يعتبر مَسجِدُ القُرَويِّينَ بفاس من أعرَقِ المساجد المغربيَّة وأقدَمِها. وتكادُ تُجمِعُ الدراسات التاريخية على أنَّ هذا المسجِدَ بَنَتْه فاطمةُ الفِهريَّة (أم البنين) في عهدِ دولة الأدارِسة، أمَّا بداية بناء مسجد القُرويين فشُرِعَ في حفر أساسِ مَسجِدِ القرويين والأخذِ في أمرِ بنائِه هذه السَّنة بمطالعةِ الإدريسي يحيى الأوَّل، وأمُّ البنين فاطمةُ الفِهريَّة هي التي تطَوَّعَت ببنائه وظَلَّت صائمةً مُحتَبِسةً إلى أن انتهت أعمالُ البناءِ وصَلَّت في المسجدِ شُكرًا لله، عِلمًا أنَّه وجد لوحةٌ مَنقوشةٌ عُثِرَ عليها- عند أعمال الترميم- في البلاط الأوسطِ، فوق قَوسِ المحراب القديم الذي كان للقُرَويين قبل قيام المُرابطين بتوسِعةِ المسجد، لقد اكتُشِفَت مدفونةً تحت الجبس، وقد كُتِبَ عليها- في جملة ما كتب- بخَطٍّ كوفيٍّ إفريقيٍّ عَتيقٍ: بُني هذا المسجِدُ في شَهرِ ذي القعدة مِن سنة ثلاث وستين ومائتين، ممَّا أمر به الإمام- أعزَّه الله- داودُ بنُ إدريس، أبقاه الله... ونصره نصرًا عزيزًا.
هو الإمامُ الحافِظُ الثِّقةُ الرَّحَّالُ الجَوَّال, مُحَدِّثُ الإسلام, عَلَمُ المعَمَّرينِ, أبو القاسم سُليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطَّبَراني، نسبةً إلى طبَرِيَّة، مولدُه بمدينة عكَّا في شهر صفر سنة 260, وكانت أمُّه عكَّاوية. أحد الحُفَّاظ المكثرينَ الذين رحَلوا في البلاد كثيرًا شَرقًا وغَربًا وشَمالًا وجنوبًا، كان عالِمًا بالحديثِ والعِلَل والرِّجال، وأوَّل سماعٍ له في الحديث كان سنة 273، وارتحل به أبوه, وحَرَصَ عليه, فإنه كان صاحِبَ حديثٍ مِن أصحابِ مُحَدِّث الشام دحيم الدمشقي, وكان أوَّل ارتحالٍ له في سنة 275, وبقي في الارتحالِ, ولَقِيَ الرجالَ ستة عشر عامًا، وكتب عمَّن أقبل وأدبر, وبرَعَ في هذا الشأنِ, له مُصَنَّفاتٌ عديدةٌ أشهرُها المعاجِمُ الثلاثة: المعجم الكبير، والأوسط، والصغير، وله كذلك مكارمُ الأخلاق، وحديث الشاميين، والدعاء، وغيرها, وازدحم عليه المحَدِّثون, ورَحَلوا إليه من الأقطارِ. توفي في أصبهان عن عمرٍ يناهِزُ المائةَ.
لما رأى فرديناند الخامس ملك قشتالة أن المسلمين قد عجزوا عن أخذ الحامة ونصرة من فيها من الأسارى، وقع له الطمع في بلاد الأندلس، فأخذ في الاستعداد والخروج إليها. طلب فرديناند الخامس من أبي عبد الله محمد بن سعد الملقب بالزغل أمير مالقة إمضاء معاهدة يكون فيها أمير مالقة تابعًا لقشتالة، فرفض ذلك أمير مالقة، فقام ملك قشتالة بإعلان الحرب عليه, فلما كان جمادى الأولى من هذا العام خرج ملك قشتالة بحملة عظيمة، وقصد مدينة لوشة فنزل عليها بحملته، وكان قد اجتمع فيها جملة من نجدة رجال غرناطة حين سمعوا بخروجه إليها فلما قرب من البلد خرج إليه الرجال والفرسان فقاتلوه قتالًا شديدًا وردوه على أعقابه وقتلوا كثيرًا من النصارى وأخذوا لهم من تلك العدة التي قربوا بها من النفط وغيره من عدة الحرب، ثم إن الأمير أبا الحسن علي بن سعد أمدهم بقائد من غرناطة يقود جيشًا من الفرسان في تلك الليلة فاشتدت عند ذلك عصبة المسلمين وقويت قلوبهم فلما أصبح الصباح ورأى النصارى الزيادة في جيش المسلمين مع ما نالهم من أول الليل من الهزيمة والقتل وأخذ العدة، داخَلَهم الرعب واشتد خوفهم فأخذوا في الارتحال عنهم، فخرج إليهم المسلمون فقاتلوهم قتالًا شديدًا، فانهزم النصارى وتركوا كثيرًا من أخبيتهم وأمتعتهم وأطعمتهم وآلة حربهم، وتركوا من الدقيق شيئًا كثيرًا فاحتوى المسلمون على جميع ذلك كله وانصرف العدو مهزومًا مفلولًا إلى بلده، ففرح المسلمون بذلك فرحًا عظيمًا، وكان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى.
لَمَّا رحل الشريف محمد بن عون العامَ الماضي من القصيم عائدًا إلى مكة بعد الفشل في تحقيق مرادِه، أوفد أهل القصيم إلى الإمام فيصل منهم رجالًا يعتذرون عمَّا بدر منهم، فقَبِلَ عُذرَهم وغفر لهم خطأَهم، ثم إن الإمام فيصل عزل عن إمارة عُنيزة إبراهيمَ بن سليمان بن زامل؛ لأن الشريف لم ينزِلْ عُنَيزةَ إلا بإذنه، وجعل مكانَه ناصِرَ بن عبد الرحمن السحيمي من أهل العقيلية، الذي قدِمَ إلى عنيزة بكتابٍ فيه توليته الإمارة من الإمام فيصل، فأخرج آل زامل من القصر وأنزله أخاه وضبَطَه برجالٍ واستقام له الأمرُ وبايعه أهلها، ثم تعرَّض لمحاولة اغتيالٍ فاشلة، فقَتَل السحيميُّ إبراهيمَ بن سليمان أميرَ عنيزة السابق فاشتعلت الفتنة، فأراد فيصل إخمادها فأرسل إلى السحيمي ليقدمَ عليه في الرياض، فلما قَدِم حكم عليه القضاءُ بديةِ إبراهيم بن سليمان وأقعده فيصلٌ عنده في الرياضِ، ثم جهَّزَ الإمام عبد الله المداوي ورجالًا معه إلى عُنيزة وأمرهم أن يدخلوا القصرَ فلم يتمكَّنْ من دخولِه، ثم إن أهل عنيزة أجمعوا على الحربِ، فلما علم بذلك السحيمي عرض على الإمام أنَّه هو الذي يُخمِدُ الفتنة وأعطى العهودَ والمواثيق بذلك، فأذِنَ له الإمام بالذهاب إلى عُنيزة، فلما وصلها نقضَ عهودَه ودخل مع أهل عنيزةَ في أمرِهم، ثم عرضوا على أميرِ بريدة عبد العزيز المحمد أبو العليان أن يدخُلَ معهم وهو أميرُ الجميع فوافَقَهم فتعاقدوا على نكثِ عهد الإمام، وقاموا لحربه وجمعوا جموعًا كثيرة من رجالِ بلدانهم ومن كان حولَهم من بُدوانهم، فأعطوهم السلاحَ وبذلوا لهم الأموالَ وعاقدوهم على بيع الأرواح، وضربوا طبولهم بالليلِ والنهار، وكان الإمام فيصل قد أمَرَ على أهل البلدان من رعيتِه بالغزوِ، فتجهَّز غازيًا وخرج من الرياض لثلاثٍ بَقِين من ربيع الثاني، وخرج معه أولاده عبد الله ومحمد، ولحق به ابنه سعود بأهل الخَرج، وخرج معه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ إمامًا وقاضيًا، ولَمَّا نزل قرب المجمعة لقِيَه ابن بشر (صاحب كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد) الذي يقول: "ثم رحل ونزل قريبًا من المجمعة، فركبتُ إليه للسلام عليه، فكان وصولي إلى مخيَّمِه قبل صلاة العصر، فصليت معهم وإذا المسلمون مجتمعون للدرس في الصيوان الكبير، وإذا الإمام جالس فيه والمسلمون يمينه وشماله، ومِن خَلفِه وبين يديه، والشيخ عبد اللطيف إلى جنبه، فأمر القارئ عليه بالقراءةِ، فقرأ عليه في كتاب التوحيد، فقرأ آية وحديثًا، فتكلم بكلامٍ جَزْلٍ وقولٍ صائبٍ عَدْلٍ، بأوضح إشارة وأحسن عبارة، فتعجَّبْت من فصاحته وتحقيقه وتبيينه وتدقيقِه... ثم سلمتُ على الإمام فقابلني بالتوقير والإكرام ورحَّبَ بي أبلغَ ترحيب وقرَّبني أحسن تقريب.. وسلمت على الشيخين عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن جبر، فقمنا ودخلنا مع الإمام خيمته وجلسنا عنده، فابتدأ الشيخ عبد الله يقرأ على الإمام في كتاب سراج الملوك، والشيخ عبد اللطيف يسمع، ولكِنَّ الإمامَ هو الذي يتكلم على القراءة ويحقِّق المعنى". ثم في الصباح رحل الإمام إلى المجمعة ومنها إلى أُشيقر إلى أن نزل المذنب فبايعه أهلها، ثم أرسل إلى أهل القصيم يذكِّرُهم أن الدِّينَ لا يستقيم إلَّا بجماعة ولا يكون إلا بالسمع والطاعة، وأنَّه يعِزُّ عليه أن يُقتَلَ رجلٌ واحد من المسلمين، فلا تكونوا سببًا في إهراق دمائكم، فأرسلوا إليه رجلًا من رؤساء بريدة يقال له مهنا بن صالح، فلما وصل تم الصلحُ على أن يؤدِّيَ أهل القصيم الزكاةَ للإمام، ويركبون معه غزاةً ويدخلون في الجماعة والسمع والطاعة.
سار عسكر المماليك من القاهرة لأخذ قلعة خرت برت، وقد مات متوليها، ونازلها عسكرُ قرا يلك صاحب آمد، فلما وصلوا إلى مدينة حلب ورد إليهم الخبر بأخذ قرا يلك قلعة خرت برت وتحصينها، وتسليمها لولده، فتوجه العسكر وقد انضم إليه الأمير سودن بن عبد الرحمن نائب الشام، وجميع نواب المماليك الشامية، ومضوا بأجمعهم إلى الرها، فأتاهم بالبيرة كتابُ أهل الرها بطلب الأمان، وقد رَغِبوا في الطاعة، فأمَّنوهم وكتبوا لهم به كتابًا، وساروا من البيرة، وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطاعة كشَّافة، فوصلت الكشافة إلى الرها في التاسع عشر من شوال، فإذا الأمير هابيل بن قرا يلك قد وصل إليها من قِبَل أبيه الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرا يلك صاحب آمد، وحَصَّنها وجمع فيها عامة أهل الضِّياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فناولوها وهم يرمونهم بالنشاب من فوق الأسوار، ثم برز إليهم الأمير هابيل في عسكر نحو ثلاثمائة فارس، وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعلق رؤوسهم على قلعة الرها، فأدركهم العسكر، ونزلوا على ظاهر الرها في يوم الجمعة العشرين من شوال، وقد ركب الرجال السور ورموا بالحجارة، فتراجع العسكر المصري والشامي عنهم، ثم ركبوا بأجمعهم بعد نصف النهار وأرسلوا إلى أهل قلعة الرها بتأمينهم، وإن لم تكفُّوا عن القتال وإلا أخربنا المدينة، فجعلوا الجوابَ رميهم بالنشاب، فزحف العسكر وأخذوا المدينة في لحظة، وامتنع الأكابر وأهل القوة بالقلعة، فانتشر العسكر وأتباعهم في المدينة ينهبون ما وجدوا، ويأسِرون من ظفروا به، فما تركوا قبيحًا حتى أتوه ولا أمرًا مستشنعًا إلا فعلوه! وكان فعلهم هذا كفعل أصحاب تيمورلنك لَمَّا أخذوا بلاد الشام! وأصبحوا يوم السبت محاصرين القلعة، وبعثوا إلى من فيها بالأمان فلم يقبلوا، ورموا بالنشاب والحجارة، حتى لم يقدر أحد على أن يدنوَ منها، وباتوا ليلة الأحد في أعمال النقوب على القلعة، وقاتلوا من الغد يوم الأحد حتى اشتد الضحى، فلم يثبت من بالقلعة، وصاحوا: الأمانَ، فكفوا عن قتالهم حتى أتت رسلهم الأمير نائب الشام، وقدم مُقَدَّم العساكر، فحلف لهم -هو والأمير قصروه نائب حلب- على أنهم لا يؤذونهم ولا يقتلون أحدًا منهم، فركنوا إلى أيمانهم، ونزل الأمير هابيل بن قرا يلك ومعه تسعة من أعيان دولته عند دخول وقت الظهر من يوم الأحد، فتسلمه الأمير أركماس الدوادار، وتقدَّم نواب المماليك إلى القلعة ليتسلموها، فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فمنعوهم فأفحشوا في الرد على النواب، وهمُّوا بمقاتلتهم، وهجموا على القلعة، فلم تُطِقِ النواب منعهم، ورجعوا إلى مخيماتهم، فمد المماليك أيديهم ومن تبعهم من التركمان والعربان والغلمان، ونهبوا جميع ما كان بها، وأسروا النساء والصبيان، وألقوا فيها النار، فأحرقوها بعد ما أخلَوها من كل صامت وناطق، وبعد ما أسرفوا في قتل من كان بها وبالمدينة حتى تجاوزوا الحد، وخربوا المدينة، وفَجَروا بالنساء علنًا من غير خوف لا من الله ولا من الناس!! وألقوا النار فيها فاحترقت، ثم رحلوا من الغد يوم الاثنين الثالث والعشرين، وأيديهم قد امتلأت بالنهوب والسبي، فتقطعت منهم عدة نساء من التعب، فمِتنَ عطشًا، وبِيعَت منهن بحلب وغيرها عدة، وكانت هذه الكائنة من مصائب الدهر!!
دعَت السُّعودية واشنطن إلى الضَّغط على إسرائيلَ وحمْلِها على تنْفيذ قرارِ مجلِس الأمْن رقم (242) الصادرِ في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967، الذي يَقضي بالانسحابِ من جميع الأراضي العربيَّة المحتلَّة في حُزيران (يونيو) 1967، وإلَّا فإنَّ الولاياتِ المتحِدةَ سوف تُواجِه عقَبات تَقليص تَصديرِ النِّفط. لم تأخُذْ الولاياتُ المتحِدةُ وأوربَّا الغربية هذه التَّحذيراتِ على مَحملِ الجِدِّ، فألْمحتِ السُّعودية في صَيف 1973 إلى أنها ستُؤيِّد مصرَ عند نُشوب حربٍ جديدةٍ مع إسرائيلَ. بدأت الحربُ في 6 أكتوبر، وفي 7 أكتوبر -أي في اليوم الثاني للحرْبِ- أرسَل وزير الخارجيةِ الأمريكي كِيسنجر برقيةً إلى الملِك فَيصل يَدعوه فيها إلى إقناعِ مصرَ وسوريا بوَقْف العملياتِ الحربيةِ، وردَّ الملِكُ فَيصل بأنه يُؤيِّد مصرَ وسوريا تأييدًا تامًّا، ودَعا واشنطن إلى بَذْل الجهودِ لحمْلِ إسرائيلَ على الانسحاب مِن الأراضي التي تَحتلُّها. عقَدَ وُزراءُ النِّفط في عشْرة بُلدان عربيةٍ اجتماعًا في 17 أكتوبر، اتُّخِذ فيه قرارٌ بتَقليصِ استخراج النِّفط بنِسبة لا تقلُّ عن 5 % شهريًّا، حتى تتمَّ تَسوية النِّزاع في الشرْق الأوسط. وفي الواقع قلَّصت السُّعودية والكويتُ الإنتاجَ بنِسبة 10 % دفعةً واحدةً، ولمَّا أقامت الولاياتُ المتحِدةُ "جسرًا جويًّا" لتزويدِ إسرائيلَ بالسلاحِ، عمَدَت السُّعودية وسائرُ البُلدان العربيَّة إلى اتِّخاذ إجراءاتٍ تباعًا، وذلك بوَقْفِ ضَخِّ النِّفط إلى الولايات المتحِدةِ، ومِن ثَم إلى هُولندا التي اتَّخذت مَوقفًا مواليًا لإسرائيلَ، كما فُرِضَ الحظْرُ على تَصديرِ النِّفط الخامِّ لمعاملِ التَّكريرِ التي تُصدِّر مُشتقَّات النِّفط إلى الولايات المتحِدة، أو تَبيعها إلى الأسطولِ البَحريِّ الأمريكي. وعلاوةً على فرْض الحظْرِ قام العراقُ بتَأميم حِصَّة الولايات المتحِدة وهُولندا في "شركة نِفط البصرة". فجاء ردُّ فِعل دُولِ أوربَّا الغربية دون إبطاءٍ؛ ففي صباح 6 تشرين الثاني (نوفمبر) دعَت حُكومات البُلدان "التسعة" إلى تَنفيذ قَرارات مجلِس الأمْن حول العمليات الحربيةِ، وكذلك القرار رقم (242) بكلِّ بُنوده، بما في ذلك الجلاءُ عن الأراضي العربيَّة المحتلَّة عام 1967. وفي مَطلع ديسمبر (كانون الأول) 1973 قرَّر أعضاءُ منظَّمة البلدان العربيَّة المصدِّرة للنِّفط (أوبك التي أُسِّست عام 1968) المجتمِعون في الكويت إلغاءَ القرار القاضي بتَقليص استخراجِ النِّفط بنِسبة 5% في شهر ديسمبر (كانون الأول). وعزوا القرارَ إلى الرَّغبة في تحسينِ أوضاع البلدان الأعضاءِ في الجماعة الاقتصاديةِ الأوروبية التي اتَّخَذت موقفًا وُديًّا حيالَ العرَب. كما أشار البلاغُ الصادرُ عن اجتماع الكويتِ إلى أن الدُّول الإفريقية والإسلاميَّة سوف تَحصُل على النِّفط وَفق العقود المتَّفَق عليها. واستمرَّ لمدةٍ من الوقت حظْرُ تَصدير النِّفط إلى الولايات المتحِدة وهُولندا.
عزم شارل الخامس (شارلكان) ملكُ إسبانيا على القيام بحملة عسكرية تستهدفُ القضاء على حركةِ الجهاد الإسلامي في الحوضِ الغربيِّ للبحر المتوسط، وقبل أن يشرَعَ في تنفيذها حدث هدوءٌ نسبيٌّ ساد القارةَ الأوربية إثرَ عقدِ هُدنة نيس في محرم 945 (يونيو 1538م) مع فرنسا، والتي كانت مدتها عشر سنوات. ومما شجع شارلكان على هذه الحملة علمُه بأن القائد التركي خير الدين بربروسا قد ذهب إلى إستانبول للَّقاء بالسلطان العثماني وأسند قيادةَ الأسطول العثماني للقائد حسن آغا الطواشي. رسا شارلكان بسُفُنه أمام مدينة الجزائر في يوم 28 جمادى الآخر من هذه السنة, وعندما شاهده الطوشي اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر وكبار رجال الدولة، وحثَّهم على الجهاد والدِّفاع عن الإسلام والوطن، ثم بدأ حسن آغا في إعدادِ جيوشِه والاستعداد للمعركةِ، من ناحية أخرى بدأ الإسبانُ في تحضير متاريسِهم، وتعجَّب شارل الخامس لاستعداداتِ حسن آغا وأراد أن يستهزئَ به، وفي الليلة ذاتها وصل إلى معسكر شارلكان رسولٌ مِن قِبَل والي الجزائر يطلُبُ إذنًا للسماح بحُرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر- وخاصَّةً نساءَها وأطفالَها- مغادرةَ المدينة عبرَ باب الواد، وعرف شارلكان أن حامية الجزائر مصَمِّمة على الدفاع المستميت، وأنَّه من المُحال احتلال الجزائر إلا إذا تم تدميرُها تدميرًا تامًّا، ولم يكن شارلكان قد أنزل مدفعيةَ الحصار حتى تلك الساعة، فلم يتمكن بذلك من قصفِ الجزائر بالمِدفعية، وفي الوقت نفسِه كان المجاهدون يوجِّهون ضرباتِهم الموجعة إلى القوات الإسبانية في كل مكان، وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرار بفضل تدفُّق مقاتليهم من كل مكان، بمجرد سماعِهم بإنزال القوات الإسبانية، وكان المجاهدون يستفيدون في توجيههم لضرباتهم من معرفتهم الدقيقةِ بالأرض واستخدامهم لمميزاتها بشكلٍ رائع، وسخر الله لجنود الإسلام الأمطارَ والرياحَ والأمواجَ، وهَبَّت ريحٌ عاصِفٌ استمرَّت عِدَّةَ أيام واقتلعت خيام جنود الحملة وارتطمت السفنُ بعضُها ببعض؛ مما أدى إلى غرق كثير منها، وقذفت الأمواج الصاخبةُ ببعض السفن إلى الشاطئ، وهجم عليها المدافعون المسلمون واستولوا على أدواتِها وذخائرها، أما الأمطار فقد أفسدت مفعولَ البارود، وفي وسط هذه الكوارث حاول شارلكان مهاجمةَ مدينة الجزائر إلا أنَّ كلَّ محاولاته باءت بالفشل، واضطُرَّ إلى الانسحاب مع بقية جنوده على ما تبقَّى لهم من سفن، واتجه بأسطوله إلى إيطاليا بدلًا من إسبانيا بعد أن قُتِلَ من جيشه في المعركة أكثر من 20 ألفًا وانتشرت جثثهم لعدة كيلو مترات على ساحل البحر، وأُسِر حوالي 130 سفينة! ويُعَدُّ هذا الانتصارُ من الانتصارات الكبرى في تاريخ العثمانيين والجزائريين، ولم تفكِّرْ أي قوة صليبية بعدها في احتلال الجزائر إلَّا في عام 1830م.
كانت غزاة الحاجِبِ بدرِ بنِ أحمد إلى دار الحرب، وهي غزاة مطونية -مدينة بالأندلس-. وكان أميرُ المؤمنين الناصر لَمَّا اتَّصل به تطاوُلُ المشركينَ على من كان بإزائِهم من أهل الثغور بامتناعِ الصَّوائِفِ عن غزوهم، والإيغالِ في بلادهم بالحرب؛ أحفَظَه ذلك، وأذكى عَزْمَه، وأكَّدَ بصيرته في مجاهدةِ أعداء الله وأعداءِ دينه في هذا العام، فأمر بالاحتفال في الحَشدِ وجَمعِ الرجالِ والتكثيرِ مِن الأجناد والفرسان الأبطال. وعَهِدَ إلى حاجبه بالغزو بنفسِه في الصائفة. ونَفَذت كتبُه إلى أهل الأطراف والثغور بالخروجِ إلى أعداء الله، والدُّخول في معسكره، والجِدِّ في نكاية أهل الكفر، والإيقاعِ بهم في أواسط بلادِهم، ومُجتَمَع نصرانيَّتِهم. ففصل الحاجِبُ بالجيوشِ يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرَّم، وانثالت إليه العساكِرُ مِن كلِّ جهة في ثغور المسلمين، ودخل بهم دارَ الحرب، وقد احتشد المشركونَ، وتجمَّعوا من أقاصي بلادهم، واعتَصَموا بأمنَعِ جبالهم، فنازلهم الحاجبُ بدر بن أحمد بأولياءِ الله وأنصارِ دينِه، فكانت له على أعداءِ الله وقائِعُ اشتَفَت فيها صدورُ المسلمين، وانتَصَروا على أعداءِ الله المشركين. وقُتل في هذه الغزاةِ مِن حُماتهم وأبطالِهم، وصُلاةِ الحُروبِ منهم، جملةٌ عظيمةٌ لا يأخذها عدٌّ، ولا يحيطُ بها وصفٌ. وكان الفتحُ يوم الخميس لثلاثٍ خلون من ربيع الأول ويوم السبت لخمس خلون من ربيع الأول، في معاركَ جليلة، لم يكن أعظَمُ منها صنعًا، ولا أكثَرُ من أعداء الله قتيلًا وأسيرًا. وورد الكتاب بذلك على أمير المؤمنين النَّاصرِ يومَ الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ فأكثَرَ مِن شُكرِ الله عز وجل على ما منَّ به، وفتحَ فيه.
في شهر ذي الحجة من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة قاتل (الأمير شيخ المحمودي) نوروزًا ودمرداش، سبعة أشهر وحاصرهما بحماة، ووقع بينهم في هذه المدة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها، وقُتِل بينهم خلائق لا تُحصى، واشتد الأمر على نوروز وأصحابه بحماة، وقلَّت عندهم الأزواد وقاسوا شدائد حتى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ، وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية، وخاف نوروز إن ظفر به الملك الناصر لا يبقيه، فاحتاج إلى الصلح، وحلف كل من نوروز والأمير شيخ لصاحبه، وأما السلطان الملك الناصر فإنه أخذ في التجهيز إلى السفر نحو البلاد الشامية، وعَظُم الاهتمام في أول محرم هذه السنة، وأما الأمير شيخ فإنه لما بلغه خروج السلطان من الديار المصرية لم يَثبُت، وداخَلَه الخوف، وخرج من دمشق في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول بعساكره ومماليكه، وتبعه الأمير جانم نائب حماة، فدخل بكتمر جلق إلى الشام من الغد في يوم السابع والعشرين -على حين غفلة- حتى يطرق الأمير شيخًا، ففاته الأمير شيخ بيوم واحد، لكنه أدرك أعقابه وأخذ منهم جماعةً، ونهب بعض أثقال الأمير شيخ، ثم دخل السلطان الملك الناصر إلى دمشق بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس الثامن والعشرين، وقد ركب من بحيرة طبرية في عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبسَ الأمير شيخًا، ففاته بيسير، وكان الأمير شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السعادة من دمشق، فركب من وقته وترك أصحابه، ونجا بنفسه بقماش جلوسه، فما وصل إلى سطح المزة إلا وبكتمر جلق داخل دمشق؟ ومر الأمير شيخ على وجهه منفردًا عن أصحابه، ومماليكه وحواشيه في أثره، والجميع في أسوأ ما يكون من الأحوال، وسار السلطان بعساكره إلى جهة حلب حتى وصلها في قصد الأمير شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء، ثم كتب السلطان لنوروز والأمير شيخ يخيِّرُهما، إما الخروج من مملكته، أو الوقوف لمحاربته، أو الرجوع إلى طاعته، فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته، ويعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة الخوف والهيبة عندما قبض عليه السلطان مع الأتابك يشبك الشعباني في سنة 810، وأنه قد حلف لا يحارب السلطان ما عاش، من يوم حلفه الأمير الكبير تغري بردي في نوبة صرخد، وكرَّر الاعتذار عن محاربته لبكتمر جلق، حتى قال: وإن كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشام على عادته، فينعم عليه بنيابة أبلستين، وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية، وعلى يشبك بن أزدمر بنيابة عينتاب، وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع؛ فإنهم أحق من التركمان المفسدين في الأرض، فلم يرضَ السلطان بذلك، وصمَّم على الإقامة ببلاد الشام، وبينما السلطان بحلب ورد عليه الخبر بأن الأمير شيخًا ونوروزًا وصلا عينتاب، وسارا على البرية إلى جهة الشام، فركب السلطان مسرعًا من حلب على حين غفلة في الثالث والعشرين شهر رجب ببعض عساكره، وسار حتى دخل دمشق في أربعة أيام، وأما الأمير شيخ ونوروز، فإنهما لما سار السلطان عن أبلستين خرجا من قيسارية بمن معهم، وجاؤوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر وقاتلوهم، فانكسروا منهم وفروا إلى عينتاب، فلما قربوا من تل باشر تمزقوا، وأخذت كل طائفة جهة من الجهات، فلحق بحلب ودمشق منهم عدة وافرة، واختفى منهم جماعة، ومرَّ الأمير شيخ ونوروز بحواشيهما على البرية إلى تدمر فامتاروا منها، ومضَوا مسرعين إلى صرخد وتوجَّهوا إلى البلقاء ودخلوا بيت المقدس، ثم توجهوا إلى غزة وأقاموا بها حتى أخرج السلطان إليهم بكتمر جلق على عسكر كبير، فسار إلى زرع، ثم كتب للسلطان يطلب نجدة، فأخرج إليه السلطان من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانية، فلما وصل بكتمر جلق بمن معه من الأمراء إلى غزة، وبلغه توجه الأمير شيخ ونوروز إلى جهة مصر، إلى أن وصلوا إلى مصر في يوم الأحد ثامن شهر رمضان ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزعر، وبني وائل -من عرب الشرقية - والأمير سعيد الكاشف هو معزول، وأصبح الأمير شيخ أقام رجلًا في ولاية القاهرة فنادى بالأمان، ووعد الناس بترخيص الأسعار، وبإزالة المظالم، فمال إليه جمع من العامة، وأقاموا ذلك اليوم، وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناة السلطانية، هذا والقتال مستمر بينهم وبين أهل القلعة، ثم طلبوا من الأمراء الذين بالقلعة فتح باب القلعة لهم، قالوا: ما لنا غرض في النهب، وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا -يعنون بابن أستاذنا: الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج- فقال كافور الزمام: وأيش أصاب السلطان حتى تأخذوا ولده؟ فقالوا: لو كان السلطان حيًّا ما كنا هاهنا -يعنون أنهم قتلوا السلطان، وساروا إلى الديار المصرية ليسلطنوا ولده- فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره، وطال الكلامُ بينهم في ذلك، فلم يلتفت كافور إلى كلامهم، فهددوه بإحراق الباب، فخاف وبدأ يماطلهم؛ لعلمه بمجيء العسكر المصري من الشام، وبينما كافور الزمام في مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطاني لمن كان الأمير شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل، وقد ارتفع العجاج، وأقبلوا سائقين سوقًا عظيمًا جهدهم، فلما بلغ الأمير شيخ وأصحابه ذلك لم يثبتوا ساعةً واحدةً، وركبوا من فورهم ووقفوا قريبًا من باب السلسلة، فدهمهم العسكر السلطاني فولَّوا هاربين نحو باب القرافة، والعسكر في أثرهم، فكبا بالأمير شيخ فرسُه عند سوق الخيم بالقرب من باب القرافة، فتقنطر من عليه، فلم يستطع النهوض ثانيًا؛ لعظم روعه وسرعة حركته، فأركبه بعضُ أمراء آخوريته وركب الأمير شيخ ولحق بأصحابه، فمروا على وجوههم على جرائد الخيل، وتركوا ما أخذوه من القاهرة، وأيضًا ما كان معهم، وساروا على أقبح وجه بعد أن قبض عسكر السلطان على جماعة من أصحاب الأمير شيخ، ودخل الأمير بكتمر جلق بعساكره، وأرسل الأمير سودون الحمصي فاعتقل جميع من أمسك من الشاميين، وأخذ يتتبَّعُ من بقي من الشامية بالقاهرة، ثم نادى في الوقت بالأمان، وقدم عليه الخبر في ليلة الأربعاء حادي عشر من شهر رمضان بأن الأمير شيخًا نزل إطفيح وأنهم افترقوا فرقتين؛ فرقة: رأسها الأمير نوروز الحافظي، ويشبك بن أزدمر، وسودون بقجة، وفرقة: رأسها الأمير شيخ المحمودي، وسودون تلي المحمدي، وسودون قراصقل، وكل فرقة منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك، وأنهم لما وصلوا إلى الشوبك دفعهم أهلها عنها، فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب، فتضرعوا له حتى نزل إليهم من قلعة الكرك، وتلقاهم وأدخلهم مدينة الكرك، وأنهم استقروا بالكرك، واستمر السلطان بدمشق إلى يوم سابع عشر ذي القعدة، وخرج منها إلى قبة يلبغا، ورحل من الغد بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعدما تحقق نزول الأمراء بالكرك، وأما الأمير شيخ ونوروز وجماعتهما، فإنهم أقاموا بالكرك أيامًا، واطمأنوا بها، ثم أخذوا في تحصينها، وأما السلطان الملك الناصر فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على مدينة الكرك في يوم الجمعة الرابع والعشرين ذي القعدة، وأحاط بها ونصَب عليها الآلات، وجَدَّ في قتالها، وحصرها وبها الأمير شيخ ونوروز وأصحابهما، واشتدَّ الحصار عليهم بالكرك، وأخذ الملك الناصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على الهلاك والتسليم، ثم أخذ الأمير شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون الأمير تغري بردي ويتضرعون إليه، وهو يتبرَّم من أمرهم والكلام في حقهم، ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلق بعد حَلِفِه في واقعة صرخد، فأخذ الأمير شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر جلق كان الباغي عليه والبادئ بالشر، وأنه هو دفع عن نفسه لا غير، وأنه ما قَصْدُه في الدنيا سوى طاعة السلطان، ولا زالوا حتى تكلم تغري بردي مع السلطان في أمرهم، ثم تردَّدت الرسل بينهم وبين السلطان أيامًا حتى انعقد الصلح، على أن يكون تغري بردي نائب الشام، وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب، وأن يكون الأمير نوروز نائب طرابلس، وكان ذلك بإرادة الأمير شيخ ونوروز، فإنهما قالا: لا نرضى أن يكون بكتمر جلق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشام، ونحن أقدم منه عند السلطان، فإن كان ولا بد، فيكون الأمير الكبير تغري بردي في نيابة الشام، ونكون نحن تحت أوامره، ونسير في المهمات السلطانية تحت سنجقه، وأما بكتمر ودمرداش فلا، وإن فعل السلطان ذلك لا يقع منا بعدها مخالفة أبدًا، ولما بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الإعجاب، وقد ضجر القوم من الحصار، وملوا من القتال، فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال إلى تولية تغري بردي نيابة الشام، وكان السلطان قد شرط على الأمراء شروطًا كثيرة فقبلوها، على أن يكون تغري بردي نائب دمشق.
استولى الملك الأذفونش ملك الجلالقة بطليطلة على وهران، وفعل بأهلها الأفاعيل، ثم سما لتملُّك الجزائر وشَرِه لالتهامها وضايَقَ المسلمين في ثغورهم، وضعف بنو زيان عن مقاومته, فما كان من الشيخ الفقيه الصالح أبي العباس أحمد ابن القاضي الزواوي ممن له الشهرة والوجاهة الكبيرة في بسائط المغرب الأوسط وجباله إلا السعي للاستنجاد بالدولة العثمانية التي قد زخر عبابُهم وملكت أكثَرَ المسكونة خلال هذه الفترة، وظهر من قوَّاد عساكرهم البحرية قائدان عظيمان وهما خير الدين بربروسا وأخوه عروج باشا، وكانا قد تابعا الغزو على بلاد الكفر برًّا وبحرًا وأوقعا بأهل دول أوربا وقائع شهيرة، وصار لهم ذكر في أقطار البلاد، وتمكن ناموسهم من قلوب العباد، فكاتبهما الفقيه أبو العباس وعرَّفهما بما المسلمون فيه من مضايقة العدو الكافر، وقال: إن بلادنا بقيت لك أو لأخيك أو للذئب؛ فأقبَلَا نحوه مسرعَينِ حتى تمكن عروج من تحرير مدينة ثغر الجزائر سنة 922 (1516م) بعد ما كاد العدو يملكه فخلَّصه منهم.
لما فتح أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي حضرة فاس، تاقت نفسُه إلى الاستيلاء على المغرب الأوسط، وكان يعزُّ عليه استيلاء الترك العثمانيين عليه، مع أنهم أجانبُ عن هذا الإقليم ودُخَلاء فيه، فيَقبُحُ بأهلِه وملوكه أن يتركوهم يغلبون على بلادِهم، لا سيما وقد فرَّ إليهم عدوٌّ من أعدائه، وهو أبو حسون الوطاسي، فرأى محمد الشيخ من الرأي وإظهار القوة في الحربِ أن يبدأَهم قبل أن يبدؤوه، فنهض من فاس قاصدًا تلمسان في جموعِه إلى أن نزل عليها وحاصرها تسعة أشهر وقُتِلَ في محاصرتها ولدُه الحران وكان نائبًا من أنيابه وسيفًا من سيوفه، ثم استولى محمد الشيخ على تلمسان ودخلها يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، ونفى الترك عنها وانتشر حكمُه في أعمالها إلى وادي شلف، واتسعت خطةُ مملكته بالمغرب ودانت له البلاد، ثم كرَّت عليه الأتراك وأخرجوه من تلمسان، فعاد إلى مقرِّه فاس، ثم عاود غزو تلمسان حين بلغه قيامُ رعاياها على الترك وانحصار الترك بقصبتها، فأقام مرابطًا عليها أيامًا، فامتنعت عليه وأقلع عنها ولم يعاودْ غزوها بعد ذلك وخَلُص أمرُها إلى العثمانيين.
بعد وفاةِ الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب قَدِمَ ابنُه المعظَّم توران شاه, وكان في حصنِ كيفا، فسار من حصنِ كيفا إلى دمشق، لإحدى عشرةَ ليلةً مضت من شهر رمضان، فنزل عانةً في خمسين فارسًا من أصحابه، يوم الخميس النِّصفَ من شهر رمضان وخرج منها يوم الأحدِ يريد دمشق على طريقِ السماوة في البرية فنَزَل القصيرَ في دهليز ضربه له الأميرُ جمال الدين موسى بن يغمور نائب دمشق يوم الجمعة لليلتين بَقِيَتا من شهر رمضان، ودخل المعظَّم توران شاه من الغد - وهو يوم السبتِ آخره - إلى دمشقَ، ونزل بقلعتِها، فكان يومًا مشهودًا وأفرَجَ عَمَّن كان بدمشق في حَبسِ أبيه، وأتته الرسلُ مِن حَماة وحَلَب تهنئه بالقدوم، ولأربع مضينَ من شوال سقطت البطائقُ إلى العسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظَّم إلى دمشق وسلطته بها فضُرِبَت البشائر بالمعسكر وبالقاهرة، وسار السلطانُ توران شاه من دمشق يوم الأربعاء السابع عشر يريدُ مِصرَ، وقَدِمَ معه القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان مقيمًا بدمشقَ عند الأمير جمال الدين، وقَدِمَ معه أيضًا هبة الله بن أبي الزهر بن حشيش الكاتب النصرانيُّ، وقد وعده السلطان بوزارة مصر، فأسلم وتلقَّب بالقاضي مُعين الدين، وعندما تواترت الأخبارُ في القاهرة بقدوم السلطان، خرج قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلَقِيَه بغزة وقَدِمَ معه وخرج الأميرُ حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان إلى الصالحية، فلقيه بها يوم السبت لأربع عشرة ليلة بَقِيَت من ذي القعدة، ونزل السلطان المعظم توران شاه في قصر أبيه، ومنه يومئذٍ أعلن بموتِ الملك الصالحِ نجم الدين أيوب ولم يكنْ أحدٌ قبل هذا اليوم ينطق بموتِه، بل كانت الأمور على حالها، فتسَلَّم السلطان المعظم مملكةَ مصر، ثم إنه رحل من الصالحية ونزل تلبانة، ثم نزل بعدها منزلة ثالثةً، وسار منها إلى المنصورة، وقد تلقَّاه الأمراء المماليك، فنزل في قصرِ أبيه وجَدِّه يوم الخميس لتسعٍ بَقِينَ من ذي القعدة، فأوَّل ما بدأ أن أخذ مماليكَ الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار بدون القيمة، ولم يعطِ ورثته شيئًا، وكان ذلك بنحوِ الخمسة عشر ألف دينار، وأخذ يسُبُّ فخر الدين ويقول: أطلق السكَّر والكتان، وأنفِقِ المال وأطلق المحابيسَ إيش ترك لي.
جاء التوقيعُ على وثيقةِ جنيفَ من أجْلِ السلام في الشرق الأوسط في أول ديسمبر 2003م، ليواكبَ خريطةَ الطريق الأمريكية، وهي الوثيقةُ التي ظلَّ وزيرُ الإعلام الفِلَسْطيني ياسر عبد ربه، ووزير العدل الإسرائيلي يوسي بيلين يتفاوَضان حولهَا على مدى ثلاث سنوات، حتى تمَّ التوقيعُ عليها بحضور مئات الشخصيات الدولية، وتَدْعو هذه الوثيقة إلى إنهاء النزاع الإسرائيلي - الفِلَسْطيني، وإحلال السلام بين الطرفَينِ، وقيام علاقات دبلوماسيةٍ وطبيعيةٍ كاملةٍ بين فلسطينَ وإسرائيلَ، وتضَعُ هذه الوثيقةُ -غيرُ الرسميَّة- برنامجًا زمنيًّا لتسوية النزاع، وتُشكِّلُ بديلًا لقرارات الأمم المتحدة ذاتِ الصلة بالصراع في حالة إقرارِها رسميًّا من الحكومَتَينِ الفِلَسْطينية والإسرائيلية. وأكَّدت ديباجة الوثيقة على ضرورة وضع حدٍّ لنزيف الدماء بين الشعبين الفِلَسْطيني واليهودي، واحترام حق الجانبَينِ في العيش داخلَ حدودٍ آمِنةٍ ومُعتَرَفٍ بها دوليًّا، وفيما يلي أبرزُ النقاط التي تضمَّنَتْها الوثيقةُ:
1- اعترافُ دولة إسرائيلَ بدولة فِلَسْطينَ فَورَ قِيامِها على مُعظمِ أراضي الضِّفة الغربية، وقطاع غزَّةَ، وقيام عَلاقات دبلوماسيةٍ، وقُنصليةٍ كاملةٍ فورًا، وتبادل السفراء في مدة أقصاها شهر من دخول الاتفاق حيِّزَ التنفيذِ.
2- تحتفظُ الدولتان بعاصمتَيْهما في مدينة القُدسِ على أنْ يكونَ ذلك في المناطق الخاضعة لكل طرفٍ، ويُسيطرُ الفِلَسْطينيون على القُدسِ العتيقة (الشرقية)، باستثناء الحي اليهودي، وحائط البراق (المبكى)، وسوف يخضَعُ المسجدُ الأقْصى للسيادة الفِلَسْطينية، على أنْ تكون حُريةُ الوصول إليه مكفولةً للجميع، تحت إشراف قوة دولية للمراقَبة.
3- يُمنَعُ اليهودُ من الصلاة بالمسجدِ الأقْصى، وتُمنَعُ جميعُ الحفائرُ الأثريةُ تمامًا فيه، ويتخذُ الطرفانِ إجراءاتٍ لضمانِ حريةِ وُصولِ اليهودِ إلى مزاراتهم الدينية المقدَّسة، ومنها بئرُ راحيلَ في بيت لحم، ومقبرةُ إبراهيمَ في مدينة الخليل.
4- تحتفظُ إسرائيلُ بحقِّ تمركزِ قواتٍ أمنيةٍ في تكتُّلِ مستعمَراتِ جوش عتصيون، بجنوب الضفة الغربية، والمستعمرات الواقعة في ضواحي القُدسِ.
5- تنتقِلُ السيادةُ إلى الجانب الفِلَسْطيني في مستعمَراتِ آرييل، وعفرات، وجبل أبو غنيم (حارحوما).
6- يتبادَلُ الجانبانِ السيادةَ في عدَّةِ مناطقَ منها مناطقُ في صحراء النقبِ تُتاخِمُ قطاع غزَّةَ، وسوف يتسلَّمُها الفِلَسْطينيون مُقابلَ مناطقَ بالضفة الغربية تحتفظُ إسرائيلُ بها، بدلًا من إعادتها للفِلَسْطينيين.
7- لم تنصَّ الوثيقةُ في أيٍّ من بنودِها على عبارةِ: "حق العودة للاجِئينَ الفِلَسْطينيين"، وبدلًا من ذلك سوف يتمُّ السماحُ بعودة عددٍ رَمزيٍّ من الفِلَسْطينيينَ، وتعويض اللاجئين عن ممتلَكاتٍ فَقَدوها من جرَّاء الاحتلال من خلال صندوقٍ خاصٍّ تتبرَّعُ إسرائيلُ برأس ماله.
8- يُقِرُّ الطرَفانِ الفِلَسْطيني والإسرائيلي بعدم المطالَبة بأي تعويضاتٍ، أو رفع دعاوى قضائيةٍ عن أحداثٍ وقعَت قبلَ توقيع الاتفاقِ.
ويمكِنُ القولُ: إنَّ وثيقةَ جنيفَ قد تناوَلَت مشروعَ التسوية الدائمة لقضية القُدس بتفصيلاتٍ أكثرَ من أيةِ وثيقةٍ، أو اتفاقيةٍ، أو إعلانِ مبادئَ سابقٍ، وذلك في سياق تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بكافَّة جوانِبِه.