَّى كان يَرِثُ بعضُهم بعضًا في أوَّلِ الأمرِ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: «وَرَثَةً»: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: " كان المُهاجِرون لمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصاريَّ دون ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمَّا نزلت: {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسَختْ". ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} «إلَّا النَّصرَ، والرِّفادَةَ، والنَّصيحةَ، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له».
وعن أنسٍ قال: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله، ما رَأينا قومًا أَبْذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزلنا بين أَظهُرهِم، لقد كَفَوْنا المُؤنَةَ وأشرَكونا في المَهْنَإِ حتَّى لقد خُفْنا أن يَذهبوا بالأجرِ كُلِّهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دَعَوتُم الله لهم، وأَثْنَيْتُم عليهِم».
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رضي الله عنه: لمَّا قَدِمْنا المدينةَ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أَكثرُ الأنصارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لك نِصفَ مالي، وانْظُرْ أيَّ زَوجتيَّ هَوِيتَ نَزلتُ لك عنها، فإذا حَلَّتْ تَزوَّجتَها. قال: فقال له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل مِن سوقٍ فيه تِجارةٌ؟ قال: سوقُ قَيْنُقاعٍ. قال: فغَدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثمَّ تابع الغُدُوَّ، فما لَبِثَ أن جاء عبدُ الرَّحمنِ عليه أثرُ صُفْرَةٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزوَّجتَ؟». قال: نعم. قال: «ومَن؟»، قال: امرأةً مِنَ الأنصارِ. قال: «كَم سُقْتَ؟»، قال: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهبٍ -أو نَواةً مِن ذَهبٍ- فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ ولو بِشاةٍ».
بعد أن ترددت الرسل بين الملك الكامل صاحب مصر وفردريك الثاني ملك ألمانيا انتهوا على صلح عشر سنوات يسلم الكامل بيت المقدس للصليبيين نكاية بإخوانه في الشام بسبب خلاف بينه وبينهم, وجاء في بنود الاتفاق الذي عرف باتفاق يافا: 1/ أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها. 2/ أن يكون سائر قرى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج. 3/ أن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه والٍ من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة. 4/ أن تكون القرى التي فيها بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس. ثم في 22 ربيع الأول من هذه السنة، ( 18فبراير 1229 م) تسلم الفرنج بيت المقدس صلحًا، ولما تسلم الفرنج البيت المقدس، استعظم المسلمون ذلك وأكبروه واستقبحوا ما فعله الكامل، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. وقد ذكر سبط ابن الجوزي ردة الفعل على تسليم الكامل بيت المقدس للصليبيين بقوله: "قامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدت العظائم، بحيث أقيمت المآتم، وأشار علي الملك الناصر داود بن الملك المعظم أن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى على البيت المقدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة الحمية للإسلام موافقته، فجلست بجامع دمشق، وحضر الناصر داود، على باب مشهد علي، وكان يومًا مشهورًا، لم يتخلف من أهل دمشق أحد, وقد انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين، فيا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، وكم خرت لهم على تلك المساكن من دمعة، والله لو صارت عيونهم عيونًا لما وفت، ولو تقطعت قلوبهم أسفًا لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات"
كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ عَقْدِ صُلحِ الحُديبيةِ بعَث خِراشَ بنَ أُميَّةَ الخُزاعيَّ إلى مكَّةَ، وحمَلهُ على جَملٍ له يُقالُ له: الثَّعلبُ. فلمَّا دخَل مكَّةَ عَقَرَتْ به قُريشٌ وأرادوا قَتْلَ خِراشٍ فمنَعهُم الأَحابيشُ (هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة) حتَّى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فدَعا عُمَرَ لِيَبعثَهُ إلى مكَّةَ، فقال: يا رسولَ الله إنِّي أَخافُ قُريشًا على نَفْسي، وليس بها مِن بني عَدِيٍّ أحدٌ يَمنعُني، وقد عَرفتْ قُريشٌ عَداوتي إيَّاها وغِلْظَتي عليها؛ ولكنْ أَدلُّك على رجلٍ هو أَعزُّ مِنِّي عُثمانَ بنِ عفَّانَ. فدَعاهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبعَثهُ إلى قُريشٍ يُخبِرُهم أنَّه لم يأتِ لحربٍ، وأنَّه جاء زائرًا لهذا البيتِ مُعَظِّمًا لِحُرمَتِه، فخرج عُثمانُ حتَّى أتى مكَّةَ ولَقِيَهُ أَبانُ بنُ سَعيدِ بنِ العاصِ، فنزَل عن دَابَّتِه وحمَله بين يَديه ورَدِف خلفَه وأَجارهُ حتَّى بلَّغَ رِسالةَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فانطلق عُثمانُ حتَّى أتى أبا سُفيانَ وعُظماءَ قُريشٍ فبَلَّغهُم عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أَرسلهُ به، فقالوا لِعُثمانَ: إن شِئتَ أن تَطوفَ بالبيتِ فَطُفْ به. فقال: ما كنتُ لأفعلَ حتَّى يَطوفَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فاحْتبسَتهُ قُريشٌ عندها، فبلَغ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين أنَّ عُثمانَ قد قُتِلَ).قال ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما:كانت بَيعةُ الرِّضوانِ بعدَ ما ذهَب عُثمانُ إلى مكَّةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه اليُمنى: «هذه يدُ عُثمانَ». فضرَب بها على يدِه، فقال: «هذه لِعُثمانَ».
وقال جابرُ بنُ عبدِ الله: كُنَّا يومَ الحُديبيةِ ألفًا وأربعَ مائةٍ، فبايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعُمَرُ آخِذٌ بيدِه تحت الشَّجرةِ، وهي سَمُرَةٌ. وقال لنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ». ثم قال جابرٌ: لو كنتُ أُبصِرُ لأَرَيْتُكُم مَوضِعَ الشَّجرةِ.
وعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ قال: لقد رَأيتُني يومَ الشَّجرةِ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبايِعُ النَّاسَ، وأنا رافعٌ غُصنًا مِن أَغصانِها عن رَأسِه، ونحن أربعَ عشرةَ مائةً. وقدِ اخْتلفتِ الرِّواياتُ في عَددِهم، فقال ابنُ حَجَرٍ: (والجمعُ بين هذا الاختلافِ أنَّهم كانوا أكثرَ مِن ألفٍ وأربعمائةٍ، فمَن قال: ألفًا وخمسمائةٍ جبَر الكَسرَ، ومَن قال: ألفًا وأربعمائةٍ أَلغاهُ).
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
فتَحَها المسلمونَ في ولاية أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب أبو الغرانيق، غزاها خَلفٌ الخادم مولى زيادة الله بن إبراهيم، وخَلفٌ هو المعروفُ ببناء المساجدِ والقناطر، فحاصرها ومات وهو محاصِرٌ لها، فكَتَبوا إلى أبي عبد الله بوفاته، فكتب أبو عبد الله إلى عامِلِه بجزيرة صقليَّة، وهو محمَّد بن خفاجة، أن يبعَثَ إليهم واليًا، فبعث إليهم سوادةَ بن محمد، ففتحوا حصنَ مالطة، وظَفِروا بمَلِكها عمروس أسيرًا، فهَدَّموا حِصنَها وغَنِموا وسَبَوا ما عَجَزوا عن حَملِه، وحُملَ لأحمد بن عمر بن عبد الله بن الأغلب - الذي عَمِلَ من أجل فتح مالطة- من كنائِسِ مالطة ما بنى به قصرَه الذي بسوسةَ داخلًا في البحر، والمَسلَك إليه على قنطرة. وبقيت بعد ذلك جزيرةُ مالطة خَرِبةً غيرَ آهِلةٍ، وإنما كان يدخلُها النشَّاؤون للسُّفُن؛ فإنَّ العودَ فيها أمكَنُ ما يكونُ، والصيادونَ للحوتِ لكَثرتِه في سواحِلِها وطِيبه، والشائرونَ للعَسَلِ؛ فإنه أكثَرُ شَيءٍ هناك.
لَمَّا نزل الفرنسيون بالإسكندرية أخذوا محمد كريم الذي كان بيده أمرُ الديوان والجمارك ومصادرات التجار خصوصًا من الإفرنج في الإسكندرية، فحبسوه وطالبوه بالمال وضيَّقوا عليه في المركب، ولَما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بيك، وفيها اطَّلعوا على أخبار محمد كريم وتعَرَّفوا على اجتهاده في حربِهم وتهوين أمرِهم وتنقيصِهم، فاشتد غيظُهم عليه فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبَسوه، ولم تنفع الشفاعات فيه أبدًا، ثم إنهم طالبوه بقَدرٍ معين من المال كبير يَعجِز عنه وأمهلوه اثنتي عشرة ساعة فقط لإحضاره وإلَّا كان حتفُه، فسأل الناس والمشايخ، وكان يقول: اشتروني يا مسلمين! ولكن كان كلٌّ مشغول بنفسه يترقَّبُ ما يحُلُّ به، فانقضت المهلة ولَمَّا يجمعْ ما طلب منه، فأركبوه على حمار يتقدَّمهم طبل يضربون عليه حتى وصلوا به إلى الرميلة وكتَّفوه وربطوه مشبوحًا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم في القتل، ثم قطعوا رأسَه ورفعوه على نبوت وطافوا به يقولون: هذا جزاء من يخالف الفرنسيين، ثم إنَّ أتباعه أخذوا رأسَه ودفنوه مع جثته، وكان ذلك في يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول لهذا العام!!