هو المَلِكُ المنصورُ، أبو الجودِ الأتابك عِمادُ الدين زنكي بنُ الحاجِبِ قسيم الدولة آقسنقر بن عبد الله التركي، صاحِبُ المَوصِل. وُلِدَ سنة 477. قتل والِدُه, قسيمُ الدَّولةِ مملوكُ السُّلطانِ ألب أرسلان, وله يومئذٍ عَشرُ سنينَ، ولم يُخَلِّفْ والِدُه ولدًا غَيرَه، فالتَفَّ عليه غِلمانُ أبيه، ورَبَّاه كربوقا، وأحسَنَ إليه, فكان زنكي بطلًا شُجاعًا مِقدامًا كأبيه، عظيمَ الهَيبةِ مَليحَ الصُّورةِ، أسمرَ جميلًا، قد وَخَطَه الشَّيبُ، وكان عاليَ الهِمَّةِ، لا يَقِرُّ ولا ينامُ، فيه غَيرةٌ حتى على نِساءِ جُندِه، عَمَرَ البِلادَ, وكان يُضرَبُ بشجاعتِه المَثَلُ، وهو من أشجَعِ خَلقِ الله. قبل أن يَملِكَ شارك مع الأميرِ مودود صاحبِ المَوصِلِ حِصارَ مدينةِ طَبريَّة، وهي للفِرنجِ، فوصلت طعنتُه إلى بابِ البَلَدِ، وأثَّرَ فيه. وحمل أيضًا على قلعةِ عقر الحميدية، وهي على جَبَلٍ عالٍ، فوصَلَت طعنتُه إلى سورِها, وأمَّا بعدَ مُلكِه، فكان الأعداءُ مُحدِقينَ ببِلادِه، وكلُّهم يَقصِدُها، ويريدُ أخْذَها، وهو لا يَقنَعُ بحِفظِها، حتى إنَّه لا ينقضي عليه عامٌ إلَّا وهو يفتَحُ مِن بلادِهم, ومِن شجاعَتِه التي لم يُسمَعْ بمِثلِها أنَّه كان في نَفَرٍ أثناءَ حصارِ طَبَريَّة وقد خرج الفِرنجُ مِن البَلَدِ، فحمل عليهم هو ومَن معه وهو يَظُنُّ أنَّهم يَتبَعونَه فتخَلَّفوا عنه وتقَدَّمَ وَحْدَه وقد انهزَمَ مَن بظاهِرِ البلدِ مِن الفرنجِ فدخلوا البلَدَ ووَصَلَ رُمحُه إلى البابِ فأثَّرَ فيه، وقاتلهم عليه وبَقِي ينتظر وصولَ من كان معه فحيث لم يَرَ أحدًا حمى نفسَه وعاد سالِمًا، فعَجِبَ النَّاسُ مِن إقدامِه أوَّلًا، ومِن سلامتِه آخِرًا, وكان زنكي من الأمراءِ المُقَدَّمينَ، فوَّضَ إليه السُّلطان محمودُ بن ملكشاه شحنكية بغداد، سنة 511 في العامِ الذي وُلِدَ له فيه ابنُه المَلِك العادِلُ نورُ الدين محمود، ثمَّ عَيَّنه السُّلطانُ محمود على المَوصِل، بتوصيةٍ مِن القاضي بهاءِ الدينِ أبو الحَسَن علي بن الشهرزوي وصلاح الدين محمد الياغبساني بعد أن أشارا به على وزير السُّلطان بقَولِهما: "قد عَلِمْتَ أنت والسُّلطانُ أنَّ بلادَ الجزيرة والشَّام قد استولى الإفرنجُ على أكثَرِها وتمَكَّنوا منها وقَوِيَت شَوكتُهم، وكان البرسقي يَكُفُّ بعضَ عادِيَتِهم، فمُنذ قُتِلَ ازداد طَمَعُهم، وهذا وَلَدُه طِفلٌ صَغيرٌ ولا بُدَّ للبلادِ مِن شَهمٍ شُجاعٍ يَذُبُّ عنها ويحمي حَوزَتَها، وقد أنهينا الحالَ إليكم لئلَّا يجريَ خَلَلٌ أو وهَنٌ على الإسلامِ والمُسلِمينَ فنَحصُلَ نحن بالإثمِ مِن الله تعالى، واللوم من السُّلطانِ، فأنهى الوزيرُ ذلك إلى السُّلطان فأعجَبَه، وقال: مَن تَرَيانِ يَصلُحُ لهذه البلادِ، فذكرا جماعةً فيهم عمادُ الدين زنكي، وعَظَّمَا محَلَّه أكثَرَ مِن غَيرِه" فأجاب السُّلطانُ إلى توليَتِه؛ لِمَا عَلِمَ مِن شَهامَتِه وكفايتِه، فوَلَّاه البلادَ جَميعَها، وكتب بذلك منشورًا, ولَمَّا قَدِمَ زنكي المَوصِل سَلَّمَ إليه السُّلطانُ محمود وَلَديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليُرَبِّيهما؛ فلهذا قيل لزنكي "أتابك"؛ لأنَّ الأتابك هو الذي يُرَبِّي أولاد الملوك. سار زنكي مِن بغدادَ إلى البوازيج ليَملِكَها ويتقَوَّى بها. كان زنكي يُحسِنُ اختيارَ رِجالِه وقادتِه، فيَختارُ أصلَحَهم وأشجَعَهم, وأكرَمَهم لِمَهامِّ ولايتِه وقيادةِ جُيوشِه، وكان في المُقابِلِ يُكرِمُهم ويَحتفي بهم. عَمِلَ زنكي على تَرتيبِ أوضاعِ المَوصِلِ فقَرَّرَ قواعِدَها فولَّى نصير الدين جقر دزدارية قلعةَ المَوصِل, وجَعَلَ الصَّلاحَ مُحمَّدَ الياغبساني أميرَ حاجِبِ الدولة وجعَلَ بهاء الدين قاضيَ قُضاةِ بلادِه جَميعِها وما يفتَحُه مِن البلادِ، ووفَى لهم بما وعَدَهم وكان بهاءُ الدين أعظَمَ النَّاسِ عنده مَنزِلةً وأكرَمَهم عليه وأكثَرَهم انبساطًا معه وقُربًا منه، ورَتَّبَ الأمورَ على أحسَنِ نِظامٍ وأحكَمِ قاعدةٍ, ثمَّ تفَرَّغَ عِمادُ الدين زنكي لتحريرِ بلاد المُسلِمينَ مِن الفرنج، فبدأ بتَوحيدِ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ وهي أراضي المُسلِمينَ المحيطةُ بالفِرنجِ الصَّليبيِّينَ في الشَّامِ, ففَتَحَ مدائِنَ عِدَّةً، وكان خُصومُه من المُسلِمينَ محيطينَ به مِن كُلِّ الجِهاتِ، وهو ينتَصِفُ منهم، ويستولي على بلادِهم, وقد أحاطت ولاياتُهم بولايتِه مِن كُلِّ جِهاتِها، فهو يقصِدُ هذا مَرَّةً وهذا مَرَّةً، ويأخُذُ مِن هذا ويَصنَعُ هذا، إلى أن مَلَك مِن كُلِّ مَن يليه طَرفًا مِن بلادِه، وحاصَرَ دِمشقَ وصالَحَهم على أن خَطَبوا له بها، ثمَّ بعد ذلك اتَّجَه للفِرنجِ واستَنقَذَ منهم كفرطاب والمعرَّة ودوَّخَهم، وشَغَلَهم بأنفُسِهم، ودانت له البلادُ، وخَتَم جِهادَه معهم باستنقاذِ إمارةِ الرَّها منهم. قال أبو شامة: "كان الفِرنجُ قد اتَّسَعَت بلادُهم وكَثُرَت أجنادُهم، وعَظُمَت هيبتُهم، وزادت صَولَتُهم، وامتَدَّت إلى بلادِ المُسلِمينَ أيديهم، وضَعُفَ أهلُها عن كَفِّ عاديهم، وتتابعت غزواتُهم، وساموا المُسلِمينَ سوءَ العذابِ، واستطار في البلاد شَرَرُ شَرِّهم، وامتَدَّت مَملَكتُهم من ناحيةِ ماردين وشبختان إلى عريشِ مِصرَ، لم يتخَلَّلْه مِن ولاية المُسلِمينَ غير حَلَب وحَماة وحمص ودمشق، فلما نظَرَ اللهُ سُبحانَه إلى بلادِ المُسلِمينَ ولَّاها عِمادَ الدِّينِ زنكي فغزا الفرنجَ في عُقرِ دِيارِهم، وأخذَ للمُوحِّدينَ منهم بثَأرِهم، واستنقذ منهم حصونًا ومعاقِلَ" توجَّه أتابك زنكي إلى قلعةِ جعبر ومالِكُها يومذاك سيفُ الدولةِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ مالك، فحاصَرَها وأشرَفَ على أخْذِها، فأصبح زنكي يومَ الأربعاء خامِسَ شَهرِ ربيع الآخر سنة 541 مَقتولًا، قَتَلَه خادِمُه وهو راقِدٌ على فراشِه ليلًا، ودُفِنَ بصفين. ذَكَرَ بَعضُ خواصِّه قال: "دخَلْتُ إليه في الحالِ وهو حيٌّ، فحين رآني ظَنَّ أني أريدُ قَتْلَه، فأشار إليَّ بإصبُعِه السبَّابة يَستَعطِفُني، فوقَفْتُ مِن هَيبَتِه، وقلتُ له: يا مولانا، مَن فَعَل بك هذا فلم يَقدِرْ على الكلامِ، وفاضَت نفسُه لوقتِه"، فكان- رحمه الله- شديدَ الهَيبةِ على عَسكَرِه ورَعِيَّتِه، عظيمَ السِّياسةِ، لا يَقدِرُ القَويُّ على ظُلمِ الضعيفِ، وكانت البلادُ قبل أن يَملِكَها خرابًا من الظُّلمِ ومُجاوَرةِ الفِرنجِ، فعَمَرَها وامتلأت أهلًا وسُكَّانًا. قال عز الدين بنُ الأثير في تاريخه: "حكى لي والدي قال: رأيتُ المَوصِلَ وأكثَرُها خرابٌ، وكان الإنسانُ لا يَقدِرُ على المشيِ إلى الجامِعِ العتيقِ إلَّا ومعه مَن يحميه؛ لِبُعدِه عن العمارةِ، وهو الآن في وسَطِ العِمارةِ، وكان شديدَ الغيرةِ لا سِيَّما على نساءِ الأجنادِ، وكان يقول: لو لم تُحفَظْ نِساءُ الأجنادِ بالهَيبةِ وإلَّا فَسَدْنَ لِكَثرةِ غَيبةِ أزواجِهنَّ في الأسفارِ". فلمَّا قُتِلَ تَمَلَّك ابنُه نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وابنُه غازي بالمَوصِل.
ثورةُ رشيد عالي الكيلاني هي سلسلةُ الأحداث الدستورية التي تصاعدت بسببِ تضارُبِ مدارس الحُكم الملكي في العراق وتياراتِه ما بين التيارِ الوطني الثوري التحرري، والتيار الليبرالي الميَّال لممالأة الإنجليز، في وقت كان العراقُ يمثِّل زعامةً ومدرسةً سياسيةً يُعتَدُّ بها في المنطقة العربية، فلما تفاقمت الأمورُ في الحكومة العراقية وتأزَّمت بسبب موقِفِ العراق من الحرب العالمية الثانية وموقِفِها من الدول المتحارِبة، وكذلك بسبب رفض إنجلترا تسليحَ العراق، شعرت إنجلترا بما يُساوِرُ نفوس العراقيين وما يختَلِجُها من الاستياء من سياستها في العراق، وكرههم للحكومة العراقية الموالية للمحتَلِّ ودورانها في فلَكِها، فأرادت بريطانيا أن تُخفِّفَ من وطأة هذه الكراهية عليها وعلى أعوانها، ورأت أن تُسلِّمَ الحُكمَ للمعارضة، وقد برز بين رجال المعارَضة رشيد عالي الكيلاني -المعروف بوطنيته وعدم ارتياحه للإنجليز- وأن تعمَلَ ما في وُسعِها ليدورَ في فلَكِها، وربما يحدِثُ هذا فيما إذا قرَّبه أعوانُها، وأظهرت رضاها عن ذلك، ولَمَّا لم تستطع تنفيذَ خططها بجَلبِه إلى دائرة سياستها أبرزت كيفيةَ تسلُّم الكيلاني الحكم، وأنه قد تمَّ عن ترشيح أصدقائها. وتبعًا لهذا فقد رشَّحه نوري السعيد والوصي معًا لتسلُّم السلطة، غير أن رشيد الكيلاني لم يعتَمِدْ على هذا الترشيح، وإنما كان يرتكِزُ على قاعدة قوية؛ فالشعبُ يَدعَمُه، والجيش يُؤيِّدُه، وإضافةً إلى هذا فقد أخذ تعهدًا من رجال السياسة سواء الذين يناوِئونه؛ أمثال نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وعلي جودت الأيوبي، وجميل المدفعي، أم الذين يؤيدونَه؛ أمثال ناجي شوكت، وناجي السويدي. ورُفِعَ هذا التعهُّد إلى الوصي فأيَّده، وبذا كانت الأرضُ التي يقف عليها رشيد عالي الكيلاني صلبةً، وخاب فألُ إنجلترا من كل النواحي؛ فمن ناحية ابتهج الشعب به، وضَمِنَ سلامة الخط، فأبدى الكيلاني مُعارضتَه للسياسة البريطانية، وأخذ يُصرِّح بذلك، ومن ناحية ثانية لم تستطع إنجلترا جرَّ رشيد عالي الكيلاني إلى سياستها، بل أبدى قوَّةً في الشخصية، وأظهر استقلاليَّتَه؛ حيث رفض قطْعَ العلاقة مع إيطاليا التي أعلنت الحربَ ضِدَّ إنجلترا وفرنسا، وهذا ما أغضب إنجلترا أشَدَّ الغضب؛ إذ أحسَّت أن العراقَ ليست تحت نفوذها، ولا تسيرُ برأيها، غيرَ أنَّه من الجانب الآخر قد ألهب هذا التصرُّفُ الشعبَ في العراق حماسةً لموقِفِ حكومته، وهذا ما زاده مُعارضةً للسياسة الإنجليزية. وانهارت فرنسا أمام الألمان، فطار الشعبُ فرحًا ليس حبًّا بالألمان، ولكن كرهًا لفرنسا ولسياستها الاستعمارية، وفي الواقع فقد زادت الدعايةُ لدول المحور في العراق رغبةً في هزيمة الحلفاء، ولم تُقصِّر المفوضية الإيطالية بذلك، وحتى توقعت إنجلترا أن تستأنِفَ العراق عَلاقتها مع ألمانيا، وهذا ما خَشِيَته أشدَّ الخشية، واستشاطت إنجلترا غضبًا وأخذت تعمل للتخلُّص من حكومة رشيد عالي الكيلاني، وكان لها ما أرادت؛ إذ أوعزت إنجلترا لأعوانها بالانسحاب من الوزارة، فكان عليها أن تستقيلَ وتُفسِحَ المجالَ لحكومة جديدة وأرادت إنجلترا أن تخرُجَ من المأزق الذي وقَعَت فيه بتسليم رشيد الكيلاني الحكم، وأرادت أن تخرجَ من المأزق بهدوءٍ ولا تعطي السلطةَ لأحدِ أعوانها؛ فقد يؤدى إلى مظاهرات وربما تندلع ثورة، وبمجرد أن طلب الوصيُّ من الكيلاني أن يقَدِّمَ استقالة حكومته حتى اهتَزَّ الوضع وتحرَّك الجيشُ وقامت مظاهراتٌ تطالب بتحقيق رأي الكيلاني بحَلِّ المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة، وتشَكَّلت وزارة طه الهاشمي، وهو قريب من المعارضة، وفي الخامس من ربيع الأول 1360هـ اجتمع في معسكر الرشيد رشيد علي الكيلاني: رئيس الحكومة، واللواء أمين زكي: رئيس الأركان، وبعض الضباط، وأعلنوا الاستنفارَ بالمعسكر وقرَّروا القيام بانقلابٍ إذا رفضت حكومةُ طه الهاشمي الاستقالةَ، وهي الحكومة التي ترضى عنها بريطانيا ويؤيِّدُها الوصيُّ على الملك عبد الإله بن علي، ثمَّ طلبوا منه التفاهُمَ مع الكيلاني لتشكيل وزارة جديدة، فأبى ثم أُجبِرَ على الاستقالة، ولما أُعلِمَ الوصي بذلك هرب متسللًا ودعا طه أعضاء وزارته للاجتماع به، وكان الجيش قد دخل المدينةَ وسيطر على المداخل الرئيسة وحاصر قصر الوصي الذي هرب منه، ثم في صباح 6 من ربيع الأول ذهب رشيد الكيلاني إلى دار طه لإقناعه بالانضمام لحركتِهم فوجدوا الوزارةَ ما زالت مجتَمِعةً، فجرى نقاشٌ حادٌّ ثم اجتمع الرأي على إبقاء الوزارة في الحكمِ، وألا يتدخَّل الجيش في السياسة، ويتعهد المدنيون والعسكريون على السواء بأن يقبَلوا بما يتم الاتفاق عليه، ويُطلَب من الوصي العودة للعاصمة، الذي كان قد انتقل إلى البصرة، ثم عاد رشيد الكيلاني والضباط فسَحَبوا الثقة من حكومة طه، وقرَّر الجيش تحمُّل المسؤولية في هذه المرحلة الحَرِجة, وقام رشيد باستدعاء المستشار الإنجليزي بوزارة الداخلية، وأعلمه أن حكومة طه الهاشمي استقالت والوصي غائب، وبذلك فالجيش هو مصدرُ السلطة، وقد أوكل الجيشُ لرشيد الأمرَ وهرب الوصي ومن معه إلى فلسطين، وتمَّ عَزلُ الوصي عبد الإله، وتعيين وصي جديد هو الشريف شرف الذي قَبِلَ استقالة حكومة طه الهاشمي، وسُرَّ الشعب بحركة رشيد عالي الكيلاني، وأما إنجلترا فقد عَدَّت هذا عملًا غير مشروع فقررت التخلُّصَ من حركته بالقوة، فطلبت من الهند إرسالَ قوات فنزلت رغم أنف الحكومة الجديدة، وحاصر الجيشُ العراقي قاعدةَ الحبانية الجوية، وفي 5 ربيع ثاني وزَّعت السفارة البريطانية منشورًا تتهم فيه الكيلاني وقادةَ الجيش أنهم باعوا أنفسهم للألمان والطليان، وأنها خوَّلت سفيرها اتخاذ ما يراه مناسِبًا، وفي الغد صباح 6 ربيع الثاني بدأ الهجومُ الجوي الإنجليزي وضَرْب المواقع العراقية وقصَفَت معسكر الرشيد، وأعلن المفتي الفلسطيني الجهادَ، وجاءت قواتٌ ألمانية تُعِين العراقيين بحكم عدائها لبريطانيا ضِمنَ الحرب العالمية الثانية إلَّا أنَّ قَصْفَها ليس جادًّا بالنسبة لَمَّا عُرٍف عن السلاح الجوي الألماني، ثم تدخَّلت قوات برية إنجليزية من الأردن، فقام رشيد الكيلاني بتشكيلِ لجنة الأمن الداخلي واتصل بالسياسيين لوقف القتال، وفي 6 جمادى الأولى رحل رشيد الكيلاني ومفتي فلسطين وغيرهم إلى طهران، وفي 7 جمادى الأولى وافق أمينُ العاصمة أرشد العمري على شروطِ هدنة قاسية على العراقيين؛ لأنَّهم لم يعودوا قادرين على مقاومة الإنجليز، فلم يكن لهم خيارٌ غير القبول بالهدنة، وعاد الوصي عبد الإله ونوري السعيد ومن معهما من أعوان الإنجليز إلى بغداد على متن طائرة بريطانية، وبهذا انتهت حركةُ رشيد عالي الكيلاني التي تعلَّقَت بها آمال العراقيين في التخَلُّص من الاستعمار البريطاني بمساعدة أعداء بريطانيا المتمَثِّل في الألمان والطليان.
وهي غزوةُ ذي أمَرَّ بناحيةِ نَجدٍ. وسَبَبُها: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَلَغه أنَّ جَمعًا من بني ثَعلَبَة بنِ سَعيدِ بن ذُبْيانَ بن بَغيضٍ بنِ رَيثِ بن غَطَفانَ، وبني مُحارِبِ بن خَصَفةَ بن قَيسٍ بذي أمَرَّ قد تَجَمَّعوا يُريدون أن يُصيبوا مِن أطرافِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَمَعهم رجلٌ منهم يُقال له: دُعْثورُ بن الحارِثِ بن مُحارِبٍ، فنَدَب رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسلمين، وخرج في أربعِمِئةٍ وخَمسين، معهم عِدَّةُ أفراسٍ، واستَخلَف على المدينةِ عُثمانَ بنَ عفانَ، فأصابوا بالمدينةِ رجلًا منهم بذي القَصَّةِ يُقال له: جَبَّارٌ من بني ثَعلَبةَ، فقال له المسلمون: أين تُريد؟ فقال: أُريدُ يَثرِبَ لأرتاَد لنَفسي وأنظُرَ، فأُدخِلَ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرَه مِن خَبَرِهم، قال: لن يُلاقوك ولو سَمِعوا بسَيرِك هَرَبوا في رؤوسِ الجبالِ وأنا سائِرٌ معك، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الإسلامِ وأسلم، وضمَّه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بلالٍ، فأخَذَ به جبَّارٌ طَريقًا، وهَبَط به عليهم، وسَمِع القومُ بمَسيرِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهَرَبوا في رؤوسِ الجِبالِ، فبَلَغ ماءً يقال له: ذو أمَرَّ، فعَسكرَ به، وأصاب رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه مطرٌ كثيرٌ، فابتَلَّت ثيابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وثيابُ أصحابِهِ؛ فنزل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تحتَ شجرةٍ ونَشَر ثيابَهُ لتَجِفَّ، واضطَجَع، وذلك بمَرأًى من المُشرِكين، واشتَغَل المسلمون في شؤونِهم. فبَعَث المشركون رَجلًا شُجاعًا منهم يقال له: دُعْثورُ بنُ الحارث، وكان سيِّدَها وأشجَعَها، ومعه سيفٌ متقلِّدٌ به، فبادَرَ دُعْثورٌ وأقبَلَ مُشتَمِلًا على السَّيفِ، حتى قام على رأسِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالسَّيفِ مشهورًا، فقال: يا مُحمَّدُ، مَن يَمنَعُك مِنِّي اليَومَ؟ فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اللهُ". ودَفَع جِبريلُ في صدرِه، فوقَع السَّيفُ من يدِه؛ فأخَذه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال له: "مَن يَمنَعُك مِنِّي؟!" فقال: لا أحَدَ، وأنا أشهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ الله، والله لا أُكثِّرُ عليك جَمعًا أبدًا، فأعطاهُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيفَه.ثم أتى قَومَه فقالوا: ما لك؟ وَيلَكَ! فقال: نَظرتُ إلى رجلٍ طَويلٍ، فدَفَع في صَدري، فوَقَعتُ لظَهري، فعَرَفتُ أنَّه مَلَك، وشَهِدتُ بأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، واللهِ لا أُكثِّرُ عليه جَمعًا. وجَعَل يَدعو قومَه إلى الإسلامِ. وأنزل الله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة 11]. وعاد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ولم يَلْقَ كَيدًا، وكانت غَيبَتُه خمسَ عشرةَ ليلةً، وقيل: قام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنَجدٍ صَفَرَ كُلَّه.
سار طغرلبك إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاه ملك بين يديه، واستصحَبَ أموالَه وذخائِرَه، ومضى في المفازةِ إلى دهستان، ثم انتَقَل عنها إلى طبس، ثمَّ إلى أطراف كرمان، ثمَّ إلى عمال التيز ومكران، فلمَّا وصَلَ إلى هناك عَلِمَ خلاصَه ببُعدِه، وأمِنَ في نفسه، ثمَّ خرجَ طغرلبك من خراسانَ إلى الريِّ بعد فراغِه مِن خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلمَّا سَمِعَ أخوه إبراهيمُ ينال بقدومِه سار إليه فلَقِيَه، وتسَلَّم طغرلبك الريَّ منه، وتسَلَّمَ غيرَها من بلد الجبل وسار إبراهيمُ إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضًا قلعةَ طبرك من مجدِ الدَّولة بن بُوَيه، وأقام عنده مُكَرَّمًا، وأمَرَ طغرلبك بعمارةِ الرَّيِّ وكانت قد خَرِبَت، ثمَّ ساروا إلى قزوين، فامتنعَ عليه أهلُها، فزحف إليهم ورماهم بالسِّهامِ والحجارة، فلم يَقدِروا أن يَقِفوا على السورِ، وقُتِلَ مِن أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثَمِئَة وخمسين رجلًا، فلمَّا رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملِكَ البلد عَنوةً ويَنهَب، فمنعوا الناسَ مِن القتال، وأصلحوا الحالَ على ثمانينَ ألف دينار، وصار صاحبُها في طاعته، ثمَّ إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقَدَّم خروجُهم، يُمَنِّيهم ويدعوهم إلى الحضورِ في خدمته، وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلمِ يدعوه إلى الطاعة، ويطلُبُ منه مالًا، ففعل ذلك، وحَمَل إليه مالًا وعُروضًا، وأرسل أيضًا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمتِه، ويطالبُه بحمل مِئَتي ألفِ دينار، فاستَقَرَّ الحالُ بينهما على الطاعةِ وشَيءٍ مِن المال. وأرسلَ سَريَّةً إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدَّولة، فأغارت على أعمالِها وعادت سالِمةً، وخرج طغرلبك من الريِّ، وأظهر قصدَ أصبهان، فراسلَه فرامرز، وصانَعَه بمالٍ، فعاد عنه وسار إلى همذان فمَلَكَها من صاحِبِها كرشاسف بن علاء الدَّولة، ثمَّ عاد إلى الريِّ، واستناب بهمذان ناصرًا العَلويَّ، وسَيَّرَ طغرلبك طائفةً من أصحابِه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الريَّ، وقيل إنَّ إبراهيمَ لم يقصِدْ كرمان، وإنَّما قصد سجستان، وكان مُقَدَّم العساكِرِ التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نَهَبوا، ولم يُقدِموا على التوغُّلِ فيها، فلم يَرَوا من العساكِرِ مَن يَكُفُّهم، فتوسَّطوا ومَلَكوا عِدَّةَ مواضعَ منها ونَهَبوها، فبلغ الخبَرُ إلى الملك أبي كاليجار، صاحِبِها، فسَيَّرَ وزيرَه مُهذَّب الدَّولة في العساكِرِ الكثيرة، فخرجت الغزُّ إلى الجِمالِ والبغال والميرة ليأخُذوها، وسَمِعَ مهذَّب الدَّولة ذلك، فسيَّرَ طائفةً مِن العسكر لمنعِهم، فتواقعوا واقتَتلوا، وتكاثرَ الغز، فسَمِعَ مُهَذَّب الدَّولة الخبَرَ، فسار في العساكِرِ إلى المعركة، وهم يقتَتِلون، وقد ثبَتَت كل طائفة لصاحبتِها واشتَدَّ القتال، فلما وصل مهذَّب الدَّولة إلى المعركة انهزم الغُزُّ وتركوا ما كانوا ينهَبونَه، ودخلوا المفازةَ، وتَبِعَهم الديلم إلى رأسِ الحدِّ، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسَدَ منها.
لمَّا خَرجَ طُغرلبك من بغداد خَلْفَ أَخيهِ إبراهيمَ ينال استَغلَّ الفُرصةَ البساسيري، فلمَّا كان يومُ الأحدِ الثامن من ذي القعدة جاء إلى بغداد ومعه الرَّاياتُ البِيضُ المِصريَّةُ العُبيدِيَّةُ، وعلى رَأسِه أَعلامٌ مَكتوبٌ عليها اسمُ المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ، أَميرُ المؤمنين، فتَلقَّاهُ أَهلُ الكَرخِ الرَّافِضَةُ وسَألوهُ أن يَجتازَ من عندهم، فدَخلَ الكَرخَ وخَرجَ إلى مشرعةِ الزَّاويا، فخَيَّمَ بها والنَّاسُ إذ ذاك في مَجاعةٍ وضُرٍّ شَديدٍ، ونَزلَ قُريشُ بن بَدران وهو شَريكُ البساسيري في هذه الفِتنةِ، في نحوٍ مِن مائتي فارسٍ على مشرعةِ بابِ البَصرةِ، وكان البساسيري قد جَمعَ العَيَّارِينَ وأَطمَعَهُم في نَهبِ دارِ الخِلافةِ، ونَهَبَ أَهلُ الكَرخِ مِن الشِّيعةِ دُورَ أَهلِ السُّنَّةِ ببابِ البَصرةِ، ونُهِبَت دارُ قاضي القُضاة الدَّامغاني، وتملك وهلك أَكثرُ السِّجِلَّاتِ والكُتبِ الحُكمِيَّة، وبِيعَت للعطَّارِين، ونُهِبَت دُورُ المُتعلِّقِين بخِدمةِ الخَليفةِ، وأَعادَت الرَّوافضُ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَملِ، وأُذِّنَ به في سائرِ نواحي بغداد في الجُمُعاتِ والجَماعاتِ وخُطِبَ ببغداد للمُستَنصِر العُبيدي على مَنابِرِها، وضُربَت له السِّكَّةُ على الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وحُوصِرَت دارُ الخِلافةِ، فدافَع الوزيرُ أبو القاسم بن المسلمة المُلَقَّب برَئيسِ الرُّؤساءِ، بمن معه من المُستَخدِمين دون دارِ الخِلافةِ, فلم يُفِد ذلك شيئًا، فرَكِبَ الخَليفةُ بالسَّوادِ والبُردَةِ، وعلى رَأسِه اللِّواءُ وبِيَدِه سَيفٌ مُصَلَّتٌ، وحولَه زُمرةٌ مِن العبَّاسيِّين والجواري حاسِراتٌ عن وُجوهِهنَّ، ناشِراتٌ شُعورِهِنَّ، ومَعهُنَّ المصاحِفُ على رُؤوسِ الرِّماحِ، وبين يَديهِ الخَدَمُ بالسُّيوفِ، ثم إنَّ الخَليفةَ أَخذَ ذِمامًا من أَميرِ العَربِ قُريشٍ لِيَمنَعهُ وأَهلَهُ ووَزيرَهُ ابن المسلمة، فأَمَّنَهُ على ذلك كُلِّه، وأَنزلَه في خَيمةٍ، فلامَهُ البساسيري على ذلك، وقال: قد عَلِمتَ ما كان وقعَ الاتفاقُ عليه بيني وبينك، من أنَّك لا تَبُتَّ برَأيٍ دُوني، ولا أنا دُونكَ، ومهما مَلكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذَ القاسمَ بن مَسلمةَ فوَبَّخَهُ تَوبيخًا مُفضِحًا، ولامَهُ لَومًا شَديدًا ثم ضَربهُ ضَربًا مُبرِحًا، واعتَقلهُ مُهانًا عنده، ونَهبَت العامَّةُ دارَ الخِلافةِ، ثم اتَّفقَ رأيُ البساسيري وقُريشٍ على أن يُسَيِّروا الخليفةَ إلى أَميرِ حَديثَةِ عانَة، وهو مهارش بن مجلي النَّدوي، وهو مِن بني عَمِّ قُريشِ بن بدران، وكان رجلًا فيه دِينٌ وله مُروءةٌ، فلمَّا بلغ ذلك الخَليفةَ دَخلَ على قُريشٍ أن لا يخرج من بغداد فلم يَفِد ذلك شيئًا، وسَيَّرَهُ مع أَصحابِهما في هَودَج إلى حَديثَةِ عانَة، فكان عند مهارش حَولًا كامِلًا، وليس معه أَحدٌ من أَهلِه، وأما البساسيري، وما اعتَمدَهُ في بغداد، فإنَّه رَكِبَ يومَ عيدِ الأضحى وأَلبَس الخُطباءَ والمُؤذِّنينَ البَياضَ، وكذلك أَصحابَه، وعلى رَأسِه الأَلوِيَةُ العُبيديَّة المِصريَّة، وخَطَب للمُستَنصِر العُبيدي المِصري، وانتَقَم البساسيري من أَعيانِ أَهلِ بغداد انتِقامًا عَظيًما، وغَرَّقَ خَلْقًا ممن كان يُعادِيه، وبَسَطَ على آخرين الأرزاقَ ممن كان يُحبُّه ويُواليه، وأَظهرَ العَدلَ، ثم إنَّه عَلَّقَ ابنَ المسلمة رَئيسَ الرُّؤساءِ بِكَلُّوبٍ في شِدْقَيْهِ، ورُفِعَ إلى الخَشبةِ، إلى أن مات.
جازَ يوسفُ بن تاشفين ثانِيةً وتَثاقَلَ أُمراءُ الطَّوائفِ عن لِقائِه لِمَا أَحَسُّوا مِن نَكيرِه عليهم أَخذَهُم المُكوسَ، فوَجَدَ عليهم، وعَهِدَ بِرَفعِ المُكوسِ وتَحرِّى العَدل، فلمَّا أَجازَ انقَبَضوا عنه إلا ابنَ عبَّادٍ فإنه بادَرَ إلى لِقائِه, وتَوافَقَ مُلوكُ الطَّوائفِ على قَطْعِ المَدَدِ عن عَساكرِه ومحلاتِه فساءَ نَظرُه، قال ابنُ خَلدون: "وأَفتاهُ الفُقهاءُ وأَهلُ الشُّورَى من المَغرِب والأَندَلُس بخَلعِهم وانتِزاعِ الأَمرِ من أَيدِيهم، وصارَت إليه بذلك فَتاوَى أَهلِ الشرقِ الأَعلامِ مثل: الغَزَالي والطَّرطوشي"، فاتَّجَهَ إلى غرناطة واستَنزَل صاحِبَها عُبيدَ الله بن بلكّين بن باديس وَأخاهُ تَميمًا من مالقة بعدَ أن كان منهما مُداخلةُ الطَّاغِيَة ألفونسو في عَداوَةِ يوسف بن تاشفين، وبَعَثَ بهما إلى المَغرِب فخافَ ابنُ عبَّادٍ عند ذلك منه وانقَبَضَ عن لِقائِه وفَشَت السِّعاياتُ بينهما. ونَهَضَ يُوسفُ بن تاشفين إلى سَبتَة فاستَقرَّ بها، وعَقَدَ للأَميرِ سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأَندلسِ وأَجازَهُ فقَدِمَ عليها، وقَعَدَ ابنُ عبَّادٍ عن تَلَقِّيهِ ومَبَرَّتِه فأَحفَظَهُ ذلك، وطالَبَهُ بالطَّاعَةِ للأَميرِ يوسف والنُّزولِ عن الأَمرِ، ففَسَدَ ذاتُ بينِهما، وغَلَبَهُ على جَميعِ عَمَلِه. واستَنزَلَ أَولادَ المأَمونِ من قُرطبة، ويَزيدَ الرائضَ من رندة وقرمونة، واستَولَى على جَميعِها وقَتَلَهم. وصَمَدَ إلى إشبيليّة فحاصَرَ المُعتَمِد بها وضَيَّقَ عليه، واستَنجَدَ الطاغِيَة فعَمَدَ الى استِنقاذِه من هذا الحِصارِ، فلم يُغنِ عنه شَيئًا، وكان دِفاعُ لمَتونَة ممَّا فَتَّ في عَضُدِه، ودَخلَ المُرابِطون قُرطبة سَنةَ 484هـ, واقتَحمَ والمُرابِطون إشبيليّة عليه عُنوةً سَنةَ 484هـ وتقبّض وقَبَضَ على المُعتَمِد وقادَهُ أَسيرًا إلى مَراكش، فلم يَزَل في اعتِقالِ يوسف بن تاشفين إلى أن هَلَكَ في مَحبَسِه بأغمات سَنةَ 490هـ، ثم عَمَدَ إلى بطليوس وتقبّض وقَبَضَ على صاحبها عُمرَ بنَ الأَفطَس فقَتَلَه وابنَيْهِ يومَ الأضحى سَنةَ 489هـ بما صَحَّ عنده مِن مُداخَلَتِهم الطاغية، وأن يُمَلِّكوهُ مَدينةَ بطليوس، ثم أجازَ يوسفُ بن تاشفين الجوازَ الثالثَ سَنةَ 490هـ وزَحَفَ إليه الطاغية فبَعثَ عَساكرَ المُرابِطين لنظر محمد بن الحاج فانهَزمَ النَّصارَى أَمامَه، وكان الظهورُ للمُسلِمين. ثم أَجازَ الأَميرُ يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سَنةَ 493هـ، وانضَمَّ إليه محمدُ بن الحاج، وسيرُ بنُ أبي بكر، واقتَحَموا عامَّةَ الأندلسِ من أَيدِي مُلوكِ الطَّوائفِ، ولم يَبقَ منها إلا سرقسطة في يَدِ المُستَعينِ بن هود الذى كان قد أَبلَى بَلاءً حَسَنًا في جِهادِ النَّصارَى جَعلَت ابنُ تاشفين يُبقِيه في مُلكِه، وصار سَدًّا مَنيعًا في حِمايَةِ الثُّغورِ الشماليَّةِ من هَجَماتِ النَّصارَى, قال الذهبيُّ: "سالَمَ المُستَعِينُ بالله ابنُ هود صاحِبُ شَرقِ الأندلسِ ابنَ تاشفين، وكان يَبعَثُ إليه بالتُّحَفِ. وكان هو وأَجنادُه ممَّن يُضرَب بهم المَثَلُ في الشَّجاعَةِ، فلمَّا احتَضَر يوسفُ بن تاشفين أَوْصَى وَلَدَهُ عَلِيًّا بِبَنِي هود، وقال: اترُكهُم بينَك وبين العَدُوِّ، فإنَّهم شُجعانٌ" وغَزَا الأَميرُ مزدلي صاحِبُ بلنسية إلى بَلدِ برشلونة فأَثخَنَ بها وبَلَغَ إلى حيث لم يَبلُغ أَحدٌ قَبلَهُ، ورَجَعَ.
هو الأميرُ الكبير فارس الدين التركي، أقطاي بن عبد الله الجمدار- حامل ملابس السلطان- الصالحي، النَّجمي، من كبار مماليك المَلِك الصالح نجم الدين أيوب. كان شجاعًا جَوادًا كريمًا مهابًا، وهابًا. ذكر شمس الدين الجزري في " تاريخه ": "أنه كان مملوكًا للزكي إبراهيم الجزري المعروف بالجبيلي، اشتراه بدمشق ورباه، ثم باعه بألف دينار، فلما صار أميرًا وأقطعوه الإسكندرية طَلَبَ من الملك الناصر إطلاقَ أستاذه المذكور، وكان محبوسًا بحمص، فأطلقه وأرسَلَه إليه، فبالغ في إكرامِه، وخلع عليه، وبعثَه إلى الإسكندرية، وأعطاه ألفي دينار. قلت(الذهبي): وكان طائشًا عاملًا على السلطنة، وانضاف إليه البحرية كالرشيدي وركن الدين بيبرس البندقداري الذي صار سلطانًا, وسار مرَّتين إلى الصعيد فظلم وعسَفَ وقتَلَ وتجَبَّرَ، وكان يركَبُ في دست يضاهي دست السَّلطنة ولا يلتفت على المَلِك المعز أيبك ولا يعده، بل يدخل إلى الخزائنِ ويأخُذُ ما أراد. ثمَّ إنه تزوج بابنة صاحب حماة، وبُعِثَت العروس في تجمُّل زائد، فطَلَب فارسُ الدين أقطاي القلعةَ من الملك المعز ليسكُنَ فيها وصَمَّم على ذلك، فقالت أم خليل شجرة الدر لزوجها المعِزِّ: هذا ما يجيءُ منه خير. فتعاملا على قَتلِه". فلما استفحل أمرُ الأمير الفارس أقطاي الجمدار وانحازت إليه البحريَّة، بحيث إذا ركب أقطاي من دارِه إلى القلعة شَغَل بين يديه جماعةً بأمره، ولا يُنكر هو ذلك منهم فكانوا يأخذون أموالَ الناس ونساءَهم وأولادَهم بأيديهم، فلا يقدِرُ أحدٌ على منعهم، وكانوا يدخُلونَ الحَمَّامات ويأخذون النِّساءَ منها غصبًا، وكَثُرَ ضَرَرُهم كثيرا، هذا والمعِزُّ يحَصِّل الأموال، وقد ثَقُل عليه أقطاي، فواعد طائفةً مِن مماليكه على قَتلِه، وبعث المعِزُّ إليه وقت القائلةِ مِن يوم الأربعاء ثالث شعبان، ليحضُرَ إليه بقلعة الجبل في مشورةٍ يأخذ رأيَه فيها، فركب أقطاي على غيرِ أُهبة ولا اكتراث، فعندما دخل من باب القلعة، وصار في القاعة أُغلِقَ باب القلعة، ومُنِعَ مماليكُه من العبور معه، فخرج عليه جماعةٌ بالدهليز قد أعدوا لقَتلِه وهم قطز وبهادر وسنجر الغنمي، فهبروه بالسُّيوفِ حتى مات، فوقع الصريخُ في القلعة والقاهرة بقَتلِه، فركب في الحالِ مِن أصحابه نحوُ السبعمائة فارس ووقفوا تحت القلعةِ، وفي ظنهم أنَّه لم يُقتَل وإنما قُبِضَ عليه، وأنهم يأخذونَه من المعِزِّ، وكان أعيانُهم بيبرس البندقداري، وقلاوون الألفي، وسنقر الأشقر، وبيسرى، وسكز، وبرامق، فلم يشعروا إلا ورأسُ أقطاي قد رمى به المعزُّ إليهم، فسُقِطَ في أيديهم وتفَرَّقوا بأجمعهم، وخرجوا في الليلِ مِن القاهرة وحَرَقوا باب القراطين، فعرف بعد ذلك بالباب المحروقِ، فمنهم من قصد المَلِكَ المغيث بالكرك، ومنهم من سار إلى الملك الناصِر بدمشق، ومنهم من أقام ببلاد الغورِ والبلقاء والكرك والشوبك والقدس، يقطَعُ الطريق ويأكل بقائِمِ سَيفِه. وهو غيرُ الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب نائب السلطنة بالشام.
اتفَقَ الأمير بيبغا روس نائِبُ حلب مع الأمير أحمد الساقي نائب حماة، والأمير بكلمش نائب طرابلس على العصيان، فجُرِّدَ في يوم السبت سابع عشر رجب جماعةٌ من الأمراء وأجناد الحلقة إلى الصعيد، منهم عمر شاه الحاجب، وقماري الحاجب، ومحمد بن بكتمر الحاجب، وشعبان قريب يلبغا، وكتب لبيبغا روس نائب حلب بالحضور إلى مصر، على يَدِ سنقر وطيدمر من مماليك الحاج أرقطاي، وكتب معهما ملطفات لأمراء حلب تتضَمَّنُ أنَّه إن امتنع عن الحضور فهو معزولٌ، ورسم لهما أن يُعلِمَا بيبغا بذلك أيضًا مُشافهةً بحَضرةِ الأمراء، فقَدِمَ البريد من دمشق، بموافقة ابنِ دلغادر لبيبغا روس، وأنه تسلطن بحلب، وتلَقَّبَ بالملك العادل، وأظهر أنَّه يريد مصر لأخذِ غُرَمائِه، وهم طاز وشيخو وصرغتمش وبزلار وأرغون الكاملي نائب الشام، ثم قَدِمَ البريد بأن قراجا بن دلغادر قَدِمَ حَلَب في جمع كبير من التركمان، فركب بيبغا روس وقد واعد نائِبَ حماة ونائب طرابلس على مسيرة أول شعبان، وأنَّهم تلقوه بعساكرهم على الدستن، فركب الأمير أرقطاى الدوادار الكبير البريد، بملطفاتٍ لجميع أمراء حلب وحماة ونائب طرابلس، فقَدِمَ دمشق وبعث بالملطفات لأصحابِها، فوجد أمر بيبغا روس قد قَويَ، ووافقه النواب والعساكر والأمير زين الدين قراجا بن دلغادر تركمانه وكسابته، وجبار بن مهنا بعُربانه، فكتب الأمير أرغون الكاملي نائب الشامِ بأنَّ سَفَر السُّلطانِ لا بُدَّ منه، "وإلا خرح عنكم جميعُه"، فاتفق رأي الأمراء على ذلك، وخرج الأمير طاز في يوم الخميس ثالث شعبان، ومعه الأميرُ بزلار، والأمير كلتاي أخو طاز، وفارس الدين ألبكي، ثمَّ خرج الأمير طيبغا المجدي وابن أرغون النائب، ثمَّ إنَّ بيبغا روس حاول أخْذَ دمشق وحاصرها واشتَدَّ الأمر على أهل دمشق وامتنعوا عليه، فأمر بنهب البلد من الضياع والبساتينِ، ثم إن عسكر مصر بقيادة طاز وصل إلى دمشقَ فهرب بيبغا إلى حلب، ثم لجأ منها إلى ابن دلغادر ذو القدر أمير ألبستان وملاطية، ولكِنْ لم يلبَثْ الأمر كثيرًا حتى كان القبضُ عليه ومن معه من أعوانِه ثمَّ تمَّ قَتلُه بعد ذلك في السنة التالية بحَلَب؛ حيث سلَّمَه الأمير ابن دلغادر إلى نائب حلب الجديد أرغون الكاملي بعد أن حَلَفَ له الأخيرُ أنه لا يحارِبُه، ثمَّ يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة قدم البريدُ مِن حَلَب بأخذ أحمد الساقي نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، من عند ابن دلغادر، وقد قبَضَهما، فدخلا حلب في الحادي عشر، وسُجِنا بقلعَتِها، فأجيب الأميرُ أرغون الكاملي نائب حلب بالشكر والثناء، وأنَّه يشهر المذكورين بحلب، ويقتُلُهما، وجَهَّزَ لنائب حلب خِلعةً.
في الخامس من رجب حصل بين المماليك الأجلاب وبعض الأمراء مناوشات، وكان عند السلطان جماعة من خشداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرق الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة الحرب وعادوا إلى القصر بقوة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم لنهب الحريم السطاني بداخل الدور، ودخل على السلطان ثلاثة أنفار منهم وهم ملثَّمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلًا، ثم قام معهم مخافةً من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشًا ومقعدًا، ونزل معه بعض مماليكِه وبعض الأجلاب أيضًا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النمجة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خير بك، بعد أن أطلقوا عليه اسم السلطان، وقبَّل له الأرض جماعةٌ من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هؤلاء الأجلاب الأوباش، غير أن خير بك لما أخذ النمجة والدرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصينِ القلعة، وبينما هو في ذلك فرَّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدي ومغلباي وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خير بك بدًّا من الإفراج عن الملك الظاهر تمربغا ومن معه من خشداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خير بك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبِّلُها، ويبكي ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرع أنواعًا كثيرة، فقَبِل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النمجة والدرقة، وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوي أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباي بمن معه من الأمراء بالرملة، فلما تم جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته، أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباي لمساعدته، ولما تم أمر الأتابك قايتباي من قتال الأجلاب وانتصر، طلع من باب السلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل بتلك العظمة الزائدة فكلَّمه بعض الأمراء في السلطنة، وحسَّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعًا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبَّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضًا، فقالوا: ما بقي يفيد الامتناع، وقد قبَّلنا لك الأرض، فإمَّا تذعن وإما نسلطن غيرك، فأجاب عند ذلك، فلما تمَّ أمر الأتابك قايتباي في السلطنة، طلع الأمير يشبك بن مهدي الظاهري الكاشف بالوجه القبلي إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرَّفه بسلطنة قايتباي، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة فكانت مدة سلطنته ثمانية وخمسين يومًا، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباي بالسلطنة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي، ونودي في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقب بالملك الأشرف قايتباي المحمودي.
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
بعد أن قام الظَّاهِرُ برقوق بالاستيلاء على مِصرَ وعودَتِه إليها، بقي منطاش في دمشق عاصيًا على السلطان برقوق، وأخَذَ منطاش بعلبكَّ بعد أن حاصرها محمد بن بيدمر أربعةَ أشهر، ثم إنَّ الظاهر برقوقًا جَهَّز العساكِرَ إلى دمشق لأخْذِها من منطاش، فلما بلغ منطاش قدومُ العساكر برز من دمشق، وأقام بقبَّة يلبغا، ثم رحل نصفَ ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصِّه، وهم نحو الستمائة فارس، ومعه نحو السبعينَ حملًا ما بين ذَهَبٍ ودراهم وقماش، وتوجه نحو قارا والنبك، بعد أن قَتَل المماليك الظاهرية، والأميرُ ناصر الدين محمد بن المهمندار، وإن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرجَ عَمَّن بها، ومَلَك القلعة، وبعث إلى النوابِ يُعلِمُهم، وسَيَّرَ كتابه إلى السلطان بذلك، فسار النوابُ إلى دمشق ومَلَكوها بغير حرب، ثمَّ إن منطاش توجه إلى الأمير نعير، ومعه عنقا بن شطى أمير آل مرا، ثم قدم البريدُ بأن منطاش ونعيرًا جمعَا جمعًا كبيرًا من العُربان والأشرفية والتركمان، وساروا لمحاربة النواب، فخرج الأمير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الجوباني بالعساكر من دمشق إلى سليمة، ثم اجتمع البَيْدَمرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العامة بدمشق يريدون أخْذَها، فسَرَّح الأمير الكبير أيتمش الطائر من القلعةِ إلى سليمة يُعلِمُ الأمير يلبغا الناصري بذلك، فركب ليلًا في طائفةٍ مِن العسكر، وقَدِمَ دمشق وقاتَلَهم ومعه ألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، فقُتِلَ بينهما خلقٌ كثير من الأتراك والعوام وكَسَرَهم، وقَبَض على جماعة ووسَّطَهم تحت قلعة دمشق، وحَبَس جماعة، وقَطَع أيديَ سبعمائة رجل، وعاد إلى سليمة، وافترقت جمائِعُ منطاش وعساكر الشام ثلاث فرق، وتولى الأميرُ يلبغا الناصري محاربةَ الأمير نعير، فكسَرَه، وقتل جمعًا مِن عُرْبانه، وركب قفا نعيرٍ إلى مَنازِلِه، وحارب الأميرُ قرا دمرداش منطاشَ ومَن معه من التركمان، فضرَبَ كُلٌّ منهما الآخر، فوقعت الضربةُ بكَتِفِ منطاش، وقُطِعَت أصابع قرا دمرداش، وخامَرَ جماعة من الأشرفية على منطاش وصاروا في جملةِ الأمير ألطبغا الجوباني، فأحسن إليهم وقرَّبَهم، فلما وقعت الحربُ اتفق الأشرفيَّةُ مع بعض مماليكِه وقَتَلوه، وقبضوا على الأمير مأمور ووسَّطوه- قتلوه- وقتلوا الأمير أقبغا الجوهري وعِدَّةً من الأمراء، فكانت حروبًا شديدة، قُتِلَ فيها بين الفِرَق الثلاث خَلقٌ لا يُحصي عددَهم إلا خالقُهم سبحانه وتعالى, ونَهَبَت العربُ والعشير جميعَ ما كان مع العسكَرينِ، وقَدِمَ البريد بذلك، وأن منطاش انكسر، فأقام الأشرفيَّةُ بدله ألطبغا الأشرفي، فحضر منطاش من الغَدِ وأراد قتْلَه، فلم تمَكِّنْه الأشرفية من ذلك، وإنَّ الناصري لَمَّا رجع من محاربة نعير جمع العساكِرَ وعاد إلى دمشق، ثم خرج بعد يومين وأغار على آل علي، ووسَّط- قتل- منهم مائتي نفس، ونهب كثيرًا من جِمالِهم، وعاد إلى دمشق، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بأن الأمير قَشْتَمُر الأشرفي، الحاكِمَ بطرابلس من جهة منطاش، سَلَّمَها من غير قتال، وأنَّ حماة وحمص أيضًا استولت العساكرُ السلطانية عليهما، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بفرار منطاش عن أرض حَلَب، ومعه عنقاءُ بن شطي، خوفًا على نَفسِه مِن نعير، وأنَّه توجَّهَ في نحو سبعمائة فارس من العَرَبِ، أخذهم على أنَّه يكبس التركمان ويأخذ أعناقَهم، فلما قطع الدربند أخذَ خُيولَ العرب، وسار إلى مرَعش، وترك العربَ مُشا، فعادوا.
خرج الإمامُ محمد بن عبد الوهاب من العُيينة بنجدٍ يدعو إلى دينِ الله القويم، وقد كانت منطقةُ نجد في هذه الفترة انتشر فيها الشِّركُ والبِدَع، فلقي الشيخُ صعوبات كثيرة إلى أن يسَّرَ الله له الأميرَ محمد بن سعود أمير الدرعية، فتم بينهما اتفاقٌ تاريخي في هذا العام عُرِف "باتفاق الدرعية" لَمَّا وصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية دخل على شخصٍ مِن خيارها في أعلى البلد يقال له: محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه, ويقالُ إنَّ هذا الرجل خاف من نزوله عليه وضاقت به الأرضُ بما رَحُبت، وخاف من أميرِ الدرعية محمد بن سعود، فطمأَنَه الشيخ وقال له: أبشِرْ بخير، وهذا الذي أدعو الناسَ إليه دينُ الله، وسوف يُظهِرُه الله، فبلغ محمَّدَ بن سعود خبرُ الشيخ محمد، ويقال: إن الذي أخبره به زوجتُه، جاء إليها بعضُ الصالحين وقال لها: أخبري زوجَك الأمير محمدًا بهذا الرجل، وشجِّعيه على قَبولِ دعوته، وحَرِّضيه على مؤازرته ومساعدتِه، وكانت امرأةً صالحةً طَيِّبةً، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجلٌ داعية يدعو إلى دينِ الله، ويدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنَّةِ رَسولِ الله عليه الصلاة والسلام، يا لها من غنيمة! بادِرْ بقَبوله وبادر بنُصرته، ولا تقف في ذلك أبدًا، فقبل الأمير مشورتَها، ثم تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال: إن المرأة أيضًا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصِدَه في منزله، وأن تقصِدَه أنت وأن تعظِّمَ العلم والداعيَ إلى الخير، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادةِ والخيرِ- رحمةُ الله عليه، وأكرم الله مثواه- فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم العريني، ورحب به قائلًا: "أبشر ببلاد خيرٍ مِن بلادك، وأبشر بالعِزِّ والمنعة، فقال الشيخ محمد: وأنا أبشِّرُك بالعز والتمكين، وهذه كلمةُ لا إله إلا الله، من تمسَّك بها وعمل بها ونصرها، مَلك بها البلادَ والعباد، وهي كلمةُ التوحيد، وأوَّلُ ما دعت إليه الرسل، من أوَّلهم إلى آخرهم, ثم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمير محمد بن سعود حقيقةَ الإسلام والإيمان، وأخبره ببطلان ما عليه أهل نجد من عبادة الأوثان والأصنام والأشجار، فقال الأمير له: يا شيخ، لاشك عندي أنَّ ما دعوتَ إليه أنَّه دين الله الذي أرسل به رسُلَه وأنزل به كتُبَه، وأنَّ ما عليه اليوم أهلُ نجد من هذه العبادات الباطلة هو كما ذكرت نفسُ ما كان عليه المشركون الأولون من الكُفرِ باللهِ والإشراك، فأبشِرْ بنُصرتِك وحمايتك والقيام بدعوتِك، ولكن أريد أن أشتَرِطَ عليك شرطين: نحن إذا قمنا بنصرتك وجاهدنا معك ودان أهلُ نجد بالإسلام وقَبِلوا دعوة التوحيد، أخاف أن ترتحِلَ عنا وتستبدل بنا غيرَنا، والثاني: أن لي على أهل الدرعية قانونًا آخذُه منهم وقت حصاد الثمارِ، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئًا، فقال الشيخ: أما الشرط الأول فابسُطْ يدك أعاهِدْك: الدَّمُ بالدَّمِ، والهدمُ بالهدم، وأما الثاني فلعل الله أن يفتحَ عليك الفتوحاتِ فيُعَوِّضَك من الغنائِمِ والزكوات ما هو خيرٌ منه. فتمَّ التعاهد والاتفاق بينهما"، فقام الأمير محمد بن سعود بمؤازرة الشيخ ودَعْمِه وحمايته؛ ليقوم بتبليغ الدعوة، فانطلق الشيخ محمد يصحح الأوضاعَ الدينية المتردِّية، فقويت الدرعية سياسيًّا ودينيًّا, ثم انطلقت منها الجيوشُ لتوحيد الأجزاء المتفَرِّقة من نجد وما حولها ونشْرِ الدعوة فيها.
كان الباعث لهذه الفتنة وخلع المؤيَّد أنه لما تسلطن لم يحرك ساكنًا ولم يتغير أحدٌ مما كان عليه، فشقَّ ذلك على الظاهريَّة، وقال كل منهم في نفسه: كأن الملك الأشرف إينال ما مات، فإن الغالبَ كلٌّ منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوَّل سلطنة الأشرف إينال، كما هي عادة أوائل الدُّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوةً ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلَّموا الأشرفيَّة في هذا المعنى غير مرَّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك؛ لنفرةٍ كانت بين الطائفتين قديمًا وحديثًا، وأيضا فلسان حال الأشرفية: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنًا، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجز فيهم الظاهرية وقد ثقُل عليهم الملك المؤيَّد، وكثر خوفُهم منه، فإنه أوَّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، قال ابن تغري بردي: "كان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة؛ لأن سنَّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان قد ولِّيَ الأتابكية في أيَّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أميرَ حاجِّ المحمل، وحجَّ قبل ذلك أيضًا وسافر البلاد، ومارس الأمورَ في حياة والده وهذا كلُّه بخلاف من تقدَّمه من سلاطين أولاد الملوك؛ فإن الغالب منهم حدث السِّنِّ يريد له من يدبِّرُه، فإنه ما يعرف ما يرادُ منه، فيصير في حكم غيرِه من الأمراء فتتعلَّق الآمالُ بذلك الأمير، وتتردَّد الناسُ إليه، إلى أن يدبِّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيَّد هذ؛ فإنَّه ولِيَ السلطنة وهو يقول في نفسه: إنه يدبِّرُ مع مملكة مصر ممالكَ العجم زيادةً على تدبير مصرَ! قلت: وكان كما زعم؛ فإنه كان عارفًا عاقلًا مباشرًا، حسن التدبير، عظيمَ التنفيذ شهمًا، وكان هو المتصرفَ في الأمور أيَّام أبيه في غالب الولايات والعَزلِ وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنَّ كل أحد أنْ لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا؛ لمعرفة الناس بحذقه وفطنته, وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبُّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه؛ فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلَّمُ مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرًا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلُغُ الأمراءَ أنَّه في خلوته يسامِرُ الأطرافَ الأوباشَ الذين يُستحيا من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقدٌ فرصةً، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشَّع في العبارة وشنَّع، وقال هذا وغيره: إنَّه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزٌّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخشداشية أبيه- زملاء مهنته-وبالمال الذي خلَّفه أبوه، ومنهم من قال أيضًا: إنما هو مستعزٌّ بحسن تدبيره، فإنه قد عبَّأ لكل سؤال جوابًا، ولكل حرب ضربًا، وكان مع هذا قد قمع مباشري الدولة وأبادهم، وضيَّق عليهم، ودقَّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر, فنفرت قلوب المباشرين منه، وأخذ أمره في إدبار؛ لعدم مثابرته على سير طريقه الأوَّل من سلطنته، فلو جَسَر لكَسَر، لكنه هاب فخاب" فلما كان آخرُ يوم الجمعة السابع عشر رمضان رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج أن يدور على الأمراء مقدَّمي الألوف، ويُعلمَهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطاني من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلِمْهم لأيِّ معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غيرُ العادة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمرٌ مريج، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشكُّ أن السلطان يريد القبضَ عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمينٌ من الملك المؤيد أو يريد إثارةَ فتنة فرصةً، وحرَّض بعضهم بعضًا، إلى أن ثارت المماليك الظاهرية في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرضٌ في القيام على الملك المؤيد، وداموا على ذلك ليلتَهم كلها، فلما كان صبح نهار السبت تفرَّقوا على أكابر الدولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، وقد اجتمعت طوائفُ المماليك والجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحدٌ من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدًّا، فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير وصاروا على كلمة واحدة؛ على خلع الملك المؤيَّد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة, فأجمع رأي الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء، ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فقال جانبك: الرأي عندي سلطنةُ الأمير الكبير خشقدم المؤيدي؛ فإنه من غير الجنس يعني كونه روميَّ الجنس وأيضًا إنه رجل غريبٌ ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعَه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب، فأعجب الجميعَ هذا الكلامُ، بخلاف المماليك الأشرفية، وإن كانوا هم أيضًا متفقين على خلع المؤيد؛ لتطَلُّعهم تسلطُنَ خشداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنَّ أمر المؤيد طرقهم بغتةً ما طاوعوا على الرُّكوبِ في مثل هذا اليوم قبل مجيء خشداشهم جانم، فبويع خشقدم ولقِّبَ بالملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم ونودي بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتالِ الملك المؤيد أحمد، كل ذلك والملك المؤيَّدُ في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشةً لا مصاففةً، غير أن كلًّا من الطائفتين مُصِرٌّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيَّد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقِعَ الحرب وليس معه إلا أجلاب، فلم ينقضِ النهار حتى آل أمرُ الملك المؤيد إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لِما علم من قوة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه، هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيَّد في أناس قليلة جدًّا، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانًا، فأراد أن يسَلِّمَ نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته، فلما رأى الملك المؤيد أنَّ ذلك لا يفيده إلا شدةً وقسوةً أمر عساكره ومقاتلته بالكفِّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصِّه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاؤوا، ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدري حسن بن خاص بك، وترك باب السلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزَّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقل ما يكون، وخُمِدت الفتنة كأنَّها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعةً من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدور السلطانية، فأُمسِكَ من غير ممانعة، وسلَّم نفسه، وأُخرِجَ من الدور إلى البحرة من الحوش السلطاني، وحُبِسَ هناك بعد أن اقتِيدَ واحتُفظ به، وكانت مدة حكمه أربعة أشهر وستة أيام، ثم رسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجُّهِه وتوجه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية.
هو أبو الفتح موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب بالملك الأشرف مظفر الدين. ولد سنة 576، بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك, ونشأ بالقُدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه، وكذلك أخوه المعظَّم, مليحَ الهيئة، حلو الشمائل، وكان فيه دينٌ وخوف من الله وفضيلة، على لَعِبِه, وعكوف على الملاهي- عفا الله عنه - وكان جوادًا سمحًا فارسًا شجاعًا. وكان يبالغ في الخضوع للفقراء ويزورهم ويعطيهم، ويجيز على الشعر، ويبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكن الفقراء. كان محبوبًا إلى الناس مسعودًا مؤيَّدًا في الحروب، قيل: ما هُزِمَت له راية, لقِيَ نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصافَّ فكَسَره الأشرف، وذلك سنة 600, وله فهمٌ وذكاء وسياسة, وهو باني دار الحديث الأشرفية، وجامع التوبة، وجامع جراح، وكان قد بنى دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، ونقل إليها كتبًا سَنيَّة نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، والذي كان محله خانًا للزنجاري فيه من منكرات كثير، وبنى مسجِدَ القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة, وقد استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة، منها الرها وحران، ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط وميافارقين، وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانًا لم يعهدوه ممَّن كان قبله، وعَظُمَ وَقعُه في قلوب الناس، وبَعُدَ صِيتُه، ثم ملك نصيبين وسنجار ومعظم بلاد الجزيرة. لَمَّا أخذت الفرنج دمياط سنة 616 تأخَّر عن إنجاد أخيه الملك الكامل؛ لِمنافرةٍ كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك المعظَّم وأرضاه، ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه، فصادف عقيبَ وُصولِه إلى مصر بأشهر انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرَون ذلك بسبب يُمن غرة الأشرف, ولما مات الملك المعظم سنة 624 قام بالأمر بعده ولده الملك الناصر داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخُذَ دمشق منه، فاستنجد بعَمِّه الملك الأشرف، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم توجَّه إلى الكامل واتفقا على أخذ دمشق من الناصر وتسليمها إلى الأشرف، ويبقى للناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الأشرفُ عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسَلِّمها إلى الكامل، فاستتب الحالُ على ذلك, وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دارَ إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ولَمَّا ملك الأشرف دمشق في سنة 626 نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطقِ وعلوم الأوائل نفي من البلد، وكان البلد به في غاية الأمن والعدل، توفِّيَ الأشرف يوم الخميس رابع المحرم، بقلعة المنصورة، ودُفِنَ بها حتى أنجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة، ثم حُوِّلَ إليها في جمادى الأولى، وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية، واختلفت عليه الأدواءُ، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال مفرط، فخارت قوته حتى توفي، وكانت مدة ملكه بدمشق ثماني سنين وأشهر, وقد أوصى الأشرف بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناسُ بين يديه، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه.
رحل السلطانُ كتبغا من دمشقَ بعساكِرِه يريدُ القاهرةَ، وقد توغَّرَت صدور الأمراء وتواعَدوا على الفتك به، فسار إلى أن نزل بالعوجاء قريبًا من الرملة، وحضر الأمراءُ عنده بالدهليز، فأمر بإحضارِ الأمير بيسري فطلب طلبًا حثيثًا، فلما حضَرَ لم يقُم له السلطانُ على عادته، وأغلظَ له في الكلام ونسَبَه إلى أنه كاتب التتار، فكانت بينهما مفاوضة، ثم نهض السلطانُ، وانفضَّ الأمراء وقد حَرَّك منهم ما كان عندهم كامنًا، فاجتمعوا عند الأمير حسام لاجين النائبِ وفيهم بيسري، وسألوه عما كان من السلطانِ في حقٍّ، فقال: إنَّ مماليك السلطان كتبوا عنك كتبًا إلى التتار، وأحضروها إليه وقالوا إنَّك كتبتَها، ونيَّتُه القبضُ عليك إذا وصل إلى مصرَ، وأن يقبِضَ عليَّ أيضًا وعلى أكابر الأمراء، ويقَدِّمَ مماليكه، فأجمعوا عند ذلك على مبادرةِ السلطان، فركبوا يوم الثلاثاء سابع عشري المحرَّم وقت الظهر, وهم لاجين بيسري وقرا سنقر وقبجاق والحاج بهادر الحاجب في آخرين، واستصحبوا معهم حملَ نقارات وساقوا ملبسين إلى باب الدهليز، وحركت النقَّارات حربيًّا، فركب عدَّةٌ من العادلية واقتتلوا، فتقَدَّم تكلان العادلي فضربه الأميرُ لاجين في وجهه ضربةً أخذت منه جانبًا كبيرًا، وجرح تكلان فرسَ لاجين وقُتِلَ الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق العادلي في خيمتِه، وقتل الأمير سيف الدين بتخاص العادلي، وقد فَرَّ إلى الدهليز فأدركوه بباب الدهليز فقتلوه، وجرحوا عدّةً من المماليك العادلية، فلم يثبت السلطانُ العادل كتبغا، وخرج من ظهر الدهليز، وركب فرسَ النوبة ببغلطاق صدر، وعبر على قنطرة العوجاء يريد دمشقَ مِن غير أن يفطِنَ به أحد، ولم يدركه سوى خمسةٍ من مماليكه، وهجم لاجينُ على الدهليز فلم يجِدِ العادل وبلغه أنَّه فَرَّ، فساق خلفه فلم يدرِكْه ورجعَ إلى الدهليز، فلما عاينَه الأمراء ترجَّلوا له ومَشَوا في ركابه حتى نزل، فكانت مدة كتبغا منذ جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر محرم سنة 694، وإلى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجاء في يوم الثلاثاء السابع عشر محرم من هذه السنة، سنتين وسبعة عشر يومًا، ثم أصبح السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري المعروفُ بالصغيرُ هو سلطانَ مِصرَ، وملَكَها، وكان أولًا من جملة مماليك الملك المنصور علي بن الملك المعز أيبك، فلما خُلِعَ اشتراه الأمير سيف الدين قلاوون وهو أميرٌ بسبعمائة وخمسين درهمًا، من غير مالكٍ شَرعيٍّ، فلما تبيَّنَ له أنه من مماليك المنصور اشتراه مرةً ثانية وحضروا بأجمَعِهم بين يدي لاجين واتَّفَقوا على سلطنته، وشرطوا عليه أن يكون معهم كأحَدِهم، ولا ينفَرِدَ برأيٍ دونهم، ولا يبسُطَ أيدي مماليكه ولا يقَدِمَهم، وحلَّفوه على ذلك، فلما حلف قال له الأمير قبجاق المنصوري: نخشى أنَّك إذا جلستَ في منصب السلطنة تنسى هذا الذي تقَرَّرَ بيننا وبينك، وتقَدِّمُ مماليكك وتخَوِّلُ مملوكَك منكوتمر علينا، فيُصيبنا منه ما أصابنا من مماليك كتبغا، وكان منكوتمر مملوك لاجين، وكان يودُّه ويؤثِرُه، وله عنده مكانةٌ متمَكِّنةٌ من قَلبِه، فحلف لاجين مرةً ثانيةً أنه لا يفعَلُ ذلك، ولا يخرجُ عما التَزَمه وشرطوه عليه، فحَلَف له الأمراءُ وأرباب الدولة، وتلَقَّبَ بالملك المنصور، وركِبَ بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء السابع عشر محرم.