كانت جمهورية البنادقة تهيمن على جزيرة كريت وعلى الحركة التجارية في بحر إيجة، مستغلين الصلح مع الدولة العثمانية، فعزم العثمانيون على تدمير نفوذ البنادقة في الشرق، فجُهِّزت الجيوش والأسطول وأُعلنت الحرب على البنادقة، واعتقل جميع البنادقة في طول البلاد وعرضها، وأُمر بمصادرة أموالهم وممتلكاتهم، ثم أمر السلطان إبراهيم بتجهيز عمارة بحرية قوية لفتح جزيرة كريت لأهمية موقعها الجغرافي الحربي عند مدخل بحر أرخبيل اليونان، ولتوسطها في الطريق بين الآستانة وولاية الغرب، فجُهزت الدونانمة وسارت باحتفال زائد تحت قيادة من يدعى يوسف باشا إلى أن ألقت مراسيها أمام مدينة خانية أهم ثغور الجزيرة في 29 ربيع الآخر من هذه السنة، وافتتحها بدون حرب تقريبًا؛ لعدم وصول الدونانمة البندقية إليها في الوقت المناسب، فانتقم البنادقة بحرق ثغور بتراس وكورون ومودون من بلاد مورة، ويقال إن السلطان أراد في مقابلة ذلك قتل جميع النصارى لولا معارضة المفتي أسعد زاده أبي سعيد أفندي.
هو العلامةُ المجتهد السيد الحسني صاحب التصانيف: الأمير محمد بن إسماعيل الكحلاني، ثم الصنعاني. ولِدَ ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099هـ بكحلان ثم انتقل مع أسرته إلى صنعاء سنة 1107هـ وأخذ عن علمائها، ووالده كان من الفضلاء الزاهدين في الدنيا الراغبين في العمل، وله شعر جيد، مات في ثالث شهر ذي الحجة سنة 1142هـ. رحل الصنعاني إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وأظهر الاجتهاد وعَمِل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيَّف ما لا دليلَ عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوبٌ ومِحَنٌ، منها في أيام المتوكل على الله القاسم بن الحسين، ثم في أيام ولده الإمام المنصور بالله الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الإمام المهدى العباس بن الحسين، وتجمع العوامُّ لقتلِه مرة بعد أخرى، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شرهَّم، وولاه الإمامُ المنصور بالله الخطابةَ بجامع صنعاء، فاستمر كذلك إلى أيام ولده الإمام المهدي، واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرِهم في الخطبة الأخرى، فثار عليه جماعةٌ من آل الإمام الذين لا أنسةَ لهم بالعلم، وعضَّدهم جماعة من العوام وتواعدوا فيما بينهم على قتلِه في المنبر يوم الجمعة المقبلة، ولم يفلحوا، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا، وما زال في محَنٍ من أهل عصره، ووقعت له فِتَن كبار وقاه الله شَرَّها, وكان الصنعاني قد بدأ بعقد حلقات العلم ولَمَّا يُتِمَّ الرابعة والعشرين من عمره, فقد كان بارعًا في الفقه والأصول، ومؤلفاته تنمُّ عن سعة علمه وجودة ذهنه، واستحضاره للأدلة ومناقشتها، واستخراج الأحكام الفقهية، وكان يدعو إلى تجديد الدين والعودة إلى أصوله وحقيقته كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ ولذلك لَمَّا بلغته دعوةُ الشيخ المجدد أيَّدَها وأرسل للشيخ قصيدةً يثني فيها عليه وعلى دعوته، ومما قاله فيها: سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نجـدِ وإن كان تسليمي على البعدِ لا يُجدي وقد صدرت من سفحِ صنعا سقى الحيا رباهـا وحـياهـا بقهقهة الرعـدِ سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ألا يا صبا نجـدٍ متى هِجتَ من نجـدِ قفي واسألي عن عالمٍ حَـَّل سوحها به يهتدي من ضَلَّ عن منهج الرشدِ محمَّـد الهـادي لسنة أحمـد فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرَت كلُّ الطوائف قولَهبلا صدَرٍ في الحقِّ منهم ولا وردِ وللإمام الصنعاني مؤلفات كثيرة، منها: التحبير لإيضاح معاني التيسير، وهو شرح كتاب تيسير الوصول لابن الديبع, والتنوير شرح الجامع الصغير، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار, وثمرات النظر في علم الأثر, والعدة على شرح العمدة، وهو مليء بالفوائد الفقهية والأصولية، وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد, وحاشية على البحر الزخار في الفقه الزيدي, وسبل السلام اختصره من البدر التمام للمغربي, ومنحة الغفار جعلها حاشية على ضوء النهار للجلال, وشرح التنقيح في علوم الحديث للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وسماه التوضيح, ومنظومة الكافل لابن مهران في الأصول وشرحها شرحًا مفيدًا, وله مصنفات غير هذه، وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جميعه في مجلدات، وله شعر فصيح منسجم، جمعه ولده العلامة عبد الله بن محمد في مجلد، وغالبه في المباحث العلمية والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم، وبالجملة فهو من الأئمة المجدِّدين لمعالم الدين. أما وفاته فقد أصيب بالحمى والإسهال الشديد حتى توفي في الثالث من شعبان من هذا العام, وقد بلغ من العمر ثمانين سنة. ونظم بعضُهم تاريخه، ورثاه شعراءُ العصر وتأسَّفوا عليه.
كان الخليفةُ المستكفي بالله قد أوصى بالخلافةِ مِن بعده لابنه أحمد، لكِنَّ السلطانَ النَّاصِرَ لم يُمضِ للسلطان عهده, وكان قد بايع لإبراهيمَ بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله ولَقَّبَه بالواثق بالله, وفي يوم الاثنين خامس عشر شعبان طلب الناصِرُ إبراهيمَ الواثق بالله، وأجلسه بجانِبِه وحادَثَه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحُجَّاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطانِ في يوم الاثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاةُ بدار العدل على العادة، فعَرَّفَهم السلطان بما أراد من إقامةِ إبراهيم في الخلافةِ وأمَرَهم بمبايعته، فأجابوا بعَدَمِ أهليَّتِه، وأنَّ المستكفيَ عَهِدَ إلى ولده أحمَدَ بشَهادةِ أربعين عدلًا وحاكِمِ قوص، ويحتاج إلى النَّظَرِ في عهده، فكتب السلطانُ بطلب أحمد وعائلةِ أبيه، وأقام الخُطَباء بديار مِصرَ والشام نحو أربعة أشهر لا يذكُرونَ في خُطَبِهم الخليفة، فلما قَدِمَ أحمد من قوص لم يُمضِ السُّلطانُ عَهْدَه، وطلب إبراهيمَ وعَرَّفَه قُبحَ سِيرتِه، فأظهَرَ التوبةَ منها والتزم بسلوكِ طَريقِ الخير، فاستدعى السلطانُ القضاةَ في يوم الاثنين وعَرَّفَهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يُعَرِّفُه سوءَ أهليَّتِه للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائِبُ من الذنبِ كَمَن لا ذَنبَ له، وقد ولَّيتُه فاشهَدوا عليَّ بولايتِه، ورتَّبَ له السلطانُ ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهمًا وتسعة عشر أردب شعير في كل شهر، فلم يعارِضْه أحَدٌ، وخُطِبَ له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة، ولُقِّبَ بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامَّةُ تسميه المستعطي؛ فإنَّه كان يستعطي من النَّاسِ ما يُنفِقُه، وشُهِرَ بارتكابٍ أمورٍ غَيرِ مَرضِيَّة.
انتصر الجيشُ العثماني بقيادة السلطانِ عبد الحميد الأول على الجيشِ النمساوي الذي يقودُه الإمبراطور جوزيف الثاني، وذلك في معركة "شبش" داخِلَ حدود النمسا. قامت مجموعةٌ مِن كشَّافة الجيش النمساوي بالتقَدُّم؛ لاستطلاعِ موقِفِ الجيش العثماني. وفي طريقِهم وجدوا تجمُّعًا للغجرِ حيث يباعُ الخمرُ، فجَلَسوا وسَكِروا حتي الثمالة. بعد قليلٍ جاءت مجموعةٌ مِن المشاة النمساويين للانضمامِ للمجموعةِ الأولى فرفَضوا انضمامَهم لهم واتَّخذوا وضعَ الدِّفاعِ, ثمَّ عمَّت حالةٌ من الفوضى وصلت إلى المعسكَرِ، وحدث قتالٌ بينهم. كلُّ طرفٍ منهم يظُنُّ أنَّ الطرفَ الآخِرَ هم الأتراكُ، فوقعت حربٌ شديدةٌ بينهم، قُتِلَ منهم أعدادٌ كبيرة، قيل بلغ عددُ القتلى 10 آلاف قتيل, فلما وصل الجيشُ العثماني بقيادة السلطان عبد الحميد الأوَّلِ ومعه الصدرُ الأعظمُ قوجا يوسف باشا تمكَّنَ مِن أسرِ 50 ألفَ نمساوي في هذه المعركةِ التي تعتبر أكبَرَ انتصارٍ حَقَّقه السلطانُ في عهدِه، والذي توفِّيَ بالسكتة القلبية في طريقِ عودتِه قبل وصولِه إسطنبول.
الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة هي حرب دمويَّة وصراعٌ معقَّد استمرَّ في لبنان 15 سنة و6 أشهر ما بين 1975- 1990م، وتعود جذوره للصراعاتِ والتنازلاتِ السياسيَّة في فترة الاستعمار الفرنسيِّ لسوريا ولبنان، وعاد ليثورَ بسبب التغيُّر السكانيِّ (الديمغرافي) في لبنان والنزاع الدينيِّ: الإسلامي النصراني من جهةٍ، والسني الشيعي من جهة أخرى، ومما زاد من حدَّة النزاع تقاربُ هذه العناصر من سوريا أو إسرائيل. وقد ساهَم إنشاءُ دولة إسرائيلَ ونزوحُ مئاتِ الآلاف من اللاجئين الفلسطينيِّين إلى لبنان خلالَ عامي 1948 و1967 في تغيير التوازن الديموغرافي لصالح السكانِ المسلمين. وقد بدأ القتالُ بين الموارنة والقواتِ الفلسطينية (معظمهم من منظمة التحرير الفلسطينية)، ثم شَكَّلت الجماعاتُ اليساريَّة والعربيَّة والإسلاميَّة اللبنانية تحالفًا مع الفلسطينيين خلال فترة القتالِ، وعلاوةً على ذلك شاركت القوى الأجنبية، مثل إسرائيل وسوريا، في الحرب وحاربَت جنبًا إلى جنب مع فصائلَ مختلفةٍ. وبعد توقُّف قصير للمعارك عام 1976م لانعقاد القمَّة العربية عاد الصراع الأهليُّ ليُستكملَ، وعاد ليتركَّز القتالُ في جنوب لبنان بشكل أساسيٍّ، والذي سيطرت عليه بدايةً منظَّمةُ التحريرِ الفلسطينيَّة، ثم قامت إسرائيلُ باحتلالِه. وقد أسفرتْ هذه الحربُ عن مقتل 120 ألفًا، وما يقربُ من 76 ألف شخص مشرَّدين داخلَ لبنان، ومليون نازح خارج لبنان نتيجةَ الحربِ، ولم تسحب سوريا قواتها حتى عام 2005م؛ حيثُ أُجبرت على الانسحاب تحت ضغط المظاهرات اللبنانية والتدخُّل الدبلوماسي المكثَّف من الولايات الأمريكية المتحدة، وفرنسا والأمم المتحدة. وفي أغسطس 1989م تم التوصُّل بوساطة السعودية إلى اتفاق الطائف الذي كان بدايةً لإنهاء الحرب الأهليَّة. ولكن ميشيل عون رفض الاتفاقَ؛ وذلك لأن الاتفاق يقضي بانتشارٍ سوريٍّ على الأراضي اللبنانية، وتم إقصاء ميشيل عون من قصر بعبدا الرئاسيِّ في أكتوبر عام 1990 بعملية لبنانية - سورية مشتركة ومباركة أمريكية؛ حيث اضطر للجوء إلى السفارة الفرنسية، وتوجه من بعدها إلى باريس في منفاه.
هو عبدالله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظليُّ، مولاهم التركيُّ، ثمَّ المروزي، الحافِظُ الغازي، أحدُ الأعلامِ، كان أبوه تركيًّا وأمُّه تركيَّةً، مِن خوارزمَ، وُلِدَ سنة ثماني عشرة ومائة. وطلبَ العِلمَ وهو ابنُ عشرين سنة، أفنى عمُرَه بالأسفارِ، صَنَّفَ الكتُبَ، وجاهَدَ في سبيلِ اللهِ، وجمَعَ الحديثَ والفقهَ والعربيَّةَ وأيَّامَ النَّاسِ، أوَّلُ مَن صنَّفَ في الجهادِ، اشتهَرَ بالزُّهدِ والورعِ، مع تجارتِه، وكان يُنفِقُ على أهلِ العبادةِ والزُّهدِ مِن مالِه، توفِّيَ في مدينة هيت- بين الرحبة وبغداد- مُنصَرِفًا من غزو الرومِ، وعمره 63 سنة، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: "أجمع العُلَماءُ على قَبولِه وجَلالتِه، وإمامتِه وعَدْلِه"، فرَحِمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا.
ظهر الحُسَين بن عليِّ بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينةِ، وذلك أنَّه أصبح يومًا وقد لَبِسَ البياضَ وجلس في المسجدِ النبويِّ، وجاء الناسُ إلى الصلاةِ، فلما رأوه ولَّوا راجعين، والتفَّ عليه جماعةٌ فبايعوه على الكتابِ والسنَّة والرضا من أهل البيت, وكان سببُ خروجِه أنَّ متولي المدينة خرج منها إلى بغداد ليهنِّئ الخليفةَ الهادي بالولايةِ ويعَزِّيه في أبيه. ثم جرت أمورٌ اقتَضَت خروجَه، والتفَّ عليه جماعةٌ وجعلوا مأواهم المسجِد النبوي، ومنعوا النَّاسَ من الصلاة فيه، ولم يُجِبْه أهلُ المدينة إلى ما أراده، بل جعلوا يدعونَ عليه لانتهاكِه المسجِدَ، حتى ذُكِرَ أنَّهم كانوا يَقذرونَ في جَنَبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودةِ مَرَّات، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. ثم ارتحل إلى مكَّةَ فأقام بها إلى زمنِ الحَجِّ، فبعث إليه الهادي جيشًا فقاتلوه بعد فراغِ النَّاسِ مِن الموسِم، فقتلوه وقتلوا طائفةً من أصحابه، وهرب بقيَّتُهم وتفَرَّقوا شَذَر مَذَر, منهم إدريس بن عبدالله الذي أسَّس دولة الأدارسة العلوية بالمغرب, وكان موقِع المعركة يسمَّى فخ بمكَّة عبارة عن فجٍّ من فجاجِها.
لَمَّا رأى الخليفةُ المعتَمِد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمورِ الخلافة، وصار هو الحاكِمَ الآمِرَ الناهي، وإليه تُجلَبُ التقادم وتُحمَل الأموال والخَراج، وهو الذي يُوَلِّي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحَوَّل إليه في مصرَ، ووعده النصرَ والقيامَ معه، فاستغلَّ غَيبةَ أخيه الموفَّق، وركب في جمادى الأولى ومعه جماعةٌ من القواد، وقد أرصد له ابن طولون جيشًا بالرقة يتلقَّونه، فلما اجتاز الخليفةُ بإسحاق بن كنداج نائب الموصل وعامة الجزيرة، اعتقله عنده عن المسيرِ إلى ابن طولون، وفنَّدَ أعيانَ الأمراء الذين معه، وعاتب الخليفةَ ولامَه على هذا الصنع أشَدَّ اللوم، ثم ألزمه العودَ إلى سامرَّا ومن معه من الأمراء، فرجعوا إليها في غاية الذلِّ والإهانة، ولَمَّا بلغ الموفَّقَ ذلك شكَرَ سعيَ إسحاق وولَّاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقيَّة، وكتب إلى أخيه أن يأمنَ ابن طولون في دار العامة، فلم يمكِنْ المعتَمِد إلَّا إجابتُه إلى ذلك، وهو كارِهٌ، وكان ابن طولون قد قطع ذِكرَ الموفَّق في الخُطَب وأسقط اسمَه عن الطرازات.
خلع الخليفةُ الناصر لدين الله على النائبِ في الوزارة: مؤيدِ الدينِ أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ علي- المعروف بابن القصَّاب- خِلَعَ الوَزارةِ، وحَكَم في الولايةِ، وبرز في رمضانَ، وسار إلى بلاد خوزستان، وولي الأعمالَ بها، وصار له فيها أصحابٌ وأصدقاء ومعارف، وعَرَف البلادَ ومِن أيِّ وَجهٍ يُمكِنُ الدخول إليها والاستيلاءُ عليها، فلمَّا وَلِيَ ببغدادَ نيابةَ الوزارة أشار على الخليفةِ بأن يُرسِلَه في عسكر إليها ليملِكَها له، وكان عَزمُه أنَّه إذا ملك البلادَ واستقَرَّ فيها أقام مُظهِرًا للطاعة، مستقِلًّا بالحكم فيها، ليأمَنَ على نفسه، فاتَّفَق أنَّ صاحِبَها ابن شملة توفِّيَ، واختَلَف أولادُه بَعدَه، فراسل بعضُهم مؤيِّدَ الدين يستنجِدُه لِمَا بينهم من الصُّحبة القديمة، فقَوِيَ الطمعُ في البلاد، فجُهِّزَت العساكِرُ وسُيِّرَت معه إلى خوزستان، فوصلها سنةَ إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحابِ البلاد مراسَلاتٌ ومحاربةٌ عَجَزوا عنها، ومَلَك مدينةَ تستر في المحرم، ومَلَك غيرها من البلاد، ومَلَك القلاع، وأنفذ بني شملةَ أصحابَ بلادِ خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.
في هذه السَّنةِ قُتِلَ الأميرُ قشتمر المنصوري نائب حلب، وخبَرُه أنَّه لَمَّا وَلَيَ نيابة حلب في جمادى الآخرة من هذه السنة وتوجَّه إلى حلب، فلم يُقِمْ بها إلا يسيرًا، ثم إن بني كلاب كَثُر فسادُهم وقَطْعُهم الطريقَ فيما بين حماة وحلب، وأخذوا بعضَ الحُجَّاج، فخرج إليهم الأمير قشتمر نائِبُ حلب بالعسكر، حتى أتوا تلَّ السلطان بظاهر حلب، فإذا عدَّةٌ من مضارب عرب آل فضل، فاستاق العسكَرُ جمالَهم ومواشيَهم ومالوا على بيوت العَرَبِ فنهبوها، فثارت العَرَبُ بهم وقاتلوهم، واستنجدوا مَن قَرُب منهم من بنى مهنا، وأتاهم الأميرُ حيار وولده نعير بجمع كبيرٍ، فكانت معركة شنيعة، قُتِلَ فيها الأمير قشتمر النائب وولَدُه وعِدَّة من عسكره، وانهزم باقيهم، فركب العرَبُ أقفِيَتَهم، فلم ينجُ منهم عريانًا إلا من شاء الله، وكان ذلك يومَ الجمعة خامس عشر ذي الحجة، ولما بلغ الملك الأشرف ذلك عَظُمَ عليه، وأرسل تقليدًا للأمير اشقتمر المارديني بنيابة حلب على يد الأمير قطلوبغا الشعباني، وعزل حيارًا عن إمرة العَرَب وولاها لزامِل.
هو الشيخُ الإمام العلَّامة المحقِّق المدقِّق نور الدين أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، من فقهاء الأحناف المشهورين. ولِدَ ببته قرية من بلاد السند ونشأ بها ثم ارتحل إلى تستر، وأخذ بها عن جملة من الشيوخ، كالسيد محمد البرزنجي، والملا إبراهيم الكوراني، وغيرهما، ودرَّس بالحرم الشريف النبوي، واشتهر بالفضل والذكاء والصلاح. استوطن المدينةَ المنورة، برع في علم الحديث، وألَّف مؤلفات نافعة من الحواشي، منها: حاشية على كل من سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وعلى مسند أحمد، وعلى صحيحي البخاري ومسلم، وعلى البيضاوي، وغيرها من المؤلفات التي سارت بها الركبان، وكان شيخًا جليلًا عالِمًا عاملًا ورعًا زاهدًا، ماهرًا محققًا بالحديث والتفسير والفقه والأصول والمعاني والمنطق والعربية، وغيرها، أخذ عنه جملةٍ من الشيوخ، منهم: الشيخ محمد حياة السندي وغيره. كانت وفاته بالمدينة المنورة ثاني عشري شوال، وكان لوفاته مشهد عظيم حضره جمٌّ غفير من الناس حتى النساء، وغُلِّقت الدكاكين، وحمل الولاة نعشَه إلى المسجد النبوي الشريف، وصلِّي عليه به، ودُفِن بالبقيع، وكُثَر البكاءُ والأسفُ عليه.
نشبت الحربُ بين الدولة العليَّة وروسيا؛ وذلك أنه لما توفِّيَ أوغست الثالث ملك بولونيا سعت كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في تعيين أحد أتباعها مَلِكًا على بولونيا خلافًا لِما تعهَّدت به روسيا للدولة العلية؛ ولذلك تنبهت الدولة العلية إلى نتيجةِ هذه السياسة وعَلِمَت أنها إن لم تضَعْ حدًّا لتقدم نفوذ روسيا في بولونيا، فلا تلبث بولونيا أن تُمحى من العالم السياسي بانضمامها لروسيا أو بتجزئتِها بينها وبين مجاوريها، لكن كان تنبُّه الدولة هذا بعد فوات الوقت المناسب، فإنه كان يجِبُ عليها مساعدة السويد وبذْل النفس والنفيس في حفظ ولايتها الواقعةِ على البلطيق من الوقوع في أيدي روسيا، ومع كل هذا فقد أرادت الدولة العليَّةُ استدراك ما فات وأوعزت إلى كريم كراي خان القرم أن يعلِنَ الحرب على روسيا، فأغار بخيله ورَجِلِه على إقليم سربيا الجديدة الذي عمرته روسيا، مع أن المعاهدات التي بينها وبين الدولتين تنصُّ على منع وصول المساعدة من خان القرم إلى بولونيا, وكانت نتيجةُ إغارة كريم كراي على هذه الولاية خرابًا كثيرًا من المستعمرات الروسية، وعودته بكثير من الأسرى، وتوفِّي قبل أن تنتهي الحرب التي استمرت حتى عام 1187هـ.
بعد استقرارِ الأحوال في ألبانيا، أُجريت انتخابات عامة وعلى إثر فوز أنور خوجا بها أُعلنت ألبانيا جمهوريةً شعبية، وأُلغيت الملكية رسميًّا، وأصبح أنور خوجا رئيسًا للبلاد، وما إن أمسك بمقاليد الأمور حتى بادر إلى قطعِ العلاقات مع كلٍّ مِن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وكان أنور خوجا من المعجَبين بستالين: دكتاتور الاتحاد السوفيتي الشيوعي، فوقف إلى جانِبِه حين نشب خلافٌ سنة 1367هـ / 1948م بينه وبين "تيتو" الرئيس اليوغسلافي، على الرغم من مساندة الحزب الشيوعي اليوغسلافي للشيوعيين الألبان في أثناء الاحتلال الإيطالي لبلادِهم، غير أنَّ هذا التأييد الذي أبداه أنور خوجا للسياسة السوفيتية توقَّفَ بعد وفاة ستالين سنة 1373هـ / 1953م، وانتهاج خلفائِه سياسةً مغايرة؛ فتحوَّل التأييد إلى عداءٍ مُستحكم، انتهى بقطع العلاقات بين البلدين في سنة 1381هـ / 1961م، وكان من الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتيجة وقوف "خوجا" إلى جانب الصين في صراعها الأيديولوجي المذهبي ضِدَّ الاتحاد السوفيتي، ثم أعقب ذلك انسحابُ ألبانيا من حلف "وارسو" سنة 1388هـ / 1968م، والتوقُّف عن المشاركة في "الكوميكون"، وهو المجلس المشترك لمساعدة دولة الكتلة الشرقية.
عَمِلَ السلطانُ عبد الحميد على كَسبِ الشعوب الإسلامية عن طريقِ الاهتمامِ بكلِّ مؤسَّساتها الشرعيَّة والعِلميَّة، والتبَرُّع لها بالأموالِ والمِنَح، ورَصد المبالغ الطائلة لإصلاحِ الحَرَمين، وترميمِ المساجِدِ وزَخرفتها، وأخذ السلطانُ يستميل إليه مسلمي العربِ بكلِّ الوسائِلِ، فكوَّن له من العَرَبِ حرسًا خاصًّا، وعيَّنَ بعضَ الموالين له منهم في وظائِفَ كبرى، وأبدى السلطان عبد الحميد اهتمامًا بالغًا بإنشاءِ الخطوطِ الحديديةِ في مختَلِفِ أنحاءِ الدولة العثمانية، مُستهدفًا من ورائها تحقيقَ ثلاثةِ أغراضٍ:
1- ربطُ أجزاءِ الدولة المتباعدةِ مع بعضٍ؛ ممَّا يساعِدُ على نجاح فكرةِ الوَحدةِ العُثمانية، والجامعة الإسلامية، والسيطرة الكاملة على الولاياتِ التي تتطلَّبُ تقويةَ قَبضةِ الدولة عليها.
2- إجبارُ تلك الولاياتِ على الاندماجِ في الدولةِ والخضوعِ للقوانينِ العَسكرية التي تنُصُّ على وجوبِ الاشتراكِ في الدفاعِ عن الخلافةِ بتقديمِ المالِ والرِّجال.
3- تسهيلُ مُهمَّةِ الدفاع عن الدولة في أيَّةِ جبهةٍ من الجبهاتِ التي تتعرَّضُ للعدوانِ؛ لأنَّ مَدَّ الخطوطِ الحديديَّةِ سيُساعِدُ على سرعةِ توزيع القواتِ العثمانية وإيصالِها إلى الجبهاتِ.
وكانت سكةُ حديد الحجاز من أهمِّ الخطوط الحديدية التي أُنشِئت في عهدِ السلطان عبد الحميد؛ ففي سنة 1900م بدأ بتشييدِ خطٍّ حديدي من دمشق إلى المدينة؛ للاستعاضة به عن طريق القوافِلِ الذي كان يستغرِقُ من المسافرين حوالي أربعين يومًا، وطريقِ البحرِ الذي يستغرقُ حوالي اثنى عشر يومًا من ساحلِ الشامِ إلى الحجاز، وكان يستغرِقُ من المسافرين أربعة أو خمسة أيام على الأكثَرِ، ولم يكن الغَرَضُ من إنشاء هذا الخطِّ مجرَّدَ خدمة حجَّاج بيت الله الحرام وتسهيل وصولهم إلى مكَّة والمدينة، وإنما كان السلطان عبد الحميد يرمي من ورائِه أيضًا إلى أهدافٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ؛ فمن الناحية السياسية خَلَق المشروعُ في أنحاء العالم الإسلامي حماسةً دينيةً كبيرةً؛ إذ نشر السلطانُ على المسلمين في كافة أنحاء الأرضِ بيانًا يناشِدُهم فيه المساهمةَ بالتبَرُّع لإنشاء هذا الخط، وقد افتتح السلطانُ عبد الحميد قائمةَ التبرعات بمبلغ (خمسين ألفًا ذهبًا عثمانيًّا من جيبه الخاصِّ) وتقَرَّر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع، وأُسِّست الجمعيَّاتُ الخيرية، وتسابق المسلمون من كلِّ جهةٍ للإعانة على إنشائِها بالأنفُسِ والأموالِ، ورغم احتياجِ المشروع لبعض الفنِّيين الأجانب في إقامة الجسور والأنفاق، فإنَّهم لم يُستخدَموا إلا إذا اشتَدَّت الحاجة إليهم، مع العلمِ بأنَّ الأجانب لم يشتركوا إطلاقًا في المشروع، ابتداءً من محطةِ الأخضر -على بعد 760 كليو مترًا جنوب دمشق- وحتى نهايةِ المشروع؛ ذلك لأنَّ لجنة المشروع استغنت عنهم واستبدلت بهم فنيين مصريين. وبلغ عدد العمال غير المَهَرة عام 1907م (7500) عاملًا. وبلغ إجمالي تكاليف المشروع (4.283.000) ليرة عثمانية. وتم إنشاءُ المشروع في زمنٍ وتكاليف أقلَّ مما لو تعمله الشركات الأجنبية في أراضي الدولةِ العثمانية، وفي أغسطس سنة 1908م وصل الخطُّ الحديدي إلى المدينة المنورة، وكان مفروضًا أن يتِمَّ مَدُّه بعد ذلك إلى مكةَ، لكنْ حدث أن توقَّف العملُ فيه؛ لأنَّ شريف مكة -وهو الحسين بن علي- خشِيَ على سُلطاته في الحجاز من بطشِ الدولة العثمانية، فنهض لعرقلةِ مَدِّ المشروع إلى مكَّةَ، وكانت مقَرَّ إمارتِه وقوَّته. فبقيت نهايةُ الخط عند المدينة المنورة، حتى إذا قامت الحرب العالمية الأولى عَمِلَ الإنجليزُ بالتحالف مع القوات العربية التي انضَمَّت إليهم بقيادة فيصل ابن الشريف حسين بن علي على تخريبِ سكةِ حديد الحجاز، وكان أوَّلُ قطار قد وصل إلى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم 22 (أغسطس) 1908م، وكان بمثابة تحقيقِ حُلمٍ مِن الأحلام بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم كافة؛ فقد اختصر القِطارُ في رحلته التي استغرَقَت ثلاثة أيام، وقطع فيها 814 ميلًا مشقَّاتِ رحلةٍ كانت تستغرق في السابق أكثَرَ من خمسة أسابيعَ، ويسَّرت على المسلمين القيامِ بأداء فريضة الحَجِّ.
قام السلطانُ بايزيد بن مراد الأوَّل بالاتجاه إلى الغَربِ ومحاصرة القُسطنطينية وضَيَّقَ عليها الحصار، لكنَّه لم يستمِرَّ هو في الحصار، بل تركها محاصَرةً مِن قِبَل بعض الجيش، وتوجه هو إلى الأفلاق، وهي الجزء الجنوبي من رومانيا اليوم، وأجبر حاكِمَها على توقيع معاهدة يعتَرِفُ فيها بسيادة العُثمانيين على بلاده، ويدفع كذلك جِزيةً سَنَوية على أن يُبقِيَه حاكِمًا على بلاده بقوانينِه وأنظِمَتِه الخاصة، ولكنَّ بايزيد اضطر للعودةِ إلى الأناضول مسرعًا؛ لأن أمير دولة القرمان علاء الدين لَمَّا وجد السلطان العثماني مشغولًا، وكان قد نَدِمَ على إعطاء جزء من بلاده له، فاستغل الظرفَ وعَبَّأ جنوده وأثار خصومَ السلطان من بعضِ الأمراءِ وهاجم العثمانيِّينَ وأحرز بعض النصر، وأسَرَ أميرَ قُوَّاد العثمانيين في الأناضول، ولكِنَّ السلطان أسرع وهزمه ولاحَقَه حتى أخذه ووليدَه أسرى، وأنهى بذلك دولة القرمان، أمَّا القُسطنطينية فما زالت محاصرةً، وسار السلطانُ إلى البلغار وقد قُتِلَ أميرها سيسمان، فجعل تلك البلاد ولايةً عُثمانية، وأسلم ابنُ الأمير المقتول، فأخذه السلطانُ وجعله واليًا على صامسون.