نَفَذَ الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ رَسولًا إلى السُّلطانِ ملكشاه والوَزيرِ نِظامِ المُلْكِ بِرسالةٍ مَضمونُها تتضمن الشَّكوَى من العَميدِ أبي الفَتحِ بن أبي اللَّيثِ، عَميدِ العِراقِ، وأَمرَهُ أن يُنهِي ما يجري على البلادِ من النُّظَّارِ، وقد جَرَى بينه وبين إمامِ الحَرَمينِ أبي المَعالي الجُوينيِّ مُناظرَةٌ بِحَضرَةِ نِظامِ المُلْكِ، وأُجِيبَ إلى جَميعِ ما التَمسَهُ، ولمَّا عاد أُهِينَ العَميدُ، وكُسِرَ عمَّا كان يَعتَمِدُه، ورُفِعَت يَدُه عن جَميعِ ما يَتعلَّق بحواشي الخَليفَةِ.
قدَّمَت السُّلْطة الفِلَسْطينية تنازلاتٍ جديدةً بعد عودة حزب الليكود إلى الحكم برئاسة بنيامين نتنياهو المعارِض لاتفاقِ أوسلو، فتمَّ تَوقيعُ اتفاقٍ في 15 يناير يَقْضي بتقسيمِ مدينةِ الخليل إلى قِسمَينِ: قسمٍ يَهوديٍّ في قلبِ المدينة، بما فيها الحرم الإبراهيمي، وقِسمٍ عربيٍّ يشمَلُ الدائرةَ الأوسعَ للمدينةِ، وتمَّ وَضعُ تَرتيباتٍ أمنيةً قاسيةً ومُعقَّدةً؛ لضمانِ أمنِ 400 يهوديٍّ مُقيمينَ في وَسَطِ المدينة، ويضمَنُ تَنقلَهم بين أكثرَ من 120 ألفَ فِلَسْطينيٍّ يَسكنونَ الخليلَ.
هو آغا محمد خان بن محمد حسن خان القاجاري بن فتح علي خان بن شاه قلي خان، حاكم إيران. من مواليد 27 محرم 1155 في استر آباد وهو مؤسِّس الدولة القاجارية الشيعية في إيران- ومعنى آغا أي مَخصِي- وقيل: إنَّ محمد خان زند، هو الذي أخصى آغا محمد خان؛ لأنَّه تزوَّج من بنت أخيه علي خان زند بدون عقدٍ، وقيل إنَّ خِصاءَ آغا محمد خان كان على يد عادل شاه خليفة نادر شاه. أطاح آغا محمد خان بحُكم خلفاء كريم خان زند، ثم وصل إلى الحُكمِ وجعل طهرانَ عاصِمةً له، وكان حادَّ الطبع عنيفًا، واستطاع أن يوحِّدَ إيران بحملاته وهجومِه المتكَرِّر على أطرافها, ثم هجم على جورجيا وانتصر على أهلِها واستباحهم قتلًا وأسرًا واسترقَّ 15 ألفًا من بناتهم وأبنائهم, ثم باعهم كرقيق لأغنياء طِهران, ثمَّ تُوِّج مَلِكًا على إيران في سنة 1208 هـ ثمَّ اتَّجه آغا محمد بعد تتويجِه بعساكره إلى خراسان وقتل شاهرخ بن نادر شاه أفشار، والذي كان رجلًا طاعنًا في السن وكفيفًا؛ وذلك انتقامًا لقتل فتح علي خان رئيس القاجار، ولأجل الحُصولِ على المجوهرات التي جلبها نادرٌ من الهند، فعذَّبه عذابًا شديدًا مات على إثره بعد أن عرف منه مكانَ جواهرِ نادر شاه, وعزم الهجومَ على بخارى والإطاحة بحكَّامِها الذين كان ولاؤهم للرِوس، ودخل مرو وأجبر أوزبكان على الانسحاب منها، وجعل بخارى تحت الوصاية الإيرانية، ثم أمر بتعقُّب نادر قلي شاهرخ أفشار حتى قبضه حاكمُ بلخ الذي دفع 5000 قطعة ذهبية ليقبِضَ عليه. كان سببُ مقتل أغا محمد أنَّ خادمَين مِن خَدَمِه تخاصما فحَنق عليهما جدًّا حتى أمر بقتلِهما وأمهلهما لليوم التالي، ومع ذلك بَقِيا في خدمته، فرأيا أنهما لا يتخلَّصان من القتلِ إلَّا بقتلِه، فلما جنَّ الليل رافقهما خادمٌ ثالث ودخلوا على الأغا، وقتلوه وهو نائم بعد أن حكم إيران نحًوا من عشرين سنة، فخلَفَه ابنُ أخيه فتح علي شاه.
منذ أن تولى محمد الفاتح السلطنة مشى على ما كان عليه أبوه من الجهاد والغزو؛ فأول ما بدأ به أن أرجع زوجة أبيه الأميرة الصربية النصرانية مارا إلى أبيها، ثمَّ بنى قلعة على مضيق البوسفور على الشاطئ الأوربي مقابِلَ القلعة التي بناها السلطان بايزيد على الشاطئ الآسيوي، كل ذلك ليُحكِمَ قبضته على المضيق ويمنعَ من وصول الإمدادات إلى القسطنطينية من مملكة طرابزون الواقعة على ساحل البحر الأسود شمال شرق الأناضول، ورأى قسطنطين أن محمد الفاتح عازم على دخول مدينته، فعرض دفع الجزية فرفض السلطان محمد ذلك، فاستنجد الإمبراطور قسطنطين بالدول النصرانية، فأرسل له البابا ثلاثين سفينة حربية لكنها هربت من القرن الذهبي، ثم طلب من الروس المساعدة لكنهم لم يكونوا وقتها أصحاب قوة، ثم إن الجنويين الذين كانوا في غلطة الواقعة في نقطة التقاء مضيق البوسفور مع القرن الذهبي، تظاهروا أنهم حياديون، ولكنهم أرسلوا دعمًا بقيادة جوستينان؛ قوة بحرية كبيرة اصطدمت مع السفن البحرية العثمانية، وتمكنت من هزمها والدخول إلى القرن الذهبي، ورفعت السلاسل في وجه السفن العثمانية، كل هذه الأمور كانت إرهاصات لفتح القسطنطينية.
بعد أن ترددت الرسل بين الملك الكامل صاحب مصر وفردريك الثاني ملك ألمانيا انتهوا على صلح عشر سنوات يسلم الكامل بيت المقدس للصليبيين نكاية بإخوانه في الشام بسبب خلاف بينه وبينهم, وجاء في بنود الاتفاق الذي عرف باتفاق يافا: 1/ أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها. 2/ أن يكون سائر قرى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج. 3/ أن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه والٍ من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة. 4/ أن تكون القرى التي فيها بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس. ثم في 22 ربيع الأول من هذه السنة، ( 18فبراير 1229 م) تسلم الفرنج بيت المقدس صلحًا، ولما تسلم الفرنج البيت المقدس، استعظم المسلمون ذلك وأكبروه واستقبحوا ما فعله الكامل، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. وقد ذكر سبط ابن الجوزي ردة الفعل على تسليم الكامل بيت المقدس للصليبيين بقوله: "قامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدت العظائم، بحيث أقيمت المآتم، وأشار علي الملك الناصر داود بن الملك المعظم أن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى على البيت المقدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة الحمية للإسلام موافقته، فجلست بجامع دمشق، وحضر الناصر داود، على باب مشهد علي، وكان يومًا مشهورًا، لم يتخلف من أهل دمشق أحد, وقد انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين، فيا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، وكم خرت لهم على تلك المساكن من دمعة، والله لو صارت عيونهم عيونًا لما وفت، ولو تقطعت قلوبهم أسفًا لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات"
بعد ما كان من الفِتنةِ بمكَّةَ العامَ السَّابِقَ وانزعاج السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون كثيرًا لذلك، ففي المحَرَّم هذا العام قَدِمَ الحاجُّ، وأخبروا بكثرةِ الفِتَن بمكَّةَ بين الشريفين عُطيفة ورُميثة، وقُوَّة رُمَيثة على عُطَيفة ونهْبِه مكَّة وخروجه عن الطاعة، وأنه لم يلقَ رَكبَ الحُجَّاج، فكتب بحضورِه، فلما ورد المرسومُ بطلب الشريفينِ إلى مصر اتَّفَقا وخرجا عن الطاعة، فشقَّ ذلك على السلطان، وعَزَم على إخراج بني حسَن من مكة، وتقَدَّم السلطان إلى الأمير سيف الدين أيتمش أن يَخرُجَ بعسكرٍ إلى مكة، وقال له بحضرة القضاة: "لا تدع في مكَّةَ أحدًا من الأشرافِ ولا من القُوَّاد ولا مِن عَبيدِهم، ونادِ بها من أقام منهم حَلَّ دَمُه، ثم أحرِقْ جَميعَ وادي نخلةَ، وألقِ في نَخلِها النَّارَ حتى لا تدَعَ شَجرةً مُثمِرةً ولا دِمنةً- آثار الديار- عامرةً، وخَرِّبْ ما حول مكَّةَ من المساكن، وأخرِجْ حَرَم الأشرافِ منها، وأقِمْ بها بمن معك حتى يأتيك عسكَرٌ آخرُ"، فقام في ذلك قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني ووعَظَ السُّلطانَ وذَكَّره بوجوبِ تَعظيمِ الحَرَمِ، إلى أن استقَرَّ الأمر على أن كُتِبَ لرُمَيثة أمانٌ وتقليد بإمرة مكَّة، وسار العسكر من ظاهر القاهرة في نصف صفر، وعِدَّتُهم سبعمائة فارس، وفي سابع جمادى الآخرة قدم الأمير أيتمش بالعسكر المجرَّد إلى مكة، وكان الشريفُ رُمَيثة قد جمع عربًا كثيرةً يريدُ محاربتهم، فكتب إليه الأميرُ أيتمش يُعَرِّفُه بأمان السلطان له وتقليدِه إمرةَ مَكَّة، ويحثُّه على الحضور إليه ويرَغِّبُه في الطاعة، ويحَذِّرُه عاقبةَ الخلاف ويهدده على ذلك، ويُعَرِّفُه بما أمر به السلطانُ من إجلاء بني حسن وأتباعِهم عن مكة، فلما وقف رُمَيثةُ على ذلك اطمأَنَّ إلى الأمير أيتمش وأجابه بما كان قد عزم عليه من الحربِ لو أنَّ غَيرَه قام مقامَه، وطلب منه أن يحلِفَ هو ومن معه ألَّا يَغدِرَ، وأن يُقرِضَه مبلغ خمسين ألف درهم يتعَوَّضُها من إقطاعِه، فتقَرَّر الحال على أن يبعثَ إليه الأمير أيتمش عشرةَ أحمال من الدقيق والشعير والبقسماط وغيره، ومبلغ خمسة ألاف درهم، فقَدِمَ حينئذ، فلما قارب رُمَيثة مكة رَكِبَ الأمير أيتمش بمن معه إلى لقائِه، فإذا عِدَّةٌ من قواده مع وزيره قد تقَدَّموه ليحَلِّفوا له العسكر، فعادوا بهم إلى الحَرَمِ وحلفوا له أيمانًا مؤكَّدة، ثم ركبوا إلى لقائِه وقابَلوه بما يليقُ به من الإكرام، فلَبِسَ رميثة تشريفَ السلطان، وتقَلَّد إمارةَ مكَّة، وعَزَم على تقدمة شيءٍ للأمراء، فامتنعوا أن يقبلوا منه هَدِيَّةً، وكتبوا إلى السلطانِ بعَودِ الشريف إلى الطاعةِ.
حجَّ المهديُّ بعد توليه الخلافةَ بعامٍ, ولَمَّا رأى ضِيقَ مساحة مسجدِ الحرم, ومعاناة الحُجَّاج من الزِّحام؛ أمَرَ بتوسعته، فاشترى الأراضيَ والدُّورَ المحيطة بالمسجد وأزالها، وقد شَمِلَت التوسعة الجهتين الشماليَّة والجنوبية, وأمر بنقل أساطينِ الرُّخامِ من الشام ومصر إلى ميناء جُدَّة، ثم نُقِلَت على عربات إلى مكَّة, أما الأروقة فقد عَمِلَها على أساطينِ الرُّخام، وسُقِفَت بخشب الساج, وقد انتهت أعمال التوسعةِ الأولى سنة 164 وبلغت حوالي:7950م2، فصارت مساحة المسجد: 23390م2.
توفِّيَ الإمامُ المحَدِّثُ القُدوةُ، شيخُ الحَرَمِ الشَّريفِ، أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الحُسَين بنِ عبد الله البغدادي الآجُرِّيُّ، الفقيهُ الشَّافعيُّ المحَدِّث صاحِبُ كتاب الأربعين حديثًا، وهي مشهورة به، صاحب التواليف، منها: كتاب " الشريعة في السُّنة "، وكتاب " الرؤية "، وكتاب " الغرباء "، وكتاب " الأربعين "، وكتاب " الثمانين "، وكتاب " آداب العلماء "، وكتاب " مسألة الطائفين "، وكتاب " التهجُّد "، وغير ذلك وكان صدوقًا، خيِّرًا، عابدًا، صاحِبَ سُنَّة واتِّباع. قال الخطيب: " كان ديِّنًا ثقةً، له تصانيف " مات بمكة وكان في الثمانين من عُمُرِه.
تُوفِّيَ الشَّيخُ محمدُ بنُ عبد الله السُّبَيِّلُ رحمه الله أحدُ أشهرِ أئمَّةِ الحرمِ المكِّيِّ والرئيسُ الأسبَقُ للرِّئاسة العامَّةِ لشُؤون المسجدِ الحرامِ والمَسجدِ النبويِّ، والعُضوُ السابِقُ في هيئة كبارِ العُلَماء، والعضوُ في المَجمَع الفقهيِّ. وهو من مواليدِ مِنطَقة القصيم عامَ (1924م). وكان الشيخُ قد أُدخِلَ إلى مستشفى الحرس الوطنيِّ في جُدَّةَ بعد وعكةٍ صحيَّةٍ، وتُوفِّي عن عمر تجاوز الـ(88) عامًا. وتمَّ تشيِيعُ جنازَتِه والصلاةُ عليه في المسجِدِ الحرامِ الذي أَمَّ فيه المُصَلِّين لأكثرَ من (44) عامًا.
في هذه السنة عمَّ البلاء وعظُمَ العزاء بجنكيزخان المسمى بتموجين وقيل (تمرجين) لعنه الله تعالى، ومن معه من التتر قبَّحهم الله أجمعين، واستفحل أمرُهم واشتد إفسادُهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فمَلَكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك المشرق، وقهروا جميع الطوائفِ التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة ما لا يحَدُّ ولا يُوصَفُ، وبالجملة فلم يدخُلوا بلدًا إلا قتلوا جميعَ من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرًا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنَّهبِ إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى إنهم كانوا يجمعون الحريرَ الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عَجَزوا عن تخريبه يحرقونه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتِلون بهم ويحاصِرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قَتَلوهم. وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطًا حسنًا مفصلًا، فقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهونُ عليه ذكرُ ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن، لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادثِ ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما بيتُ المقدس بالنسبة إلى ما خرَّب هؤلاء الملاعين من البلاد؟ ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنَّ قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها الأفاعيل، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يجاوزونَها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصِدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون أكثَرَ أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنَه، ولم يسلَمْ غير قلعته التي بها مُلكُهم، وعبَروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماعَ مثلُه، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملِكْها في سنة واحدة، إنما ملَكَها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلًا وأعدلهم أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يتَّفِق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقِّب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومَها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفِرُ الأرض بحوافرها، وتأكل عروقَ النبات لا تعرفُ الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيءٍ مِن خارجه. وأمَّا ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمسِ عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميعَ الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غيرُ واحد من الرجال، فإذا جاء الولدُ لا يَعرِف أباه. وإنما استقام لهم هذا الأمرُ لعدم المانع؛ لأن السلطان خوارزم شاه محمدًا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك، واستقَرَّ في الأمور، فلما انهزم من التتر في العام الماضي وضَعُف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدرى أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلادُ ولم يبق لها من يحميها؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] وإلى الله تُرجَع الأمور."
هو أبو العبَّاس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بالرفاعي، شيخُ الطائفةِ الأحمديَّة الرفاعية البطائحية الصوفيَّة المشهورة، كان أصلُه من العرب فسكن في البطائِحِ بقرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلقٌ عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقادَ فيه وتَبِعوه, حتى عُرِفوا بالطائفة الرفاعيَّة والبطائحية ويقال: إنَّه حَفِظَ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعيِّ، قال الذهبي في العِبَر: وقد كَثُرَ الزغل في بعض أصحابه وتجدَّدَت لهم أحوال شيطانيَّة... وهذا ما لم يَعرِفْه الشيخُ ولا صُلَحاءُ أصحابِه، وذكر ابن خَلِّكان: "أنَّه قال: وليس للشيخ أحمد عَقِبٌ، وإنما النسل لأخيه وذريَّته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد". مَرِضَ في آخر حياته حتى توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى. والطريقة الرفاعية من الطرُقِ الصوفيَّة المنتشرة في كثيرٍ مِن البلاد، وقد غَلَوا في الرفاعيِّ حتى استغاثوا به من دونِ الله، وزعموا أنَّ لهم أحوالًا وكرامات،كالدخول في النيران، والركوب على السِّباع، واللعب بالحيات، وما إلى ذلك مما يُدَجِّلونَ به على العوامِّ مِمَّا لم يُنزِلْ به الله سلطانًا.
لَمَّا توفِّيَ المنصور أحمد الذهبي السعدي وفرَغَ الناس من دفنِه، اجتمع أهلُ الحَلِّ والعقد من أعيان فاس وكبرائها والجمهورِ من جيش المنصور على بيعةِ ولده زيدان، وقالوا إن المنصور استخلفه في حياتِه ومات في حجرِه، وكان ممن تصدى لذلك القاضيان قاضي الجماعة بفاس أبو القاسم بن أبي النعيم، والقاضي أبو الحسن علي بن عمران السلاسي, وكان زيدان لما توفِّي والده كتم موتَه وبعث جماعةً للقبض على أخيه محمد الشيخ المأمون المسجون بمكناسة، فمنعهم من ذلك الباشا جؤذر كبير جيش الأندلس، وحُمل محمد الشيخ موثقًا إلى مراكش حتى دُفِع إلى أخيه أبي فارس، وكان شقيقًا له فلم يزل مسجونًا عنده إلى أن أخرجه أبو فارس ليقاتِلَ به أخاهما زيدان، وقيل: إن زيدان لما اشتغل بدفنِ والده احتال القائد أبو العباس أحمد بن منصور العلج، فذهب بنصف المحلةِ إلى مراكش نازعًا طاعتَه عن زيدان إلى أبي فارس، ومرَّ في طريقه بمكناسة فأخرج محمد الشيخ من اعتقالِه واحتمله معه إلى أبي فارس، فسجنه فلم يزل مسجونًا عنده.
قُتِلَ السلطانُ المَلِكُ المنصورُ حسام الدين لاجين ونائبُه سيف الدين منكوتمر، ليلةَ الجمعة حادي عشر ربيع الآخر، على يدِ الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي ومَن وافقه من الأمراء، وذلك بحضورِ القاضي حسامِ الدين الحنفي وهو جالسٌ في خدمته يتحَدَّثان، وقيل كانا يلعبانِ بالشطرنج، فلم يشعُرا إلَّا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطانِ بسُرعةٍ جَهرةً ليلةَ الجمعة فقَتَلوه وقُتِلَ نائبُه منكوتمر صبرًا صبيحة يوم الجمعةِ وألقِيَ على مزبلة، واتفق الأمراءُ على إعادة ابنِ أستاذهم المَلِك النَّاصر محمدِ بنِ قلاوون، فأرسلوا وراءَه، وكان بالكرك ونادَوا له بالقاهرة، وخُطِبَ له على المنابر قبل قدومِه، وجاءت الكتُبُ إلى نائِبِ الشامِ قبجق فوجدوه قد فَرَّ خَوفًا من غائلة لاجين، فسارت إليه البريديَّةُ فلم يدركوه إلا وقد لحِقَ بالمغول عند رأسِ العين، من أعمال ماردين، وتفارط الحالُ ولا قُوَّة إلَّا بالله، وكان سَبَبُ قتل لاجين ونائبه منكوتمر هو ما بدر منهما تجاهَ الأمراءِ؛ فإن لاجين كان قد حَلَف لهم يوم أن نَصَبوه سلطانًا بعد قتْلِه كتبغا أنَّه لن يولي منكوتمر شيئًا بل سيقَدِّمُهم فَهُم الأمراءُ, ولكِنَّ هذا ما لم يكُنْ، فقَدَّمَ مَملوكَه وجعَلَه نائبَه وأصبح يعتَقِلُ الأمراء ويقتُلُ بَعضَهم، حتى إنه في أسبوعٍ واحد قتل خمسةً مِن الأمراء، والذي لم يُقتَل أو يُعتَقَل أُبعِدَ في الولاياتِ السخيفةِ التي لا تليقُ بهم في الأماكِنِ البعيدة، وكُلُّ ذلك بتدبيرِ النائب منكوتمر؛ طمعًا منه أن يليَ السلطنة؛ لأنَّ لاجين لا ذريَّةَ له من الذكور، فأفعالُه تلك أوغَرَت عليه صدورَ الأمراء ممَّا حدا بهم إلى قتلِهما جميعًا، ثم كان دخولُ الملك الناصر إلى مصرَ يوم السبتِ رابِعَ جمادى الأولى، وكان يومًا مشهودًا، ودُقَّت البشائِرُ ودخل القضاةُ وأكابِرُ الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرةِ عَلَم الدين أرجواش، وخُطِبَ له على المنابر بدِمشقَ وغيرها بحضرةِ أكابر العلماء والقُضاة والأُمراءِ.
في هذا الشهر وقع الوباء بالطاعون ببلاد الصعيد من أرض مصر، وفي شهر رمضان كانت عدة الأموات التي رُفِعت بها أوراق مُباشِري ديوان المواريث بالقاهرة ثمانية عشر إنسانًا، وتزايدت عدتُهم في كل يوم حتى فشا في الناس الموتُ بالطاعون في القاهرة ومصر، لا سيما في الأطفال والإماء والعبيد؛ فإنهم أكثر من يموت موتًا سريعًا، ثم شنعت الأخبار بكثرة من يموت، وسرعة موتهم، وشناعة الموتان أيضًا ببلاد الواحات من أرض مصر، ووقوعه قليلًا بصعيد مصر، وقد شنع الموت بالدُّور السلطانية في أولاد السلطان الذكور والإناث، وفي حظاياه وجواريه، وجواري نسائه، وفي الخدَّام الطواشية، وشنع الموت في مماليك السلطان سكان الطباق، حتى لقد مات منهم في هذا الوباء نحو آلاف، ومات من الخُدَّام الخصيان مائة وستون طواشي، ومات من الجواري بدار السلطان زيادة على مائة وستين جارية، سوى سبع عشرة حظية وسبعة عشر ولدًا، ذكورا وإناثًا، وشنع الموت أيضًا في الناس بالقاهرة ومصر وما بينهما، وفي سكان قلعة الجبل، وفي بلاد الواحات والفيوم، وبعض بلاد الصعيد، وبعض الحوف بالشرقية، ووقع الطاعون في الغنم والدواب، ووُجِد في النيل سمك كثير طافٍ قد مات من الطاعون، وأما الطاعون فإنه ابتدأ بالقاهرة من أول شهر رمضان، وكثر في شوال حتى تجاوز عدة من يُصلَّى عليه في مصلى باب النصر كل يوم أربعمائة ميت، سوى بقية المصلَّيات وعدتها بضع عشرة مُصلًّى، ومع ذلك فلم تبلغ عدة من يُرفَع في أوراق ديوان المواريث قط أربعمائة، وسببه أن الناس أعدوا توابيتَ للسبيل، ومعظم من يموت إنما هم الأطفال والإماء والعبيد، فلا يحتاج أهلُهم إلى إطلاقهم من الديوان، وفي شهر ذي الحجة والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال؛ فمات بها عالم كبير، وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان.
سَيَّرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاج بن يوسُف الثَّقفيَّ إلى عبدِ الله بن الزُّبير رضي الله عنه، وبعَث معه له أمانًا إنْ هو أطاعَ، فبَقِيَ الحَجَّاج مُدَّةً في الطَّائفِ يَبعَثُ البُعوثَ تُقاتِل ابنَ الزُّبير وتَظْفَرُ عليه. فكتَب الحَجَّاجُ إلى عبدِ الملك يُخبِرُه: بأنَّ ابنَ الزُّبير قد كَلَّ وتَفَرَّق عنه أَصحابُه, ويَسْتَأذِنُه بمُحاصَرةِ الحَرَمِ ثمَّ دُخولِ مكَّة، فأَمَدَّهُ عبدُ الملك بطارِقِ الذي كان يُحاصِر المدينةَ، ولمَّا حَصَرَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير نَصَبَ المَنْجَنيقَ على أبي قُبَيْسٍ ورَمَى به الكَعبةَ، وكان عبدُ الملك يُنْكِر ذلك أيَّامَ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، ثمَّ أَمَرَ به، وحَجَّ ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما تلك السَّنةَ فأَرسَل إلى الحَجَّاجِ: أنِ اتَّقِ الله، واكْفُفْ هذه الحِجارةَ عن النَّاسِ؛ فإنَّك في شَهْرٍ حَرامٍ وبَلَدٍ حَرامٍ، وقد قَدِمَت وُفودُ الله مِن أَقطارِ الأرضِ لِيُؤَدُّوا فَريضةَ الله ويَزْدادوا خيرًا، وإنَّ المَنْجنيق قد منعهم عن الطَّوافِ، فاكْفُفْ عن الرَّمْيِ حتَّى يَقْضوا ما يجب عليهم بمكَّة. فبَطَّلَ الرَّمْيَ حتَّى عاد النَّاسُ مِن عَرَفات وطافوا وسَعَوْا، ولم يَمْنَعْ ابنُ الزُّبير الحاجَّ مِن الطَّوافِ والسَّعْيِ، فلمَّا فرَغوا مِن طَوافِ الزَّيارةِ نادَى مُنادِي الحَجَّاجِ: انْصَرِفوا إلى بِلادِكم، فإنَّا نَعودُ بالحِجارَةِ على ابنِ الزُّبيرِ المُلْحِدِ. فأصاب النَّاسَ بعد ذلك مَجاعةٌ شديدةٌ بسَببِ الحِصارِ، فلمَّا كان قُبَيْلَ مَقْتَلِه تَفَرَّقَ النَّاسُ عنه، وخَرجوا إلى الحَجَّاجِ بالأمانِ، خرَج مِن عنده نحو عشرةِ آلاف، وكان ممَّن فارَقَه ابْناهُ حَمزةُ وخُبيبٌ، وأَخَذا لِأَنْفُسِهما أَمانًا، فقال عبدُ الله لابْنِه الزُّبيرِ: خُذْ لِنَفسِك أمانًا كما فعل أَخَواك، فَوَالله إنِّي لأُحِبُّ بَقاءَكُم. فقال: ما كنتُ لِأَرْغَبَ بِنَفسِي عنك. فصَبَر معه فقُتِلَ وقاتَلهم قِتالًا شديدًا، فتَعاوَرُوا عليه فقَتَلوهُ يومَ الثُلاثاءِ مِن جُمادَى الآخِرة وله ثلاثٌ وسبعون سَنةً، وتَوَلَّى قَتْلَهُ رجلٌ مِن مُرادٍ، وحمَل رَأسَهُ إلى الحَجَّاج، وبعَث الحَجَّاجُ بِرَأسِه، ورَأسِ عبدِ الله بن صَفوان، ورَأسِ عُمارةَ بن عَمرِو بن حَزْمٍ إلى المدينةِ، ثمَّ ذهَب بها إلى عبدِ الملك بن مَرْوان، وأخَذ جُثَّتَهُ فصَلَبَها على الثَّنِيَّةِ اليُمْنَى بالحُجُونِ، ثمَّ بعدَ أن أَنْزَلَهُ الحَجَّاجُ عن الخَشبةِ بعَث به إلى أُمِّه، فغَسَّلَتْهُ، فلمَّا أَصابَهُ الماءَ تَقَطَّعَ، فغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فاسْتَمْسَك، وصلَّى عليه أخوه عُروةُ، فَدَفَنَتْهُ.