في أواخِرِ جمادى الأولى، سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصرَ إلى ساحل الشامِ؛ لقصد بلاد الفرنج، وجمع معه عساكِرَ وجنودًا كثيرة، فلم يزالوا يجِدُّون السيرَ حتى وصلوا عسقلان في الرابع والعشرين منه، فنَهَبوا وأسروا، وقتلوا وأحرقوا وتفَرَّقوا في تلك الأعمال مُغِيرينَ، فلما رأَوا أنَّ الفِرنجَ لم يَظهَرْ لهم عسكَرٌ ولا اجتمع لهم من يحمي البلادَ مِن المسلمين، طَمِعوا، وانبسطوا، وساروا في الأرض آمنين مطمئنينَ، ووصل صلاحُ الدين إلى الرملة، عازمًا على أن يقصِدَ بعضَ حُصونهم ليَحصُرَه، فوصل إلى نهر، فازدحم الناسُ للعبور، فلم يَرُعْهم إلا والفرنج أشرفت عليهم بأبطالها وطلابِها، وكان مع صلاح الدين بعضُ العسكر؛ لأن أكثَرَهم تفَرَّقوا في طلب الغنيمة، فلما رآهم وقف لهم فيمن معه، وتقَدَّمَ بين يديه تقيُّ الدين عمر بن محمد ابن أخي صلاح الدين، فباشر القتالَ بنفسه بين يدي عَمِّه، فقُتِلَ من أصحابه جماعة، وكذلك الفرنجُ، وتمت الهزيمةُ على المسلمين، وحمل أحدُ الفرنج على صلاح الدين فقارَبَه حتى كاد أن يصِلَ إليه فقُتِلَ الفرنجيُّ بين يديه، وتكاثر الفرنج عليه فمضى مُنهَزِمًا، يسيرُ قليلًا ويقف ليلحَقَه العسكرُ إلى أن دخل الليل، فسلك البرية إلى أن مضى في نفَرٍ يسيرٍ إلى مصر، ولقُوا في طريقِهم مَشقَّة شديدة، وقل عليهم القوتُ والماء، وهلك كثيرٌ مِن دواب العسكر جوعًا وعطشًا وسرعةَ سير، وأما العسكَرُ الذين كانوا دخَلوا بلاد الفرنج في الغارة، فإنَّ أكثَرَهم ذهب ما بين قتيلٍ وأسير، ووصل صلاحُ الدين إلى القاهرة نصفَ جمادى الآخرة.
سار صلاحُ الدين إلى خلاط وجعَلَ طريقَه على ميافارقين مَطمَع ملكها، حيث كان صاحِبُه قطب الدين، صاحِبُ ماردين، قد توفِّي ومَلَك بعده ابنُه، وهو طفل، وكان حُكمُها إلى شاه أرمن، وعسكَره فيها، فلمَّا توفِّيَ طَمِعَ في أخْذِها، فلمَّا نازلها رآها مشحونةً بالرجال، وبها زوجةُ قطب الدين المتوفى، ومعها بناتٌ لها منه، وهي أختُ نور الدين محمد، صاحِبِ الحصن، فأقام صلاحُ الدين عليها يحصُرُها من أول جمادى الأولى، واشتد القتالُ عليه ونُصِبَت المجانيق والعرادات، فلم يصِلْ صلاح الدين إلى ما يريد منها، فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحَربِ إلى إعمال الحيلة، فراسل امرأةَ قطب الدين المقيمة بالبلدِ يقول لها: إنَّ أسدَ الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليمِ البلد ونحن نرعى حقَّ أخيك نور الدين فيك بعد وفاتِه، ونريد أن يكونَ لك في هذا الأمرِ نَصيبٌ، وأنا أزوِّجُ بناتِك بأولادي وتكونُ ميافارقين وغيرها لك وبحُكمِك؛ ووضَعَ مَن أرسل إلى أسد يُعَرِّفُه أن الخاتون قد مالت للمُقاربة والانقياد إلى السلطان، وأنَّ مَن بخلاط قد كاتبوه ليُسَلِّموا إليه، فخُذْ لِنَفسِك، واتَّفَق أنَّ رسولًا وصَلَه مِن خلاط، يبذلون له الطاعةَ، وقالوا له من الاستدعاءِ إليهم ما كانوا يقولونَه، فأمر صلاح الدين الرسولَ، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسدٍ: أنت عمَّن تقاتِلُ، وأنا قد جئتُ في تسليم خلاط إلى صلاحِ الدين، فسُقِطَ في يَدِه، وضَعُفَت نفسه، وأرسل يقتَرِحُ أقطاعًا ومالًا، فأُجيبَ إلى ذلك، وسَلَّمَ البلد آخر جمادى الأولى، وعَقَدَ النكاح لبعضِ أولاده على بعضِ بنات الخاتون، وأقَرَّ بيدها قلعةَ الهتاخ لتكونَ فيها هي وبناتُها.
تبدأُ قِصَّةُ بناء مسجد الكتيبة منذ الأيامِ الأولى لانتصارِ الموحِّدين على المرابطين؛ فقد أبى كثيرٌ من الموحِّدين دخولَ البلدة أو الاستقرار فيها؛ لأنهم كانوا يسمعون مُؤَسِّسَ دولتهم المهدي (ابن تومرت) يقول لهم دائمًا: لا تدخلوا مراكش حتى تُطَهِّروها، ولما التمسوا معنى تطهيرِها لدى فقهائِهم أجابوهم أنَّ مساجد مراكش فيها انحرافٌ قليلٌ في القبلة عن الجهةِ الصَّحيحةِ، فعليكم أن تبنوا مسجِدًا دقيق الاتجاه، صحيحَ القبلة فيها. وهكذا قام عبدُ المؤمن بن علي أمير الموحِّدين بهدم مسجدِ قَصرِ الحجر ذي القبلة الخطأ، وهدم الجامِعَ الذي كان قد بناه علي بن يوسف أميرُ المرابطين بأدنى المدينة، ثم شرع في بناءِ جامعٍ عظيم مكانه. أُطلِقَ على هذا الجامِع اسمُ جامع الكتيبة الذي ابتدأ بناؤه سنة 548 ويعتبر واحدًا من ثلاثة آثار معمارية كبرى في دولة الموحِّدين، وهذه الآثار هي: رباط تازا، وجامع تيمنلل، وجامع الكتيبة. ويذهَبُ بعض الباحثين إلى أنَّ الموحِّدينَ وَقَعوا أوَّلَ الأمرِ رَغمَ حِرصِهم في نفس خطأ المرابطين؛ حيث لم يُصَوِّبوا مسجِدَهم الجديد نحو القبلة بالدقة التي كانوا يرجونَها؛ مِمَّا حمَلهم على بناءِ جامعٍ آخَرَ إلى جواره صحيحِ المحراب دقيق الاتجاه؛ ولهذا فجامع الكتيبة أنشئَ في ظن هؤلاء مرَّتين لا مرة واحدة.. وما تزال آثارُ الجامع الأول ظاهرة، وارتفاعُ المنارة إلى أعلى يصل إلى 67.5 مترًا، أي: ما يوازي عمارةً مِن عشرين طابقًا. وجُدرانُها مَطليَّة كُلُّها بالجصِّ الأبيض المائِلِ إلى الأصفر.
مَلَك المَلِكُ العادِلُ أبو بكر بنُ أيوب مدينة دمشقَ مِن ابن أخيه الأفضَلِ عليِّ بن صلاح الدين، وكان أبلَغُ الأسباب في ذلك وثوقَ الأفضل بالعادل، فلما أقام العادِلُ عند العزيز بمصر استمالَه، وقَرَّرَ معه أنَّه يخرج معه إلى دمشقَ ويأخُذُها من أخيه ويُسَلِّمُها إليه، فسار معه من مصرَ إلى دمشق، وحَصَروها، واستمالوا أميرًا من أمراءِ الأفضَلِ يقال له العزيزُ بن أبي غالب الحمصي، فسَلَّمَ إليه بابًا من أبواب دمشقَ يُعرَفُ بالباب الشرقي ليحفَظَه، فمال إلى العزيزِ والعادل، ووعَدَهما أنه يفتَحُ لهما الباب، ويُدخِل العسكر منه إلى البلدِ غِيلةً، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب وقتَ العصر، وأدخَلَ المَلِك العادِلَ منه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فلم يشعُرِ الأفضَلُ إلَّا وعَمُّه معه في دمشق، ورَكِبَ الملك العزيز ووقف بالميدان الأخضَرِ غربيَّ دمشق، ثمَّ أرسلا إلى الأفضَلِ وأمَراه بمفارقةِ القلعة وتسليمِ البلد على قاعدةِ أن تُعطى قلعة صرخد له، ويُسَلَّم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضَلُ ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربيَّ دمشق، وتسلَّم العزيزُ القلعة ودخلها، وأقام بها أيامًا، ثمَّ لم يزل به عَمُّه العادل حتى سَلَّمَ البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضَلُ إلى صرخد، وكان العادِلُ يَذكُرُ أنَّ الأفضَلَ سعى في قَتلِه؛ فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضَلُ يُنكِرُ ذلك ويتبرَّأُ منه، وقيل: بل كان سبَبُ ذلك سوء تدبير وزير الأفضَلِ ضياء الدين بن الأثير الجزري، الذي هرب بعد إخراجِ الأفضَلِ مِن دمشق، وقيل: إن العزيز استناب عمَّه العادِلَ على دمشق وبَقِيَت الخطبة له والسكَّة باسمِه.
هو الشَّيخُ العالمُ المعَمَّر، مُسنِدُ الديار المصرية، أمين الدين: أبو القاسم سيد الأهل هبة الله بن علي بن سعود بن ثابت بن هاشم بن غالب الأنصاري، الخزرجي، المنستيري الأصل، المصري المولِد والدار، المعروف بالبوصيري، الكاتب الأديب. كانت ولادته سنة 506 بمصر، وقيل: بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة 500, وله سماعاتٌ عاليةٌ وروايات تفَرَّد بها وألحَقَ الأصاغِرَ بالأكابرِ في علُوِّ الإسناد، ولم يكنْ في آخر عصره في درجتِه مِثلُه، وعاش اثنتين وتسعين سنة. وكان مُسنِدَ دِيارِ مِصرَ في وقتِه، سمع مع السِّلَفي، وبقراءته من أبي صادق المديني، وأبي عبد الله محمد بن بركات السعيدي، وأبي الحسن علي بن الحسين الفراء، وسلطان بن إبراهيم، والخفرة بنت مبشر بن فاتك، وغيرهم. وانفرد بالسَّماع منهم. وأجاز له أبو الحسن الفرَّاء، وابن الخطَّاب الرازي، وقد سمع منهما، وسمع من أبي طاهر السِّلَفي, وحدَّث بمصر والإسكندرية، ورحل إليه المحدِّثون، وقُصد من البلاد. فسمع عليه النَّاسُ وأكثروا، وكان جده مسعود قَدِمَ من المنستير إلى بوصير، فأقام بها إلى أن عُرِفَ فَضلُه في دولةِ المصريِّينَ، فطُلِبَ إلى مصر، وكُتِبَ في ديوان الإنشاء، ووُلِدَ له علي والد أبي القاسم بمصر، واستقَرُّوا بها وشُهِروا. وكان أبو القاسمِ يسمى سيدَ الأهل أيضًا، لكِنَّ هبة الله أشهر، وتوفِّيَ في الليلة الثانية من صفر سنة 598، ودُفِنَ بسَفحِ المقطم. وهذا البوصيري غيرُ البوصيري صاحب البردة المتوفى سنة 697.
هو العلَّامةُ عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الإربلي الأصل الموصلي، الفقيه الشافعي، وُلِدَ سنة 535 بمدينة الموصل وتفَقَّه بها على والده، ثم سار إلى بغداد، وتفقَّه بها بالنظامية على السديد محمَّد السلماسي، وأبي المحاسن يوسف بن بندار الدمشقي، وسمِعَ الحديثَ من أبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وعبد الرحمن بن محمد الكشميهني. وعاد إلى الموصل، ودرَّس بها في عدة مدارس، وعلا صيتُه، وشاع ذكرُه، وقصَدَه الفقهاء من البلاد، وتخرَّجَ به خلقٌ، انتهت إليه رياسةُ الشافعية، وكان حسَنَ الأخلاق، كثيرَ التجاوز عن الفقهاء، كثيرَ الإحسان إليهم. كان إمامًا فاضلًا، وإمامَ وَقتِه في المذهب والأصول والخِلاف، وكان له صيتٌ عظيم في زمانه، صنف " المحيط " وجمع فيه بين "المهذب" و"الوسيط"، وشرح "الوجيز"، وصنف جدلًا، وعقيدة، وغير ذلك وتوجَّه رسولًا إلى الخليفة غير مرة، ووليَ قضاءَ الموصل خمسة أشهر ثم عُزِل، وذلك في صفر سنة ثلاث وتسعين، قال ابن خلكان: "كان شديدَ الورع والتقشُّف، لا يلبس الثوب الجديد حتى يغسِلَه، ولا يمسُّ القلَمَ للكتابة إلا ويغسِلُ يده، وكان دمثَ الأخلاق لطيف الخلوة ملاطفًا بحكايات وأشعار، وكان كثيرَ المباطنة لنور الدين أرسلان صاحب الموصل يُرجَع إليه في الفتاوى ويُشاوَر في الأمور, ولم يزل معه حتى انتقل أرسلان عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي" فلما توفي نور الدين توجَّه الشيخ عماد الدين إلى بغداد، وأخذ السلطنة للملك القاهر مسعود بن نور الدين، وأتى بالتقليدِ والخِلعة.
استهَلَّت بيوم الاثنين لأيامٍ خَلَونَ مِن ديسمبر، وليس للمسلمينَ خليفة، وصاحب مكة أبو نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة الحسني، وعمه إدريس بن علي شريكُه، وصاحِبُ المدينة الأميرُ عِزُّ الدين جماز بن شيحة الحسيني، وصاحِبُ مصر والشام السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وشريكُه في دمشق وبعلبك والصبيبة وبانياس الأميرُ علم الدين سنجر الملقب بالملك المجاهد، وشريكُه في حلب الأمير حسام الدين لاشين الجوكنداري- حامل الجوكان مع السلطان في لعب الكُرة- العزيزي، والكرك والشوبك للملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن سيف الدين أبي بكر الكاملِ محمد بن العادل الكبير سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وحصن جهيون وبازريا في يد الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين مكورس، وصاحِبُ حماة الملك المنصور بن تقي الدين محمود، وصاحِبُ حمص الأشرف بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين الناصر، وصاحِبُ المَوصِل الملك الصالح بن البدر لؤلؤ، وأخوه الملك المجاهِد صاحِب جزيرة ابن عمر، وصاحبُ ماردين الملك السعيد نجم الدين ايل غازي بن أرتق، وصاحب بلاد الروم ركنُ الدين قلج أرسلان بن كيخسرو السلجوقي، وشريكُه في الملك أخوه كيكاوس والبلاد بينهما نصفَينِ، وسائرُ بلاد المشرق بأيدي التتار أصحاب هولاكو، وبلاد اليَمَن يملكها غيرُ واحد من الملوك، وكذلك بلادُ المغرب في كل قطر منها مَلِك.
هو الأميرُ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر الأمير المستنصر بن الأمير أبي زكرياء الهنتاتي البربري، الموحدي، ولي أبوه يحيى مدة ومات سنة 647 وهما بربريان من أتباع دولة الموحدين صاحبا تونس وأجل ملوكِ الغرب في زمانهما، كان جدُّه الشيخ الهنتاتي من العشرة خواص ابن تومرت، وكان محمد ملكًا مدبِّرًا شجاعًا، عاليَ الهمة، سائسًا، متحيلًا على بلوغ مقاصده، مقتحمًا للأخطار، كريمًا جوادًا، ذا غرام بالعمارات واللذات، تُزَفُّ إليه كلَّ ليلة جارية، وكان وليَّ عهد أبيه واتفق موت أبيه وهو غائبٌ عن تونس، يعني أبا عبد الله، فساق إليها على بغل في خمسة أيام ومات البغلُ وأسرع خوفًا مِن عَمَّيه، ثم لما تمكَّن قَتَلَ عمَّيه وأنفق في العرب الأموالَ واستخدمهم. أباد جماعة من الخوارج ظفر بجماعةٍ مِن أعيانهم وسجَنَهم، ثم أهلكَهم ببناء قبة عمل أساسها من ملحٍ وحبسهم بها، ثم أرسل الماء على أساسِها، فانردمت عليهم, وكانت أسلحةُ الجيش كلُّها في خزائنه، فإذا وقع أمرٌ أخرَجَها وفَرَّقَها عليهم وإذا فرغ من الحَربِ أعادها إلى الخزائن. ولم يكن لجنده إقطاع، بل يجمَعُ ارتفاع البلاد، فيأخذ لنفسِه الربعَ والثمُنَ ويُنفِقُ ما بقي فيهم في كلِّ عام أربع نفقات، توفي في أواخر هذه السنة وسَبَبُ موته أنه خرج إلى الصيد وحصل له من كثرةِ الحركة انزعاج وتغير مزاج، وزاد به الألم، فعاد إلى المدينة وهو ضعيف، فبقي على ذلك مدة أيام إلى أن توفي، وله من العمر اثنان وخمسون سنة.
هو تاجُ الدين الشيخُ حسن بزرك بن حسين بن أقبغا بن أيلكان التتري، سِبطُ أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولون بن جنكيزخان ملك التتار صاحب " الياسق " والأحكام التركية، وهو والِدُ أويس، وكان يقال له حسن الكبير؛ تمييزًا له عن حسن بن تمرتاش, وهو أوَّلُ حُكَّام آل جلائر, كان حَسَنٌ الكبير زوجَ خاتون بغداد بنت الجوبان، فلم يزل بوسعيد إلى أن طلقها وأخذها منه قهرًا وأبعده، فلما مات بوسعيد عاد فمَلَك بغداد وأقام بها وجرت له مع التتارِ حروبٌ كثيرة ومع أولاد تمرتاش النصر فيها, ووقع في ولايته على بغداد الغلاءُ المفرط حتى بيع الخبزُ بصنج الدراهم، ونزح الناس عن بغداد، وقام هو بالمُلكِ أحسَنَ قيامٍ، ونشر العدل إلى أن تراجعَ الناس إليها، ولما كان في سنة 749 توجَّهَ إلى تُستَر ليأخُذَ من أهلها قطيعةً قَرَّرها عليهم فأخذها وعاد فوجد نوَّابه في بغداد قد وجدوا في رواق الغزر ببغداد ثلاثة قدورٍ مثل قدور الهريسة طول كل جبٍّ منها نحو ذراعين ونصف، والثلاثة مملوءة ذهبًا مِصريًّا وصوريا ويوسيفا وفي بعض سكة الناصر البغدادي، فيقال: جاء وزن ذلك أربعين قنطارًا بالبغدادي، ومات الشيخ حسن في سنة 757 وكان سياسيًّا وحكيمًا، فلم يُعلِنْ نَفسَه سلطانًا في العراق بل أعلن ولاءه لسلطان المماليك في مصر؛ لِيَضمَنَ حمايتَهم له من أي عدوان قد يتعرض له من المغول المجاورين لدولته من جهة الشرق، وكانت مدته سبع عشرة سنة، ثم قام بالأمر بعده ابنُه أويس بهادر خان خلفًا له.
هو الإمام العلامة شيخ الإسلام مجتهد العصر نادرة الوقت فقيه الدنيا وخاتمة المجتهدين: سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح -وصالح أول من سكن بلقينة- بن شهاب بن عبد الخالق بن عبد الحق بن مسافر بن محمد الكناني البلقيني الشافعي، وُلِد في ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان 724 ببلقينة، وهي قرية في المحلة الكبرى بطنطا. حفظ القرآن وهو في السابعة من عمره. حفظ المحرر في الفقه، والكافية لابن مالك في النحو، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، والشاطبية في القراءات. أقدمه أبوه إلى القاهرة وله اثنتا عشرة سنة، وأجاز له من دمشق الحافظ أبو الحجاج المزِّي، والحافظ الذهبي، وطلب العلم واشتغل على علماء عصره، وتفقَّه بجماعة كثيرة، وبرع في الفقه وأصوله، والعربية والتفسير، وغير ذلك، وأفتى ودرس سنين، وانفرد في أواخر عمره برئاسة مذهبه، وولي إفتاء دار العدل، ودرس بزاوية الشافعي المعروفة بالخشابية من جامع عمرو بن العاص، وولي قضاء دمشق عوضًا عن تاج الدين عبد الوهاب السُّبكي، فباشر مدة يسيرة، ثم تركه وعاد إلى مصر واستمرَّ بمصر يقرئ ويشتغل ويفتي بقية عمره، له مصنفات؛ منها: تصحيح المنهاج، ومحاسن الاصطلاح، وترجمان شعب الإيمان، وغيرها. توفي في يوم الجمعة عاشر ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع الحاكم، ثم دُفِن بمدرسته التي أنشأها تجاه داره بحارة بهاء الدين قراقوش من القاهرة.
قام السلطانُ المؤيد شيخ المحمودي في شهر ذي الحجة باستدعاء داود بن المتوكل على الله من داره، وهو أخو الخليفة العباسي العباس المستعين بالله، فحضر بين يديه بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربعة، فعندما رآه قام له، وقد ألبسه خِلعةً سوداء، وأجلسه بجانبه، بينه وبين قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني، فدعا القضاة، وانصرفوا على أن داود بن المتوكل على الله استقَرَّ في الخلافة، ولم يقع خلع الخليفة المستعين بالله، ولا أقيمت بينه بما يوجب شغور الخلافة عنه، ولا بويع داود هذا، بل خُلِعَ عليه فقط، ولُقِّبَ بأبي الفتح المعتضد بالله أمير المؤمنين، أما الخليفة المستعين بالله فأُخِذ إلى قلعة الجبل في دار بالقلعة مدة، ثم نُقِل إلى برج بالقلعة إلى يوم عيد النحر من سنة 819، فأُنزل من القلعة نهارًا إلى ساحل النيل على فرس، وصحبته أولاد الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق، وهم: فرج، ومحمد، وخليل، وتوجه معهم الأمير كزل الأرغون شاوي إلى الإسكندرية، فدام الخليفة المستعين هذا مسجونًا بالإسكندرية إلى أن نقله الملك الأشرف برسباي إلى قاعة بثغر الإسكندرية، فدام بها إلى أن توفي بالطاعون في يوم الأربعاء لعشرين بقين من جمادى الأولى سنة 833، ولم يبلغ الأربعين سنة من العمر، ومات وهو في زعمه أنه مستمِرٌّ على الخلافة، وأنه لم يُخلَع بطريق شرعي؛ ولذلك عهد بالخلافة لولده يحيى، فلما مات المعتضد داود في يوم الأحد رابع شهر الأول من سنة 845، تكلم يحيى المذكور في الخلافة، وسعى سعيًا عظيمًا، فلم يتِمَّ له ذلك.
لَمَّا هرب عبد الملك بن محمد المهدي أبو مروان وأحمد المنصور عمَّا المتوكل على الله محمد الثاني زعيم السعديين، بعد توليه الحكم في المغرب بسبب عدائه لهما- استنجدا بالدولة العثمانية في الجزائر، فوجدت الدولةُ العثمانية في انشغال مَلِك إسبانيا فيليب الثاني بأحداث أوروبا الغربية- حيث ثورة الأراضي المنخفضة- فرصةً مناسِبةً للتدخل في المغرب، فأمدُّوا عبد الملك بجيشٍ قوامه خمسة آلاف مقاتل مسلَّحين بأحسن الأسلحة، ودخل عبدالملك فاس بعد أن أحرز انتصارًا كبيرًا على ابن أخيه المتوكِّل على الله، وعاد الجيش أدراجه إلى الجزائر، وقام عبد الملك بإصلاحات في دولته، من أهمِّها أمَرَ بتجديد السفن، وبصُنع المراكب الجديدة، فانتعشت بذلك الصناعة، كما اهتمَّ بالتجارة البحرية، وكانت الأموال التي غَنِمَها من حروبه على سواحل المغرب سببًا في انتعاش ونمو الميزان الاقتصادي للدولة، أسَّس جيشًا نظاميًّا متطورًا واستفاد من خبرة الجندية العثمانية وتشبه بهم في التسليح والرُّتَب، كما استطاع أن يبنيَ علاقات متينة مع العثمانيين، وجعل منهم حُلَفاء وأصدقاء وإخوة مخلصين للمسلمين في المغرب، وفرض احترامَه على أهل عصره، حتى الأوروبيين، احترموه وأجلَّوه. اهتمَّ عبد الملك بتقوية مؤسسات الدولة ودواوينها وأجهزتها، واستطاع أن يشكِّلَ جهازًا شوريًّا للدولة أصبح على معرفة بأمور الدولة الداخلية، وأحوال السكان عامة، وعلى دراية بالسياسة الدولية وخاصةً الدول التي لها علاقةٌ بالسياسة المغربية، وكان أخوه أبو العباس أحمد المنصور بالله- الملقب في كتب التاريخ بالذهبي- ساعِدَه الأيمن في كل شؤون الدولة.
أرسل الشيخُ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز إلى والي مكة الشريفِ أحمد بن سعيد رسولًا بهدايا, وكان الشريفُ قد كاتبهما وطلب منهما أن يرسِلَا إليه فقيهًا وعالِمًا من جماعتهما يُبَيِّن حقيقة ما يدعونَ إليه من الدِّينِ، ويناظر علماءَ مكةَ، فأرسلا إليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، ومعه رسالة منهما, يقول ابن غنام: "لما وصل الشيخُ عبد العزيز الحصين على الشريفِ الملقب بالفعر، واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي، وعبد الوهاب بن حسن التركي- مفتي السلطان- وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقعت المناظرة فيها: الأولى: ما نُسِبَ إلينا من تكفير العموم، والثانية: هدمُ القبابِ التي على القبور، والثالثة: إنكار دعوة الصالحين للشَّفاعة. فذكر لهم الشيخ عبد العزيز أنَّ نسبة التكفير بالعموم إلينا زورٌ وبهتان علينا, وأمَّا هدم القباب التي على القبورِ فهو الحقُّ والصوابُ، كما هو وارد في كثيرٍ مِن الكتب، وليس لدى العلماء فيه شَكٌّ, وأما دعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل، فقد نص عليه الأئمة والعلماء وقرَّروا أنَّه مِن الشرك الذي فعله القدماء، ولا يجادِلُ في جوازه إلا ملحِدٌ أو جاهِلٌ, فأحضروا كتب الحنابلة فوجدوا أنَّ الأمر على ما ذكر فاقتنعوا, واعترفوا بأنَّ هذا دينُ الله، وقالوا هذا مذهب الإمام المعظَّم، وانصرف الشيخ عنهم مبجَّلًا معزَّزًا"
نقض أهلُ حرمة عهدَهم مع الأمير سعود بن عبد العزيز وتواعَدوا مع أهل الزلفي وأرسلوا إلى سعدون بن عريعر حاكِمِ الأحساء وأتباعِه مِن العربان أنَّهم يريدون أن يَسطُوا على بلدة المجمعة، وكان فيها مرابط وضباط من جهة الإمام عبد العزيز بن محمد، وقد تحقَّق عند أهل حرمة أنَّهم إن لم يأخُذوا المجمعة ويضبطوها لم يكن لهم في بلدهم قرار, فسار رجالٌ مِن أهل حرمة في زيِّ النساءِ وأمسكوا بروجَ النخيل، ثمَّ قَدِم عليهم أهلُ الزلفي بشوكتِهم، ثم قدم سعدون بالجموعِ العظيمة من بني خالد وغيرهم، فاجتمعت تلك الجموعُ ونزلوا وسطَ النخيل وحصروا أهل المجمعةِ في بلدتهم أيامًا حتى ضاق عليهم الأمرُ، فهمُّوا بالمصالحة وأرسلوا إلى سعدون يطلبون مهلةَ يومين يرجون وصولَ المدد لهم من جهة عبد العزيز, كان حسنُ بن مشاري بن سعود يدبِّرُ الأمر من جلاجل لدَعمِ أهل المجمعة، وتمكن مع بعض رجاله من أهل العارض وسدير من دخول المجمعة ليلًا على الرغم من شدة الحصار عليها. فلما عَلِمَ ابن عريعر وأتباعُه بذلك عرفوا أنهم ممتنعون، وقد كانت صدورُ البوادي ضاقت من طولِ الحصارِ، فرحلوا من المجمعة منصرفين، ورجع أهل الزلفي إلى بلَدِهم، واستقَرَّت الحرب بين أهلِ الجمعة وأهل حرمة، فجهز عبد العزيز أخاه عبد الله بالجنودِ، فنازل أهلَ حرمة ووقع بينهم قتالٌ شديدٌ قُتِل فيه عددٌ مِن رجال حرمة، ثم رحل عنهم عبد الله بعد أن ترك لأهل المجمعة خيلًا ورِجالًا، واستمَرَّت الحربُ بينهم أيامًا.
سيَّرَ شريف مكة الشريف غالبُ عساكِرَه بقيادة أخيه عبد العزيز إلى أعالي نجد لمحاربة أهلِها في قوة هائلة في العددِ والعُدَّة، نحو عشرة آلاف، ومعهم 20 مدفعًا وأمَرَهم أن يقصدوا الدرعية ومنازلَتَها فضلًا عن غيرِها من بلدانِ نجدٍ التابعة للدرعية, فلمَّا رأى أعداءُ الدعوة في نجدٍ هذه القوة أيقَنوا بنهاية دولة الدرعية ودعوة الشيخِ، خاصَّةً أنها جاءت من شريفِ مكَّةَ؛ ولذلك نقض عددٌ من العربان وأهالي بعض بلدان نجدٍ بيعَتَهم وعهدَهم مع الشيخ والأمير، وراسل الشريف عبد العزيز أناسًا من أهل بلدان نجدٍ، منهم حسين الدويش رئيس مطير وعربانه، وكثير من قحطان، فأقبلت تلك العساكِرُ والجنود معهم كثيرٌ مِن بوادي الحجاز وعربان شمر ومطير وغيرهم، وامتلأ منهم السهلُ والجبَلُ، وصار في قلوبِ المسلمين منهم وجَلٌ, فنزلوا على قصر بسَّام في السر وحاصروه أيامًا وضربوه بالمدافِعِ ولم ينالوا منه شيئًا، على الرغم أنَّ عدد من فيه لا يتجاوز30 رجلًا، وبناء القصر كان ضعيفًا! فرحل عنه الشريفُ عبد العزيز مع جموعِه ونزل في أرض السر أربعة أشهر، ثم عزم على العودة إلى قصر بسام، وحلَفَ ألا يدَعَه حتى يهدِمَه ويقتُلَ من فيه، فعمل السلالم ودهموا بها الجدرانَ فلم يحصلوا على طائلٍ, وقُتِلَ من قومِه عِدَّة رجال. كان الإمامُ عبد العزيز لما أقبلت تلك الجموعُ استنفَرَ أهالي بلدان نجد التابعين له مع ابنه الأمير سعود، فنزل سعود رمحين النفود بالقربِ مِن بلدة أشيقر، وأقام فيها يخيفُ جنود الشريف، وهذه الواقعة هي أوَّلُ لقاء عسكري بين أشرافِ الحجازِ والدرعية، كان المبادِرُ بالقتال فيها هو شريفَ مكةَ.