قَدِمَ يوسفُ الكيمياوي إلى مِصرَ في يوم الخميس سابعَ عشر رمضان، وكان من خبَرِ هذا الرجل أنه كان نصرانيًّا من أهل الكرك فأسلم، ومضى إلى دمشقَ بعدما خَدَع بمدينة صفد الأميرَ بهادر التقوى حتى انخدع له وأتلَفَ عليه مالًا جزيلًا، فلما ظهَرَ له أمْرُه سَجَنه مُدَّةً، ثم أفرج عنه، فاتصَلَ يوسف بالأمير تنكز نائب الشام، وقَصَد خديعته فلم ينخَدِعْ له، وأمر والي دمشق بشَنقِه، فصاح وقال: أنا جيت للسُّلطانِ حتى أملأَ خِزانَتَه ذهبًا وفِضَّة، فلم يجِدْ تنكز بدًّا من إرساله إلى السلطان، فقَيَّده وأركَبَه البريدَ مع بعض ثقاتِه، وكتب بخَبَرِه وحَذَّر منه، فلما اجتمع يوسفُ بالسلطان مال إلى قَولِه، وفَكَّ قَيدَه، وأنزله عند الأمير بكتمر الساق وأجرى عليه الرواتِبَ السَّنِيَّة، وأقام له عِدَّةً مِن الخدم يتولَّون أمره، وخلع عليه، وأحضر له ما طلَبَ من الحوائج لتدبيرِ الصَّنعةِ، حتى تمَّ ما أراده، فحضر يوسف بين يدي السلطان، وقد حضر الفخر ناظِرُ الجيش والتاج إسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقي في عِدَّةٍ من الأمراء، والشيخ إبراهيم الصائغ وعِدَّة من الصواغ، فأوقدوا النَّارَ على بوطقة قد مُلِئَت بالنُّحاسِ والقصدير والفضة حتى ذاب الجميعُ، فألقى عليه يوسفُ شيئًا من صنعته، وساقوا بالنَّارِ عليها ساعةً، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكةُ ذَهَبٍ كأجوَدِ ما يكونُ، زِنَتُها ألفُ مثقالٍ، فأعجَبَ السلطانَ ذلك إعجابًا كثيرًا، وسُرَّ سرورًا زائدًا، وأنعم على يوسف بهذه الألفِ مِثقالٍ، وخلع عليه خِلعةً ثانية، وأركبه فرسًا مُسرَجًا مُلَجَّمًا بكنبوش حرير، وبالغ في إكرامِه، ومكَّنَه من جميع أغراضه، فاتصل به خُدَّام السلطان، وقَدَّموا له أشياء كثيرة مستحسنة، فاستخَفَّ عُقولَهم حتى ملكها بكَثرةِ خُدَعِه، فبذلوا له مالًا جزيلًا، ثم سَبَك يوسف للسلطان سبيكةً ثانية من ذهب، فكاد يطيرُ به فرحًا، وصار يستحضِرُه بالليل ويحادِثُه، فيزيده طَمَعًا ورغبة فيه، فأذِنَ له أن يركب من الخيولِ السُّلطانيَّة ويمضي حيث شاء من القاهرةِ ومصر، فركب وأقبَلَ على اللهو، وأتاه عِدَّةٌ من الناس يسألونَه في أخذِ أموالهم، طمعًا في أن يُفيدَهم الصَّنعةَ أو يُغنيهم منها، فمَرَّت له أوقاتٌ لا يتهيَّأُ لكلِّ أحَدٍ مِثلُها مِن طِيبتِها، ثم إنَّه سأل أن يتوجَّه إلى الكرك لإحضارِ نبات هناك، فأركبه السلطانُ البريد، وبعث معه الأميرَ طقطاي مُقَدَّم البريدية، بعدما كتب إلى نائب غَزَّة ونائب الكرك بخدمتِه وقضاء ما يُرسَم به والقيام بجميع ما يحتاجُ إليه من ديوان الخاص، فمضى يوسفُ إلى الكرك وأبطأ خبَرُه، ثم قَدِمَ وقد ظهر كَذِبُه للسلطان، فضَيَّق عليه وحبسه في القاهرة، ثم إنَّه في عام 731 هرب من السجنِ ثمَّ بعد عدة أشهر وُجِدَ في أحميم فمَثُلَ بين يدي السلطان فسأله عن المال، فقال: عَدِمَ مني، فسأله السلطانُ عن صناعته فقال: كُلُّ ما كنتُ أفعَلُه إنما هو خِفَّةُ يدٍ، فعوقب عُقوبةً شديدة بالضرب، ثم حُمِلَ إلى خزانة شمائل سجن أرباب الجرائم بجوار باب زويلة من القاهرة، فمات ليلة الأحد خامس عشر ذي الحجة، فسُمِّرَ وهو ميت وطيف به القاهرة على جملٍ في يوم الأحَدِ.
سببُ ذلك أنَّ الموفَّقَ لَمَّا توفِّيَ كان له خادمٌ من خواصِّه يقال له: راغب، فاختار الجِهادَ، فسار إلى طرسوس على عَزمِ المُقام بها، فلما وصل إلى الشام سيَّرَ ما معه من دوابَّ وآلاتٍ وخيامٍ وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هو إلى خمارَوَيه ليزورَه، ويُعَرِّفَه عزمَه، فلما لَقِيَه بدمشق أكرَمَه خمارَوَيه وأحَبَّه وأَنِسَ به، واستحيا راغِبٌ أن يطلُبَ منه المسيرَ إلى طرسوس، فطال مُقامُه عنده، فظنَّ أصحابُه أنَّ خمارَوَيه قبَضَ عليه، فأذاعوا ذلك، فاستعظَمَه الناسُ، وقالوا: يَعمِدُ إلى رجلٍ قصَدَ الجهادَ في سبيل الله فيَقبِضُ عليه! ثم شَغَّبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارَوَيه، وقبضوا عليه، وقالوا: لا تزالُ في الحبسِ إلى أن يُطلِقَ ابنُ عَمِّك راغبًا، ونَهَبوا دارَه وهَتَكوا حَرَمَه، وبلغ الخبَرُ إلى خمارَوَيه، فأطْلَعَ راغبًا عليه، وأذِنَ له في المسيرِ إلى طرسوس، فلمَّا بلغ إليها أطلَقَ أهلُها أميرَهم، فلما أطلقوه قال لهم: قبَّحَ اللهُ جِوارَكم، وسار عنها إلى بيت المقدس فأقام به، ولَمَّا سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتِها.
هو المَلِكُ العادِلُ بدرُ الدين سلامش بن الظاهرِ بيبرس بن عبد الله، كان قد بويع بالمُلك بعد أخيه الملِك السَّعيد، وجَعَلَ الملكُ المنصورُ قلاوونَ أتابِكَه وخطَبَ له، وضربَ السكةَ باسمه ثلاثة أشهر، ثم استقَلَّ قلاوون بالمُلكِ لصِغَرِ سِنِّ سلامش وقتَها، فلما عُزِلَ من الحكم بقي خاملًا. كان سلامش من أحسن الناسِ شَكلًا وأبهاهم منظرًا، فقد كان شابًّا مليحًا، تام الشكل، رشيق القدِّ، طويلَ الشعر، ذا حياءٍ وعقل، وقد افتتن به خلقٌ كثير، وكان رئيسًا مهيبًا وقورًا، أرسله السلطانُ قلاوون إلى أخيه الملك السعيد في الكركِ ثم أعادهم إلى القاهرةِ، ولما تملك الملكُ الأشرفُ جَهَّزه وأخاه الملك خضر وأهله إلى مدينة إسطنبول بلاد الأشكري، فمات هناك وهو قريب من عشرين سنة، وبقي أخوه نجم الدين خضر وأهلوهم بتلك الناحية، ويُذكَرُ أن الظاهر بيبرس كان قد اعتقل قلاوون لَمَّا استلم السلطنةَ وأرسله مع أمِّه إلى بلاد الأشكري، فجرى لولده سلامش وأمِّه ما فعَلَه هو بغيره!
تمرَّدَ عِمرانُ بن مجالد الربيعيُّ، وقُريشُ بن التونسي بتونُسَ على إبراهيمَ بنِ الأغلب أميرِ إفريقيَّةَ، واجتمع فيها خلقٌ كثير، وحُصِرَ إبراهيمُ بن الأغلب بالقصرِ وجمعٌ ممَّن أطاعه، وخالفَ عليه أيضًا أهلُ القيروان، فكانت بينهم وقعةٌ وحَربٌ قُتِلَ فيها جماعةٌ مِن رجالِ ابن الأغلب. وقَدِمَ عِمرانُ بنُ مجالد فيمن معه، فدخل القيروانَ عاشر رجب، وقَدِمَ قُريش من تونس عليه، فكانت بينهم وبين ابن الأغلبِ وَقعةٌ في رجب، فانهزم أصحابُ ابن الأغلب، ثم التَقَوا في العشرين منه فانهزموا ثانيةً أيضًا، ثم التقوا ثالثةً فيه أيضًا فكان الظَّفَرُ لابن الأغلب، وأرسل عِمرانُ بن مجالد إلى أسدِ بن الفرات الفقيهِ ليخرُجَ معهم، فامتنع، فعاد الرسولُ يقول له: تخرجُ معنا وإلَّا أرسلتُ إليك من يجُرُّ برِجلِك، فقال أسدٌ للرسول: قل له: واللهِ إن خَرجتُ لأقولنَّ للنَّاسِ إنَّ القاتلَ والمقتولَ في النَّارِ، فتَرَكه.
بعد قَتلِ مُدَّعي النُّصَيرية المهديَّة بساحل الشامِ رسم أن يُبنى بقرى النصيريَّة في كل قريةٍ مَسجِدٌ، وتُعمَل له أرضٌ لعمل مصالحه، وأن يُمنَعَ النُّصيريَّة من الخطابِ وهو أن الصبيَّ إذا بلغ الحُلُمَ عندهم عُمِلَت له وليمةٌ، فإذا اجتمع الناسُ وأكلوا وشَرِبوا حلَّفوا الصبيَّ أربعين يمينًا على كتمانِ ما يُودَعُ مِن المذهب، ثم يُعلِمونَه مذهَبَهم وهو إلهيَّةُ علي بن أبي طالب، وأن الخمر حلالٌ، وأن تناسخ الأرواحِ حَقٌّ، وأن العالمَ قديمٌ، والبعث بعد الموت باطل، وإنكار الجنَّة والنار، وأن الصَّلواتِ خَمسٌ، وهي إسماعيل وحسن وحسين ومحسن وفاطمة، ولا غُسلَ من جنابة، بل ذِكرُ هذه الخمسة يغني عن الغسل وعن الوضوء! وأن الصيام عبارة عن ثلاثين رجلًا وثلاثين امرأة ذَكَروهم في كتبهم، وأنَّ إلهَهم علي بن أبي طالب خلق السموات والأرض، وهو الربُّ، وأن محمدًا هو الحجاب، وسلمان هو الباب، إلى غير ذلك من عقائدهم الفاسدةِ المعروفة في كُتُبِهم وكُتُبِ غَيرِهم ممن كَشَف حقائقَهم!
لما سار الجيش الذي قَدِمَ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقَدِموا دمشق تلقَّاهم الأمير تنكز، ولم يعبأْ تنكز بالأمير أرقطاي مُقَدَّم العسكر لِما في نفسه منه، ومَضَوا إلى حلب، فقدموها في رابع عشر رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكرِ الشام، وقد وصل إلى جعبر ثمَّ ساروا جميعًا يومَ عيد الفطر، ومعهم الأميرُ علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مُقَدَّم على العسكر جميعًا، حتى نزلوا على الإسكندرونة أوَّلَ بلاد سيس، وقد تقَدَّمَهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرينِ حتى جهَّزَ المجانيق والزحَّافات والجسور الحديد والمراكِبَ وغير ذلك لعبور نهر جهان، فقَدِمَ عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعَدَ بتسليم القلاع للسلطان، فلْتُرَدَّ المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس، ولْيَقُمِ العسكر على مدينة إياس حتى يَرِدَ مرسوم السلطان بما يُعتَمَدُ في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكَرُ ابن فرمان فتركوها أوحشَ مِن بطن حمار، فبعث تكفور رسُلَه في البحر إلى دمياط، فلم يأذَن السلطان لهم في القدومِ عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائِبَ الشام بحضورِهم، فعادوا إلى تكفور، فبعث تكفور بهديَّة إلى تنكز نائب الشام، وسأله مَنْعَ العسكر من بلاده، وأنه يسَلِّمُ القلاع التي من وراء نهر جهان جميعًا للسلطان، فكاتب تنكز السلطانَ بذلك، وبعث أوحَدَ المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائِبِ حلب وهو المقَدَّم على العسكر جميعًا بمَنعِ الغارة ورَدِّ الآلات إلى بغراس، فردَّها ألطبغا وركب بالعسكَرِ إلى إياس، فقَدِمَها يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وكانت إياس قد تحصَّنت، فبادر العسكَرُ وزحف عليها بغير أمرِه، فكان يومًا مهولًا، جُرح فيه جماعة كثيرة، واستمَرَّ الحِصارُ إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسين نجارًا وعَمِلَ زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوبِ للزحف، فاشتد القتالُ حتى وصلت الزحَّافات والرجال إلى قريب السورِ، بعدما استُشهِدَ جماعة كثيرة، فترجَّلَ الأمراء عن الخيول لأخذِ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافَوا برسالة نائِبِ الشام، فعادُوا إلى مخَيَّمِهم فبلَّغَهم أوحَدُ المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحالُ على أن يسلموا البلادَ والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسَلَّموا منهم ذلك، وهو مُلكٌ كبير، وبلادٌ كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وإياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر، وغير ذلك. وعلى أن تُسَلَّم إياس بعد ثمانية أيام، فلما كان اليومُ الثامن أرسل تكفور مفاتيحَ القلاع، على أن يُرَدَّ ما سُبِيَ ونُهِبَ من بلاده، فنُودِيَ بِرَدِّ السَّبيِ، فأُحضِرَ كثير منه، وأخرب الجسر الذي نُصِبَ على نهر جهان، وتوجَّه الأمير مغلطاي الغزي فتسَلَّمَ قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سورٌ مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعًا بالعَمَل، وأنفق تكفور على عمارته أربعَمائة ألف وستين ألف دينار، وتسَلَّم العسكر إياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عَمِلَ فيه أربعون حَجَّارًا يومين وليلتين حتى خرج منه حجَرٌ واحد، ثمَّ نُقِبَ البرج وعُلِّقَ على الأخشاب، وأُضرِمَت فيه النار، فسَقَط جميعه، وكان برجًا عظيمًا، بلغ ضمانُه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابًا عن كلِّ يومٍ ألف دينار سوى خَراجِ الأراضي، وكان ببلدة إياس أربعمائة خمَّارة وستمائة بَغِيٍّ، وكان بها في ظاهرها ملَّاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانًا تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان، ثم رحل العسكَرُ عن إياس بعدما قاموا عليها اثنين وسبعين يومًا، فمر نائِبُ حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبَرَ بالعسكر إلى حلب في الرابع عشر من ذي الحجة.
هو أبو المَعالِي عبدُ المَلِكِ ابنِ الشيخِ أبي محمدٍ عبدِ الله بن يوسفَ بن محمدِ بن حيويهِ، الجُوينيُّ، الفَقيهُ الشافعيُّ، المُلَقَّب ضِياءَ الدِّين، المعروف بإمامِ الحَرمَينِ؛ أَعلمُ المُتأخِّرين مِن أَصحابِ الإمامِ الشافعيِّ على الإطلاقِ، المُجْمَع على إِمامَتِه، المُتَّفَق على غَزارَةِ مادَّتِه، وتَفَنُّنِه في العُلومِ من الأُصولِ والفُروعِ والأَدَبِ وغَيرِ ذلك، وُلِدَ في مُحرَّم سَنةَ 419هـ, وقد رُزِقَ مِن التَّوَسُّعِ في العِبارَةِ ما لم يُعهَد مِن غَيرِه، وكان يَذكُر دُروسًا يَقعُ كلُّ واحدٍ منها في عِدَّةِ أَوراقٍ ولا يَتَلَعْثَم في كَلمةٍ منها، وتَفَقَّهَ في صِباهُ على والدِهِ أبي محمدٍ، وكان يُعْجَبُ بِطَبْعِه وتَحصيلِه وجَودَةِ قَريحَتِه، وما يَظهَر عليه من مخايلِ الإقبالِ، فأَتَى على جَميعِ مُصنَّفاتِ والدِه وتَصرَّف فيها، حتى زاد عليه في التَّحقيقِ والتَّدقيقِ. ولمَّا تُوفِّي والدُه قَعَدَ مَكانَه للتَّدريسِ، وإذا فَرغَ منه مضى إلى الأستاذِ أبي القاسمِ الإسكافيِّ الإسفرايني بمَدرسةِ البَيهقيِّ حتى حَصَّلَ عليه عِلْمَ الأُصولِ، ثم سافرَ إلى بغداد ولَقِيَ بها جَماعةً من العُلماءِ، ثم خَرجَ إلى الحِجازِ وجاوَرَ بمكَّةَ أربعَ سِنينَ، ثم انتَقلَ إلى المدينةِ، يُدَرِّسُ ويُفتِي ويَجمَع طُرُقَ المَذهبِ، فلهذا قِيلَ له: إمام الحَرمَين، ثم عادَ إلى نيسابور في أَوائلِ وِلايَةِ السُّلطانِ ألب أرسلان السلجوقي، والوَزيرُ يَومئذٍ نِظامُ المُلْكِ، فبَنَى له فيها المَدرسةَ النِّظاميَّةَ، وتَولَّى الخَطابةَ بها، وكان يَجلِس للوَعظِ والمُناظَرةِ، وظَهرَت تَصانيفُه، وحَضرَ دُروسَه الأكابرُ من الأئمَّةِ وانتَهَت إليه رِياسَةُ الأصحابِ، وفُوِّضَ إليه أُمورُ الأوقافِ، وبَقِيَ على ذلك قَريبًا من ثلاثين سَنَةً غيرَ مُزَاحَمٍ ولا مُدَافَع، مُسَلَّم له المِحرابُ والمِنبرُ والخَطابةُ والتَّدريسُ ومَجلِسُ التَّذكيرِ يومَ الجُمعةِ. تُوفِّي بنيسابور عن 59 عامًا، له من التَّصانيفِ: العديدة ((العقيدة النِّظاميَّة))، و((الشامل)) و((الإرشاد إلى قواطع الأدلة)) في أصول الدين، و((البرهان في أصول الفقه))، وغيرُها من الكُتبِ، وكان من فُقهاءِ الشَّافعيَّة المُبرَزين في الأُصولِ والفِقهِ.
تدفقت بعض القبائل المغربية وخاصة قبائل لمطة إلى الضفة اليسرى لنهر النيجر عند مدينة دندي، وسيطرت هذه القبائل على الزرَّاع من أهل صنغي الذين رحَّبوا بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم، ونجح هؤلاء الوافدون الجدد في تكوين أسرة حاكمة استفادت من علاقاتها التجارية مع غانة وشمال أفريقيا، وكان لهذه العلاقة أثر بعيد في تحويل ملوك صنغي إلى الإسلام وانتشاره في غربي قارة أفريقيا. كانت صنغاي في بداية أمرها دويلة صغيرة تحت حكم مالي غرب نهر النيجر في المنطقة الواقعة شمال بنين وغربي نيجيريا، ثم انتقلت مع نهر النيجر إلى الشمال وانتقلت معها عاصمتها، فكانت في البداية في دندي ثم كوكيا ثم رأى ملوك الصنغاي أن ينقلوا حاضرة ملكهم إلى جاو لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية, ولما كانت الصنغاي تحت حكم مالي قد قدمت رهائن لضمان بقاء خضوعها، ولكن لم يلبث الرهائن وهما ولدا الملك صنغاي زايا سبيًا- وولداه هما علي كولن وسليمان نار- وكانا طفلين يوم أخذا كرهائن، ثم لما كَبِرا استطاعا الفرار من مالي ووصلا إلى جاو وأنقذا مدينتهما من الحامية المالية، وأسَّسا مملكة جديدة أخذت تتوسع على حساب مملكة مالي التي بدأ الضعف يدب فيها، وكان علي كولن أول ملوك الدولة الجديدة، لكنه مات فخلفه أخوه سليمان نار، ثم عادت مملكة صنغاي تتبع اسميًّا لمالي، ولكن ما زال أمر الصنغاي يقوى، وقام ملكهم محمد دوغو بحملة ضد مالي واستطاع أن يتخلص من سيطرة الماليين عليهم، ثم خلفه ابنه سني علي الذي يعد مؤسس مملكة صنغاي المنفصلة؛ حيث احتل مدينة تومبكتو وطرد الطوارق منها، كما أخضع منطقة النيجر كلها مستوليًا على مدينة جني باسطًا نفوذه على منطقة ياتنغا مقر قبائل الموش، فكان هذا العمل إعلان قيام مملكة صنغاي المنفصلة.
بَقِيَت ألبانيا تحت الاحتلالِ الإيطالي نحو أربع سنوات، ثم وقَعَت تحت الاحتلال الألماني، لكِنَّها ما لبثت أن انسحبت منها بعد عام واحد، وكانت الهزائِمُ قد توالت عليها، ولم تجد مفرًّا من تَرْك ألبانيا؛ فتسَلَّم الحكمَ فيها جبهةُ التحرير القومية بقيادة الشيوعيين، وكانت هذه الجبهةُ قد تأسَّست في سنة 1360هـ / 1941م، وقادت حركةَ المقاومة ضِدَّ الغزو الإيطالي والألماني. ولما وضعت الحربُ أوزارَها، وعاد الهدوء إلى ألبانيا؛ أُجريت انتخاباتٌ في سنة 1365هـ أسفرت عن فوز "أنور خوجا" زعيم الحزب الشيوعي الألباني، وأُعلِنَت ألبانيا جمهوريةً شعبية. حكم خوجا بلادَه بالحديد والنار، وفَرَض عليها عزلةً صارمة. وحارب الأديانَ كُلَّها، وأصدر على مدارِ سنواتِ حُكمِه العديدَ من القرارات التي هدفت إلى تجريم ممارسة الشعائر الدينية، وإلى تحويل المساجِدِ إلى متاحفَ ومخازن ومتاجر ومراقِصَ!! وظل أنور خوجا يحكُمُ ألبانيا إحدى وأربعين سنة حتى تُوفي في 20 رجب 1405هـ / 11 إبريل 1985م، عن عمر يناهز السابعة والسبعين، وخلفه "رافر عليا" الذي قام بعددٍ من الإصلاحات، بعد أن هبَّت رياح الحرية في أوربا الشرقية، وشَمِلَت هذه الإصلاحات التي قام بها رفعَ القيود على ممارسة الألبان لشعائِرِهم الدينية، وإعادة فتحِ المساجدِ التي أُغلِقَت من قَبلُ، والموافقة على حرية السفر، والاعتراف بحقِّ كُلِّ مواطن في الحصول على جواز سفر. واتجهت ألبانيا بعد ذلك إلى الانفتاحِ على أوربا والتقارب مع دولها، ورفع القيود عن الاستعمار الأجنبي، وإنهاء الحظر على التعددية الحزبية.
بعد أن قام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ورفضت فرنسا وإنجلترا دفعَ الرسوم على سُفُنِها، وتم الاتفاق مع ثمانية دول أخرى كلُّها من المنتفعين بالقناة؛ تم الاتفاق بينهم على إنشاء هيئةٍ عُرِفَت بهيئة المنتفعين؛ بهدف تولي إدارة القناة مع اعترافهم بسيادة مصر عليها، وأصدر مجلِسُ الأمن قراراتٍ أخرى قبلتها مصر إلَّا أن فرنسا وإنجلترا أصرَّتا على قرار هيئة المنتفعين، وبدأ الاستعدادُ بين هذه الدول بالإضافة إلى إسرائيل على عملٍ عسكري ضِدَّ مصر، وفي يوم 25 ربيع الأول 1376هـ / 29 أكتوبر من يوم الاثنين قامت إسرائيلُ بالهجوم على سيناء وأنزلت المظليين عند ممر متلا، وأرسلت إنجلترا وفرنسا إنذارًا لكل من مصر وإسرائيل بسَحبِ قوَّاتِهما بعيدًا عن القناة بما لا يقِلُّ عن عشرة أميال، وأن قوات فرنسا وإنجلترا ستحتَلُّ النقاط الرئيسة في كلٍّ من بور سعيد والإسماعيلية والسويس لضمان الملاحة بالقناة لجميع سفُنِ العالم، فانسحبت القواتُ المصرية من سيناء وبدأت الغاراتُ على القاهرة، واستمَرَّت يومين، ودمَّرت الطائراتِ المصريةَ بضربة واحدةٍ! كما ازدادت الغاراتُ على بورسعيد، فتقرر الانسحاب منها، وبعد أن توقَّف إطلاقُ النار وانسحبت فرنسا وإنجلترا في جمادى الأولى 1376هـ / 23 ديسمبر، وبعد ثلاثة أشهر انسحبت إسرائيل ولكن بَقِيَت قوة دولية في شرم الشيخ كي تتمكَّن إسرائيل من الملاحة في خليج العقبة، والانطلاق منه إلى البحر الأحمر فشرقي إفريقيا وجنوبي آسيا وشرقيها.
عزل الملكُ المنصورُ نورُ الدين عمر بن علي بن رسول صاحِبُ اليمن الأميرَ فخرَ الدين بن الشلاحِ عن مكَّةَ وأعمالِها، وولَّى محمد بن أحمد بن المسيب على مالٍ يقومُ به وقود عدده مائة فرسٍ كلَّ سنة، فقَدِمَ ابنُ المسيب مكة، وخرج الأميرُ فخر الدين، فسار بنفسِه إلى ابن المسيب وأعاد الجباياتِ والمكوس بمكَّة، وأخذ الصَّدَقةَ الواردة من اليمن، عن مالِ السلطان وبنى حصنًا بنخلةَ يسمى العطشان وحَلَّف هُذيلًا لنَفسِه، ومنع الجندَ النفقةَ فوثب الشريفُ أبو سعد بن علي بن قتادة على ابن المسيب، وقَيَّده وأخذ مالَه، وقال لأهلِ الحرم: إنما فعلتُ به هذا لأني تحقَّقتُ أنه يريد الفرارَ بالمال إلى العراق، وأنا غلامُ مولانا السلطان نور الدين عمر بن رسول والمالُ عندي محفوظٌ والخيلُ والعدد، إلى أن يَصِلَ مرسومه، فلم يكنْ غير أيام، وورد الخبَرُ بموت السلطان نور الدين.
حربُ الاستنزاف تعبيرٌ أطلقه الرئيس جمال عبد الناصر على العمليَّات العسكرية التي كانت تدور بين القوَّات المصرية شَرقَ قناة السويس والقوات الإسرائيلية المحتلَّة لمنطقة سيناء عَقِبَ حربِ الأيام الستة (نكسة حزيران 67) والتي احتلَّت فيها إسرائيلُ الأرضَ العربيةَ في كلٍّ مِن الضَّفَّة الغربية، وقطاع غزة، وهضبة الجولان، وسيناء. وانتهت حربُ الاستنزاف بموافقة عبد الناصر على مبادرة وزير الخارجية الأمريكي روجرز لوقفِ إطلاق النار في 8 أغسطس 1970م. تضمَّنت حربُ الاستنزاف هجماتٍ مُتعدِّدةً ضِدَّ الاحتلال في سيناء وحتى في مناطِقَ خارجَ منطقة الصراع تمامًا، مثل عملية تفجير حفَّار إسرائيلي في المحيط الأطلنطي، ومن أهمِّ عمليات حرب الاستنزاف: عمليةُ ايلات التي تمَّ خلالها الهجومُ على ميناء أم الرشراش الذي أسمَتْه إسرائيل إيلات بعد احتلالِه؛ حيث تمَّ تلغيمُ الميناء، وقَتْلُ عددٍ مِن العسكريين، وإغراقُ بارجة إسرائيلية من قِبَل المصريين بالتعاون مع القوات الأردنية والعراقية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
كان الملك فرديناند قد أظهر للمسلمين في الأيام الأولى من تسليم غرناطة العناية والاحترام حتى كان النصارى يَغيرون منهم ويحسدونهم ويقولون لهم أنتم الآن عند ملكنا أعز وأكرم منا، ووضع عنهم المغارم وأظهر لهم العدل حيلة منه وكيدًا؛ ليغرَّهم بذلك وليثبطهم عن الجواز، فوقع الطمع لكثير من الناس، وظنوا أن ذلك يدوم لهم فاشتروا أموالًا رخيصة وأمتعة أنيقة وعزموا على الجلوس مع النصارى، ثم إن فرديناند أمر الأمير محمد بن علي أبا عبد الله الصغير بالانصراف من غرناطة إلى قرية أندرش من قرى البشرة، فارتحل الأمير محمد بعياله وحشمه وأمواله وأتباعه، فنزل قرية أندرش وأقام بها ينتظر ما يؤمر به، ثم إن الملك فرديناند ظهر له أن يصرف الأمير أبا عبد الله الصغير إلى العدوة فأمره بالجواز وبعث للمراكب أن تأتي إلى مرسى عذرة، واجتمع معه خلق كثير ممن أراد الجواز فركب الأمير محمد ومن معه في تلك المراكب في عزة واحترام وكرامة مع النصارى، وساروا في البحر حتى نزلوا مدينة مليلة من عدوة المغرب، ثم ارتحل إلى مدينة فاس, وكان من قضاء الله وقدره أنه لما جاز أبو عبد الله الصغير وسار إلى مدينة فاس أصاب الناس شدة عظيمة وغلاء مفرِط وجوع وطاعون، واشتد الأمر بفاس حتى فر كثير من الناس من شدة الأمر، ورجع بعض الناس من الذين جازوا إلى الأندلس فأُخبروا بتلك الشدة فقصر الناس عن الجواز, فعزموا على الإقامة والدجن-المداهنة- ولم يجوز النصارى أحدًا بعد ذلك إلا بالكراء والمغرم الثقيل وعُشر المال، فلما رأى فرديناند أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الدجن والاستيطان والمقام في الأوطان أخذ في نقض الشروط التي شرطوا عليه، ولم يزل ينقضها شرطًا شرطًا ويحلها فصلًا فصلًا إلى أن نقض جميعها وزالت حرمة الإسلام عن المسلمين وأدركهم الهوان والذلة، واستطال النصارى عليهم، وفُرِضت عليهم الفروضات وثَقُلت عليهم المغارم، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى، فخرجوا أذلة صاغرين!
أما الأمير أبو عبد الله الصغير فبعد أن لجأ إلى مدينة فاس بالمغرب وسلطانها يومئذ محمد الشيخ الوطاسي المعروف بالبرتغالي، بقي فيها ذليلًا حقيرًا يستعطف الناس إلى أن توفي سنة 940 عن عمر 73سنة.
هو السُّلطان الملك السعيد، ناصر الدين، أبو المعالي محمد بركة خان بن السلطان الملك الظاهر بيبرس وُلِدَ سنة 658 في صفر بالعش من ضواحي القاهرة، وسلطنه أبوه وهو ابن خمس سنين أو نحوها. وبويع بالملك بعد والده وهو ابن ثمان عشرة سنة. وكان شابًّا مليحًا كريمًا، فيه عَدلٌ ولين وإحسان إلى الرعيَّة، ليس في طبعه ظلمٌ ولا عسف، بل يحب الخير وفعله. وكان محببا إلى الرعية، لكنه شاب غِرٌّ لم يحمِلْ أعباء الملك، وعجز عن ضبط الأمورِ فتعصَّبَ أمراء المماليك لذلك وخلعوه من السلطنة، وعملوا محضرًا بذلك، وأطلقوا له سلطنة الكرك فسار إليها بأهله ومماليكه، فلما استقر بها قَصَده جماعةٌ من الناس، فكان يُنعِمُ عليهم ويصلهم، فكثروا عليه بحيث نَفِدَ كثير من حواصِلِه، وبلغ ذلك السلطان الملك المنصور قلاوون الألفي فتأثر منه، مات الملك السعيد بركة خان بالكرك في الحادي عشر من ذي القعدة، وكان قد ركبَ في الميدان فتقنطر عن فَرَسِه وهو يلعب بالكرة، فصدع وحُمَّ أيامًا، ومات وعمره نيف وعشرون سنة، وقيل إنه مات مسمومًا، وورد الخبر بوفاته إلى مصر في العشرين منه، فعمل له السلطان قلاوون عزاءً بالإيوان من قلعة الجبل، وجلس كئيبًا ببياضٍ، وقد حضر العلماء والقضاة والأمراء والوعاظ والأعيان، فكان يومًا مشهودًا، وأقام القراءُ شهرًا يقرؤون القرآن، وكتب إلى أعمال مصر والشام بأن يصلَّى عليه صلاة الغائب، ودُفِنَ عند جعفر الطيار، ثمَّ نقل إلى تربته بدمشق بعد سنة وخمسة أشهر، ودفن عند والده. ووجدت عليه امرأتُه بنت الملك المنصور سيف الدين وجدًا شديدًا، ولم تزل باكية حزينة إلى أن ماتت بعده بمدة. وعندما مات الملك السعيد أقام الأمير ُعلاء الدين أيدغدي الحراني نائب الكرك نجمَ الدين خضر بن الظاهر ملكًا مكان أخيه بالكرك، ولقَّبه الملك المسعود فتحَكَّم عليه مماليكه وأساؤوا التدبير، وفَرَّقوا الأموال ليستجلبوا الناسَ، وحضر إليهم طائفةٌ من البطَّالين فساروا إلى الصلت واستولوا عليها، وبعثوا إلى صرخد فلم يتمَكَّنوا منها، وأتَتْهم العربان وتقربوا إليهم بالنصيحة، وأخذوا مالًا كثيرا من المسعود ثم تسلَّلوا عنه، ولم يزل المسعود في إنفاق المالِ حتى فنيت ذخائر الكرك التي كان المَلك الظاهر قد أعدَّها لوقت الشدة، وبعث المسعودُ إلى الأمير سنقر الأشقر نائب دمشق يستدعيه، فجرد السلطان قلاوون الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك.
هو الأستاذُ الفيلسوف محمد بن زكريا الرازي، من أهلِ الرَّيِّ، فيها تعلَّمَ ونشأ، ثم سافر إلى بغداد, أشهرُ أطبَّاءِ الإسلامِ وأكثَرُهم ابتكارًا، صاحب التصانيف، من أذكياءِ أهلِ زمانِه، كان كثيرَ الأسفارِ، واسِعَ المعرفةِ، مليحَ التأليف، وكان في بصَرِه رطوبةٌ؛ لكثرةِ أكلِه الباقلَّى، عمِيَ آخِرَ عُمُره. قال عنه الذهبي: "أخذَ عن البلخي الفيلسوفِ، فبلغ الغايةَ في علوم الأوائل. نسأل اللهَ العافية". كان في شبيبته يضرِبُ بالعودِ، فلما التحى قال: "كلُّ غناءٍ يخرجُ مِن بين شاربٍ ولحيةٍ لا يُستحسَنُ، فتركه وأقبل على دراسةِ الطِّبِّ والفلسفة بعد الأربعينَ، وعُمِّرَ وبلغ في علومه الغايةَ حتى أشيرَ إليه في الطبِّ"، اشتغل على الطبيبِ أبي الحسن علي بن ربن الطبري الذي كان مسيحيًّا، فأسلم، تولى تدبيرَ مارستان الريِّ ثم رئاسة الأطباءِ في بيمارستان بغداد زمنَ المكتفي، كان واسِعَ الاطِّلاعِ وله مشاركاتٌ في الحساب والكيمياء والفلسفة والفَلَك، وله تصانيفُ كثيرةٌ أكثَرُها في الطبِّ، تُرجِمَ أكثَرُها إلى اللاتينية، منها كتاب الأسرار في الكيمياء، والطب المنصوري، والفصول في الطب، ومقالة في الحصى والكلى والمثانة، وتقسيم العلل، والمدخل إلى الطب، وأشهرها الحاوي في الطب، وكتاب الجدري والحصبة، وغيرها كثير. كان يجلِسُ في مجلسِه للتعليم ودونَه التلاميذُ ودونَهم تلاميذُهم ودونهم تلاميذُ أُخَرُ, فكان يجيءُ الرجُلُ فيَصِفُ ما يجِدُ مِن المرض لأوَّلِ مَن يلقاه من تلاميذِه، فإن كان عندهم علمٌ وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلَّا تكلَّم الرازي في ذلك. كان وافِرَ الحُرمة، صاحِبَ مروءة وإيثار، كريمًا متفضِّلًا بارًّا بالناس، حسن الرأفة بالفقراءِ والأعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجِرايات الواسعة ويُمَرِّضُهم. وللرازي أخبارٌ كثيرة وفوائِدُ متفرقة فيما حصل له من التمَهُّر في صناعة الطب وفيما تفرَّدَ به في مداواة المرضى، وفي الاستدلال على أحوالهم، وفيما خَبَرَه من الصفات والأدوية التي لم يصِلْ إلى عملها كثيرٌ من الأطباء. فكان إمامَ وَقتِه في علم الطبِّ، متقِنًا لهذه الصناعةِ حاذقًا فيها عارفًا بأوضاعِها وقوانينها، والمشارَ إليه في ذلك العصرِ، فتُشَدُّ إليه الرحالُ في أخذها عنه، ومن كلامِه في الطبِّ: "مهما قدرتَ أن تعالجَ بالأغذيةِ، فلا تعالجْ بالأدوية"، "مهما قدرتَ أن تعالجَ بدواءٍ مُفرَد فلا تعالجْ بدواءٍ مركَّب"؛ "إذا كان الطبيبُ عالِمًا والمريضُ مُطيعًا، فما أقلَّ لُبثَ العِلَّة"؛ "عالجْ في أوَّلِ العلَّة بما لا تَسقُط به القُوَّة". توفِّي في بغداد، وقد اختلف كثيرًا في سَنة وفاتِه مع شهرتِه، فقيل: توفِّي سنة 313، وقيل 317، وقيل 320، وقيل 360.