كان أوَّلَ مَن أظهرَ إسلامَه سبعةٌ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمَّارٌ، وأمُّهُ سُميَّةُ، وصُهيبٌ، وبلالٌ، والمقدادُ، فأمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنعهُ الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأمَّا أبو بكرٍ فمنعهُ بقومِه، وأما سائرهُم فأخذهُم المشركون فألبسوهُم أَدراعَ الحديدِ وصَهروهُم في الشَّمسِ، فما منهُم إلَّا مَن واتاهُم فيما أرادوا وأَوْهَمهُم بذلك إلَّا بلالًا، فإنَّه هانتْ عَليهِ نفسُه في الله عزَّ وجلَّ، وهان على قومِه فأخذوه، وأعطوه الوِلدانَ، فجعلوا يطوفون به في شِعابِ مكَّة، وهو يقولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ. فجعلوا في عُنقهِ حبلًا، ودفعوه إلى الصِّبيانِ يلعبون بهِ، حتَّى أثَّر في عُنقهِ، وكان بلالٌ لبعضِ بني جُمَحٍ، وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تَعذيبهِ أُميَّةُ بنُ خَلفٍ، فكان يُخرجهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهيرةُ، فيَطرَحهُ على ظَهرهِ في بَطحاءِ مكَّة، ثمَّ يأمرُ بالصَّخرةِ العظيمةِ فتوضعُ على صدرهِ. ثمَّ يقولُ له: لا تزالُ هكذا حتَّى تموتَ أو تكفرَ بمحمَّدٍ وتعبدَ اللَّاتَ والعُزَّي. فيقولُ وهو في هذا العذابِ والبلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وكأنَّما كان يزيدُه عذابُه وبلاؤُه إيمانًا فوق إيمانٍ، ورقَّ له أبو بكرٍ حين رآهُ يومًا في هذا الهوانِ الشَّديدِ، فاشتراهُ وأعتقهُ، وأعتقَ معه سِتًّا ممَّن كانوا يُعذَّبون على الإسلامِ.
هو محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، إمامُ أهلِ الحديثِ بلا مُنازِعٍ، صاحِبُ الصَّحيحِ، الذي أجمعت الأمَّةُ على تلِّقيه بالقَبول، وُلِدَ في بخارى، رحل إلى مكَّةَ وبقي فيها فترةً يتلقى العلمَ، طاف البلادَ للحديث يجمَعُ ويحفَظُ، حتى صار إمامَ الحديث وحافِظَه في عصرِه، إمامًا في الجرحِ والتعديلِ، إمامًا في العِلَل. قال ابنُ خُزيمة: "ما رأيتُ تحت أديمِ السَّماءِ أعلمَ بحديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أحفَظَ له مِن محمد بن إسماعيل البخاري"، وكان فقيهًا. بل منهم من فضَّلَه بالفقهِ على الإمام أحمدَ، وعلى ابنِ راهَوَيه، قال الدارمي: "محمَّدُ بن إسماعيل البخاري أفقَهُنا وأعلَمُنا وأغوَصُنا، وأكثَرُنا طلَبًا"، كان البخاريُّ رحمه الله في غايةِ الحياء والشَّجاعة والسَّخاء والورع والزُّهد في الدنيا دارِ الفناء، والرغبةِ في الآخرة دارِ البقاء، رجع إلى بُخارى فطلبه أميرُها أن يوافيَه ليَسمَعَ أولادَه منه فلم يرضَ، فحقَد عليه ونفاه من بُخارى، فخرج إلى خرتنك قريبة من سمرقند، وفيها توفِّيَ عن عمر 62 سنة، توفِّي ليلة الفطر- رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خيرًا.
هو أبو محمَّد الحَجَّاجُ بن يُوسُف الثَّقَفي، قائِدٌ أُمَوِيٌّ، داهِيَة، سَفَّاك، خَطِيب، وُلِدَ وَنَشأَ في الطَّائِف، وانْتَقَل إلى الشَّام فلَحِقَ بِرَوْحِ بن زِنْباع نائِب عبدِ الملك بن مَرْوان فكان في عِدادِ شُرْطَتِه، ثمَّ ما زال يَظهَر حتَّى قَلَّدَهُ عبدُ الملك أَمْرَ عَسْكَرِهِ, ثمَّ أَصبَح والِيًا على العِراق مِن قِبَل عبدِ الملك بن مَرْوان، أَصلَح البِلادَ في العِراق واعْتَنَى بها، وازْدَهَرَت في عَصرِه التِّجارَة والصِّناعَة، وكان مَعروفًا بالظُّلْمِ، وسَفْكِ الدِّماء، وانْتِقاص السَّلَف، وتَعَدِّي حُرُماتِ الله بأَدْنَى شُبْهَة، وقد أَطْبَقَ أَهلُ العِلْم بالتَّارِيخ والسِّيَر على أَنَّه كان مِن أَشَدِّ النَّاس ظُلْمًا، وأَسْرَعِهم للدَّمِ الحَرامِ سَفْكًا، ولم يَحفَظ حُرْمَةَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أَصحابِه، ولا وَصِيَّتَه في أَهلِ العِلْم والفَضْل والصَّلاح مِن أَتْباعِ أَصحابِه. وكان جَبَّارًا عَنيدًا. قالت أَسماءُ بِنتُ أبي بَكْرٍ رضي الله عنها للحَجَّاجِ: إنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حَدَّثَنا «أنَّ في ثَقِيفٍ كَذَّابًا ومُبِيرًا». فأمَّا الكَذَّابُ فقد رَأَيْناهُ -تَعْنِي المُخْتار- وأمَّا المُبِيرُ فأَنت هو. والمُبِيرُ: المُهْلِك، الذي يُسْرِف في إِهْلاكِ النَّاس. نَشأَ الحَجَّاجُ شابًّا لَبِيبًا فَصيحًا بَليغًا حافِظًا للقُرآن، وكان يُكْثِر تِلاوَةَ القُرآن، ويَتَجَنَّب المَحارِم، ولم يَشْتَهِر عنه شَيءٌ مِن التَّلَطُّخ بالفُروج، وإن كان مُتَسَرِّعًا في سَفْكِ الدِّماءِ، كان فيه سَماحَةً بإعطاءِ المالِ لِأَهلِ القُرآن، فكان يُعطي على القُرآن كَثيرًا، ولمَّا مات لم يَتْرُك فيما قِيلَ إلَّا ثلاثمائة دِرْهَم. بَلَغَ ما قَتَل الحَجَّاجُ صَبْرًا مائة ألف وعشرين ألف، قال عنه الذهبي: "نَسُبُّهُ ولا نُحِبُّه؛ بل نُبْغِضُه في الله؛ فإنَّ ذلك مِن أَوْثَقِ عُرَى الإيمان, وله حَسَنات مَغْمورة في بَحْرِ ذُنوبِه، وأَمْرُهُ إلى الله. وله تَوْحِيد في الجُمْلَة، ونُظَراء مِن ظَلَمَةِ الجَبابِرَة والأُمَراء" لمَّا حَضَرتُه الوَفاةُ اسْتَخْلَف على الصَّلاةِ ابنَه عبدَ الله، واسْتَخْلَف على حَربِ الكوفَة والبَصْرَة يَزيدَ بن أبي كَبْشَة، وعلى خَراجِهِما يَزيدَ بن أبي مُسلِم، فأَقَرَّهُما الوَليدُ بعدَ مَوتِه، ولم يُغَيِّر أَحَدًا مِن عُمَّالِ الحَجَّاج.
أمر المهديُّ ببناء القصورِ في طريق مكَّة، وأمر بتوسيعِ القُصور التي كان بناها السفَّاح، كما قام بتجديد الأميال والبِرَك ومصانع المياه، وحفر الرَّكايا؛ كلُّ ذلك تسهيلًا للمسافرينَ في طُرُقِهم، كما أمرَ أن تُقصَّرَ كُلُّ المنابرِ إلى قَدْرِ ارتفاعِ مِنبرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يُزادَ على ذلك.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ غالبِ بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ إلى بني المُلَوَّحِ بِقُدَيْدٍ، وكان بنو المُلَوَّحِ قد قَتلوا أصحابَ بشيرِ بن سُوَيْدٍ، فبُعِثت هذه السَّرِيَّةُ لأَخذِ الثَّأرِ، فشَنُّوا الغارةَ في اللَّيلِ فقَتلوا مَن قَتلوا، وساقوا النَّعَمِ، وطاردَهُم جيشٌ كَبيرٌ مِنَ العَدُوِّ، حتَّى إذا قرب مِنَ المسلمين نزل مَطَرٌ، فجاء سَيلٌ عَظيمٌ حال بين الفَريقين. ونجَح المسلمون في بَقِيَّةِ الانسِحابِ.
استنَكَرت الهيئةُ العالميَّةُ للعُلَماء المسلِمين في رابطةِ العالمِ الإسلاميِّ بشدةٍ عَزْمَ شركةٍ سينمائية إيرانيةٍ إنتاجَ فيلمٍ يجسِّد شخصيَّةَ الرَّسولِ محمد صلى الله عليه وسلم. ودَعَت الهيئةُ في بيانٍ لها الحكومةَ الإيرانيةَ إلى إيقافِ تصويرِ هذا الفيلم ومنعِ عرضِ أيِّ جُزءٍ منه؛ فهي مسؤولة عمَّا يتمُّ في أراضيها، وعليها أن تمنعَ تجسيدَ شُخوصِ الأنبياءِ والرُّسل عليهم السلام، وخاتَمِهم محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه؛ لِمَا في هذا العملِ من تَجرُّؤٍ على مقامِ النُّبوَّةِ لا يليق بشخصِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام ويتعارَضُ مع توقيرِه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8، 9].
في هذه السَّنةِ أظهر المأمونُ أوَّلَ بِدَعِه الشنيعةِ، فأمر مناديًا ينادي: بَرِئَت الذمَّةُ ممَّن ذكر معاويةَ بنَ أبي سفيان بخيرٍ أو فضَّلَه على أحدٍ مِن الصَّحابة، وينادي: إنَّ أفضَلَ الخَلقِ بعد رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليُّ بنُ أبي طالب. وقيل: كان المأمون يبالِغُ في التشيُّعِ، لكنَّه لم يتكلَّمْ في الشَّيخينِ بسُوءٍ، بل كان يترضَّى عنهما ويعتقِدَ إمامتَهما.
قامت العديدُ من الصحفِ العِبريةِ ومن بينها (يديعوت أحرونوت)، و(معاريف) بنشر رسومٍ مُسيئةٍ للرسولِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبادَرَ الفِلَسْطينيونَ بوقفِ اشتراكاتهم في الصحف احتجاجًا على إعادة نشر الرسوم، وأبدَوْا غضبَهم الشديدَ لقيام الصحيفة بنشر تلك الرسومِ، وطالبوها بالاعتذارِ وعدم إعادة نشرِها.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ بَشيرِ بنِ سعدٍ الأَنصاريِّ إلى بني مُرَّةَ بِناحِيةِ فَدَكٍ، في ثلاثين رجلًا. وخرَج إليهم واسْتاقَ الشَّاءَ والنَّعَمَ، ثمَّ رجَع فأَدْركَهُ الطَّلَبُ عند اللَّيلِ، فرَمَوْهُم بالنَّبْلِ حتَّى فَنِيَ نَبْلُ بَشيرٍ وأصحابِه، فقُتِلوا جميعًا إلَّا بَشيرًا، فإنَّه حُمِلَ وبه رَمَقٌ إلى فَدَكٍ، فأقام عند يَهودَ حتَّى بَرَأَتْ جِراحُهُ، فرجَع إلى المدينةِ.
كان هذا النَّصرانيُّ من أهل السويداء قد شَهِدَ عليه جماعةٌ أنَّه سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقد استجار هذا النصرانيُّ بعساف بن أحمد بن حجي أمير آل مري، فاجتمع شيخُ الإسلام تقي الدين ابنِ تيميَّة، والشيخ زين الدين الفارقي شيخُ دار الحديث، فدخلا على الأميرِ عزِّ الدين أيبك الحموي نائبِ السَّلطنة فكَلَّماه في أمرِه فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليُحضِرَه فخرجَا من عنده ومعهما خلقٌ كثيرٌ من الناس، فرأى الناسُ عسَّافًا حين قَدِمَ ومعه الرجلُ فسَبُّوه وشَتَموه، فقال عساف: هو خيرٌ منكم- يعني النصرانيَّ- فرجمَهما الناسُ بالحجارة، وأصابت عسَّافًا ووقعت خبطةٌ قويَّةٌ، فأرسل النائِبُ فطلب الشيخينِ ابنَ تيميَّةَ والفارقيَّ فضرَبَهما بينَ يديه، ورسَمَ عليهما في العذراويَّة، وقَدِمَ النصرانيُّ فأسلَمَ وعُقِدَ مجلسٌ بسَبَبِه، وأثبت بينه وبين الشهودِ عداوةً، فحُقِنَ دمُه، ثم استدعى بالشيخينِ فأرضاهما وأطلقَهما، ولحقَ النصرانيُّ بعد ذلك ببلادِ الحجاز، ثم في السنة التالية اتفق قتلُ عَسَّاف قريبًا من مدينة رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قتَلَه ابنُ أخيه هنالك، وصَنَّف الشيخُ تقي الدين ابن تيميَّةَ بسَبَبِ هذه الواقعةِ كتابَه المشهورَ (الصارمُ المسلول على شاتِمِ الرَّسول).
بَعثَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولَه عبدَ الله بنَ جَحشٍ الأسَديَّ إلى نَخلةَ في رَجبٍ على رأسِ سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا من الهِجرةِ في اثنَيْ عَشَرَ رَجلًا من المُهاجِرين، كلُّ اثنَينِ يَعتَقِبان على بَعيرٍ، فوَصَلوا إلى بَطنِ نَخلةَ يَرصُدون عيرًا لقُريشٍ، وفي هذه السَّريَّةِ سُمِّيَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله كَتَب له كِتابًا، وأمرَه ألَّا يَنظُرَ فيه حتى يَسيرَ يَومَين ثم يَنظُرَ فيه، ولمَّا فَتَح الكِتابَ وَجَد فيه: "إذا نَظَرْتَ في كِتابي هذا، فامْضِ حتى تَنزِلَ نَخلةَ بينَ مكَّةَ والطَّائِفِ فتَرصُدَ بها قُريشًا، وتَعلَمَ لنا من أخبارِهِم"، فقال: سَمعًا وطاعةً، وأخبَرَ أصحابَه بذلك، وبأنَّه لا يَستَكرِهُهم، فمَن أحبَّ الشَّهادةَ فليَنهَض، ومَن كَرِهَ الموتَ فليَرجِع، وأمَّا أنا فناهِضٌ. فمَضَوا كلُّهم.
فلمَّا كان في أثناء الطَّريقِ أضلَّ سعدُ بن أبي وقَّاصٍ وعُتبةُ بن غَزوانَ بعيرًا لهما كانا يَعتَقِبانِه، فتَخَلَّفا في طَلَبِه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ حتَّى نزل بنخلةَ، فمَرَّت به عيرٌ لقُرَيشٍ تَحمِلُ زَبيبًا وأُدمًا وتجارةً فيها عَمرُو بنُ الحَضرَميِّ، وعُثمانُ ونَوفَلُ بنُ عبدِ الله بن المُغيرةَ، والحَكَمُ بنُ كَيسانَ مَولَى بني المُغيرةِ فتَشاوَرَ المسلمون، وقالوا: نحنُ في آخِرِ يَومٍ من رَجَبٍ الشَّهرِ الحَرامِ، فإنْ قاتلناهم، انتَهَكْنا الشَّهرَ الحرامَ، وإن تَرَكناهمُ اللَّيلةَ دَخَلوا الحرمَ، ثمَّ أجمَعوا على مُلاقاتِهم فرَمَى أحدُهم عمرَو بنَ الحَضرَميِّ فقَتَلَه، وأسَروا عُثمانَ والحَكَمَ، وأفلتَ نَوفَلٌ، ثم قَدِموا بالعيرِ والأسيرَينِ، وقد عَزَلوا من ذلك الخُمُسَ، وهو أوَّلُ خُمُسٍ كان في الإسلامِ، وأوَّلُ قتيلٍ في الإسلامِ وأوَّلُ أسيرَينِ في الإسلامِ، وأنكرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم ما فعلوه، واشتَدَّ تَعنُّتُ قُريشٍ وإنكارُهم ذلك، وزَعَموا أنَّهم قد وَجَدوا مَقالًا، فقَالوا: قد أحلَّ مُحمَّدٌ الشَّهرَ الحرامَ، واشتدَّ على المسلمين ذلك، حتى أنزلَ اللهُ تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنةُ أكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
الفَرَزدَق هو هَمَّام بن غالِب التَّميمِي أبو فِراس، له مَواقِف وأَشعار في الذَّبِّ عن آلِ البَيتِ، كان غالِبَ شِعْرِه الفَخْرُ، تُوفِّي وعُمُرُه يُقارِب المِائة. وجَدُّهُ صَعْصَعَة بن ناجِيَة صَحابِيٌّ، وَفَدَ إلى رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان يُحْيِي المَوْءُودَة في الجاهِلِيَّة. قال: الفَرَزدَق وَفَدْتُ مع أبي على عَلِيٍّ، فقال: مَن هذا؟ قال: ابني وهو شاعِرٌ. قال: عَلِّمْهُ القُرآنَ فهو خَيْرٌ له مِن الشِّعْرِ. قال الفَرَزدَق: نَظَر أبو هُريرةَ إلى قَدَمي فقال: يا فَرَزدَق إنِّي أَرَى قَدَمَيك صَغِيرتَين، فاطْلُب لَهُما مَوْضِعًا في الجَنَّة. فقلتُ: إنَّ ذُنوبي كَثيرَة. فقال: لا تَيْأَس. و لمَّا سُئِلَ عن قَيْدٍ في رِجْلِه قال: حَلَفْتُ أن لا أَنْزَعَه حتَّى أَحفَظَ القُرآنَ. قال له بَعضُهم: ألا تَخافُ مِن الله في قَذْفِ المُحْصَنات؟ فقال: واللهِ للهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أُبصِرُ بهما، فكيف يُعَذِّبُني؟. أمَّا جَرير فهو جَريرُ بن عَطِيَّة بن الخَطَفِيِّ، أبو حَزْرَةَ، الشَّاعِر البَصْرِي. اشْتَهَر جَريرٌ بِرِقَّةِ شُعورِه وحُسْنِ خُلُقِه. سَمَّتْهُ أُمُّهُ جَريرًا -وهو الحَبْلُ الغَليظُ- لأنَّ أُمَّهُ رَأتْ وهي حامِل به أنَّها وَلَدَتْ جَريرًا يعني الحَبْلَ، فسَمَّتْهُ بذلك، تُوفِّي وهو ابنُ اثنين وثمانين عامًا، وكان في عَصْرِه مِن الشُّعَراء الذين يُقارَنون به الفَرَزدَق، والأَخْطَل، وكان بين الثَّلاثة تَناظُر بالأَشْعار وتَساجُل، وكان جَريرٌ أَشْعَرَهُم وأَخْيَرَهُم. لمَّا مات الفَرَزدَق وبَلَغ خَبرُه جَريرًا بَكَى وقال: أمَّا والله إنِّي لأَعلَمُ أنِّي قَليلُ البَقاءِ بَعدَه، ولقد كان نَجْمًا واحِدًا وكُلُّ واحِد مِنَّا مَشغولٌ بِصاحِبِه، وقَلَّما مات ضِدٌّ أو صَديقٌ إلَّا وتَبِعَهُ صاحِبُه. وكذلك كان، مات جَريرٌ بَعدَه بِأَشهُر.
هو العبَّاسُ بن عبدِ المُطَّلِب بن هاشمِ بن عبدِ مَنافٍ، أبو الفَضلِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن أكابرِ قُريشٍ في الجاهِليَّةِ والإسلامِ، وجَدُّ الخُلفاءِ العبَّاسيِّين رضِي الله عنه. كان مُحسِنًا لِقومِه، سَديدَ الرَّأيِ، واسعَ العَقلِ، مُولَعًا بإعْتاقِ العَبيدِ، كارِهًا للرِّقِّ، اشْتَرى 70 عبدًا وأَعتَقَهم، وكانت له سِقايةُ الحاجِّ، وعِمارةُ المسجدِ الحرامِ -وهي أن لا يَدَعَ أحدًا يَسُبّ أحدًا في المسجدِ ولا يَقولُ فيه هَجْرًا- أَسلَم قبلَ الهِجرَةِ وكتَم إسلامَه، وأقام بمكَّةَ يَكتُب إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبارَ المشركين، ثمَّ هاجَر إلى المدينةِ، وشَهِدَ وَقعةَ "حُنين" فكان ممَّن ثبَت حين انْهزَم النَّاسُ، وشَهِدَ فَتحَ مكَّةَ، وعَمِيَ في آخرِ عُمُرِهِ، وكان إذا مَرَّ بعُمَرَ في أيَّام خِلافَتِه تَرَجَّلَ عُمَرُ إجلالًا له، وكذلك عُثمانُ، وكانت وَفاتُه في المدينةِ عن عشرةِ أولادٍ ذُكورٍ سِوَى الإناثِ، وله في كُتُبِ الحديثِ 35 حديثًا تَقريبًا، وإليه تُنْسَبُ الدَّولةُ العبَّاسيَّة التي حَكَمت ما يَزيد عن خمسةِ قُرونٍ.
بلغ المهاجرين في الحَبشةِ أنَّ قُريشًا قد أسلمتْ، فرجعوا إلى مكَّة في شوَّالٍ من نفسِ السَّنةِ التي هاجروا فيها، فلمَّا كانوا دون مكَّة ساعةً من نهارٍ وعرفوا جلية الأمرِ رجع منهم مَنْ رجع إلى الحَبشةِ، ولم يدخلْ في مكَّة مِن سائرهِم أحدٌ إلَّا مُستخفِيًا، أو في جِوارِ رجلٍ من قُريشٍ. ثم اشتدَّ عليهِم وعلى المسلمين البلاءُ والعذابُ من قُريشٍ، وسَطَتْ بهِم عشائرُهُم، فقد كان صعبًا على قُريشٍ ما بلغها عَنِ النَّجاشيِّ من حُسنِ الجِوارِ، ولم يرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بُدًّا من أن يُشيرَ على أصحابهِ بالهجرةِ إلى الحَبشةِ مَرَّةً أُخرى. واستعدَّ المسلمون للهجرةِ مَرَّةً أُخرى، حاولتْ قُريشٌ إحباطَ عمليَّةِ الهجرةِ الثَّانيةِ بَيْدَ أنَّ المسلمين كانوا أسرعَ، فانحازوا إلى نَجاشيِّ الحَبشةِ قبلَ أن يُدركوا. هاجر مِنَ الرِّجالِ ثلاثةٌ وثمانون رجلًا، وثماني عشرةَ أو تسعَ عشرةَ امرأةً. فأرسلتْ قُريشٌ عَمرَو بنَ العاصِ، وعبدَ الله بنَ أبي رَبيعةَ قبلَ أن يُسلِما، وأرسلوا معهُما الهدايا المُستطرَفةَ للنَّجاشيِّ ولبَطارِقتِهِ، وبعد أن حضرا إلى النَّجاشيِّ قدَّما له الهدايا، ثمَّ كلَّماهُ فقالا له: أيُّها الملكُ، إنَّه قد ضَوَى إلى بلدِك غِلمانٌ سُفهاءُ، فارقوا دينَ قومهِم، ولم يدخلوا في دينِك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه، لا نعرفُه نحن ولا أنت، وقد بعثَنا إليك فيهِم أشرافُ قومهِم من آبائهِم وأعمامهِم وعشائرهِم؛ لِتردَّهُم إليهِم، فَهُمْ أعلى بهِم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهِم. وعاتبوهُم فيهِ، وقالت البَطارِقةُ: صَدقا أيُّها الملكُ، فأسلِمْهُم إليهِما، فليردَّاهُم إلى قومهِم وبلادهِم. فأرسل النَّجاشيُّ إلى المسلمين، ودعاهُم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصِّدقِ كائنًا ما كان، فقال لهم النَّجاشيُّ: ما هذا الدِّينُ الذي فارقتُم فيه قومَكُم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دينِ أحدٍ من هذه المِلَلِ ؟ قال جعفرُ بنُ أبي طالبٍ -وكان هو المُتكلِّمُ عَنِ المسلمين: أيُّها الملكُ، كُنَّا قومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ المَيتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونُسِئُ الجِوارَ، ويأكلُ مِنَّا القويُّ الضَّعيفَ، وعدَّد له مَحاسنَ ما جاءهُم به صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: فصدَّقناهُ، وآمنَّا بهِ، واتَّبعناهُ على ما جاءنا بهِ من دينِ الله، فعبدنا الله وحدَه، فلم نُشركْ به شيئًا، وحرَّمنا ما حُرِّمَ علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذَّبونا وفَتنونا عن ديننا؛ لِيردُّونا إلى عِبادةِ الأوثانِ من عِبادةِ الله تعالى، وأن نَستحِلَّ ما كُنَّا نَستحِلُّ مِنَ الخبائثِ، فلمَّا قَهرونا وظَلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادِك، واخترناك على مَنْ سِواكَ، ورغِبنا في جِوارِك، ورَجوْنا ألَّا نُظْلَمَ عندك أيُّها الملكُ. فقال له النَّجاشيُّ: هل معك ممَّا جاء به عن الله من شيءٍ؟ فقال له جعفرٌ: نعم. فقال له النَّجاشيُّ: فاقْرأْهُ عليَّ، فقرأ عَليهِ صدرًا من: (سورة مريم) فبكى النَّجاشيُّ حتَّى اخْضَلَّتْ لِحيتُه، وبكتْ أساقِفتُه حتَّى أخْضَلُوا مصاحِفَهُم حين سمِعوا ما تلا عليهِم، ثمَّ قال لهم النَّجاشيُّ: إنَّ هذا والذي جاء به عيسى لَيخرجُ من مِشكاةٍ واحدةٍ، انطلقا، فلا والله لا أُسلِمُهُم إليكُما، ولا يُكادونَ -يُخاطِبُ عَمرَو بنَ العاصِ وصاحبَه- فخرجا، فلمَّا خرجا قال عَمرُو بنُ العاصِ لعبدِ الله بنِ أبي رَبيعةَ: والله لآتينَّهُ غدًا عنهُم بما أَسْتَأْصِلُ به خَضراءَهُم. فقال له عبدُ الله بنُ أبي رَبيعةَ: لا تفعلْ، فإنَّ لهم أرحامًا، وإنْ كانوا قد خالفونا. ولكنْ أصرَّ عَمرٌو على رأيِهِ. فلمَّا كان الغدُ قال للنَّجاشيِّ: أيُّها الملكُ، إنَّهم يقولون في عيسى ابنِ مريمَ قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النَّجاشيُّ يسألهُم عن قولِهم في المَسيحِ ففَزِعوا، ولكنْ أجمعوا على الصِّدقِ، كائنًا ما كان، فلمَّا دخلوا عَليهِ وسألهم، قال له جعفرٌ: نقولُ فيه الذي جاءنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: هو عبدُ الله ورسولُه ورُوحهُ وكَلِمتُه ألقاها إلى مريمَ العذراءِ البَتُولِ. فأخذ النَّجاشيُّ عودًا مِنَ الأرضِ ثمَّ قال: والله ما عَدا عيسى ابنُ مريمَ ما قلتَ هذا العودَ. فتَناخَرتْ بَطارِقتُه، فقال: وإنْ نَخَرْتُم . ثمَّ قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي -والشُّيومُ: الآمِنونَ بلسانِ الحَبشةِ- مَنْ سَبَّكم غَرِم، مَنْ سَبَّكم غَرِم، مَنْ سَبَّكم غَرِم، ما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا من ذهبٍ وإنِّي آذيتُ رجلًا منكُم -والدَّبْرُ: الجبلُ بلسانِ الحَبشةِ- ثمَّ قال لِحاشِيَتِهِ: رُدُّوا عليهِما هَداياهُما فلا حاجةَ لي بها، فوالله ما أخذَ الله مِنِّـي الرِّشـوةَ حين رَدَّ عليَّ مُلكي، فآخذُ الرِّشـوةَ فيــه، وما أطاع النَّاسَ فِيَّ فأُطيعَـهُم فيهِ. قالتْ أمُّ سَلمةَ: فخرجا من عندِه مَقبوحينَ مَردودًا عليهِما ما جاءا بهِ، وأقمنا عندهُ بخيرِ دارٍ مع خيرِ جارٍ.
كان أوَّلَ مَنْ آمنَ بالله ورسولِه خَديجةُ بنتُ خويلدٍ زوجتُه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، ثمَّ أَسلمَ زيدُ بنُ حارثةَ مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد أَسلمَ بدُعاءِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ عُثمانُ بنُ عفَّانَ، والزُّبيرُ بنُ العوَّامِ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وطَلحةُ بنُ عُبيدِ الله، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ, ثمَّ أَسلمَ أبو عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ، وأبو سَلمةَ بنُ عبدِ الأَسدِ، وعُثمانُ بنُ مَظعونٍ، ثمَّ أَخواهُ قُدامةُ وعبدُ الله، وابنُه السَّائبُ بنُ عُثمانَ بنِ مَظعونٍ، وأسماءُ بنتُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وعائشةُ بنتُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وهي صغيرةٌ، ثمَّ أسلمَ خالدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصي، وأسلمتْ معه امرأتُه أُمَيْنَةُ بن بنتُ خلفِ بنِ أَسعدَ الخُزاعيَّةُ، وبلالٌ، وعمَّارُ بنُ ياسرٍ، وأمُّهُ سُميَّةُ، وصُهيبُ بنُ سِنانٍ النَّمَريُّ المعروف بالرُّوميِّ، وعَمرُو بنُ عَبَسةَ السُّلميُّ، وعَمرُو بنُ سعيدِ بنِ العاصي، وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عَمرو بنِ نُفيلٍ، وزوجتُه فاطمةُ بنتُ الخطَّابِ أختُ عُمرَ بنِ الخطَّابِ، وعُميرُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وعبدُ الله بنُ مَسعودٍ، وأخوهُ عُتبةُ بنُ مَسعودٍ، وسَليطُ بنُ عمرٍو العامريُّ، وعيَّاشُ بنُ أبي رَبيعةَ المخزوميُّ، وامرأتُه أسماءُ بنتُ سَلامةَ بن مُخَرِّبَةَ التَّميميَّةُ، ومَسعودُ بنُ رَبيعةَ بنِ عَمرٍو القاريُّ من بني الهُونِ بنِ خُزيمةَ، وهُم القارَةُ، وخُنَيْسُ بنُ حُذافةَ بنِ قَيسِ بنِ عَدِيٍّ السَّهميُّ، وعبدُ الله جَحشٍ الأسَديُّ, تَتِمَّةُ السَّابقين إلى الإيمانِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم: وجعفرُ بنُ أبي طالبٍ، وامرأتُه أسماءُ بنتُ عُميسٍ، وعامرُ بنُ رَبيعةَ العَنَزيُّ، من عَنْزِ بنِ وائلٍ، حَليفُ الخطَّابِ بنِ نُفيلٍ، وأبو أحمدَ بنُ جَحشٍ الأعمى، وحاطبُ بنُ الحارثِ بنِ مَعمرٍ الجُمَحيُّ، وامرأتُه بنتُ المُجَلِّلِ العامريَّةُ، وحطَّابُ بنُ الحارثِ أخوهُ، وامرأتُه فكهية فُكَيْهَةُ بنتُ يَسارٍ، وأخوهما مَعمرُ بنُ الحارثِ بنِ مَعمرٍ الجُمَحيُّ، والمُطَّلِبُ بنُ أَزهرَ بنِ عبدِ عَوفٍ الزُّهريُّ، وامرأتُه رَمْلَةُ بنتُ أبي عَوفٍ السَّهميَّةُ، والنَّحَّامُ واسمُه نُعيمُ بنُ عبدِ الله العَدويُّ، وعامرُ بنُ فُهيرةَ مولًى لأبي بكرٍ الصِّدِّيق، وحاطبُ بنُ عَمرِو بنِ شمسِ بنِ عبدِ وُدٍّ العامريُّ أخو سَليطِ بنِ عَمرٍو، وأبو حُذيفةُ بنُ عُتبةَ بنِ رَبيعةَ، واسمُه مِهْشَمُ بنُ عُتبةَ...