لما مات أمير مكة قتادة، وملك بعده ابنه الحسن، وكان له ابن آخر اسمه راجح، مقيم في العرب بظاهر مكة، يُفسِد وينازع أخاه في ملك مكة، فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكًا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق، كثير الحماية، فقصده راجح بن قتادة، وبذل له وللخليفة مالًا ليساعده على ملك مكة، فأجابه إلى ذلك، ووصلوا مكة، ونزلوا بالزاهر، وتقدم أقباش إلى مكة مقاتلًا لصاحِبِها الحسن، وكان الحسَنُ قد جمع جموعًا كثيرة من العرب وغيرها، فخرج إليه من مكة وقاتله، وتقدم أميرُ الحاج من بين يدي عسكره منفردًا، وصعد الجبل إدلالًا بنفسِه، وأنه لا يقدم أحدٌ عليه، فأحاط به أصحابُ الحسن، وقتلوه، وعلقوا رأسه، فانهزم عسكر أمير المؤمنين، وأحاط أصحابُ الحسن بالحاجِّ لينهبوهم، فأرسل إليهم الحسنُ عمامته أمانًا للحُجَّاج، فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئًا وسكن النَّاسُ، وأذِنَ لهم الحسن في دخول مكة وفِعْل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك، وأقاموا بمكَّةَ عشرة أيام، وعادوا، فوصلوا إلى العراق سالمين، وعظُمَ الأمر على الخليفة، فوصلت رسل الحسنِ يعتذرون، ويطلبون العفوَ عنه، فأجيبَ إلى ذلك.
سار الملك الكامل محمد بن الملك العادل، صاحب مصر, فوصل إلى بيت المقدس, ثم سار عنه، وتولى بمدينة نابلس، وشحن على تلك البلاد جميعها، وكانت من أعمال دمشق، فلما سمع صاحبها، وهو ابن الملك المعظم، خاف أن يقصده ويأخذ دمشق منه، فأرسل إلى عمه الملك الأشرف يطلبه ليحضر عنده بدمشق، فسار إليه جريدة، فدخل دمشق، فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم لعِلمِه أن البلد منيع، وقد صار به من يمنعه ويحميه، وأرسل إليه الملك الأشرف يستعطفه، ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له، وموافقة لأغراضه، والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد، فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، وحيث قد حضرتَ أنت فأنا أعود إلى مصر، واحفظ أنت البلاد، ولستُ بالذي يقال عني إني قاتلت أخي، وحصرته، حاشا لله تعالى، وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية، ونزل تل العجول، فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام، وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنجُ على بيت المقدس وغيره مما يجاوره، لا مانع دونه، فترددت الرسل وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه، فحضر عنده، وكان وصوله ليلة عيد الأضحى، ومنعه من العود إلى مصر، فأقام بمكانِه.
هو المَلِكُ الصالح علاءُ الدين ابن الملك المنصور قلاوون وَليُّ العهدِ توفِّيَ في يوم الأحد خامس عشر من رجب خرج السلطان مبرزًا بظاهر القاهرة يريد الشامَ، فركب معه ابنه الملك الصالح ثمَّ عاد الصالح إلى قلعة الجبل آخِرَ النهار، فتحَرَّك عليه فؤاده في الليلِ وكَثُرَ إسهاله الدموي وأفرط، فعاد السلطانُ لعيادته في يوم الأربعاء الثامن عشر ولم يُفِدْ فيه العلاج، فعاد السلطانُ إلى الدهليز من يومِه، فأتاه الخبر بشدة مرض الملك الصالح، فعاد إلى القلعة، وصَعِدَت الخزائن في يوم الثلاثاء أوَّلَ شعبان، وطلعت السناجق والطلب في يوم الأربعاء ثانيه، فمات الصالحُ بكرة يوم الجمعة رابعَه من دوسنطاريا كبديَّة، وتحدثت طائفةٌ بأن أخاه الملك الأشرف خليلًا سَمَّه، فحضر الناسُ للصلاة عليه، وصلى عليه بالقلعةِ قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز إمامًا، والسلطانُ خَلفَه في بقيَّة الأمراء والملك الأشرف خليل، ثم حُمِلَت جنازته، وصلى عليه ثانيًا قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي خارج القلعة، ودُفِنَ بتربة أمه قريبًا من المشهد النفيسي، وفي حادي عشر شعبان..
في يومِ عَرَفةَ بعَرَفةَ وقعت فتنةٌ بين العَرَبِ والحُجَّاج من قَبلِ الظُّهرِ إلى غروبِ الشَّمسِ، قُتِلَ فيها جماعةٌ، وسَبَبُها أنَّ الشَّريفَ رُميثة بن أبي نُمي أميرَ مكَّةَ شكا من بني حَسَن إلى أميرِ الحاجِّ، فركِبَ أميرُ الحاجِّ في يوم عرفة بعرفة لحَربِهم، وقاتَلَهم وقَتَلَ مِن التُّركِ سِتَّة عشر فارسًا، وقَتَل من جماعةِ بني حسن عِدَّة، وانهزم بقيَّتُهم، فنفر النَّاسُ مِن عَرَفةَ على تخوُّف، ولم يُنهَبْ لأحدٍ شَيءٌ، ولا تزال بنو حَسَن بمِنًى، ثمَّ رحل الحاجُّ بأجمَعِهم يومَ النَّفرِ الأوَّل، ونزلوا الزاهِرَ خارجَ مكة، وساروا منه ليلًا إلى بطنِ مرو، وقيل غير ذلك، فقيل إنه لما كان يومُ عرفة تنافر أشرافُ مكَّةَ مع الأجناد من مِصرَ، فركبوا لحَربِهم بُكرةَ النهار، ووقفوا للحَربِ صَفَّين، فمشى الشريفُ عجلان بينهم، فلم تُطِعْه الأشرافُ، وحملوا على الأجنادِ وقاتلوهم، فقُتِلَ منهم ومن العامَّة جماعة، وأبلى الشريفُ عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأميرُ أيدمر بلاءً عظيمًا، فعاتبه بعضُ مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسَهمٍ في صدره ألقاه عن فَرَسِه، وقُتِلَ معه أيضًا جماعة، وآلَ الأمرُ إلى نهبِ شيءٍ كثير، ثم تراجَعَ عنهم الأشرافُ.
هو السلطان أبو المعالي زيدان بن أحمد المنصور الذهبي السعدي، زعيم الأشراف في المغرب الأقصى. كان في أيام أبيه مقيمًا بتادلا أميرًا عليها، تولى بعد وفاة والده المنصور سنة 1012حيث اجتمع أهل الحَل والعقد من أعيان فاس وكبرائها والجمهور من جيش المنصور على بيعة ولده زيدان، وقالوا إن المنصور استخلفه في حياته ومات في حجره، وكان المنصور قد عزل ابنه الكبير الشيخ المأمون وسجنه في مراكش لفساده وتمرده، فلما تمت البيعة لزيدان انتفض عليه أخواه أبو فارس ومحمد الشيخ المأمون، فحارباه وهزما جيشه. فلحق زيدان بتلمسان. وجعل يتنقل بين سجلماسة ودرعة والسوس ومعه فلول من جيشه، يدعو الناس إلى مناصرته على أخويه، حتى استجاب له أهل مراكش، فنادوا به سلطانًا سنة 1015, ولكن لم يلبث أن أخرجه منها أخوه المأمون سنة 1016 فلجأ إلى الجبال مدة يسيرة، وعاد فامتلك مراكش في السنة نفسها. وقويت شوكته، فاستولى على فاس سنة 1017 وأخرجه منها أنصار المأمون سنة 1018 واستمر السلطان زيدان مالكًا مراكش وأطرافها إلى أن توفي بعد أن أمضى قرابة السبع وعشرين سنة في الملك، وخلفه بعده ابنه أبو مروان عبد الملك الذي تقاتل مع أخويه الأميرين الوليد وأحمد وهزمهما.
هو الشيخُ الإمام الثبت العلامة الفقيهُ المحدِّث الشيخ عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى الطحلاوي المالكي الأزهري، تفقه على الشيخ سالم النفراوي وحضر دروس الشيخ منصور المنوفي، والشهاب ابن الفقيه، والشيخ محمد الصغير الورزازي، وغيرهم، وسمع الحديثَ عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمد العماوي، وأبي الحسن علي بن أحمد الحريشي الفاسي، وتمهَّر في الفنون ودرَّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحُسيني، واشتهر أمرُه وطار صيته، وأشير إليه بالتقدُّمِ في العلوم، وتوجَّه إلى دار السلطنة في قضاء مهمة لأمراء مصر، فقوبل بالإجابة وألقى هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفيا، وتلقى عنه أكابرُ العلماء هناك في ذلك الوقت، وصُرف معزَّزًا مقضيًّا حوائجه، وذلك سنة 1147. ولما تمم عثمان كتخدا القزدغلي بناء مسجده بالأزبكية في تلك السنة عيَّن الطحلاوي للتدريس فيه، وذلك قبل سفره إلى الديار الرومية، وكان مشهورًا في حسن التقرير وعذوبة البيان وجودة الإلقاء، وقرأ الموطأ وغيرَه بالمشهد الحسيني، وأفاد وأجاز الأشياخ, وكان للناس فيه اعتقادٌ حسنٌ، وعليه هيبةٌ ووقار وسكونٌ، ولكلامه وقْعٌ في القلوب. توفي ليلة الخميس حادي عشر صفر من هذه السنة، وصُلي عليه في الأزهر في مشهد حافل.
هو حسني ابن الشيخ رضا بن محمد بن يوسف الزعيم؛ ثائر سوري من أهل دمشق، من القواد العسكريين. ولد حسني الزعيم في حلب سنة 1315هـ/ 1897م، وهو كردي الأصل، وكان والِدُه مفتيًا في الجيش العثماني. حكم الزعيم سوريا حكمًا مُطلقًا مدة 136 يومًا. تعلَّم الزعيم في المدرسة الحربية بالأستانة، وأصبح ضابطًا في الجيش العثماني، واعتقله الحلفاءُ أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم التحقَ بجيش الثورة العربية بقيادة فيصل بن الحسين، وحارب العثمانيين في دمشق، وتطوَّع في الجيش الفرنسي أثناء الانتداب على سوريا، وترقى في عهد استقلالها إلى رتبة كولونيل (رُتبة عسكرية رفيعة المستوى)، وتولَّى رئاسة أركان الحرب في عهد الرئيس شكري القوتلي، ثم انقلب عليه بدَعمٍ مِن الأمريكان، في 30 مارس 1949 وتلقَّب بالمشير، وألَّف وَزارةً، ودعا إلى انتخاب رئيس للجمهورية، فخافه الناسُ فانتخبوه في آخر شعبان 1368 / 26 يونيه 1949م، فوضع نُصبَ عينيه صورَ نابليون وأتاتورك وهتلر، وأظهر نشاطًا غير مألوف، واعترفت الدولُ به وبحكومتِه. وظهر بمظهرِ الحاكِمِ المطلق، فساء ذلك بعضَ أنصارِه من العسكريين، فقتلوه في انقلابٍ قام به العقيدُ سامي الحناوي بتدبيرٍ مِن الأمريكان.
انقسَمَ الشُّيوعيون في السودانِ إلى قِسمينِ: قسمٌ يَرى تطبيقَ الشُّيوعيةِ وإعلانَ الحُكْمِ الشُّيوعي، وقسمٌ يَرى الإفادة مِن الحُكْم القائمِ إلى أنْ يَتهيَّأ الجوُّ المناسِبُ؛ إذ لا يمكِنُ حمْل الناس على الشُّيوعية وغالبُهم يَرفُضها، واستطاع أصحابُ هذا الرأيِ إبعادَ الرأي الآخَرِ عن مجلس قِيادةِ الثَّورة، وابتدَأ جَعفرٌ النميري يُهاجِم الحزْب الشُّيوعي الجِناح المعارِضَ الذي أبعَدَ بعضَ أعضائه، وكانت حُكومةُ السُّودان قد عَزَمت على الدُّخول مع مصرَ وليبيا في اتِّحادٍ عربيٍّ، ولكنَّ الشيوعيين عارَضوا ذلك، ثم تحرَّكت بعضُ القطاعات العسكريةِ بإمْرة الرائد هاشم العطا (من رُؤوس الشيوعية المُبعَدين) وسيطَرَت على الوضعِ، واعتقَلَت اللِّواء جَعفرًا النميريَّ في 26 جُمادى الأولى 1391هـ / 19 تموز، غيرَ أنها لم تَستطِعِ السيطرةَ على الحكم لأكثرَ مِن ثلاثة أيامٍ؛ حيث قامت القطاعاتُ الموالية لِلنميريِّ -بدَعْمٍ من القوات المصريةِ، بالإضافة إلى الطَّيرانِ المصري- بإنهاء الانقلابِ، ولَمَّا فَرَّ زُعماء الانقلابِ بطائرةٍ إلى لَندن أجْبَرتها لِيبيا على الهبوطِ، ثم سلَّمتهم إلى النميريِّ. وبعد فشَلِ الانقلابِ تمَّت محاكَمة هشام العطا وقادةِ الحزْبِ الشُّيوعي فيما يُعرف بـ"محاكمة الشَّجرة"، التي ترأَّسَها الرئيسُ جَعفرٌ النميري. وتمَّ الحكمُ على جميعِ قادة الانقلابِ بالقتل رميًا بالرصاصِ.
هو العلَّامة فخر الدين, إمام الدنيا في عصره، أبو المعالي وأبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي القرشي التيمي البكري، الطبرستاني الأصل, الرازي المعروف بالفخرِ الرازي، ويقال له خطيبُ الريِّ، الفقيهُ الشافعي، المفسِّر المتكَلِّم, صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولين وغيرهما، أحد فقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار، له نحو من مائتي مصنَّف. ولد سنة 543, وقيل سنة أربعة وأربعين. حادَّ الذهن، كثير البراعة، قويَّ النظر في صناعة الطب، عارفًا بالأدب، له شعر بالفارسي والعربي، وكان ضخمَ البدن ربْعَ القامة، كبير اللحية، في صوته فخامة. اشتغل على والده الإمام ضياء الدين عمر، وبعد وفاة والده قصد الكمال السمناني، واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم، فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والعقيدة، فأُخرِجَ من البلد، فقصد ما وراء النهر، فجرى له أيضًا ما جرى بخوارزم، فعاد إلى الريِّ، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وله بنتان، ولفخر الدين ابنان، فمَرِضَ الطبيب فزوج بنتيه بابني الفخر، ولما مات الطبيب حصل الفخر على جميع أموالِه". وقد كان معظَّمًا عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء، والأمراء، والفقراء والعامة، وله في الوعظِ مرتبةٌ عالية يعظ باللسانين الفارسي والعربي، وكان يلحقه الوجدُ حالَ وعظه، ويحضُرُ مجلِسَه أرباب المقالات والمذاهب ويسألونه. ورجع بسببِه خلق كثير من الكرَّاميَّة وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقَّب في هراة بشيخ الإسلام. وقد وقع بينه وبين الكرَّاميَّة وقائع في أوقات متفرقة، وكان يبغضهم ويبغضونه، ويبالغون في الحطِّ عليه، ويبالغ هو أيضًا في ذمهم، وكان مع غزارة علمِه في فن الكلام يقول: من لزم مذهبَ العجائِز كان هو الفائز، وقد قيل في وصيته عند موته أنَّه رجع عن مذهب الكلامِ فيها إلى طريقةِ السَّلَف وتسليم ما ورد على وجهِ المراد اللائقِ بجلالِ الله سبحانه، وقد كان يصحب السلطانَ ويحب الدنيا ويتَّسِعُ فيها اتساعًا عظيمًا، حتى قيل: ملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكًا من الترك، وحشم وتجمل زائد، وعلى مجلسه هيبة شديدة. وليس ذلك من صفة العلماء؛ ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، كما قامت عليه شناعات عظيمةٌ بسبب كلمات كان يقولها. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي، وأبو شامة: "اعتنى الفخرُ الرازي بكتب ابن سيناء وشَرحِها. وكان يعظ وينال من الكرَّامية، وينالون منه سبًّا وتكفيرا، وقيل: إنهم وضعوا عليه من سقاه السمَّ فمات، وكانوا يرمونه بالكبائر. ولا كلامَ في فضله، وإنما الشناعاتُ قائمة عليه بأشياء؛ منها: أنه قال: قال محمد التازي، وقال محمد الرازي، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه، والتازي: هو العربي- وقيل كان يقول محمد البادي يعني العربي يريد به النبيَّ صلى الله عليه وسلم نسبة إلى البادية. ومنها أنه كان يقرر مسائل الخصوم وشبههم بأتمِّ عبارة، فإذا جاء بالأجوبة، قنع بالإشارة. ولعله قصد الإيجاز، ولكن أين الحقيقة من المجاز", ومن مصنفاته: وتفسيره الكبير في اثنتي عشرة مجلدة كبار سماه " "فتوح الغيب" أو "مفاتيح الغيب". وفسر الفاتحة في مجلد مستقل. وشرح نصف "الوجيز" للغزالي. وله كتاب " المطالب العالية " في ثلاثة مجلدات، ولم يتمه، وهو من آخر تصانيفه، وله كتاب "عيون الحكمة " فلسفة، وكتاب في الرمل، وكتاب في الهندسة، وكتاب " الاختبارات العلائية " فيه تنجيم، وكتاب " الاختبارات السماوية " تنجيم، وكتاب " الملل والنحل "، وكتاب في النبض، وكتاب " الطب الكبير "، وكتاب " التشريح " لم يتمه، وصنف ترجمة الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافَق عليها، ويُنسَب إليه أشياء عجيبة، وغيرها من المصنفات وهي كثيرة. قال ابن خلكان: "وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفُه في البلاد ورُزِقَ فيها سعادة عظيمة؛ فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتبَ المتقدمين، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبِه، وأتى فيها بما لم يُسبَق إليه". قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة في " تاريخه:"انتشرت في الآفاق مصنفات فخر الدين وتلامذته، وكان إذا ركب مشى حوله نحو ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء، وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه، وكان شديدَ الحرص جدًّا في العلوم الشرعية والحكمية، وكان طلاب العلم يقصدونَه من البلاد على اختلاف مطالبِهم في العلوم وتفنُّنِهم، فكان كلٌّ منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه منه. قرأ الحكمة على المجد الجيلي بمراغة، وكان المجد من كبار الفضلاء وله تصانيف. قلت (الذهبي): يعني بالحكمة: الفلسفة". ومن تلامذته مصنف " الحاصل " تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي، وشمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي، والقاضي شمس الدين الخويي، ومحيي الدين قاضي مرند, ولَمَّا أثرى الفخر الرازي، لازم الأسفارَ والتجارة، وعاملَ شهاب الدين الغوري في جملةٍ من المال، ومضى إليه لاستيفاء حقِّه، فبالغ في إكرامه، ونال منه مالًا طائلًا، ثم اتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتبِ، ولم يبلغ أحد منزلتَه عنده, وكان الفخر الرازي خطيبَ الري، وكان أكثَرُ مُقامه بها، وتوجه إلى خوارزم ومرض بها، وامتد مرضه أشهرًا، وتوفي يوم عيد الفطر بهراة بدار السلطنة. وكان علاء الملك العلوي وزير خوارزم شاه قد تزوج بابنته, ومن كلام فخر الدين قال: " فاعلموا أنني كنت رجلًا محبًّا للعلم، فكنت أكتبُ في كل شيء شيئًا؛ لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقًّا أو باطلًا، ولقد اختبرت الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفيةَ، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآنِ؛ لأنَّه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنَعُ عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات؛ فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءتِه عن الشركاء في القِدَم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقولُ به، وألقى الله به. وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح، المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنَّك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مدَّ به قلمي، أو خطر ببالي فأستشهد وأقول: إن علمتَ مني أني أردتُ به تحقيق باطل، أو إبطالَ حَقٍّ، فافعل بي ما أنا أهلُه، وإن علمتَ مني أني ما سعيتُ إلا في تقرير اعتقدت أنه الحق، وتصورتُ أنه الصدق، فلتكن رحمتُك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهدُ المُقِلِّ، فأغثني وارحمني، واستر زلتي وامح حوبتي، وأقول: ديني متابعةُ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، وأمَّا الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالحِ دعائه، على سبيل التفَضُّل والإنعام، وإلَّا فليحذف القولَ السيئَ، فإني ما أردت إلا تكثير البحثِ، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله".
تعتبر هذه الهجمة هي الحملة الصليبية الخامسة على المسلمين؛ حيث اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملُّكِها، فأقلعوا في البحر، وأرسَوا على دمياط، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول سنة 515 على بر جيزة دمياط، وصار الفرنجُ في غربي النيل، فأحاطوا على معسكَرِهم خندقًا، وبنوا بدائره سورًا، وأخذوا في محاربة أهل دمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكَّنوا من البلد، والملك العادل يجهِّز عساكر الشام شيئًا بعد شيء إلى دمياط، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عددُه، هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط، فمَرِضَ من ساعته، فرحل من المرج إلى عالقين، وقد اشتد مرضه، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس من هذه السنة، وكان الكاملُ قد بعث إلى الآفاق سبعين رسولًا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج، فقَدِمَت النجدات من حماة وحلب، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمعُ في الملك الكامل، وثار العربُ بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضَرَرُهم، وصار من الخلاف ما حرض الفرنجَ على التحرك، فضعفت نفوس الناس لأنَّه السلطان حقيقة، وأولاده وإن كانوا ملوكًا إلا أنه يحكُمُهم، والأمر إليه، وهو ملك البلاد، فاتفق موته والحالُ هكذا من مقاتلة العدو، وكان من جملة الأمراء بمصر أميرٌ يقال له عماد الدين أحمد بن علي، ويعرف بابن المشطوب، وهو من الأكراد الهكارية، وهو أكبر أميرِ بمصر، وله لفيف كثير، وجميع الأمراء أرادوا أن يخلعوا الملكَ الكامل من المُلك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصيرَ الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الكامل، ففارق المنزلة التي كان فيها ليلًا جريدة، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح، فنزل عندها، وأصبح العسكَرُ وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذِ شَيءٍ من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلَّا اليسير الذي يخِفُّ حمله، وتركوا الباقيَ بحاله من ميرة، وسلاح، ودواب، وخيام وغير ذلك، ولحقوا بالكامِلِ، وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد، فلم يروا من المسلمين أحدًا على شاطئِ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، حتى أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته، فعبروا النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازعٍ ولا ممانع، فغَنِموا ما في معسكر المسلمين، فكان عظيمًا يُعجِز العادِّين. وكاد الملك الكامل يفارق الديار المصرية؛ لأنه لم يثق بأحد من عسكره، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى وصل إلى أخيه الكامل بعد الهزيمة بيومين، والناسُ في أمر مريج، فقَوِيَ به قلبه، واشتد ظهرُه، وثبت جنانه، وأقام بمنزلته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جندِه، قال ابن خلكان: "فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العربُ على اختلاف قبائلها، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط، وقطعوا الطريق، وأفسدوا، وبالغوا في الإفسادِ، فكانوا أشدَّ على المسلمين من الفرنج، وكان أضرَّ شيءٍ على أهل دمياط أنَّها لم يكن بها من العسكر أحدٌ؛ لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدُوَّ عنها، فأتتهم هذه الحركة بغتة، فلم يدخلها أحدٌ من العسكر، وكان ذلك من فِعلِ ابن المشطوب؛ لا جَرَم لم يمهِلْه الله، وأخذه أخذةً رابيةً"، أحاط الفرنج بدمياط، وقاتلوها برًّا وبحرًا، وعملوا عليهم خندقًا يمنعهم من يريدهم من المسلمين، وهذه كانت عادتهم، وأداموا القتال. اشتد قتالُ الفرنج، وعَظُمَت نكايتهم لأهل دمياط، كان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراضُ، وغلت عندهم الأسعار، وامتلأت الطرقاتُ من الأموات، وعدمت الأقوات، وسئموا القتالَ وملازمته؛ لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتِهم، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتالَ بينهم مناوبة، ومع هذا فقد صبروا صبرًا لم يُسمَع بمِثلِه، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض، ودام الحصارُ عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة 616، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلَّتِهم، وتعذر القوت عندهم، فسَلَّموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ، بالأمان، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة. وعندما أخذ الفرنج دمياط وضعوا السيَف في الناس، فلم يُعرَف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطانُ بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيَّم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحَصَّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا جامِعَها كنيسةً.
لَمَّا كَثُرَ جَمعُ الفرنج بصور؛ بسَبَبِ أن صلاح الدين كان كُلَّما فتح مدينةً أو قلعةً أعطى أهلَها الأمان، وسيَّرَهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالَمٌ كثير، ثم إنَّ الرهبان والقسوس وخلقًا كثيرًا من مشهوريهم وفرسانهم لَبِسوا السواد، وأظهروا الحُزنَ على خروج بيت المقدس من أيديهم، وأخَذَهم البطرك الذي كان بالقُدس، ودخل بهم بلادَ الفرنج يطوفها بهم جميعًا، ويستنجدون أهلَها، ويستجيرون بهم، ويحثُّونَهم على الأخذ بثأر بيت المقدس، وصَوَّروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورةِ عربيٍّ يَضرِبُه، وقد جعلوا الدماءَ على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيحُ يَضرِبُه محمَّدٌ نبي المسلمين، وقد جَرَحه وقتَلَه، فعَظُمَ ذلك على الفرنج، فحَشَروا وحشدوا حتى النساء، ومن لم يستطع الخروجَ استأجر من يخرُجُ عِوَضَه، أو يعطيهم مالًا على قَدرِ حالهم، فاجتمع لهم مِن الرجال والأموال ما لا يتطَرَّق إليه الإحصاء، فهذا كان سببَ خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضُهم في بعض، ومعهم الأموالُ العظيمة، والبحرُ يَمُدُّهم بالأقوات والذخائر، والعُدد والرِّجال من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطِنُها وظاهِرُها، فأرادوا قَصدَ صيدا، فعادوا واتفقوا على قصد عكَّا ومُحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها وكان رحيلُهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتَصَفه، ولما كانوا سائرين كانت يزك- مقدمة الجيش- المسلمين يتخطَّفونَهم، ويأخذون المنفرِدَ منهم، ولَمَّا رحلوا جاء الخبَرُ إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قارَبَهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنجُ، وكان صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنجِ جماعةً مِن الأمراء يسايرونَهم ويناوشونَهم القتالَ ويتخطَّفونَهم، ولم يُقدِم الفِرنجُ عليهم مع قِلَّتِهم، ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنجَ قد نزلوا عليها من البَحرِ إلى البحر من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمينَ إليها طريق، وسَيَّرَ الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكِرِ، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بلد الجزيرة، وأتاه تقيُّ الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحِبُ حران والرها، وكانت الأمدادُ تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنجَ في البحر، وكان بين الفريقين مُدَّة مُقامِهم على عكا حروبٌ كثيرةٌ ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليومُ المشهور، ومنها ما هو دون ذلك، ولما نزل السلطانُ عليهم لم يقدِرْ على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجَب، ثم قاتَلَهم مُستهَلَّ شعبان، فحمل عليهم تقيُّ الدين وأخلوا نصف البلد، وملك تقيُّ الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلَوه بيده، ودخل المسلمونَ البلد، وخرجوا منه، واتَّصَلت الطرق، وزال الحَصرُ عَمَّن فيه، وأدخل صلاحُ الدين إليه من أراد من الرِّجال وما أراد من الذخائر والأموال والسلاحِ وغير ذلك، ثم إن جماعةً مِن العرب بلغهم أن الفرنجَ تَخرُجُ مِن الناحية الأخرى إلى الاحتطابِ وغَيرِه من أشغالِهم، فكَمَنوا لهم في معاطِفِ النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمعٌ مِن الفرنج على عادتِهم حَمَلَت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخِرِهم، وغَنِموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوسَ إلى صلاح الدين، أمَّا الوقعة الكبرى على عكا ففي العشرين من شعبان، كل يوم يُغادون القتال مع الفرنج ويروحونه، والفرنجُ لا يَظهَرونَ مِن معسكرهم ولا يفارِقونَه، وكان كثيرٌ من عسكر صلاح الدين غائبًا عنه، وكان هذا مما أطمَعَ الفرنج في الظهورِ إلى قتال المسلمين، فخرج الفرنجُ مِن معسكرهم كأنَّهم الجرادُ المنتَشِر، يدبُّون على وجه الأرض، قد ملؤوها طولًا وعرضًا، وطلبوا ميمنةَ المسلمين وعليها تقيُّ الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنجَ نحوه قاصدين حَذِرَ هو وأصحابه، فتَقَدَّموا إليه، فلما قَرُبوا منه تأخَّرَ عنهم، فلما رأى صلاحُ الدين الحالَ، وهو في القَلبِ، أمَدَّ تقي الدين برجالٍ مِن عنده ليتقَوَّى بهم، وكان عسكَرُ ديار بكر وبعض الشرقيين في جناحِ القلب، فلما رأى الفرنجُ قِلَّةَ الرجال في القلب، وأن كثيرًا منهم قد سار نحوَ الميمنة مَدَدًا لهم، عطفوا على القلب، فحَمَلوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكِرُ بين أيديهم منهزمينَ، وثَبَت بعضهم، ولم يبقَ بين أيديهم في القَلبِ مَن يرُدُّهم، فقصدوا التلَّ الذي عليه خيمةُ صلاح الدين، فقَتَلوا من مَرُّوا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعةً، وانحدروا إلى الجانِبِ الآخر من التل، فوضعوا السيفَ فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أنَّ الفرنجَ لم يلقوا خيمةَ صلاح الدين، ولو لَقُوها لَعَلِمَ الناس وصولهم إليها، وانهزم العساكِرُ بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون، ثم إن الفرنج نظروا وراءَهم، فرأوا أمدادَهم قد انقَطَعت عنهم، فرجعوا خوفًا أن ينقَطِعوا عن أصحابهم، وكان سَبَبُ انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلَتَهم، فاحتاج بعضُهم أن يقفَ مُقابِلَها، وحملت ميسرةُ المسلمين على الفرنج، فاشتغل المَدَدُ بقتال من بها عن الاتصالِ بأصحابهم، وعادوا إلى طرفِ خنادِقِهم، فحملت الميسرةُ على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجِعونَ، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر، وكان صلاح الدين لما انهزم القلبُ قد تبعهم يناديهم، ويأمُرُهم بالكَرَّة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعةٌ صالحة، فحَمَل بهم على الفرنج من وراء ظهورِهم وهم مشغولون بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوفُ اللهِ مِن كلِّ جانب، فلم يُفلِتْ منهم أحد، بل قُتِلَ أكثرهم، وأُخِذَ الباقون أسرى، وأما المنهَزِمون من المسلمين، فمنهم من رجعَ مِن طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، أمَّا رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكُّنُهم من حصر عكا، فلما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرضُ مِن نتن ريحِهم، وفسد الهواء والجو، وحَدَث للأمزجة فساد، وانحرف مزاجُ صلاح الدين، وحدث له قولنج مُبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراءُ، وأشاروا عليه بالانتقالِ مِن ذلك الموضع، ووافقهم الأطباءُ على ذلك، فأجابهم إليه فرحلوا إلى الخروبة رابِعَ شهر رمضان، وأمر من بعكا من المسلمين بحِفظِها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمَهم بسبب رحيله. ثم وصلت عساكِرُ مِصرَ والأسطول المصري في البَحرِ في منتصف شوال، ومُقَدَّمُها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قَوِيَت نفوس الناس به وبمن معه، واشتَدَّت ظهورهم، وأحضَرَ معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئًا كثيرًا، ومعهم من الرجَّالة الجمُّ الغفير، وجمع صلاحُ الدين من البلاد الشامية راجلًا كثيرًا، وهو على عزمِ الزحف إليهم بالفارِسِ والراجل، ووصَلَ بعده الأسطولُ المصري، ومُقَدَّمه الأمير لؤلؤ، فوصل بغتةً، فوقع على سفينة كبيرة للفرنج، فغَنِمَها، وأخذ منها أموالًا كثيرةً وميرةً عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسَكَنت نفوسُ من بها بوصولِ الأسطول وقَوِيَ جنانُهم.
هو العلَّامةُ العِزُّ مجد الدين عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد بن كيدوم بن عمر بن أبي الخير سعيد الحسيني القيلوي البغدادي ثم القاهري الحنبلي ثم الحنفي. ولدَ تقريبًا بعد سنة 770 والقيلوي نسبة لقرية بالجانب الشرقي من بغداد يقال لها قيلويه نشأ بها العز. قرأ القرآنَ لعاصم وحَفِظَ كتبًا جمة في فنون كثيرة، وبحث في غالب العلوم على مشايخ بغداد والعجم والروم، حتى إنه بحث في مذهبي الشافعي وأحمد وبرع فيهما وصار يقرأ كتبَهما ولازم الرحلةَ في العلم إلى أن صار أحدَ أركانه، وأدمن الاشتغال والأشغال بحيث بقي أوحدَ زمانه، ومن شيوخه في فقه الحنفية الضياء محمد الهروي أخذ عنه المجمع بعد أن حفظه، وسمع غالب الهداية على عبد الرحمن التشلاقي أو القشلاغي، وسمع عليه أصولَ الحنفية، وفي فقه الحنابلة محمد بن الحادي، وسمع عليه البخاري، وتزايد اشتغاله بالمذهب الحنبلي لكون والده كان حنبليًّا، وفي فقه الشافعية ناصر الدين محمد المعروف بأيادي الأبهري ولازمه مدة طويلة أخذ عنه فيها النحو والصرف، ولم يتسير له البحث في فقه المالكية، وقصد ذلك فما قدر، وأخذ أصول الدين وآداب البحث عن السراج الزنجاني، وأصول الفقه عن أحمد الدواليبي، وحضر بحث المختصر الأصلي لابن الحاجب والعضد وكثيرًا من شروح التلخيص في المعاني، وكثيرًا من الكشَّاف على ميرك الصيرامي أحد تلامذة التفتازاني، وبحث بعض الكشاف أيضًا والمعاني والبيان على عبد الرحمن ابن أخت أحمد الجندي، وجميع الشاطبية بعد حفظها على الشريف محمد القمني، والنحو عن أحمد بن المقداد وعبد القادر الواسطي، وبحث عليه الأشنهية في الفرائض بخلوة الغزالي من المدرسة النظامية ببغداد، وانتفع به في غير ذلك, وعُنِيَ بالطب والمعاني والبيان بعد حفظه للتلخيص عن المجد محمد المشيرقي السلطاني الشافعي, والمنطق بعد حفظه الشمسية عن القاضي غياث الدين محمد الخراساني الشافعي، كذا بحث عليه علم الجدل والطب عن موفق الدين الهمذاني، وسمع على موسى باش الرومي علم الموسيقى بحثًا، وارتحل إلى تبريز فأخذ بها عن الضياء التبريزي النحو وأصول الفقه، وعن الجلال محمد القلندشي فقه الشافعية وأصولهم، وحضر المعاني والبيان وبعض الكشاف عند حيدر، ثم ارتحل إلى أرزنجان من بلاد الروم فأخذ علم التصوف عن يارغلي السيواسي، ثم عاد من بلاد الروم بعد أن جال الآفاق وقاسى شدة مع تيمورلنك بحيث كانوا يقطعون الرؤوس ويحمِّلونه إياها إلى البلاد الشامية في سنة 810, ولقي بحلب مَن شاء الله من العلماء، وناظر في الشام الجمالَ الطيماني واجتمع في القدس بالشهاب بن الهائم فعظَّمه كثيرًا وارتحل إلى القاهرة بعد هذا كله, فأشير إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والجدل وآداب البحث والأصلين، والطب والعروض، والفقه والتفسير والقراءات، والتصوف وغيرها، فنزل بالجمالية وقرر في صوفيتها وأقبل الناس عليه فأخذوا عنه، وزوَّجه الشيخ مصطفى المقصاتي ابنته وتدرب به في عمل المقصات، وتكسب بها وقتًا مع اشتهاره بالفضيلة التامة حتى إنه لما تمت عمارة الجامع المؤيدي وحضر السلطان عند مدرسيه ومنهم البدر الأقصرائي الحنفي كان من جملة الحاضرين فلم يتكلم معه غيره، بحيث عظُمَ في عين السلطان، وأشار لما تم الدرس ورام المدرس الدعاء بنفسه مبالغة في تعظيم السلطان القيلوي أن يفعل ففعل، وأعلمه البدر بن مزهر وذلك قبل أن يلي كتابة السر بأنه رجل عالم يتكسب بعمل المقصات، فوعد ببناء مدرسة من أجله يكون هو شيخًا فما تيسر، وربما أقرأه ولده إبراهيم بل رام المؤيد الاجتماع به في محل خلوة للقراءة عليه، فما وافق العز خوفًا من إلصاق كثير مما يصدر عن السلطان به، وعُدَّ ذلك من وفور عقله، واستمر العز ملازمًا للإشغال غير مفتقر للاستفادة من أحد إلا في علم الحديث دراية ورواية؛ فإنه أخذ علوم الحديث جميعًا لابن الصلاح عن الولي العراقي بعد قراءته وسائره سماعًا، وسمع المنظومة في غريب القرآن، ومن أول السيرة الألفية إلى ذكر أزواجه والكثير من النكت على ابن الصلاح، وقرأ منها جميع الألفية الحديثية رواية، والمورد الهني، ومن غيرها الكثير من الأصول الكبار وغيرها، قال شمس الدين السخاوي: " قرأ العز عبد السلام على شيخنا الكمال الشمني صحيح البخاري والنخبة له، واختص به كثيرًا، وكان أحد الطلبة العشرة عنده بالجمالية، وحضر دروسه وأماليه، ورأيت بخط شيخنا بتصنيفه النخبة كتبها برسمه قال في آخرها ما صورته: علقها مختصرها تذكرةً للعلامة مجد الدين عبد السلام نفع الله به آمين، وتمت في صبيحة الأربعاء ثاني عشر شوال سنة أربع عشرة، وقال في أولها ما نصه: رواية صاحبها العلامة الأوحد المفنن مجد الدين عبد السلام البغدادي، وكتب له عليها أنه قرأها قراءة بحث وإتقان وتقرير وبيان، فأفاد أضعاف ما استفاد، وحقق ودقق ما أراد، وبنى بيت المجد لفكره الصحيح وأشاد، ثم قال: وأذن له أن يُقرئها لمن يرى ويرويها لمن درى، والله يسلمه حضرًا وسفرًا، ويجمع له الخيرات زُمَرًا" وأما الرواية فإنه سمع وقرأ على غير واحد وطلبها بنفسه فأكثر وكتب الطباق، وضبط الناس ورافق المتميزين، صار غالب فضلاء الديار المصرية من تلامذة العز عبد السلام، كل ذلك مع الخير والديانة والأمانة والزهد والعفة، وحب الخمول والتقشف في مسكنه وملبسه ومأكله، والانعزال عن بني الدنيا والشهامة عليهم وعدم مداهنتهم، والتواضع مع الفقراء والفتوة والإطعام وكرم النفس والرياضة الزائدة، والصبر على الاشتغال واحتمال جفاء الطلبة والتصدي لهم طول النهار، والتقنع بزراعات يزرعها في الأرياف ومقاساة أمر المزارعين، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله عز وجل وتدبره، مع كونه لم يستظهر جميعه ويعتذر عن ذلك بكونه لا يحب قراءته بدون تأمل وتدبر، والمحاسن الجمة بحيث سمعت عن بعض علماء العصر أنه قال: لم نعلم من قَدِمَ مصر في هذه الأزمان مثل العز عبد السلام البغدادي, ولقد تجملت هي وأهلها به, وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه ونحوه من الفقراء المبتدئين لقراءة درسه وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير أو قراءة ذاك الفقير لدرسه، ويقول: أرجو بذلك القربة وترغيبهم وأن أندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساء الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطي وظيفة مناسبة لمقامه، وكان فصيح اللسان مفوهًا طلْقَ العبارة قوي الحافظة سريع النظم جدًّا. مات في ليلة الاثنين الخامس العشر رمضان سنة تسع وخمسين، وصلى عليه من الغد بمصلى باب النصر، ودُفن بتربة الأمير بورى خارج باب الوزير تحت التنكزية، ولم يخلَّف بعده في مجموعِه مثله.
لمَّا كَثُرَت الفُتوحُ وبالتَّالي كَثُرَ الدَّاخِلون الجُدُدُ في الإسلامِ والمُتعَلِّمون لِكتابِ الله مِن غيرِ العَربِ ظَهرَت بعضُ الاختِلافاتِ في القِراءاتِ، ممَّا خَوَّفَ بعضَ الصَّحابةِ على مُستقبَلِ مِثلِ هذه الخِلافاتِ، فما كان مِن حُذيفةَ بن اليَمانِ رضِي الله عنه إلَّا أن تَوجَّهَ إلى عُثمانَ بن عفَّانَ وطلَب منه أن يُدرِكَ النَّاسَ قبلَ أن يَختلِفوا الاختِلافَ الذي تكونُ فيه فِتْنَتُهم واقْتِتالُهم، فأَمَرَ عُثمانُ بن عفَّانَ بِنَسْخِ القُرآنِ الكريمِ على قِراءَةٍ واحدَةٍ على لُغَةِ قُريشٍ ولَهْجَتِها، وقد كَلَّفَ لذلك عددًا مِن الصَّحابةِ وهُم: زيدُ بن ثابتٍ، وعبدُ الله بن الزُّبيرِ، وسعيدُ بن العاصِ، وعبدُ الرَّحمنِ بن الحارِثِ، فبَدَأوا يَنسَخون المُصحَفَ، وجَمَعوهُ بالاسْتِعانةِ بالمُصحَفِ الذي كان أبو بكرٍ قد جَمعَهُ في عَهدِه، وكان يَومَها عندَ حَفصةَ رضِي الله عنها، فاسْتَلَمه عُثمانُ منها، ثمَّ أَمَر عُثمانُ بنَسْخِ عِدَّةِ نُسَخٍ مِن هذا المُصحَفِ الذي وَحَّدَهُ على قِراءَةٍ واحدَةٍ، وأَمَر بكُلِّ نُسخَةٍ في بلدٍ عند أَميرِها، وأَمَر بِسائِرِ المَصاحِف أن تُحْرَقَ ولا يَبقى منها شيءٌ إلَّا التي جَمَعها ووَحَّدَها، وإلى يَومِنا هذا لا يُعرَفُ إلَّا الرَّسْمُ العُثمانيُّ، يعني الرَّسْمَ الذي أَمَر بجَمْعِه عُثمانُ وأَبقاهُ ونَشَرهُ، وغيرُ هذا الرَّسْمِ العُثمانيِّ يُعتبَرُ شاذًّا لا يُقْرَأُ به ولا يُعَدُّ مِن القُرآنِ فجَزاهُ الله خيرًا.
تُنسبُ الدَّولةُ الطاهريَّةُ إلى طاهر بن الحُسين بن مصعب بن رُزَيق، وكان أبوه أحدَ وُجَهاءِ خراسان ومِن سادتِها في عصر الخليفة العباسيِّ هارون الرشيد، وقد ولَّاه الرشيد بوشنج- إحدى مدن خراسان- والتي تقعُ بين هراة وسرخس. وبعد وفاة هارونَ الرشيد سنة 194هـ حدث نزاعٌ حول الخلافة بين ابنيه: الأمينِ والمأمون، وتصاعد الخِلافُ إلى حدِّ الحرب والاقتتال، وفي ظلِّ تلك الأجواء المشحونةِ بالقتال والصِّراع، وجد طاهِرُ بن الحسين طريقَه إلى الاستقلالِ بخراسان حينما استطاع إلحاقَ الهزيمة بجيش الأمينِ الذي أرسلَ عدَّةَ مرَّات ليقضي عليه، وكل ذلك لا يستطيعُ، وأدَّت تلك الانتصاراتُ المتتالية التي حَقَّقَها طاهِرٌ إلى خروج عمَّالِ الأمين عن طاعتِه، والمسارعةِ إلى خلْعِه وإعلان الطاعةِ لأخيه، واتَّجه طاهِرٌ بجُيوشه إلى بغداد فحاصرها مدَّةً طويلة حتى ضاق الناسُ واشتَدَّ الجوعُ، فلمَّا تمكَّنَ من دخولِها قبض على الأمينِ ثمَّ أمرَ بقَتلِه، واستقَرَّ الأمر للمأمونِ بالخلافة سنة 198هـ فأسند إلى طاهرٍ ولاية خراسانَ وبقية ولاياتِ المَشرِق، فلمَّا توفي طاهر سنة 207هـ عهِدَ المأمونُ إلى عبد الله بن طاهر بولاية خراسانَ خلفًا لأبيه، ثم أخذَ الطاهريُّونَ يَفقِدونَ السيطرةَ على مناطِقِهم لصالحِ الصفاريِّين الذين استطاعوا أخيرا سنة 259ه أن يُنهوا حكمَ الطاهريِّين.
هو الحُسينُ بنُ أحمد بن محمد بن زكريا أبو عبد الله الشيعي المعروف بالقائم؛ فهو الذي قام بالدعوة لعُبيد الله المهدي جَدِّ ملوك مصر, ويُعرَفُ كذلك بالمعلِّم؛ لأنه يعلِّمُ الناسَ عقائِدَ الباطنية, وأصلُه من اليمن من صنعاء، وقيل: كان من أهل الكوفة، سار من سلمية من عند عُبيد الله المهدي داعيًا له في البلاد، وتنقَّلت به الأحوال إلى أن دخل المغرِبَ, وكان من دُهاة العالم، وأفرادِ بني آدم دَهاءً ومَكرًا ورأيًا. دخل إفريقيةَ وحيدًا بلا مال ولا رجال، فلم يزَلْ يسعى ويتحَيَّل ويستحوذ على النُّفوسِ بإظهار الزهادة والقيامِ لله، حتى تَبِعَه خلقٌ وبايعوه، وحاربوا صاحِبَ إفريقية مرَّات. وآل أمرُه إلى أن تمَلَّك القيروان، وهرب صاحِبُها أبو مضر زيادة الله الأغلبي آخِرُ ملوك بني الأغلب منه إلى بلادِ الشرق. كما قضى على دولتَي بني مدرار والرستمية في أفريقيةَ، حتى مهَّد القواعِدَ للمهديِّ ووطَّدَ البلاد, فأقبل المهديُّ من الشرق وسَلَّمَه الأمر، ثمَّ كفَّ المهديُّ يَدَه ويدَ أخيه أبي العباس، فندم أبو عبد الله على ما صنع وأضمَرَ الغَدرَ هو وأخوه بعُبيد الله، فاستشعر منهما المهديُّ الغدرَ, فدَسَّ إليهما من قتَلَهما في ساعةٍ واحدةٍ، وذلك بمدينة رقادة, فتوطَّدَ المُلكُ لعُبيد الله.