كاتَبَ موسى بن أبي العافية- صاحبُ المغرب- الأميرَ الناصر، ورَغِبَ في موالاته، والدخولِ في طاعته، وأن يستميلَ له أهواءَ أهل المغرب المجاورينَ له، فتقبله أحسَنَ قَبولٍ، وأمَدَّه بالخِلَعِ والأموال، وقوَّى يده على ما كان يحاوِلُه من حربِ ابنِ أبي العيش وغيره. فظهر أمرُ موسى من ذلك الوقت في المغرب، وتجمَّعَ له كثيرٌ من قبائل البربر، وتغلَّب على مدينة جراوة، وأخرج عنها الحسَنَ بنَ أبي العيش بن إدريس العلوي؛ وجَرَت بينهما حروبٌ عظيمة، وافتتح الناصِرُ مدينة سبتة، فملأها بالرِّجال، وأتقَنَها بالبُنيان. وبنى سورها بالكذان، وألزم فيها من رَضِيَه من قوَّادِه وأجناده، وصارت مِفتاحًا للغَربِ والعدوة من الأندلس، وباب إليها كما هي الجزيرة وطريف مفتاح الأندلس من العدوة، وقامت الخطبةُ في سبتة باسم أميرِ المؤمنين الناصر، فكان هذا سيطرةً على مضيقِ جبل طارق، وشَكَّل بذلك نوعَ تهديدٍ على الدَّولةِ الفاطميَّة.
هو شَرَفُ الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو القبطي ناظِرُ الخاص للسلطان، كان أبوه يكتُبُ عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرةِ ديوان الأمير أركتمر الجمدار، وعندما جمَعَ السلطان الناصر كتَّاب الأمراء, فرآه وهو واقِفٌ وراء الجميعِ وهو شابٌّ طويل نصراني حلوُ الوجه فاستدعاه وقال: أيش اسمك؟ قال: النشو، فقال: أنا أجعلك نشوي، ثمَّ إنه رتَّبَه مستوفيًا في الجيزية، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما يندبه إليه وملأ عينيه, ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدة، ثم نقل إلى نظر الخاص مع كتابة ابن السلطان، وحَجَّ مع السلطان في تلك السنة وهي سنة 732 ولما كان في الاستيفاء وهو نصراني, وكانت أخلاقُه حسنة وفيه بِشرٌ وطلاقة وجه وتسَرُّع إلى قضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبونه، فلما تولى الخاص وكثُرَ الطلب عليه من السلطان, و أُكرِهَ حتى أظهَرَ الإسلام, فبلغ ما لم يبلُغْه أحَدٌ من الأقباط في دولة الترك- المماليك- وتقَدَّمَ عند السلطان على كل أحد، وخَدَمه جميع أرباب الأقلام، وزاد السلطانُ في الإنعامات والعمائر عليه, وزَوَّج بناته واحتاجَ إلى الكُلَف العظيمة المُفرِطة الخارجة عن الحَدِّ، فساءت أخلاقُه وأنكر مَن يَعرِفُه، وفُتِحَت أبواب المصادرات للكتَّاب ولِمَن معه مال, وكان محضرَ سوءٍ لم يشتَهِرْ عنه بعدها شيءٌ من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمَعْه وزير للدولة التركية، وكان مُظَفَّرًا، ما ضرب على أحدٍ إلا ونال غَرَضَه منه بالإيقاع به وتخريبِ دياره، وقُتِلَ على يديه عِدَّةٌ من الولاة والكتَّاب، واجتهد غايةَ جُهدِه في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبه ستَّة أشهر بأنواع العقوبات، من الضَّربِ بالمقارع والعَصرِ في كعابه وتسعيطِه - الاستنشاق بالأنف- بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك، مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يَمُت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو، وكان النشوُ هذا بلغ منه في أذيَّة الناس بالمُصادَرات والضرائب الشيء الكثير الكثير، مِمَّا كاد أن يخرب الديارَ كُلَّها، فشكا منه كُلُّ أحد: الفقير والغني، والأمير والحقير، فلم يسلَمْ مِن ظُلمِه وأخْذِ المال منه أحدٌ، وكل ذلك يدَّعي الفَقرَ وقِلَّة المال وأنه لا يأخُذُ لِنَفسِه شيئًا، ولما مات بعد أن اعتُقِلَ لكثرة الشكاوى والتحريضات حُصِّلَت أمواله فكانت خارجةً عن الحصر، ولو كتبت لخرجت عن الحد المعهودِ، فهي تحتاج إلى عِدَّة صفحات مِمَّا كان له من مالٍ عَينٍ وبضائِعَ وإقطاعاتٍ وحواصِلَ وحيواناتٍ وغَيرِها من الجوهر واللؤلؤ ما يفوق الحَصرَ، توفي في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، ثم إنَّه بعد موته وُجِدَ أنه ما يزال غير مختونٍ، فدُفِنَ بمقابر اليهودِ.
كان يَزيدُ بن المُهَلَّب قد سُجِنَ أيَّام عُمَر بن عبدِ العزيز لِتَأْدِيَة المَظالِم التي عليه، فلمَّا عَلِمَ بِمَرَضِ عُمَر بن عبدِ العزيز هَرَب مِن السِّجْن خَوفًا مِن يَزيد بن عبدِ الملك، فلمَّا تَوَلَّى يَزيدُ بن عبدِ الملك سَجَنَ آلَ المُهَلَّب؛ لكنَّ يَزيد بن المُهَلَّب اسْتَطاع أن يَفُكَّهم وتَغَلَّبَ على البَصْرَة ثمَّ سَجَنَ أَميرَها وبَعَث عُمَّالَه إلى الأَهوازِ وفارِس، وأَرسَل أخاه إلى خُراسان، ونَزَل هو واسِط، ثمَّ أَرسَل يَزيدُ بن عبدِ الملك أخاه مَسلمَة لِقِتال ابنِ المُهَلَّب، ثمَّ دارت مَعركَة كان مِن نَتائِجِها قَتْلُ يَزيد بن المُهَلَّب وإخْوَتِه: حَبيب ومحمَّد. وكان اجْتِماع يَزيد بن المُهَلَّب ومَسلمَة بن عبدِ الملك بن مَرْوان ثَمانِيَة أيَّام مِن شَهرِ صَفَر سَنَة 102هـ.
مَلَكَ المقَلَّدُ بنُ المسيب مدينةَ الموصل، وكان سبَبُ ذلك أنَّ أخاه أبا الذواد توفِّيَ هذه السنة، فطَمِعَ المقلدُ في الإمارة، فلم تساعِدْه عقيل على ذلك، وقلَّدوا أخاه عليًّا؛ لأنه أكبَرُ منه، فأسرع المقلد واستمال الديلمَ الذين كانوا مع أبي جعفرٍ الحَجَّاج بالموصِل، فمال إليه بعضُهم، وكتب إلى بهاءِ الدَّولةِ أنْ قد ولَّاه المَوصِل، وسأله مساعدتَه على أبي جعفرٍ؛ لأنَّه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصِلِ، فخرج إليهم كلُّ مَن استماله المقلد من الديلم، وضَعُف الحَجَّاج، وطلب منهم الأمانَ، فأمَّنوه، ودخل المقلدُ البلدَ، واستقَرَّ الأمرُ بينه وبين أخيه على أن يُخطَبَ لهما، ويُقَدَّم عليٌّ لكِبَرِه، ويكون له معه نائبٌ يَجبي المالَ، واشتركا في البلَدِ والولاية، وسار عليٌّ إلى البَرِّ، وأقام المقلد، وجرى الأمرُ على ذلك مُدَّةً، ثم تشاجرا واختَصَما.
هو أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ يزيدَ بنِ كثير بن غالب الطَّبَري، صاحبُ التَّفسيرِ الكبيرِ, والتاريخِ الشَّهيرِ، كان إمامًا في فنون كثيرةٍ، منها: التفسير والحديث، والفقه والتاريخ، وغير ذلك، وله مُصنَّفات مَليحة في فنونٍ عديدة تدلُّ على سَعةِ عِلمِه وغزارةِ فَضلِه، وكان من الأئمَّة المجتَهِدين، لم يقَلِّدْ أحدًا مِن المجتَهِدين. مولِدُه سنة 224 بآمل طبرستان. أكثَرَ مِن التَّرحالِ، ولقي نُبلاءَ الرِّجالِ، وكان من أفراد الدَّهرِ عِلمًا وذكاءً وكثرةَ تصانيفَ، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه. قال الذهبي: "كان ثقةً صادِقًا حافِظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماعِ والاختلاف، علَّامةً في التاريخِ وأيَّامِ النَّاسِ، عارِفًا بالقراءات وباللُّغة، وغير ذلك" قال أبو بكرٍ الخطيبُ: "كان أحدَ أئمَّةِ العُلَماءِ، يُحكَمُ بقَولِه، ويُرجَعُ إلى رأيِه؛ لِمَعرفتِه وفَضلِه، وكان قد جمعَ مِن العلوم ما لم يشارِكْه فيه أحدٌ مِن أهل عصره، وكان حافِظًا لكتابِ الله، عارفًا بالقراءاتِ، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكامِ القرآن، عالِمًا بالسُّنَن وطُرُقِها؛ صحيحِها وسَقيمِها، ناسِخِها ومَنسوخِها، عارفًا بأقاويلِ الصَّحابةِ والتابعين ومَن بعدَهم في الأحكامِ ومسائل الحلالِ والحرام، خبيرًا بأيَّامِ الناس وأخبارِهم، وله الكتابُ المشهور في تاريخِ الأُمَم والملوك، والكتابُ الذي في التفسيرِ لم يصنَّفْ مِثلُه، وله في أصولِ الفِقهِ وفُروعِه كتبٌ كثيرةٌ، وأخبارٌ مِن أقاويل الفقهاء، وتفرَّد بمسائل حُفِظَت عنه"، كان من العبادةِ والزَّهادةِ والوَرَع والقيامِ في الحَقِّ لا تأخذُه في ذلك لومةُ لائم، وكان حسَنَ الصَّوتِ بالقراءة مع المعرفةِ التَّامَّة بالقراءات على أحسَنِ الصِّفات، وكان من كبارِ الصَّالحينَ، يتعَفَّفُ عن قَبولِ أموال السلاطين والوزراء، وكان صاحِبَ هِمَّة عالية في الكتابةِ, قال الخطيب: "سمعتُ عليَّ بنَ عبيد الله اللُّغوي يحكي أنَّ محمَّدَ بنَ جرير مكث أربعينَ سَنةً يكتبُ في كلِّ يومٍ منها أربعينَ ورقةً". قال أبو محمد الفرغاني: " تمَّ مِن كتُبِ مُحمَّد بن جريرٍ كتابُ "التفسير" الذي لو ادَّعى عالمٌ أن يُصنِّفَ منه عشرةَ كُتُب، كلُّ كتابٍ منها يحتوي على عِلمٍ مُفَردٍ مُستقصًى، لفَعَلَ". وتمَّ مِن كُتُبِه كتاب "التاريخ" إلى عصرِه، وكتاب "تاريخ الرجال" من الصحابة والتابعين، وإلى شيوخه الذين لقِيَهم، وكتاب "لطيفُ القول في أحكام شرائع الإسلام" وهو مذهبه الذي اختاره وجَوَّده واحتَجَّ له، وهو ثلاثة وثمانون كتابًا، وكتاب "القراءات والتنزيل والعدد"، وكتاب "اختلاف علماء الأمصار"، وكتاب "الخفيف في أحكام شرائع الإسلام" وهو مختصر لطيف، وكتاب "التبصير" وهو رسالةٌ إلى أهل طبرستان، يشرحُ فيها ما تقَلَّده من أصول الدين، وابتدأ بتصنيف كتاب "تهذيب الآثار" وهو من عجائِبِ كُتُبِه، ابتداءً بما أسنده الصِّدِّيقُ ممَّا صَحَّ عنده سنَدُه، وتكلَّمَ على كلِّ حديثٍ منه بعِلَلِه وطُرُقِه، ثمَّ فِقهِه، واختلافِ العُلَماءِ وحُجَجِهم، وما فيه من المعاني والغريبِ، والردِّ على المُلحِدينَ، فتَمَّ منه مُسنَدُ العَشَرةِ وأهلِ البيت والموالي، وبعضُ "مسند ابن عبَّاس"، فمات قبل تمامِه".وهو أحدُ المحَدِّثين الذي اجتَمَعوا في مصرَ في أيام ابنِ طولون، وهم محمَّد بنُ إسحاقَ بنِ خُزيمة إمامُ الأئمَّة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمَّد بن هارون الروياني، ومحمد بن جريرٍ الطَّبري هذا. توفِّيَ ببغداد ودُفِنَ ليلًا بداره؛ لأنَّ العامَّة اجتمعت ومَنَعَت من دفنِه نهارًا، وادَّعوا عليه الرَّفضَ، ثمَّ ادَّعوا عليه الإلحادَ، وكان عليٌّ بن عيسى يقول: واللهِ لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرَّفضِ والإلحادِ ما عَرَفوه، ولا فَهِموه"، وحُوشِيَ ذلك الإمامُ عن مثلِ هذه الأشياءِ، وأمَّا ما ذكره عن تعصُّبِ العامَّة، فليس الأمرُ كذلك، وإنَّما بعض الحنابلةِ تعصَّبوا عليه، ووقَعُوا فيه، فتَبِعَهم غيرُهم؛ ولذلك سبَبٌ، وهو أنَّ الطبريَّ جمع كتابًا ذكر فيه اختلافَ الفُقَهاءِ، لم يُصنَّفْ مِثلُه، ولم يَذكُرْ فيه أحمدَ بنَ حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكُنْ فقيهًا، وإنَّما كان محدِّثًا، فاشتدَّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحصَونَ كثرةً ببغداد، فشَغَّبوا عليه- رحمه الله رحمةً واسعة.
لمَّا جُرِحَ السُّلطانُ ألب أرسلان أَوصَى لابنِه ملكشاه، وكان معه، وأَمرَ أن يَحلِف له العَسكرُ، فحَلَفوا جَميعُهم، وكان المُتَوَلِّي للأَمرِ في ذلك نِظامُ المُلْكِ، وأَرسلَ ملكشاه إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ له، فخُطِبَ له على مَنابِرِها، وأَوصَى ألب أرسلان ابنَه ملكشاه أيضًا أن يُعطِي أَخاهُ قاروت بك بن داود أَعمالَ فارس وكرمان، وشَيئًا عَيَّنَهُ من المالِ، وأن يُزَوَّجَ بِزَوجَتِه، وكان قاروت بك بكرمان، وأَوصَى أن يُعطَى ابنَه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأَبيهِ داودَ، وهو خمسمائة ألف دِينارٍ، وقال: كلُّ مَن لم يَرضَ بما أَوصَيتُ له فقاتِلُوهُ، واستَعينوا بما جَعلتُه له على حَربِه، وعاد ملكشاه من بِلادِ ما وراءَ النَّهرِ، فعَبرَ العَسكرُ الذي قَطعَ النَّهرَ في نَيِّفٍ وعشرين يومًا في ثلاثة أيامٍ، وقام بوِزارَةِ ملكشاه نِظامُ المُلْكِ، وزاد الأَجنادَ في مَعايِشِهم سبعَ مائةِ ألفِ دِينارٍ، وعادوا إلى خُراسان، وقَصَدوا نَيسابور، وراسَلَ ملكشاه جَماعةَ المُلوكِ أَصحابَ الأَطرافِ يَدعوهُم إلى الخُطبَةِ له والانقِيادِ إليه، وأَقامَ إياز أرسلان بِبَلخ وسار السُّلطانُ ملكشاه في عَساكرِه من نَيسابور إلى الرَّيِّ.
لما انتَزعَ المَلِكُ المُعَظَّمُ أتسز بن أوف الخوارزمي دِمشقَ من أَيدِي العُبيديِّين سَنةَ 468هـ، شَرعَ في بِناءِ هذا الحِصْنِ المَنيعِ بدِمشقَ وكان في مكانِ القَلعةِ -أَحَدِ أَبوابِ البَلدِ- بابٌ يُعرفُ ببابِ الحَديدِ، وهو البابُ المُقابلُ لدارِ رضوان، وقد ارتَفعَ بعضُ أَبرجتِها فلم يتَكامل حتى انتَزعَ مُلْكَ البَلدِ منه المَلِكُ المُظفَّرُ تاجُ المُلوكِ تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأَكمَلَها وأَحسنَ عِمارَتَها، وابتَنَى بها دارَ رضوان للمُلْكِ، واستَمرَّت على ذلك البِناءِ في أيامِ نورِ الدِّين محمودِ بن زِنكي، فلمَّا كان المَلِكُ صَلاحُ الدِّينِ بن يُوسفَ بن أيوبَ الأيوبيُّ جَدَّدَ فيها شَيئًا، وابتَنَى له نائِبُه ابنُ مُقدَّمٍ فيها دارًا هائِلةً لمملكة للمَملكةِ، ثم إنَّ المَلِكَ العادلَ أخا صلاحِ الدِّينِ، اقتَسمَ هو وأولادُه أَبرجتَها، فبَنَى كلُّ مَلِكٍ منهم بُرْجًا منها جَدَّدَهُ وعَلَّاهُ وأَطَّدَهُ وأَكَّدَهُ، ثم جَدَّدَ المَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرسُ منها البُرجَ الغربيَّ القِبليَّ، ثم ابتَنَى بعده في دَولةِ المَلِكِ الأَشرفِ خليلِ بن المنصورِ، نائِبُه الشُّجاعيُّ، الطارمةَ الشماليَّةَ والقُبَّةَ الزَّرقاءَ وما حولَها.
كان الأمير أبو الحسن علي بن سعد بعد وفاة والده محجورًا عليه، والأمر كان للقوَّاد ولم يكن له من الملك إلا اسمه، فأراد أن يقوم بنفسه ويزيل عنه الحَجر، فانفرد بنفسه عن قواده كما انفرد معه بعضهم، ووقعت بينهم حروب وأحداث؛ وذلك أنه لما اعتزل عن قواده أخذوا أخاه محمد بن سعد الملقب بالزغل, وكان أصغر منه سنًّا فبايعوه، واشتعلت نار الفتنة بينهم, فأظهر أبو الحسن التوبة للناس ووعدهم إن قاموا معه أن يصلح شأنهم وأن يظهر الأحكام وينظر في مصالح الوطن ويقيم الشريعة، فمالت إليه الرعية وأعانوه على ما نواه من مراده إلى أن ظَفِرَ بخصومه في مدينة مالقة فأخذهم وقتَلَهم كلَّهم, ولم يبقَ له معاند، فاستقام له الأمر ودانت له البلاد، وهو مع ذلك يغزو الفرنج المرة بعد المرة حتى غزا غزوات كثيرة وأظهر الأحكام ونظر في مصالح الحصون، ونما الجيش فهابته النصارى وصالحته برًّا وبحرًا، وكثر الخير وانبسطت الأرزاق ورخصت الأسعار، وانتشر الأمن في جميع بلاد الأندلس وشملتهم العافية في تلك المدة وضربت سكة جديدة طيبة.
كان الخطر البرتغالي يهدد التجارة في البحر الأحمر والخليج العربي، وبالتالي يهدِّد التجارة المصرية التي يتولاها المماليك، ولما كان البرتغاليون وصلوا إلى مرحلة هددوا فيها كل شيء للعرب أو المسلمين في البحر، وليس فقط التجارة، فأرسل المماليك قوة إلى اليمن لتواجه القوة البرتغالية؛ فقد أرسل السلطان قانصوه الغوري أسطولًا بحريًّا بقيادة حسين الكردي سنة 922 إلى اليمن؛ حيث طلب حسين من الملك عامر الثاني الطاهري العونَ، ولكنَّ طاهرًا رفض ذلك، فقام حسين الكردي بمقاتلته فجرت بينهما معركة كان نتيجتها أن احتلَّ حسين زبيدَ عاصمةَ اليمن وقتَها، ونصب أخاه برسباي حاكمًا عليها، وهرب عامر الطاهري وأخوه عبد الملك إلى تعز، وقد حاولا في العام التالي محاربة بارسباي؛ لاستعادة ملكِهما وإعادة البلاد لحكمِهما، فاستعدَّا بجيش من الذين بقوا معهم وممن والاهم في تعز وساروا إلى برسباي لقتاله، فوقعت بينهم معركة في الصافية استطاع جيش المماليك أن يقضيَ على جيش الملك عامر وأخيه اللذين قُتِلا في المعركة، فكان ذلك انقراضًا لدولة الطاهريين في اليمن.
خرج الأمير محمد بن عبدالرحمن بنفسه إلى الثغر، وحلَّ في وجهته بطليطِلة، وأخذ رهائِنَهم، وعقدَ أمانَهم، وقاطَعَهم على قطيعٍ من العُشور يؤدُّونه في كل عام، وهو الأمانُ الثاني. واختلفت أهواؤهم في عُمَّالهم، فطلب قوم منهم توليةَ مطَرِّف بن عبد الرحمن، وطلب آخرونَ تولية طربيشة بن ماسوية، فولَّى كلَّ واحد منهما جانبًا، واقتسما المدينةَ وأقاليمها على حدود مفهومة معلومة؛ ثم تنازعا، وأراد كلُّ واحد منهما الانفرادَ بمُلك طليطلة، ثم غلب الداعون إلى تقديمِ طربيشة، وتأخير مُطَرِّف. وكان الأمير محمد تتلقاه في وجهتِه هذه- في الارتحال والاحتلال- طلائِعُ الظَّفَر، وبوادر النَّجاح والنصر. وتجوَّل في الثغر محاصرًا لبني موسى، ومضيِّقًا عليهم. ثم تقدَّم إلى بنبلونة؛ فوطئ أرضَها، وأذلَّ أهلَها وخَرَّبها ثم قفَل، فحَلَّ بقُرطبة، ومعه جماعةٌ من الثوَّار الناكثين المُفسِدين، فلما أخذ راحتَه أمر بقتل مطرف بن موسى وبنيه.
تفجَّرت عمليةُ التمرُّدِ التي يَقودها أبو موسى داخلَ حرَكة (فتح)، في شكْل صِدامٍ مسلَّح مع أنصار ياسر عرفات في مَدينة بعْلَبك بوادي البِقاع بلُبنانَ، وأدَّت حركةُ التمرُّد والانشقاقِ هذه إلى إحداثِ انهيارٍ للتَّيار التقدُّمي في داخل حرَكة (فتْح).
هو نور الدين أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعيُّ، له تصانيفُ، وقرأ مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا، ثمَّ إنه أقام بمصر، وقد كان في جملةِ خُصومِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية، أراد بعضُ رجال الدولة قَتْلَه فهرب واختفى عند ابن تيميَّة لَمَّا كان مقيمًا بمصر، وما مثالُه إلَّا مثالُ ساقيةٍ ضعيفةٍ كَدِرة لاطمت بحرًا عظيمًا صافيًا، أو رملةٍ أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاءَ عليه، وقد أراد السلطانُ قَتْلَه فشَفِعَ فيه بعض الأمراء، ثم أنكر مرَّةً شيئًا على الدولةِ فنُفِيَ من القاهرة إلى بلدةٍ يقال لها: ديروط، فكان بها حتى توفِّيَ يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازتُه مشهورةً غيرَ مشهودة، وكان شيخُه ينكِرُ عليه إنكارَه على ابن تيمية، ويقولُ له أنت لا تحسِنُ أن تتكَلَّم، ولشيخ الإسلام الردُّ المشهور عليه المعروف باسم الردِّ على البكري أو الاستغاثةِ.