قام الأسطول البرتغالي بقيادة القائد سواريز بالرسو أمام جدَّة بعد أن اجتاز البحرَ الأحمر، وهذه محاولة منهم للوصولِ إلى مكة، وهم يريدون أن يهدِموا الكعبة ومِن ثمَّ يصِلون إلى المدينة، ويريدون أن ينبشوا القبر النبوي الشريف ليُساوموا به على القُدس، وهذا الأمر ليس بأوَّل مرة؛ فقد حاولوا قبل ذلك لكنَّهم فشلوا، وفي هذه الحملة تعرَّض الأسطول البرتغالي إلى عواصِفَ شديدة شتَّتت سفنه, ولما علم بهذا الحصار النائبُ العثماني على مصرَ خيري بك، قام بتوجيه أسطول بحري بقيادة سليمان الريس الرومي، فلما علم سواريز البرتغالي بقدومه انسحب من جدة إلى عدن، ومنها إلى الهند.
غزا مَرْوانُ بن محمَّد بن مَرْوان مِن أرمينية ودخَل أرضَ وارقيس فهرَب وارقيس إلى الحرور ونزَل حِصنَه، فحَصَره مَرْوانُ ونصَب عليه المَجانيقَ، فقَتَل وارقيسَ بعضُ مَن اجتاز به وأَرسلَ رَأسَه إلى مَرْوان، فنَصبَه لأهلِ حِصنِه، فنزلوا على حُكمِه، فقَتَل المُقاتِلَة وسَبَى الذُّرِّيَّة.
هو أبو سعيد آقسنقر البرسقي الغازي، الملقَّب قسيم الدولة سيف الدين، وكان مملوكًا تركيًّا صاحب الموصل والرحبة وتلك النواحي، ملَكَها بعد مودود بن التونتكين، وكان مودود بالموصل وببلاد الشام من جهة السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، فقُتِل مودود سنة 507، وآقسنقر يومئذ شحنة بغداد، كان ولَّاه إياها السلطان محمد في سنة 498، فلما قتل مودود أرسل السلطان محمد البرسقي واليًا على الموصل وأمره بالاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصِل وملكها وغزا، ودفع الفرنج عن حلب وقد ضايقوها بالحصار، فلما استنجد به أهلها، فأجابهم ونادى الغزاة، ولما أشرف على حلب تقهقرت الفرنج، ورتَّب أمور البلد، وأمدَّهم بالغلَّات، ورتَّب بها ابنه فيها، ثم عاد إلى الموصل وأقام بها إلى أن قُتل. وهو من كبراء الدولة السلجوقية، وله شهرة كبيرة بينهم. كان عادلًا حميد الأخلاق، شديد التدين، محبًّا للخير وأهله، مُكرِمًا للفقهاء والصالحين، ليِّنًا حسن المعاشرة، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة؛ يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجِّدًا، عالي الهمة، كان من خيار الولاة, وكان شجاعًا محل ثقة الخلفاء والملوك وتقديرهم. قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة 520، قتله الباطنية في مقصورة الجامع بالموصل، وقيل: إنهم جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحًا؛ وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبَّعَهم وقتل منهم عصبةً كبيرة، وتولى ولَدُه عز الدين مسعود موضِعَه، ثم توفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 521، وملك بعده عماد الدين زنكي بن آقسنقر, وكان من مماليك السلطان طغرلبك أبي طالب محمد، وكان من أمراء السلاجقة المشار إليهم فيها، المعدودين من أعيانهم.
تحرَّكَت بقيَّةُ الزنج في أرض البصرة ونادَوا: يا انكلاي يا منصور، وانكلاي هو ابنُ صاحب الزنج، وسليمانُ بن جامع وأبان بن علي المهلبي، وجماعةٌ من وجوههم كانوا في جيش الموفَّق, فبعث إليهم الموفَّق فقُتِلوا وحُمِلَت رؤوسُهم إليه، وصُلِبَت أبدانُهم ببغداد، وسَكَنَت شرورُهم.
حدوث حَدَثَت زَلزلةٌ عَظيمةٌ ببغداد ارتَجَّت لها الأَرضُ سِتَّ مَرَّاتٍ، وفيها كان مَوتٌ ذَرِيعٌ في الحيواناتِ، بحيث أنَّ بعضَ الرُّعاةِ بخُراسان قام وقتَ الصباحِ لِيَسرَحَ بِغَنَمِه فإذا هُنَّ قد مِتْنَ كُلُّهُنَّ، وجاء سَيْلٌ عَظيمٌ وبَرَدٌ كِبارٌ أَتلَفَ شَيئًا كَثيرًا من الزُّروعِ والثِّمارِ بخُراسان.
لَمَّا ثبت الفرنج في دمياط بثُّوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظُم الخطب واشتدَّ البلاء، وندب السلطانُ الملك الكامل الناسَ وفَرَّقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون النَّاسَ لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع الكاملُ في بناء الحور –خيام من جلد أبيض- والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورةِ، وجهَّزَ الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحرِ إلى عكا وبرزوا من مدينةِ دمياط يريدون أخذَ مصرَ والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، واجتمع الناسُ من أهل مصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ونودِيَ بالنفير العام، وألَّا يبقى أحد, وذكروا أن مَلِكَ الفرنج قد أقطع ديارَ مصر لأصحابه, وأنزل الكامِلُ على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين مرادِهم، وسارت الشواني- ومعها حراقة كبيرة- إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأميرُ بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرةُ عن الفرنج من البر والبحر، وقَدِمَت النجدات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدَدَ الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائفُ لا يحصى لهم عدد فلما تكاملَ جمعُهم بدمياط خرجوا منها، وقد زُيِّنَ لهم سوءُ عمَلِهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليكِ البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات من المسلمين هال الفرنجَ ما رأوا، وكان قدومُ هذه النجدات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفًا، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة- سفن حربية ضخمة- وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضًا بثلاث قطائع فتضعضع الفرنجُ لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصُّلحِ.
قَدِمَ إلى أرض عجلون شخص يُسمَّى عثمان بن أحمد بن عثمان بن محمود بن محمد بن علي بن فضل بن ربيعة، يعرف بابن ثقالة، من فقهاء دمشق، وادعى أنه السفياني، وظهر بقرية الجيدور وحلَّف أهل البلاد وأقطع الإقطاعات، وأمَّر عدة من الناس، وقال: أنا السلطان الملك الأعظم السفياني، فاجتمع عليه خلق كثير؛ من عرب وترك وعشير، بألوية خضر إلى وادي إلياس من جبل عوف بمعاملة عجلون، وبثَّ كتُبَه، ووقَّع عليها تحت البسملة السفياني، ونصها: إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية، الملكية، الإمامية، الأعظمية، الربانية، المحمدية، السفيانية، أعلاها الله تعالى وشرَّفها، وأنفذها في الآفاق، وصرَّفها، ويحضروا بخيلهم ورجالهم وعددهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، ومجاهدين في سبيل الله تعالى، ومقاتلين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه أعلاها الله تعالى. ثم دخل أرض عجلون في تاسع ربيع أول، بعسكر كبير، فيه سلاح دارية، وطبر دارية، فأقطع الإقطاعات، وكتب على القصص، يكتب كما يكتب السلطان، فقَبَّل الناس الأرض بين يديه في ساعة واحدة، وهم زيادة على خمسمائة رجل، في وقتٍ واحد معًا، وخُطِب له على منبر عجلون، فقيل: السلطان الملك الأعظم السفياني، ونادى ببلاد عجلون أن مغلَّ هذه السنة يسامح به الناس فلا يؤخذُ منهم منه، وفيما بعدها يؤخَذُ منهم العشر فقط، ويترك أخذ الخراج وأخذ المكس، فإن حكم التركِ قد بَطَل، ولم يبقَ إلا حكم أولاد الناس، فثار عند ذلك غانم الغزاوي به، وجهز إليه طائفة طرقوه وهو بالجامع وقاتلوه، وقبضوا عليه، وعلى ثلاثة من أصحابه، بعدما ركب وقاتلهم، فاعتُقل الأربعة بقلعة عجلون، وكتب بالخبر إلى السلطان، فنقله إلى قلعه صفد، واعتقله بها.
خرج جَماعةٌ مِن بلاد المغرب يريدون أرضَ مِصرَ لأداء فريضة الحجِّ، وساروا في بحر الملح، فألقَتْهم الريحُ إلى جزيرة صقلية، فأخذهم النصارى وما معهم، وأتَوا بهم إلى مَلِك صقلية، فأوقَفَهم بين يديه وسألهم عن حالِهم، فأخبروه أنَّهم خرجوا يريدون الحَجَّ، فألقَتْهم الريحُ إلى هنا، فقال: أنتم غنيمةٌ قد ساقكم الله إليَّ، وأمَرَ بهم أن يُقَيَّدوا حتى يُباعُوا ويُستَخدَموا في مِهَنِهم! وكان من جُملَتِهم رجلٌ شَريفٌ، فقال له على لسانِ تَرجُمانه: أيُّها المَلِكُ، إذا قَدِمَ عليك ابنُ ملك ماذا تَصنَعُ به؟ قال: أُكرِمُه, قال: وإن كان على غيرِ دينِك؟ قال: وما كرامتُه إلَّا إذا كان على غيرِ ديني! وإلَّا فأهلُ ديني واجِبٌ كرامَتُهم، قال: فإني ابنُ أكبَرِ ملوك الأرضِ، قال: ومَن أبوك؟ قال: عليُّ بنُ أبى طالب رَضِىَ الله عنه، قال: ولم لا قُلتَ: أبي محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم، قال: خشيتُ أن تَشتُموه، قال: لا نَشتُمُه أبدًا. قال: بيِّنْ لي صِدْقَ ما ادَّعَيْتَ به، فأخرَجَ له نِسْبَتَه وكانت معه في رَقٍّ، فأمر بتخليتِه وتخليةِ مَن معه لسَبيلِهم، وجَهَّزَهم!!
لمَّا مَرِض أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضِي الله عنه وأَحَسَّ بِدُنُوِّ أَجَلِه جمَع عددًا مِن الصَّحابة الذين كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُشاوِرهُم وعرَض عليهم أن يُؤمِّروا رجلًا يَرضَوْنهُ في حَياتِه؛ ولكنَّهم لم يَستقِرُّوا على أَمْرٍ، ثمَّ بدَأ يسألُ النَّاس عن عُمَرَ بن الخطَّاب، ثمَّ استَقرَّ رَأيُه على اسْتِخلاف عُمَرَ، فكتَب بذلك كِتابًا نَصُّهُ: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا ما عَهِدَ أبو بكرٍ بن أبي قُحافةَ إلى المسلمين، أمَّا بعدُ، فإنِّي قد اسْتخلَفتُ عليكم عُمَرَ بن الخطَّاب، ولم آلُكُم خيرًا منه. وقال: اللَّهمَّ إنِّي اسْتخلَفتُ على أهلِك خيرَ أهلِك. وبَلَّغَ بذلك النَّاسَ، ورَضوا به، فكانت تلك خِلافة عُمَرَ رضِي الله عنه.
كانت جزيرة جربة مقابل تونس من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غيرَ أن أهلَها طغَوا فلا يدخُلون تحت طاعة السلطان، ويُعرَفون بالفساد وقَطْع الطريق، فخرج إليها جمعٌ من الفرنج، من أهل صقلية، في أسطولٍ كثير وجَمٍّ غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها، واجتمع أهلها وقاتلوا قتالًا شديدًا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، فثبت أهل جربة، فقُتِل منهم بشر كثير، فانهزموا ومَلَك الفرنج الجزيرة، وغَنِموا أموالها وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وهلك أكثَرُ رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفُسِهم أمانًا من رجار ملك صقلية، وافتكُّوا أَسراهم وسَبْيَهم وحريمَهم.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا قَتادةَ بنَ رِبْعِيٍّ رضي الله عنه في سَرِيَّةٍ إلى خَضِرَة؛ وذلك لأنَّ بني غَطَفَانَ كانوا يَحْتَشِدون في خَضِرَة -وهي أرضُ مُحَارِبٍ بِنَجْدٍ- فبعَثهُ صلى الله عليه وسلم في خمسةَ عشرَ رجلًا، فقَتَلَ منهم، وسَبَى وغَنِمَ، وكانت غَيبتُه خمسَ عشرةَ ليلةً.
بعد أن تولَّى المهدي الخلافةَ بعث العباسَ بن محمد على رأسِ جيشٍ إلى بلاد الروم كما أرسل جيشًا آخر إلى بلاد الهند، وكان متَّجهًا بصورة عامة إلى بلاد الروم، حيث ما تنفكُّ الصوائفُ من الثغور فتُغيرُ على أرض الروم، وإن كانت لم تُحدِثْ فتوحات واسعة أو تضمَّ بلادًا جديدة بشكل دائمٍ إلَّا أنَّ الانتصاراتِ كانت كبيرةً، والغنائمُ كثيرةً، والأسرى كذلك.
قدم عسكر من مدينة طرابلس فنازلوا قلعة الكهف ومدينتها وبها إسماعيل بن العجمي أمير الإسماعيلية مدة أيام، حتى أخذوها، وهدموا القلعة حتى سووا بها الأرض، وأنعم على إسماعيل بإمرة في طرابلس، فزالت قلعة الكهف، وكانت إحدى الحصون الإسماعلية المنيعة، وذلك بسعاية ناصر الدين محمد، وحجي، وفرج: أولاد عز الدين الداعي.
خَطَبَ السُّلطانُ طُغرلبك ابنةَ الخليفةِ، فانزَعجَ الخليفةُ من ذلك، وقال: هذا شيءٌ لم تَجْرِ العادةُ بمِثلهِ، ثم طَلَبَ شيئًا كَثيرًا كهَيئةِ الفِرارِ، من ذلك أنه طَلبَ ما كان لِزَوجتِه التي تُوفِّيت من الإقطاعات بأرضِ واسط، و300 ألف دينارٍ، وأن يُقيمَ السُّلطانُ طُغرلبك ببغداد لا يَرحل عنها ولا يومًا واحدًا، فوقعَ الاتِّفاقُ على بعضِ ذلك، وأَرسلَ إليها بمائةِ ألف دينارٍ مع أرسلان خاتون ابنةِ أَخيهِ داودَ وزَوجةِ الخليفةِ، وأشياءَ كثيرةٍ من آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّة، والنِّثارِ والجَواري، ومِن الجواهرِ ألفانِ ومائتي قِطعةٍ، من ذلك سبعمائة قِطعةٍ من جَوهرٍ، وزنُ القِطعةِ ما بين الثلاثِ مَثاقيل إلى المِثقالِ، وأشياءَ أُخرى، فتَمَنَّع الخليفةُ لِفَواتِ بَعضِ الشُّروطِ، فغَضِبَ عَميدُ المُلْكِ الوزيرُ لِمَخدُومهِ السُّلطان، وجَرَت شُرورٌ طويلةٌ اقتَضَت أن أَرسلَ السُّلطانُ كِتابًا يَأمرُ الخليفةَ بانتِزاعِ ابنةِ أَخيهِ السيدة أرسلان خاتون، ونَقلِها من دارِ الخِلافةِ إلى دار المَملكةِ، حتى تَنفصِل هذه القَضيَّة، فعَزَم الخَليفةُ على الرَّحيلِ من بغداد، فانزَعجَ النَّاسُ لذلك، وجاء كِتابُ السُّلطانِ إلى رئيسِ شِحْنَةِ – القَيِّم لِضَبطِ البَلدِ- بغداد برشتق يَأمُره بعدمِ المُراقبةِ وكَثرةِ العَسْفِ في مُقابلةِ رَدِّ أصحابِه بالحِرمانِ، ويَعزِم على نَقلِ الخاتون إلى دارِ المُلْكِ، وأَرسلَ مَن يَحمِلها إلى البلدِ التي هو فيها، كل ذلك غَضَبًا على الخَليفةِ، ووَرَدَت الكُتبُ الكثيرةُ من السُّلطانِ طُغرلبك يشكو من قِلَّةِ إنصافِ الخليفةِ، وعَدمِ مُوافقَتِه له، ويَذكُر ما أَسداهُ إليه من الخيرِ والنِّعَمِ إلى مُلوكِ الأَطرافِ، وقاضي القُضاة الدَّامغاني، فلمَّا رأى الخليفةُ ذلك، وأنَّ السُّلطان أَرسلَ إلى نُوَّابِه بالاحتياطِ على أَموالِ الخليفةِ، كَتبَ إلى السُّلطانِ يُجيبُه إلى ما سألَ، فلمَّا وَصلَ ذلك إلى طُغرلبك فَرِحَ فَرحًا شَديدًا، وأَرسلَ إلى نُوَّابِه أن يُطلِقوا أَملاكَ الخَليفةِ، واتَّفقَت الكَلِمةُ بعدَ أن كادت تَتَفرَّق، فوَكَلَ الخَليفةُ في العَقْدِ، فوَقعَ العَقْدُ بمدينةِ تبريز بحَضرةِ السُّلطانِ طُغرلبك، وعَمِلَ سِماطًا عظيمًا، فلمَّا جيءَ بالمُوكِلة قام لها السُّلطانُ وقَبَّلَ الأرضَ عند رُؤيتِها، ودعا للخَليفةِ دُعاءً كثيرًا، ثم أَوجبَ العَقْدَ على صَداقِ أربعمائة ألف دينارٍ، وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان، ثم بَعثَ ابنةَ أَخيهِ الخاتون زوجةَ الخليفةِ في شوال بتُحَفٍ كثيرةٍ، وجَوهرٍ وذَهَبٍ كَثيرٍ، وجَواهرَ عديدةٍ ثَمينةٍ، وهدايا عَظيمةٍ لأُمِّ العَروسِ وأَهلِها، ولمَّا استَقرَّ السُّلطانُ ببغداد أَرسلَ وَزيرَه عَميدَ المُلْكِ إلى الخليفةِ يُطالِبه بِنَقْلِ ابنتِه إلى دارِ المملكةِ فتَمنَّع الخليفةُ من ذلك وقال: إنَّكم إنَّما سألتُم أن يُعقَد العَقْدُ فقط بحُصولِ التَّشريفِ، والتَزمتُم لها بِعَوْدِ المُطالبةِ، فتَردَّد النَّاسُ في ذلك بين الخليفةِ والسُّلطانِ، وأَرسلَ السُّلطانُ زيادةً على النَّقْدِ مائةَ ألف دينارٍ ومائة وخمسين ألف درهمٍ، وتُحَفًا أُخَرَ، وأشياءَ لطيفةً، فلمَّا كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر سنة455هـ زُفَّت السيدةُ ابنةُ الخليفةِ إلى دارِ المملكةِ، فضُرِبَت لها السُّرادِق من دِجلة إلى دارِ المملكةِ، وضُرِبت الدَّبادِبُ والبُوقاتُ عند دُخولِها إلى الدارِ.
هو السُّلطانُ الشهيدُ الملك المظفر، سيفُ الدين قطز محمود بن عبد الله التركي المعزي. كان أنبَلَ وأخَصَّ مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، ثم صار نائِبَ السلطنة لوَلَدِه المنصور, ثالثِ سلاطين دولة المماليك في مصرَ والشام. كان شابًّا أشقرَ وافِرَ اللحية, فارسًا شجاعًا بطلًا، سائِسًا، دَيِّنًا، حازمًا، حسَنَ التدبيرِ، محَبَّبًا إلى الرعيَّة. كثير الخير ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناسُ يحبُّونَه ويدعون له كثيرًا. هزم التتار، وطهَّر الشام منهم يومَ عين جالوت، وهو الذي كان قَتَلَ فارس الدين أقطاي الجمداري، ويقال: إن قطز ابن أخت السلطان خوارزم شاه جلال الدين، وإنه حُرٌّ واسمُه محمود بن ممدود. لما قُتِلَ أستاذُه المعز عز الدين أيبك قام في توليةِ ولده المنصور علي، فلما سَمِعَ بأمر التتار خاف أن تختَلِفَ الكلمة لصِغَرِ سِنِّ المنصور علي, ودعا إلى نفسه، فبويع في ذي القعدة سنة 657، ثم سار إلى التتار فجعل اللهُ على يديه نصرة الإسلام والمسلمين. وكان اجتماعه مع عدوه في العشر الأخير من رمضان يوم الجمعة، حيث كان فيه نصرُ الإسلام والمسلمين. قال ابن كثير: "لما كان يومُ المعركة بعين جالوت قُتِلَ جوادُه فترجَّلَ وبَقِيَ واقفًا على الأرض ثابتًا، والقتالُ يعمل في المعركة، وهو في موضِعِ القَلبِ، فلما رآه بعضُ الأمراء ترجَّل عن فرسه وحَلَف على السلطان ليركبَنَّها فامتنع، وقال لذلك الأمير: ما كنتُ لأحرِمَ المسلمينَ نَفعَك. ولم يزَلْ كذلك حتى جيءَ له بخيلٍ فرَكِبَه! فلامه بعض الأمراء وقال: يا خوند (يا سيد) لم لا ركبتَ فَرسَ فلان؟ فلو أنَّ بعض الأعداء رآك لقتلَكَ وهلك الإسلامُ بسَبَبِك، فقال: أمَّا أنا فكنتُ أروح إلى الجنة، وأمَّا الإسلامُ فله ربٌّ لا يضيعه، قد قُتِلَ فلان وفلان وفلان حتى عد خَلقًا من الملوك، فأقام للإسلامِ مَن يحفظُه غيرهم، ولم يضيِّع الإسلام", ولما قدم دمشقَ في شوال أقام بها العَدلَ ورتَّبَ الأمور، وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرِجَهم ويطرُدَهم عن حلب، ووعَدَه بنيابتِها فلم يفِ له لما رآه من المصلحةِ، فوقعت الوحشةُ بينهما, فلما فرَغ المظَفَّر من الشام ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الإسلامية في خدمته، كان الأميرُ ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتَّفَق مع جماعةٍ مِن الأمراء على قتله، فلما وصلَ بين القرابي والصالحيَّة ضرب دهليزه وساق خَلفَ أرنب، وساق معه أولئك الأمراءَ فشَفَعَ عنده ركن الدين بيبرس في شيءٍ فشَفَّعَه، فأخذ يده ليُقَبِّلَها فأمسَكَها وحمل عليه أولئك الأمراءُ بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرَسِه ورشقوه بالنشَّاب حتى قتلوه ودفن بالقصر، وكان قُتله يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة، وكانت مُدَّة ملكه من حين عَزَل ابنَ أستاذه المنصور عليِّ بن المعز التركماني إلى هذه المدة، وهي أواخِرُ ذي القعدة نحوًا من سنة، رحمه الله وجزاه عن الإسلامِ وأهله خيرًا.