كان ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنَّه أصابته فاقةٌ شديدةٌ فدخل سامرَّا فسأل وصيفًا أن يجري عليه رزقًا فأغلظ له القولَ، فرجع إلى أرض الكوفة فاجتمع عليه خلقٌ من الأعراب، وخرج إليه خلقٌ من أهل الكوفة، فنزل على الفلوجة، وقد كثُرَ الجمع معه، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر نائبُ العراق إلى عامِلِه يأمُرُه بقتالِه، وظهر أمرُه بالكوفة واستحكم بها، والتفَّ عليه خلقٌ من الزيدية وغيرِهم، ثم خرج من الكوفة إلى سوادِها ثم كرَّ راجِعًا إليها، فتلقاه عبد الرحمن بن الخطاب الملقَّب وجه الفلس، فقاتله قتالًا شديدًا، فانهزم وجه الفلس، ودخل يحيى بن عمر الكوفةَ ودعا إلى الرضى من آل محمد، وقوي أمرُه جدًّا، وصار إليه جماعةٌ كثيرة من أهل الكوفة، وتولَّاه أهل بغداد من العامَّة وغيرِهم ممَّن يُنسَبُ إلى التشيُّع، وأحبوه أكثَرَ من كل من خرج قبله من أهل البيتِ، وشرع في تحصيلِ السلاحِ وإعداد آلاتِ الحرب وجَمْعِ الرجال، وقد هرب الحسينُ بن إسماعيل نائبُ الكوفة منها إلى ظاهِرِها، واجتمع إليه أمدادٌ كثيرة من جهة الخليفة مع محمد بنِ عبد الله بن طاهر، واستراحوا وجمَعوا خيولَهم، فلما كان اليومُ الثاني عشر من رجب، أشار من أشار على يحيى بن عمر ممَّن لا رأي له، أن يركَبَ ويناجز الحُسين بن إسماعيل ويكبِسَ جيشه، فركب في جيشٍ كثير من خلقٍ من الفرسان والمشاة أيضًا من عامَّة أهل الكوفة بغير أسلحةٍ، فساروا إليهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا في ظلمة آخر الليل، فما طلع الفجرُ إلَّا وقد انكشف أصحابُ يحيى بن عمر، وقد تقنطَرَ به فرسه، ثم طُعِنَ في ظهرِه فخَرَّ، فأخذوه وحزُّوا رأسَه وحملوه إلى الأمير الحسين بن إسماعيل فبعَثَه إلى ابن طاهر، فأرسله إلى الخليفة من الغدِ مع رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب، فنُصِبَ بسامرَّا ساعة من النهار ثم بُعِثَ به إلى بغداد فنُصِبَ عند الجسر، ولم يمكِنْ نصبُه من كثرة العامَّة فجُعِلَ في خزائن السلاح، وكان الخليفة قد وجَّه أميرًا إلى الحسين بن إسماعيل نائب الكوفة، فلما قُتِلَ يحيى بن عمر دخلوا الكوفة فأراد ذلك الأميرُ أن يضع في أهلِها السيفَ، فمنعه الحسين وأمَّنَ الأسودَ والأبيض، وأطفأ اللهُ هذه الفتنة.
عائشةُ عبد الرحمن (بنتُ الشاطئ) أستاذةٌ جامعيةٌ، وباحثةٌ وكاتبةٌ، وُلدت في مدينة دمياطَ بشمالِ دلتا مصرَ في منتصفِ نوفمبر عامَ 1913م، وهي ابنةٌ لعالمٍ أزهريٍّ، وتعلَّمت وقتَذاكَ في المنزل، وفي مدارس القرآن (الكُتَّابِ)، ومن المنزل حصَلَت على شهادة الكفاءةِ للمُعلِّمات عامَ 1929م، ثم الشهادةِ الثانوية عامَ 1931م، والتحَقَت بجامعة القاهرة لتتخرَّجَ من كلية الآداب قسم اللغة العربية عامَ 1939م، ثم نالت الماجستير بمرتبة الشرف الأُولى عامَ 1941م، وقد تزوَّجت الأستاذ "أمين الخولي" صاحب الصالون الأدبي والفكري الشهير بـ"مدرسة الأُمناء"، وأنجبت منه ثلاثة أبناءٍ، وقد نالت الدكتوراه عامَ 1950م.
أصبحت أستاذةً للتفسير والدراسات العُليا في كلية الشريعة بجامعة القرويين في المغربِ، وأستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة عين شمس بمصرَ، وأستاذ زائر لجامعات أم درمان 1967م والخرطوم، والجزائر 1968م، وبيروت 1972م، وجامعة الإمارات 1981م، وكلية التربية للبنات في الرياض 1975- 1983م، وتدرَّجت في المناصب الأكاديمية إلى أنْ أصبَحَت أستاذًا للتفسير والدراسات العُليا بكلية الشريعة بجامعة القرويين بالمغرب، حيث قامَت بالتدريس هناك ما يُقارب العشرين عامًا.
خاضت عائشة عبد الرحمن معاركَ فكريةً شَهيرةً، واتخذت مواقفَ حاسمةً دفاعًا عن الإسلام، وكان من أبرزها معركتُها ضدَّ التفسير العصري للقرآن الكريم؛ ذَوْدًا عن التراث، ومواجهتُها الشهيرة للبهائيَّة مُسلِّطةً الضوءَ على علاقة البهائيَّة بالصِّهْيَوْنية العالَميَّة.
كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ عَقْدِ صُلحِ الحُديبيةِ بعَث خِراشَ بنَ أُميَّةَ الخُزاعيَّ إلى مكَّةَ، وحمَلهُ على جَملٍ له يُقالُ له: الثَّعلبُ. فلمَّا دخَل مكَّةَ عَقَرَتْ به قُريشٌ وأرادوا قَتْلَ خِراشٍ فمنَعهُم الأَحابيشُ (هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة) حتَّى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فدَعا عُمَرَ لِيَبعثَهُ إلى مكَّةَ، فقال: يا رسولَ الله إنِّي أَخافُ قُريشًا على نَفْسي، وليس بها مِن بني عَدِيٍّ أحدٌ يَمنعُني، وقد عَرفتْ قُريشٌ عَداوتي إيَّاها وغِلْظَتي عليها؛ ولكنْ أَدلُّك على رجلٍ هو أَعزُّ مِنِّي عُثمانَ بنِ عفَّانَ. فدَعاهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبعَثهُ إلى قُريشٍ يُخبِرُهم أنَّه لم يأتِ لحربٍ، وأنَّه جاء زائرًا لهذا البيتِ مُعَظِّمًا لِحُرمَتِه، فخرج عُثمانُ حتَّى أتى مكَّةَ ولَقِيَهُ أَبانُ بنُ سَعيدِ بنِ العاصِ، فنزَل عن دَابَّتِه وحمَله بين يَديه ورَدِف خلفَه وأَجارهُ حتَّى بلَّغَ رِسالةَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فانطلق عُثمانُ حتَّى أتى أبا سُفيانَ وعُظماءَ قُريشٍ فبَلَّغهُم عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أَرسلهُ به، فقالوا لِعُثمانَ: إن شِئتَ أن تَطوفَ بالبيتِ فَطُفْ به. فقال: ما كنتُ لأفعلَ حتَّى يَطوفَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فاحْتبسَتهُ قُريشٌ عندها، فبلَغ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين أنَّ عُثمانَ قد قُتِلَ).قال ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما:كانت بَيعةُ الرِّضوانِ بعدَ ما ذهَب عُثمانُ إلى مكَّةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه اليُمنى: «هذه يدُ عُثمانَ». فضرَب بها على يدِه، فقال: «هذه لِعُثمانَ».
وقال جابرُ بنُ عبدِ الله: كُنَّا يومَ الحُديبيةِ ألفًا وأربعَ مائةٍ، فبايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعُمَرُ آخِذٌ بيدِه تحت الشَّجرةِ، وهي سَمُرَةٌ. وقال لنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ». ثم قال جابرٌ: لو كنتُ أُبصِرُ لأَرَيْتُكُم مَوضِعَ الشَّجرةِ.
وعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ قال: لقد رَأيتُني يومَ الشَّجرةِ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبايِعُ النَّاسَ، وأنا رافعٌ غُصنًا مِن أَغصانِها عن رَأسِه، ونحن أربعَ عشرةَ مائةً. وقدِ اخْتلفتِ الرِّواياتُ في عَددِهم، فقال ابنُ حَجَرٍ: (والجمعُ بين هذا الاختلافِ أنَّهم كانوا أكثرَ مِن ألفٍ وأربعمائةٍ، فمَن قال: ألفًا وخمسمائةٍ جبَر الكَسرَ، ومَن قال: ألفًا وأربعمائةٍ أَلغاهُ).
أغزى الأميرُ محمَّد بن عبد الرحمن إلى أرضِ بنبلونة أحدَ قوَّاده، فخرج في هذه الغزوة خروجًا لم يُخرَجْ قَبلَه مِثله جَمعًا وكثرةً، وكمالَ عِدَّة، وظهورَ هيبةٍ. وكان ابنُ غرسية صاحِبُ بنبلونة إذ ذاك متظافِرًا مع أزدون صاحب جليقية، فأقام هذا القائِدُ يدوِّخُ أرضَ بنبلوبة، متردِّدًا فيها اثنين وثلاثين يومًا، يخرِّبُ المنازل، وينسِفُ الثمار، ويفتح القُرى والحصون. وافتتح في الجملة حِصنَ قشتيل، وأخذَ فيه فرتون بن غرسية المعروف بالأنفر، وقَدِمَ به إلى قرطبة، فأقام بها محبوسًا نحوًا من عشرين سنة، ثم رَدَّه الأميرُ إلى بلده، وعُمرُ فرتون مائة وست وعشرون سنة.
سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقيَّة إلى مدينة باجة من الأندلس، ولَبِسَ السَّواد, وخطبَ للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ، فخرج إليه الأميرُ عبد الرحمن الداخل، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحارَبا أيامًا، فانهزم العلاء وأصحابُه، وقُتِل منهم في المعركة سبعةُ آلاف، وقُتِل العلاء، وأُمِرَ بعضُ التجار بحمل رأسه ورؤوسِ جماعةٍ مِن مشاهير أصحابه إلى القيروان، وإلقائِها بالسوق سرًّا، ففعل ذلك، ثم حُمِلَ منها شيءٌ إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوسِ لواءٌ أسوَدُ وكتاب كتبه المنصورُ للعلاء.
كان وجود الأشراف في المغرب قديمًا, لكن لم يتسنَّ لهم تسلم القيادة إلا في هذه الفترة التي مثَّل الشرفاء فيها سلالة السعديين، والتي جاءت من الجزيرة العربية أواخر القرن الثامن الهجري، وأول من وصل العرش منهم هو محمد المهدي القائم بأمر الله بن عبد الرحمن بن علي، وهو الذي أخرج الوطاسيين نهائيًّا من فاس، ومن جهة أخرى لم تنقطع الهجمات الصليبية من البرتغال والأسبان على السواحل، ومع ذلك استطاع السعديون الحسنيون أن ينشروا نفوذهم في جميع أنحاء المغرب مانعين العثمانيين من مدِّ نفوذهم إليها، ثم إن أمر الأسرة بدأ يضمحل، وخاصة بعد وفاة أحمد العباس بن عبد الملك سنة 1064هـ وكان هناك فرع آخر في المغرب من الأسرة نفسها أعلن دعواه في العرش، ثم إن ولدي محمد الثاني بن محمد الشريف، وهما الرشيد وأبو النصر إسماعيل، أنقذا المغرب من الفوضى وأعاد ثانيهما على الأخص سلطة الشرفاء إلى جميع البلاد بعد أن قضى على سلطات الحكام الصغار وعلى تمردات البربر.
هو الشيخُ الفقيه محمد بن عبد العزيز بن محمد بن مانع الوهيبي التميمي النجدي. ولِدَ في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم سنة 1300 هـ، ولما بلغ السابعةَ أدخله والده الكتاتيبَ؛ ليتعلم بها القرآنَ، ولم يلبث والدُه أن توفِّي، فشرع في القراءةِ على عُلماء بلده، فقرأ على عمِّه الشيخ عبد الله، وعلى الشيخ صالح العثمان القاضي، ولما بلغ الثامنةَ عَشْرة من عمره سافر إلى بغداد، واتصل بالعلامة السيد محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه وعلى ابن عمه السيد علي الألوسي، وقرأ على غيرِهما من مشاهير العلماء ببغداد، فقرأ في النحو والصرف والفقه، والفرائض والحساب، ثم توجَّه إلى مصر فأقام في الأزهر مدةً قرأ فيها على الشيخ محمد الذهبي، ثم سافر إلى دمشق الشام ولازم الشيخ جمال الدين القاسمي، وحضر دروسَ الشيخ بدر الدين محدِّث الشام، وحضر دروس العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار، ثم رجع إلى بغدادَ ولازم القراءةَ على العلامة محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وكثيرًا من الكتب والشروح والرسائل المختصرة، وفي هذه المدة دعاه بعضُ الأكابر من أهل بغداد؛ ليكونَ إمامًا له ويقرأ عليه كتبَ الحديث، فقرأ عليه بعضًا من صحيح البخاري، وجميعَ صحيح مسلم، والجزءَ الأوَّلَ مِن زاد المعاد لابن القيم، والجزءَ الأوَّلَ من مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطَّأ للإمام مالك، وكثيرًا من كتب التاريخ، وقرأ نزهةَ النظر للحافظ ابن حجر، ثم رجع إلى بلده مدينة عنيزة سنة 1329هـ وقرأ على قاضيها الرَّوض المُرْبِع، ثمَّ توجه إلى بلد الزبير سنة 1330هـ وقرأ على الفقيه الحنبلي المشهور في بلدة الزبير محمد العوجان في الفقه الحنبلي والفرائض والحساب، ثم دعاه مُقبل الذكير أحد تجار نجد وأعيانها -المقيمين في البحرين للتجارة- دعاه لمكافحة التنصير، وفتح له لهذا الغرض مدرسة لتعليم علوم الشريعة واللغة سنة 1330هـ، فأقام في البحرين أربعَ سنين شرح في أثنائها العقيدةَ السفارينية، ثم دعاه حاكم قطر عبد الله بن قاسم بن محمد بن ثاني، فتوجَّه إليها في شوال سنة 1334هـ فتولَّى القضاءَ والخطابة والتدريس، ورحل إليه كثيرٌ من الطلاب أخذوا عنه العلمَ في قَطَر، وأقام في قطر أربعًا وعشرين سنة تولى خلالها القضاءَ والفتيا، وتزوَّج في قطر وأنجب أبناءه الثلاثة: الشيخ عبد العزيز، وأحمد، وعبد الرحمن، وأنشأ في قَطَر أوَّلَ مدرسةٍ علمية سنة 1336هـ، واستمرَّت نحو سبعة عشر عامًا. وبَقِيَ في قَطَر إلى صَفَر سنة 1358هـ، فقَدِمَ الأحساءَ ومكث بها إلى شهر جمادى الآخرة، وفي هذه الأثناء قَدِمَ الأحساءَ معالي الوزير ابن سليمان وزير الملك عبد العزيز، فاتصل به وقابله وأشار عليه ابن سليمان أن يقابِلَ الملك عبد العزيز، فقَدِمَ عليه في مدينة الرياض فأكرمه وعيَّنه مدرسًا في الحرم المكي الشريف، فأقام في مكَّةَ واجتمع عليه كثيرٌ من طلاب العلم يقرؤون عليه في الفقه والحديث، والنحو والفرائض، منهم الشيخ عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز بنجد، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف الباهلي، والشيخ البصيلي، والشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لتعليم البنات، والشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، ومن أبرز تلامذته: الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ علَّامة القصيم، وبعد قيامه بواجب التدريس بالمسجد الحرام عيَّنه الملك عبد العزيز زيادةً على ذلك رئيسًا لثلاث هيئات: هيئة تمييز القضايا، وهيئة الأمر بالمعروف، وهيئة الوعظ والإرشاد. وقام بهذه الأعمال إلى جانب قيامِه بالتدريس في المسجد الحرام بعد صلاتَي الفجر والمغرب، وفي عام 1364هـ عيَّنه الملكُ مديرًا للمعارف، وفي سنة 1366هـ أسند إليه رئاسةَ دار التوحيد، ولما شُكِّلت وزارةُ المعارف سنة 1373هـ وعُيِّن الأمير فهد بن عبد العزيز وزيرًا لها نُقِلَ الشيخ ابن مانع مستشارًا برتبة وكيل وزارة إلى عام 1377ه،ـ حيث طلبه حاكِمُ قطر، ولازم الشيخ علي بن الشيخ عبد الله بن قاسم بن ثاني إلى أن توفي رحمه الله ببيروت على إثر عملية جراحية أُجريت له، ونُقِل جثمانه إلى قَطَر ودُفِن بها، وخَلَّف ثلاثة أبناء: عبد العزيز، وأحمد، وعبد الرحمن, ومكتبةً كبيرة حافلة بنوادر الكتب، ومؤلفات كثيرة، منها: ((إقامة الدليل والبرهان بتحريم الإجارة على قراءة القرآن))، و ((تحديث النظر في أخبار الإمام المهدي المنتظر))، و ((إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب))، و ((الأجوبة الحميدة: رسالة تتعلق بالتوحيد))، و ((حاشية على دليل الطالب))، و ((سبل الهدى شرح قطر الندى))، وله ((الكواكب الدرية شرح الدرة المضيئة))، و ((القول السديد فيما يجب لله على العبيد)).
كان المُهَلَّب يُحارِب الأزارِقَة، فجَعلَهُ عبدُ المَلِك بن مَرْوان على خَراجِ الأهوازِ ومَعونَتِها، وسَيَّرَ أخاهُ عبدَ العزيز بن عبدِ الله إلى قَتْلِ الخَوارِج، وسَيَّرَ معه مُقاتِلَ بن مِسْمَع، فخَرَجا يَطلُبان الأزارِقَة، فأتت الخَوارِج مِن ناحِيَة كِرْمان إلى دارِ أبجرد، فأَرسَل قَطَرِيُّ بن الفُجاءَةِ المازنيُّ مع صالحِ بن مُخارِق تسعَمائة فارِسٍ، فأقبلَ يَسيرُ بهم حتَّى اسْتَقْبَل عبدَ العزيز وهو يَسيرُ مَهْلًا على غيرِ تَعْبِيَةٍ، فانْهزَم بالنَّاسِ، ونزَل مُقاتِلُ بن مِسْمَع فقاتَل حتَّى قُتِلَ، وانْهزَم عبدُ العزيز إلى رامَهُرْمُز، فأمَرَ عبدُ الملك أن يَسيرَ إليهم المُهَلَّبُ، وكتَبَ إلى بِشْرِ بن مَرْوان أن يَنْفُذَ له خمسةُ آلافِ رجلٍ، وجاءت الأزارِقةُ إلى الأهوازِ، وسار خالدٌ والمُهَلَّبُ وغيرُهم إليهم، وبقوا عِشرين ليلةً ثمَّ زَحَف خالدٌ إليهم بالنَّاسِ، فرأوا أَمْرًا هالَهُم مِن كَثْرَةِ النَّاسِ، فكَثُرَتْ عليهم الخَيْلُ وزَحَفت إليهم، فانْصَرفوا كأنَّهم على حامِيَةٍ وهُم مُوَلُّون لا يَرَوْن طاقةً بِقَتْلِ جَماعةِ النَّاسِ. فأَرسَل خالدٌ داودَ بن قَحْذم في آثارِهم، وانْصَرف خالدٌ إلى البَصْرَة، وسار عبدُ الرَّحمن إلى الرَّيِّ، وأقام المُهَلَّبُ بالأهوازِ، وكتَب خالدٌ إلى عبدِ الملك بذلك، وبعَث بِشْرٌ عَتَّابَ بن وَرْقاء في أربعةِ آلافِ فارِسٍ مِن أهلِ الكوفَةِ، فساروا حتَّى لَحِقوا داودَ فاجتمعوا، ثمَّ اتَّبَعوا الخَوارِجَ حتَّى هَلَكَتْ خُيولُ عامَّتِهم وأصابَهُم الجوعُ والجُهْدُ، ورجَع عامَّةُ الجَيْشَيْنِ مُشاةً إلى الأهوازِ.
قام شارلِمان ملكُ الفرنجة بالإغارةِ على الأندلس شمالًا، وذلك بالاتِّفاق مع حليفِه سليمان بن يقظان ابن الأعرابي أمير سرقسطة، واستولى على بنبلونه، ثمَّ اتَّجه نحو سرقسطة، فخرج سليمان لاستقبالِه وتسليمه المدينةَ، لكنَّ المدينة أُغلِقَت بوجهِ الجيوشِ، وتسلَّمَ السلطة الحسين بن يحيى الأنصاري، وهو الذي أعان سليمان في الخروجِ على عبد الرحمنِ الداخِلِ، لكنه أحَبَّ الانفرادَ بإمارة سرقسطة، فاضطرَّ شارلمان بالانسحاب، وأخذ معه سليمانَ كرهينةٍ؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّ هذه خُدعةٌ منه في إفشال حملتِه على الأندلس، فتَبِعَ ولداه الجيشَ واستنقذا والدَهما، وعادا ولكنْ بعد فترة قتله يحيى الأنصاري، وأصبح هو أميرَ سرقسطة.
أقام عبدُ الملك بن مَرْوان بدِمشقَ بعدَ رُجوعِه مِن قِنَّسْرين ما شاء الله أن يُقيمَ، ثمَّ سار يُريدُ قَرْقِيسِيا وبها زُفَرُ بن الحارثِ الكِلابيُّ، وكان عَمرُو بن سعيدٍ مع عبدِ الملك، فلمَّا بلَغ بُطْنانَ حَبيبٍ رجَع عَمرٌو ليلًا ومعه حُميدُ بن حُرَيثٍ الكَلبيُّ، وزُهيرُ بن الأَبْرَدِ الكَلبيُّ، فأَتى دِمشقَ وعليها عبدُ الرَّحمن بن أُمِّ الحكمِ الثَّقفيُّ قد اسْتَخلَفَهُ عبدُ الملكِ، فلمَّا بَلغهُ رُجوعُ عَمرِو بن سعيدٍ هرَب عنها، ودَخلَها عَمرٌو فغَلَب عليها وعلى خَزائِنِه، وهَدَم دارَ ابنِ أُمِّ الحكمِ، واجتمع النَّاسُ إليه فخَطَبهم ونَهاهُم ووَعَدهُم، فأصبح عبدُ الملكِ وقد فَقَدَ عَمرًا، فسَألَ عنه فأُخْبِرَ خَبرُه، فرجَع إلى دِمشقَ فقاتَلهُ أيَّامًا، وكان عَمرٌو إذا أُخْرِج حُميدُ بن حُرَيثٍ على الخيلِ أَخرَج إليه عبدُ الملك سُفيانَ بن الأَبْرَدِ الكَلبيَّ، وإذا أُخْرِج عَمرٌو زُهيرُ بن الأبردِ أَخرَج إليه عبدُ الملك حسَّانَ بن مالكِ بن بَحْدَل. ثمَّ إنَّ عبدَ الملك وعَمرًا اصْطَلحا وكَتَبا بينهما كِتابًا وآمَنَهُ عبدُ الملك، فخرَج عَمرٌو في الخيلِ إلى عبدِ الملك فأَقبَل حتَّى أَوْطَأ فَرَسَهُ أَطْنابَ عبدِ الملكِ فانْقَطَعت وسَقَط السُّرادِق، ثمَّ دخَل على عبدِ الملك فاجْتَمَعا، ودخَل عبدُ الملك دِمشقَ يومَ الخميسِ، فلمَّا كان بعدَ دُخولِ عبدِ الملك بأربعةِ أيَّام أَرسَل إلى عَمرٍو: أنِ ائْتِنِي. فلمَّا كان العِشاءُ لَبِسَ عَمرٌو دِرْعًا ولَبِسَ عليها القُباءَ وتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، ودخل عَمرٌو فرَحَّبَ به عبدُ الملك فأَجْلَسَهُ معه على السَّريرِ وجعَل يُحادِثُه طَويلًا، ثمَّ أَوْثَقَهُ وأَمَر بِقَتلِه، ثمَّ تَوَلَّى قَتْلَهُ بِنَفسِه فذَبَحهُ.
حضر جماعةٌ من المغول وافدينَ إلى بلاد الإسلام بعد إسلامِهم، نحو مائتي فارس بنسائِهم وأولادهم، وفيهم عِدَّةٌ من أقارب غازان وبعض أولاد سنقر الأشقر، الذي كتب يحُثُّ على إكرامهم، فقَدِموا إلى القاهرة في جمادى الأولى وقَدِمَ معهم أخوا سلار، وهما فخر الدين داود، وسيف الدين جبا، وقَدِمَت أيضًا أم سلار، فرُتِّبَت لهم الرواتب، وأُعطوا الإقطاعات، وفُرِّق جماعةٌ منهم على الأمراء، وأنشأ سلار لأمِّه دارًا بإسطبل الجوق الذي عَمِلَه العادل كتبغا ميدانًا، ثم عرف بحكر الخازن، ورقَّى أخويه وأعطاهما الإمريات، وقدم الأمير حسام الدين أزدمر المجيري، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن معرف بن السكري، من بلاد الشرق إلى دمشقَ في الرابع عشر من شعبان، ودخلا القاهرةَ أول رمضان، ومعهما كتابُ خربندا وهديته، فتضَمَّن كتابُه جلوسَه على تخت الملك بعد أخيه محمود غازان، وخاطب السلطانَ بالأخوة، وسأل إخماد الفتن، وطلب الصلحَ، وقال في آخر كلامه: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، فأُجيبَ وجُهِّزَت له الهَديَّةُ، وأُكرِمَ رَسولُه.
كان إبراهيم بن محمَّد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب المعروف "بابن الصوفي العَلَوي" قد ظهر بمصر سنة ست وخمسين، فدعا لنفسه ثم هرب إلى الواحات، ثم عاد هذا العام، فدعا الناسَ إلى نفسه، فتَبِعَه خلق كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فوُجِّه إليه جيش عليهم قائد يعرف بابن أبي الغيث، فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمري، فلما وصل العَلَوي إلى العُمري التقيا، فكان بينهما قتالٌ شديد، أجْلَت الوقعةُ عن انهزام العلوي، فولى منهزمًا إلى أسوان، فعاث فيها وقطع كثيرًا من نَخلِها. فسيَّرَ إليه ابن طولون جيشًا، وأمرهم بطلبه أين كان، فسار الجيش في طلبه، فولى هاربًا إلى عيذاب، وعبَرَ البحر إلى مكَّة، وتفَرَّق أصحابه، فلما وصل إلى مكة بلغ خبَرُه إلى واليها فقبض عليه وحبَسَه، ثم سيَّرَه إلى ابن طولون، فلما وصلَ إلى مصر أمر به فطِيفَ به في البلد، ثم سجَنَه مُدَّة وأطلقه، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
في بنغلادش أخذ الفريق أول ضياء الرحمن يستولي على سُلُطات الرئيس الإدارية من الرئيس عبد الستار محمد صايم تبعًا للأحكام العسكرية، حتى تسلَّم أخيرًا كامل السُّلطة، وأعلن نفسه رئيسًا للبلاد وقام بجعل الإسلام نظامَ الدَّولة الأساسي بدلًا من العلمانية؛ إرضاءً للشعب؛ حيث كانوا يعرفون ماضيَه السيِّئ.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالم شهابُ الدين أبو العباس أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود الأذرعي الشافعي، نزيلُ حَلَب، وُلِدَ سنة 707، وتفَقَّه بدمشق قليلًا، وناب في بعض النواحي في الحُكمِ بها، ثم تحوَّل إلى حلب فقَطَنَها، وناب في الحُكم بها، ثم ترك وأقبَلَ على الاشتغال والتصنيف والفتوى والتدريس، وجمع الكتبَ حتى اجتمع عنده منها ما لم يحصُلْ عند غيره، وظَفِرَ من النقولِ ما لم يحصُلْ لأهل عصره، وذلك بيِّنٌ في تصانيفه، وتعَقَّب "المهمات" للإسنوي بقدر حَجمِها، والذي بيَّضَه منها إلى النكاح في أربع مجلداتٍ، وهو ثَبْتٌ في النقل وسَطٌ في التصرفات، قاصِرٌ في غير الفقهِ، وأجاز له القاسم بن عساكر والحجَّار وغيرهما، وسمع من الكمال بن عبد وطائفة، وجمع له شهاب الدين بن حجي مشيخة، وتفقه بشيوخ عصره ومهر في الفن، وكان اشتغالُه على كِبَر، وكان عديمَ النَّظِير، فقيهًا عالِمًا، وسأل السبكي أسئلةً شهيرة اسمها الحلبية، وصنف شرحين على المنهاج، وجمع على الروضة كتابًا سماه التوسط والفتح بين الروضة والشرح، أكثَرَ فيه من النقولاتِ المفيدة، وانتهت إليه رئاسةُ العلم بحلب، مات بها في نصف جمادى الآخرة عن نيف وسبعين سنة بعد أن حصل له عَرَجٌ وقليلُ صَمَمٍ وضَعفُ بَصَر، وله شِعرٌ، فمنه ما حكاه ابنه عبد الرحمن عنه.
فارق الرَّاشِدُ باللهِ الخليفةَ المخلوعَ أتابك زنكي من الموصِل وسارَ نحو أذربيجان، فوصَلَ مراغةَ، وكان الأميرُ منكبرس صاحِبُ فارس، ونائبُه بخوزستان الأميرُ بوزابة، والأميرُ عبدُ الرَّحمنِ طغايرك صاحِبُ خلخال، والمَلِكُ داود بن السُّلطان محمود؛ مُستشعرينَ مِن السُّلطانِ مَسعود، خائفينَ منه، فتجَمَّعوا ووافَقوا الرَّاشِدَ على الاجتِماعِ معهم؛ لتَكونَ أيديهم واحدةً، ويَرُدُّوه إلى الخِلافةِ، فأجابهم إلى ذلك إلَّا أنَّه لم يجتَمِعْ معهم، ووصل الخبَرُ إلى السُّلطانِ مَسعود وهو ببغدادَ باجتماعِهم، فسار عنها في شعبانَ نَحوَهم، فالتَقَوا ببنجن كشت، فاقتتلوا، فهزمهم السُّلطانُ مسعود، وأخذ الأميرَ منكبرس أسيرًا فقُتِلَ بين يديه صَبرًا، وتفَرَّقَ عَسكَرُ مسعود في النَّهبِ واتِّباع المنهزمين، وكان بوزابة وعبدُ الرحمن طغايرك على أرضٍ مُرتفعةٍ فرأيا السُّلطانَ مسعودًا وقد تفَرَّقَ عَسكَرُه عنه، فحَمَلا عليه وهو في قِلَّةٍ فلم يَثبُت لهما وانهزَم، وقَبَض بوزابة على جماعةٍ مِن الأمراء: منهم صَدَقةُ بنُ دبيس صاحِبُ الحلة، ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحِبُ أذربيجان، وعنتر بن أبي العَسكَر وغيرُهم، وتَرَكَهم عنده. فلما بلغه قتلُ صاحبه منكبرس قتلهم جميعًا وصار العَسكران مهزومَينِ، وقصد السُّلطانُ مسعود أذربيجان، وقصد المَلِكُ داود همذان، ووصل إليها الرَّاشِدُ بعد الوقعةِ، فاختَلَفت آراءُ الجماعة، فبَعضُهم أشار بقَصدِ العِراقِ والتغَلُّب عليه، وبعضُهم أشار باتِّباعِ السُّلطانِ مَسعود للفراغِ منه؛ فإنَّ ما بعده يَهونُ عليهم. وكان بوزابة أكبَرَ الجماعةِ فلم يَرَ ذلك، وكان غرَضُه المسيرَ إلى بلادِ فارِسَ وأخْذِها بعد قَتلِ صاحِبِها منكبرس قبل أن يمَتِنَع مَن بها عليه، وسار بوزابة إليها فمَلَكها، وصارت له مع خوزستان، وسار سلجوق شاه بن السُّلطانِ محمَّد إلى بغداد ليملِكَها، فخرج إليه البقش الشحنة بها: ونظر الخادم أمير الحاجِّ وقاتلوه ومَنَعوه، وكان عاجزًا مُستضعَفًا، ولَمَّا قُتِلَ صَدَقة بن دبيس أقَرَّ السُّلطان مسعود الحلةَ على أخيه محمَّد بن دبيس وجعَلَ معه مهلهل بن أبي العسكر أخا عنتر المقتول يدَبِّرُ أمرَه.