وجَّه المعتصِمُ القائد العسكري التركي بغا الكبيرَ إلى الأفشين، ومعه مالٌ للجندِ والنفقات، فوصل أردبيل، فبلغ بابك الخبر، فتهيَّأ هو وأصحابُه ليقطعوا عليه قبل وُصولِه إلى الأفشين، فجاء جاسوسٌ إلى الأفشين، فأخبَرَه بذلك، فلما صَحَّ الخبَرُ عند الأفشين كتب بغا أن يُظهِرَ أنَّه يريد الرحيلَ، ويحمِل المالَ على الإبل، ويسير نحوه، حتى يبلغ حصنَ النَّهر، فيَحبِس الذي معه، حتى يجوزَ مَن صَحِبَه من القافلة، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل بغا ذلك، وسارت القافلةُ، وجاءت جواسيسُ بابك إليه، فأخبَروه أن المال قد سار فبلغ النَّهرَ، وركب الأفشين في اليومِ الذي واعدَ فيه بغا عند العصرِ، مِن برزند، فنزل خارِجَ خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركِبَ سِرًّا ورحلت القافلة التي كانت توجَّهَت ذلك اليوم من النهر إلى ناحيةِ الهيثم، وتعبَّى بابك في أصحابِه، وسار على طريق النهر، وهو يظنُّ أن المالَ يُصادِفُه، فخرجت خيلُ بابك على القافلة، ومعها صاحِبُ النهر، فقاتَلَهم صاحبُ النهر، فقتلوه، وقتلوا من كان معه من الجند، وأخذوا جميعَ ما كان معهم، وعَلِموا أن المالَ قد فاتهم، وأخذوا عَلَمَه ولباسَ أصحابِه، فلبسوها وتنكَّروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضًا ولا يعلمونَ بخروج الأفشين، وجاؤوا كأنَّهم أصحابُ النهر، فلم يعرفوا الموضِعَ الذي يقف فيه علَمُ صاحب النهر، فوقفوا في غيرِه وجاء الهيثمُ فوقف في موضِعِه، وأنكر ما رأى، فوجَّهَ ابنَ عم له، فقال له: اذهَبْ إلى هذا البغيضِ فقُلْ له: لأيِّ شَيءٍ وقوفُك؟ فجاء إليهم فأنكَرَهم، فرجع إليه فأخبَرَه، فأنفذ جماعةً غيرَه، فأنكروهم أيضًا وأخبروه أنَّ بابك قد قتَلَ علويه، صاحبَ النهر، وأصحابَه، وأخذ أعلامَهم ولباسَهم، فرحل الهيثمُ راجعًا ونَجَت القافلةُ التي كانت معه، وبقيَ هو وأصحابُه في أعقابهم حاميةً لهم حتى وصلت القافلةُ إلى الحصن، وسيَّرَ رجلين من أصحابِه إلى الأفشين وإلى أبي سعيدٍ يُعَرِّفُهما الخبر، ودخل الهيثمُ الحصن، ونزل بابك عليه، وأرسل إلى الهيثمِ أن خَلِّ الحِصنَ وانصرِفْ، فأبى الهيثمُ ذلك، فحاربه بابك وهو يشرَبُ الخمرَ على عادته والحربُ مُشتَبِكةٌ، وسار الفارسان، فلقيا الأفشين على أقلَّ مِن فرسَخٍ، وأجرى الناسُ خَيلَهم طلقًا واحدًا حتى لَحِقوا بابك وهو جالِسٌ، فلم يُطِقْ أن يركَبَ، حتى وافته الخيلُ، فاشتبكت الحربُ، فلم يُفلِتْ من رَجَّالة بابك أحدٌ، وأفلت هو في نفرٍ يسيرٍ مِن خيَّالتِه، ودخل موقان وأقام بها فلمَّا كان في بعضِ الأيام مرَّت قافلة، فخرج عليها أصبهنذ بابك، فأخذها وقتَل مَن فيها، فقَحِطَ عسكرُ الأفشين لذلك، فكتب الأفشينُ إلى صاحب مراغة بحَملِ الميرة وتعجيلِها، فوجه إليه قافلةً عظيمة، ومعها جندٌ يسيرون بها فخرج عليهم سريةٌ لبابك، فأخذوها عن آخِرِها وأصاب العسكرَ ضِيقٌ شديد، فكتب الأفشين إلى صاحبِ شيروان يأمُرُه أن يحمِلَ إليه طعامًا، فحمل إليه طعامًا كثيرا وأغاث الناسَ، وقدِمَ بغا على الأفشين بما معه.
هو سعيدُ بنُ حُسين بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن ميمون القدَّاح بن دَيصان الأهوازي. قال القاضي عبد الجَبَّار بن أحمد بن عبد الجبار البصري: "اسمُ جَدِّ الخلفاء المصريِّين سعيدٌ، ويلقَّبُ بالمهديِّ". المعروف بالمهديِّ أبو محمَّد عبيدالله، مؤسِّسُ الدولة الفاطمية العُبيدية الباطنيَّة في إفريقيا، كان أبوه يهوديًّا حدَّادًا بسَلَمية. زعم سعيدٌ هذا أنَّه ابنُ الحُسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدَّاح. وقال بعض دُعاة العُبَيديين: "إنَّ سعيدًا إنما هو ابنُ امرأة الحُسين بن محمد. وإنَّ الحُسين ربَّاه وعلَّمه أسرار الدَّعوة، وزوَّجه ببنت أبي الشَّلَغْلَغ فجاءه ابن سمَّاه عبد الرحمن، فلمَّا دخل المغرب وأخذ سِجِلماسة تسمَّى بعُبَيد الله وتكنى بأبي محمد، وسمَّى ابنَه الحسن". كانت طائفةٌ من أتباعه تزعُمُ أنَّه الخالق الرَّازق، وطائفةٌ تزعم أنَّه نبيٌّ، وطائفة تزعم أنَّه المهدي حقيقة. قال القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: "إنَّ القدَّاح جدُّ عُبَيد الله كان مجوسيًّا, ودخل عُبَيد الله المغرب، وادَّعى أنَّه علويٌّ، ولم يعرفْه أحد من علماء النَّسَب، وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة مِلَّة الإسلام. أعدَمَ العُلَماء والفقهاء ليتمكَّنَ مِن إغواء الخلْق. وجاء أولادُه على أُسلوبه. أباحوا الخُمور والفُرُوج، وأشاعوا الرَّفْضَ، وبثُّوا دُعاةً فأفسدوا عقائِدَ خلقٍ من جبالِ الشَّام كالنُّصَيْريَّة والدَّرزيَّة. وكان القدَّاح كاذبًا مُمَخْرقًا. وهو أصلُ دُعاة القرامطة. وجدُّ القدَّاح هو دَيصَان أحدُ الثَّنَويَّة. وعُبَيد الله المهدي صاحب القيروان، وجدُّ بني عُبَيدٍ الذينَ تُسَمِّيهم جَهَلَةُ النَّاسِ الخُلَفاء الفاطميِّين". قال الذهبي: "وأهلُ العلم بالأنسابِ المحقِّقينَ يُنكِرونَ دعواه في النَّسبِ لفاطمةَ رضي الله عنها، ويقولون: اسمُه سعيدٌ، ولَقَبه عُبَيدُ الله، وزوج أمِّه الحُسين بنُ أحمد القدّاح. وكان كحَّالًا يقدحُ العينَ". لَمَّا مات عُبيد الله بالمهديَّة أخفى ولدُه أبو القاسم القائِمُ مَوتَه سنةً؛ لتدبيرٍ كان له، وكان يخافُ أن يختَلِفَ النَّاسُ عليه إذا عَلِموا بموته، وكان عمرُ المهديِّ لمَّا توفِّيَ ثلاثًا وستِّينَ سنة، وكانت ولايتُه منذ دخل رقاده ودُعِيَ له بالإمامة إلى أن توفِّيَ أربعًا وعشرينَ سنة وشهرًا وعشرين يومًا، ولمَّا توفِّيَ مَلَك بعدَه ابنُه أبو القاسم محمَّد القائم، وكان أبوه قد عَهِدَ إليه، ولَمَّا أظهرَ وفاة والده كان قد تمكَّنَ وفرغ من جميعِ ما أراده، واتَّبَع سُنَّة أبيه، وثار عليه جماعةٌ، فتمكَّنَ منهم. وكان من أشدِّهم رجلٌ يقال له ابنُ طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعُمُ أنَّه ولد المهديِّ، وزحف بمن معه على مدينة طرابلس، فقاتَلَه أهلها، ثم تبيَّنَ للبربر كَذِبُه، فقتلوه وحملوا رأسَه إلى القائمِ.
قُتِلَ إبراهيم الأسداباذي الباطني ببغداد، وهرب ابن أخته بهرام داعية الباطنية إلى الشام، وملكَ قلعة بانياس، وسار إليها، والتحق بدمشق فدعمه المزدقاني وزير تاج الملوك صاحب دمشق، ولما فارق بهرام دمشق أقام له بها خليفةً يدعو الناس إلى مذهبه، فكثُروا وانتشروا، وملك هو عدةَ حصون من الجبال منها القدموس وغيره، وكان بوادي التيم، من أعمال بعلبك، أصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية، والدرزية، والمجوس، وغيرهم، وأميرُهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام سنة 522 وحصرهم وقاتلهم، فخرج إليه الضحاكُ في ألف رجل، وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم، وقتل منهم مقتلة كثيرة، وقُتِل بهرام وانهزم مَن سَلِمَ، وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة، وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلًا من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من عاد إليه منهم، وبثَّ دُعاتَه في البلاد، وعاضده المزدقاني أيضًا، وقوَّى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة والهمِّ بسببها، ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عِوَضَ بهرام إنسانًا اسمُه أبو الوفاء، فقَوِيَ أمرُه وعلا شأنه وكثُر أتباعه، وقام بدمشق، فصار المستوليَ على من بها من المسلمين، وحُكمُه أكثَرَ مِن حُكمِ صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدقاني راسل الفرنجَ ليسلم إليهم مدينة دمشق، ويسلِّموا إليه مدينة صور، واستقرَّ الأمر بينهم على ذلك، وتقرَّر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه، وقرَّر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليومَ بأبواب الجامع، فلا يُمكِّنوا أحدًا من الخروج منه؛ ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد، وبلغ الخبر تاج الملوك، صاحب دمشق، فاستدعى المزدقاني إليه، فحضر وخلا معه، فقتله تاج الملوك، ثم أحرق بدنه وعلَّق رأسه على باب القلعة، ونادى في البلد بقَتلِ الباطنية، وانقلب البلدُ بالسرور وحَمْد الله، وثارت الأحداث والشطَّار في الحال بالسيوف والخناجر يقتلون من رأوا من الباطنية وأعوانهم. ومن يُتَّهمُ بمذهبهم، وتتبَّعوهم حتى أفنوهم، وامتلأت الطرق والأسواق بجِيَفِهم، فقُتِل منهم ستة آلاف نفس، وكان يومًا مشهودًا أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهله، وأُخِذ جماعة أعيان منهم شاذي الخادم تربية أبي طاهر الصائغ الباطني الحلبي، وكان هذا الخادِمُ رأسَ البلاء، فعُوقِبَ عقوبة شَفَت القلوب، ثم صُلِب هو وجماعةٌ على السور. وبقي حاجب دمشق يوسف فيروز، ورئيس دمشق أبو الذواد مفرج بن الحسن ابن الصوفي يلبسان الدروع، ويركبان وحولهما العبيد بالسيوف، لأنهما بالغا في استئصال شأفة الباطنية. وكان ذلك منتصفَ رمضان، وكفى الله المسلمين شرهم، وردَّ على الكافرين كيدَهم، ولما تمَّت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناسُ فيهلكوا، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليمَ بانياس إليهم، والانتقالَ إلى بلادهم، فأجابوه، فسَلَّم القلعة إليهم، وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادِهم، ولَقُوا شدةً وذِلَّةً وهوانًا، وتوِّفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكفى الله المؤمنين شَرَّهم.
قِيلَ لِزيدِ بنِ أَرقمَ: " كم غَزا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن غَزوةٍ؟ قال: تِسعَ عشرةَ. قِيلَ: كم غَزوتَ أنت معه؟ قال: سبعَ عشرةَ. قِيلَ: فأَيُّهم كانت أوَّلَ؟ قال: الْعُسَيْرَةُ، أَوِ الْعُشَيْرُ.
وقعت غَزوةُ العُشَيْرَةِ قبلَ وَقعةِ بدرٍ، سَلَكَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على نَقْبِ بني دِينارٍ، ثمَّ على فَيْفاءِ الخَبارِ فنزل تحت شجرةٍ ببَطْحاءَ ابنِ أَزهرَ يُقالُ لها: ذاتُ السَّاقِ. فصَلَّى عندها... وصُنِعَ له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل النَّاسُ معه... واسْتُقِيَ له مِن ماءٍ به يُقالُ له: المُشْتَرِبُ، ثمَّ ارْتَحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائقَ بيَسارهِ وسلك شُعبةً يُقالُ لها: شُعبةُ عبدِ الله... ثمَّ صَبَّ لليَسارِ حتَّى هبَط يَلْيَلَ فنزل بِمُجتَمعِه ومُجتمعِ الضَّبُوعَةِ، واسْتَقى مِن بئرٍ بالضَّبُوعَةِ، ثمَّ سلك الفَرْشَ فَرْشَ مَلَلٍ حتَّى لَقِيَ الطَّريقَ بصحيرات بِصُخَيْراتِ اليَمامِ، ثمَّ اعتدل به الطَّريقُ حتَّى نزل العُشَيْرَةَ مِن بطنِ يَنْبُعَ فأقام بها جُمادى الأُولى ولياليَ مِن جُمادى الآخرةِ، وادَع فيها بني مُدْلِجٍ وحُلفاءَهُم مِن بني ضَمْرَةَ ثمَّ رجع إلى المدينةِ ولمْ يَلْقَ كَيْدًا.
سَيِّدةُ نِساءِ العالمين في زمانِها، بنتُ سَيِّدِ الخَلْقِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبي القاسم محمَّد بن عبدِ الله بن عبدِ المُطَّلِب بن هاشم بن عبدِ مَناف القُرشيَّة الهاشِميَّة وأمّ الحَسَنَيْنِ. أمّها خديجةُ بنتُ خويلدٍ، وُلِدَتْ قبلَ البعثة بقليلٍ، وتَزوَّجها علِيُّ بن أبي طالبٍ بعدَ بدرٍ، وقِيلَ: بعدَ أُحُدٍ, فوَلدَت له الحسنَ والحُسينَ ومُحسنًا وأمَّ كُلثومٍ وزَينبَ. وهي أصغرُ بناتِ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كانت مِن أحبِّ النَّاس إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَناقِبُها غَزيرة، وكانت صابرة دَيِّنَة خَيِّرَة صَيِّنَة قانِعة شاكِرة لله تُوفِّيت بعدَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخَمسة أَشهُر أو نحوها، وهي أوَّل أهلِ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لُحوقًا به. وأَوْصَتْ في وَفاتِها أن تُغَطَّى، فكانت أوَّل امرأة يُغَطَّى نَعْشُها في الإسلامِ، غَسَّلَها زَوجُها علِيٌّ وأسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ وقد كانت تحت أبي بكر رضي الله عنهم، وصَلَّى عليها علِيٌّ، وقِيلَ: العبَّاس، وأَوْصَت أن تُدْفَنَ ليلًا، ففُعل ذلك بها، ونزَل في قبرِها علِيٌّ والعَبَّاسُ، والفَضلُ بن العَبَّاس. انقطع نَسْلُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا منها رضِي الله عنها.
نبَغَ في أهلِ عُمانَ رجُلٌ يقالُ له: ذو التَّاجِ؛ لقيطُ بنُ مالكٍ الأزديُّ، وكان يسَمَّى في الجاهليَّةِ الجلنديَّ، فادَّعى النبُوَّةَ، وتابعه الجَهَلةُ مِن أهلِ عُمانَ، فتغَلَّب عليها وقَهَر جيفرًا وعبادًا وألجأَهما إلى أطرافِها من نواحي الجبالِ والبَحرِ، فبعث جيفرٌ إلى الصِّدِّيقِ فأخبَرَه الخَبَر واستجاشَه، فبعث إليه الصِّدِّيقُ بأميرينِ، وهما حُذَيفةُ بنُ محصنٍ الحِمْيَريَّ، وعَرْفجةُ البارقيُّ من الأزْدِ، حذيفةُ إلى عمانَ، وعَرْفجةُ إلى مهرةَ، وأمرهما أن يجتَمِعَا ويتَّفِقا ويبتَدِئا بعمانَ، وحذيفةُ هو الأميرُ، فإذا ساروا إلى بلادِ مهرةَ فعَرْفجةُ الأميرُ. ثم كتب الصِّدِّيقُ لخالدِ بن ِالوليدِ بعد أنْ قَهَر مُسَيلِمةَ: لا أرَيَنَّكَ ولا أسمعَنَّ بك إلَّا بعدَ بلاءٍ، وأمَرَه أن يَلحَقَ بحُذَيفةَ وعَرفجةَ إلى عمانَ، وكُلٌّ منكم أميرٌ على جَيْشِه، وحُذَيفةُ ما دمتُم بعمانَ فهو أميرُ النَّاسِ، فإذا فرغتُم فاذهَبوا إلى مهرةَ، فإذا فرغتُم منها فاذهَبْ إلى اليَمَنِ وحَضرَموتَ، فكُنْ مع المهاجرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ، ومَن لَقِيتَه مِن المرتدَّةِ بين عمانَ إلى حَضرَموتَ واليَمَنِ، فنَكِّلْ به، فلمَّا وصلوا إليهم كان الفَتحُ والنَّصرُ، فولى المُشرِكون مُدبِرينَ، وركِبَ المسلِمون ظُهورَهم، فقَتَلوا منهم عَشرةَ آلافِ مقاتلٍ وسَبَوا الذَّراريَّ، وأخذوا الأموالَ والسوقَ بحذافيرِها، وبَعَثوا بالخُمُسِ إلى الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عنه.
لم يَزِدْ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضِي الله عنه في عَهدِه بالمسجدِ النَّبوِيِّ الشَّريف لانشغالِه بحُروبِ الرِّدَّةِ، ولكن في عَهدِ عُمَر بن الخطَّاب رضِي الله عنه ضاق المسجدُ بالمُصلِّين لِكثرَةِ النَّاسِ، فقام عُمَر بِشِراءِ الدُّورِ التي حولَ المسجدِ النَّبوِيِّ الشَّريف وأَدخَلها ضِمْنَ المسجدِ، وكانت تَوْسِعَتُه مِن الجِهَةِ الشَّماليَّة والجَنوبيَّة والغَربيَّة. فقد زاد مِن ناحِيَةِ الغَربِ عشرين ذِراعًا، ومِن الجِهَةِ الجَنوبيَّة "القِبْلَة" عشرة أَذْرُع، ومِن الجِهَةِ الشَّماليَّة ثلاثين ذِراعًا. ولم يَزِدْ مِن جِهَةِ الشَّرقِ لِوُجودِ حُجُراتِ أُمَّهات المؤمنين رضِي الله عنهم أجمعين. فأصبح طولُ المسجدِ 140 ذِراعًا مِن الشَّمال إلى الجنوب، و120 ذِراعًا مِن الشَّرق إلى الغَرب. وكان بِناءُ عُمَر كبِناءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانت جُدْرانُه مِن اللَّبِن وأَعمِدَتُه مِن جُذوعِ النَّخيل، وسَقْفُه مِن الجَريدِ بِارتِفاع 11 ذِراعًا، وقد فَرَشَهُ بالحَصْباءِ، والتي أُحْضِرت مِن العَقيقِ. وجعَل له سُتْرَةً بِارتِفاع ذِراعين أو ثلاثة، وتُقَدَّرُ هذه الزِّيادة بحوالي 3300 ذِراعًا مُرَبَّعًا، وجعَل للمَسجِد 6 أبواب: اثنين مِن الجِهَةِ الشَّرقيَّة، واثنين مِن الجِهَةِ الغَربيَّة، واثنين مِن الجِهَة الشَّماليَّة.
خرَج نُعيمُ بن مُقرِّن مِن واج رُوذ في النَّاس إلى دَسْتَبى، فلَقِيَهُ الزَّيْنَبِيُّ أحدُ قادةِ الفُرْسِ بمكان يُقال له: قِها مُسالِمًا ومُخالِفًا لمَلِكِ الرَّيِّ، وقد رأى مِن المسلمين ما رأى، فأقبل مع نُعيمٍ والمَلِكُ يَومئذٍ بالرَّيِّ وهو سِيَاوَخْشُ بن مِهران، فاسْتَمَدَّ أهلَ دَنْباوَنْد وطَبَرِستان وقُومِس وجُرْجان وقال المَلِكُ: قد عَلِمْتُم أنَّ هؤلاء قد حَلُّوا بالرَّيِّ، وإنَّه لا مُقامَ لكم، فاحْتَشِدوا له. فالتقوا مع المسلمين في سَفْحِ جبلِ الرَّيِّ، فاقتتلوا به، وقد دَبَّرَ الزَّيْنَبِيُّ حِيلَةً مع نُعيمٍ حيث أَدْخلَ المدينةَ خيلًا ليلًا، ولم يَشْعُرْ القومُ بهم، وبَيَّتَهُم نُعيمٌ بَياتًا فشَغَلَهُم عن مَدينتِهم، فاقتتلوا وصَبروا له حتَّى سَمِعوا التَّكبيرَ مِن وَرائِهم، ثمَّ إنَّهم انْهَزموا فقَتَلوا منهم مَقتَلةً عظيمةً، وأفاء الله على المسلمين بالرَّيِّ نحوًا مِن فَيْءِ المدائنِ، وصالَح نُعيمُ بن مُقرِّن الزَّيْنَبِيَّ على أهلِ الرَّيِّ ومَرْزَبَهُ عليهم نُعيمٌ، فلم يَزَلْ شرفُ الرَّيِّ في أهلِ الزَّيْنَبِيِّ الأكبرِ، ومنهم شَهْرام وفَرُّخان، وسقط آل بَهْرام، وأخرب نُعيمٌ مَدينَتَهُم، وهي التي يُقال لها: العَتيقَةُ -يعني مدينة الرَّيِّ- وأَمَر الزَّيْنَبِيُّ فبَنَى مدينةَ الرَّيِّ الحديثةَ, وكتَب نُعيمٌ إلى عُمَر بالفَتحِ، وأرسَل له الأخماسَ.
لمَّا أُهِينَ كُسيلَةُ البَرْبَريُّ مِن قِبَلِ أبي المُهاجِر قائدِ عُقبةَ بن نافعٍ أَضْمَرَ كُسيلَةُ الغَدْرَ، فلمَّا رأى الرُّومُ قِلَّةَ مَن مع عُقبةَ أرسلوا إلى كُسيلةَ وأَعْلَموه حالَهُ، وكان في عَسكرِ عُقبةَ مُضمِرًا للغَدْرِ، وقد أَعلَم الرُّومَ ذلك وأَطْمَعَهُم، فلمَّا راسَلوهُ أَظهَر ما كان يُضْمِرُهُ وجمَع أهلَهُ وبَنِي عَمِّهِ وقصَد عُقبةَ وانْفَصل عنه ولَحِقَ بالرُّومِ وهاجَم عُقبةَ وجماعتَهُ عند تَهُوذَةَ قُربَ جِبالِ أوراس بالجَزائِر، فكَسَر عُقبةُ والمسلمون أَجفانَ سُيوفِهم وتَقدَّموا إلى البَرْبَر وقاتَلوهُم، فقُتِلَ المسلمون جَميعُهم لم يُفْلِتْ منهم أَحَدٌ، وأُسِرَ محمَّدُ بن أَوْسٍ الأنصاريُّ في نَفَرٍ يَسيرٍ، فخَلَّصَهُم صاحبُ قَفْصَةَ وبعَث بهم إلى القَيْروان. فعزَم زُهيرُ بن قيسٍ البَلَوِيُّ على القِتالِ، فخالَفَهُ حَنَشٌ الصَّنعانيُّ وعاد إلى مِصْرَ، فتَبِعَهُ أكثرُ النَّاسِ، فاضْطَرَّ زُهيرٌ إلى العَوْدِ معهم، فسار إلى بَرْقَة وأقام بها. وأمَّا كُسيلَةُ فاجْتَمع إليه جَميعُ أهلِ أفريقيا، وقصَد أفريقيا وبها أصحابُ الأنفالِ والذَّراريّ مِن المسلمين، فطَلَبوا الأمانَ مِن كُسيلَةَ، فآمَنَهُم ودخَل القَيْروان واسْتَولى على أفريقيا، وأقام بها إلى أن اسْتَعادها المسلمون في عَهْدِ عبدِ الملك بن مَرْوان عامَ 69 هـ.
كان سبَب ذلك أنَّه لَمَّا وصل خبَرُ مقتل عمر بن عبيد الله، وعلي بن يحيى، أثناءَ غَزوِهما للروم للشاكريَّة والجند ببغداد وسامرَّا وما قرب منهما، وكانا من شجعان الإسلام، شَقَّ ذلك عليهم، وما لَحِقَهم من استعظامِهم قتلَ الأتراك للمتوكِّل، واستيلائِهم على أمور المسلمين، يقتلون من يريدون من الخُلَفاء، ويستخلفون من أحبُّوا من غير ديانةٍ، ولا نظَرٍ للمُسلمين، فاجتمعت العامَّة ببغداد وأخذوا في الصُّراخ، والنداء بالنفير، وانضَمَّ إليها الأبناء، والشاكرية تُظهِرُ أنَّها تطلب الأرزاق، ففَتَحوا السجون، وأخرجوا من فيها وأحرَقوا أحدَ الجسرين وقَطَعوا الآخَرَ، وانتهبوا دار بِشرٍ وإبراهيم ابنَي هارون، كاتبي محمد بن عبد الله، ثم أخرجَ أهلُ اليَسارِ من بغداد وسامرَّا أموالًا كثيرةً، ففَرَّقوها فيمن نهضَ إلى الثغور، وأقبلت العامَّةُ من نواحي الجبال وفارس والأهواز وغيرِها لغزو الروم، فلم يأمُر الخليفة في ذلك بشيءٍ ولم يوجِّهْ عسكرَه، ووثب نفرٌ من الناس لا يُدرى من هم بسامرَّا ففتحوا السجنَ، وأخرجوا من فيه، فبعث المستعينُ بالله في طَلَبِهم جماعةً من الموالي، فوثب العامَّةُ بهم فهزموهم، فركب بغا وأتامش ووصيفٌ وعامَّة الأتراك، فقَتَلوا من العامَّةِ جماعةً، فرُمِيَ وصيف بحجر، فأمَرَ بإحراق ذلك المكان، وانتهبت المغاربة، ثم سكَنَ ذلك آخرَ النهار.
كان المعتمِد قد ولَّى على الموصِل أساتكين من قوَّاد الأتراك، فبعث عليها ابنَه اذكوتكين وسار إليها سنة تسع وخمسين، فأساء السيرةَ وأظهر المُنكَر وعسَفَ بالنَّاسِ في طلب الخَراجِ، وتعرَّضَ أحد الأيام رجلٌ من حاشيته إلى امرأةٍ في الطريقِ، وتخلَّصها من يده بعضُ الصالحين، فأحضره أذكوتكين وضربه ضربًا شديدًا، فاجتمع وجوهُ البلد وتآمروا في رَفعِ أمرهم إلى المعتمِد، فركب إليهم ليوقِعَ بهم فقاتلوه وأخرجوه واجتَمَعوا على يحيى بن سليمان، وولَّوه أمْرَهم، ولَمَّا كانت سنة إحدى وستين ولَّى أستاكين عليها الهيثم بن عبد الله بن العمد الثعلبي العدوي وأمَرَه أن يزحَفَ لِحَربِهم ففعل، وقاتلوه أيامًا وكَثُرت القتلى بينهم، ورجع عنهم الهيثم وولَّى أستاكين مكانه إسحاق بن أيوب الثعلبي، وحاصرها مدَّةً ومرض يحيى بن سليمان الأمير، فطَمِع إسحاقُ في البلد وجدَّ في الحصار، واقتحمها من بعضِ الجهات فأخرجوه، وحملوا يحيى بن سليمان في قبَّة وألقوه أمام الصفِّ، واشتدَّ القتال ولم يزَل إسحاق يراسِلُهم ويَعِدُهم حُسنَ السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيمَ بالربض فأقام أسبوعًا، ثم وقع بين بعض أصحابِه وبين قومٍ من أهلِ الموصل شر، فرجعوا إلى الحَرب, وأخرجوه عنها، واستقرَّ يحيى بن سليمان بالموصِل.
لَمَّا ذهب أفتكين إلى ديارِ مِصرَ نهَضَ رجلٌ مِن أهل دمشق يقال له قسَّام الجُبَيلي التَّرَّاب وهو من بني الحارثِ بنِ كعبٍ مِن اليَمَن. كان ابتداءُ أمْرِه أنَّه انتمى إلى رجلٍ مِن أحداثِ أهلِ دِمشقَ يقال له أحمد بن المسطان، فكان مِن حِزبِه، وكان أفتكين يقَرِّبُه ويُدنيه، ويأمَنُه على أسراره، فاستحوذ على دمشقَ وطاوعَه أهلُها، وغلب على الوُلاةِ والأمراءِ، وقصَدَته عساكِرُ العزيز من مصرَ فحاصروه فلم يتمَكَّنوا منه، وجاء أبو تغلبَ بنُ ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدِرْ أن يدخُلَ دمشق، فانصرف عنه خائبًا إلى طبرية، فوقَعَ بينه وبين بني عقيلٍ وغَيرِهم من العرب حروبٌ طويلة، آل الحالُ إلى أن قُتِلَ أبو تغلِبَ، وغلب قسَّامٌ على الوُلاةِ والأمراء إلى أن قَدِمَ بلكتكين التركي من مِصرَ في يوم الخميسِ السابع عشر من المحرم سنة 376، فأخذها منه واختفى قسَّام التَّرَّاب مدة ثم ظهر، فأخذه أسيرًا وأرسله مقيَّدًا إلى الديار المصرية، فأُطلِقَ وأُحسِنَ إليه وأقام بها مكَرَّمًا، وأما قسَّامُ التراب هذا فإنه أقام بالشامِ فسَدَّ خلَلَها وقام بمصالِحِها مدة سنين عديدة، وكان مجلِسُه بالجامع يجتَمِعُ الناس إليه فيأمُرُهم وينهاهم فيمتَثِلونَ ما يأمرُ به.
ظهر الأصفَرُ التغلبيُّ برأس عين -مدينة سورية تقع على الحدود التركية السورية-، وادَّعى أنَّه من المذكورينَ في الكتب، واستغوى قومًا بمَخاريقَ، وجمع جمعًا وغزا نواحيَ الروم، فظَفِرَ وغَنِمَ وعاد، وظهَرَ حَديثُه، وقوِيَ ناموسُه، وعاودوا الغزوَ في عدد أكثَرَ مِن العدد الأول، ودخل نواحيَ الروم وأوغل، وغَنِمَ أضعافَ ما غَنِمَه أولًا، وتسامع النَّاسُ به فقصدوه، وكثُرَ جَمعُه، واشتَدَّت شوكتُه، وثقُلَت على الروم وطأتُه، فأرسل ملك الروم إلى نصرِ الدَّولة بن مروان صاحِبِ ديارِ بكرٍ يقول له: إنَّك عالمٌ بما بيننا من المُوادَعة، وقد فعل هذا الرجلُ هذه الأفاعيل، فإن كنتَ قد رجعتَ عن المهادنةِ فعَرِّفْنا لنُدَبِّرَ أمْرَنا بحَسَبِه، واتَّفَق في ذلك الوقتِ أنْ وَصَل رسولٌ مِن الأصفَرِ إلى نصر الدَّولة أيضًا، يُنكِرُ عليه تركَ الغَزوِ والميلَ إلى الدعة، فساءه ذلك أيضًا، واستدعى قومًا مِن بني نمير وقال لهم: إنَّ هذا الرجلَ قد أثار الرومَ علينا، ولا قُدرةَ لنا عليهم، وبذَلَ لهم مالًا على الفتك به، فساروا إليه، فقَرَّبَهم، ولازَموه، فرَكِبَ يومًا غير متحَرِّز، فأبعد وهم معه، فعَطَفوا عليه وأخذوه وحَمَلوه إلى نصر الدَّولة بن مروان، فاعتقَلَه وسَدَّ عليه باب السِّجنِ، وتلافى أمرَ الرومِ.
سببُ ذلك أنَّ طغرلبك طلَبَ مِن إبراهيم ينال أن يُسَلِّمَ إليه مدينة همذان والقلاعَ التي بيده من بلدِ الجبل، فامتنَعَ مِن ذلك، واتَّهَم وزيرَه أبا عليٍّ بالسعيِ بينهما في الفَسادِ، فقَبَض عليه، وأمَرَ به فضُرِبَ بين يديه، وسَمَل إحدى عينيه، وقطَعَ شَفَتَيه، فسار إلى طغرلبك، وجمع جمعًا مِن عَسكَرِه، والتقيا، وكان بين العسكرين قتالٌ شديدٌ انهزم ينال وعاد مُنهَزِمًا، فسار طغرلبك في أثَرِه، فملك قلاعَه وبلادَه جَميعَها، وتحصَّنَ إبراهيمُ ينال بقلعة سرماج، وامتنع على أخيه، فحَصَره طغرلبك فيها، وكانت عساكِرُه قد بلغت مِئَة ألف من أنواع العَسكَر، وقاتَلَه، فملكها في أربعةِ أيام، وهي من أحصَنِ القلاع وأمنَعِها، واستنزل ينال منها مَقهورًا، وأرسل إلى نصر الدَّولة بن مروان يطلُبُ منه إقامةَ الخُطبة له في بلاده، فأطاعه وخطَبَ له في سائر ديار بكر، وراسل مَلِكُ الرومِ طغرلبك، وأرسل إليه هديَّةً عظيمةً، وطلب منه المُعاهَدة، فأجابه إلى ذلك، وعَمَروا مسجِدَ القُسْطنطينيَّة، وأقاموا فيه الصَّلاةَ والخطبة لطغرلبك، ودان حينئذٍ النَّاسُ كُلُّهم له، وعَظُمَ شأنُه وتمكَّن مُلكُه وثبت، ولَمَّا نزل ينال إلى طغرلبك أكرَمَه وأحسن إليه، وردَّ عليه كثيرًا ممَّا أخذ منه، وخيَّرَه بين أن يُقطِعَه بلادًا يسير إليها، وبين أن يقيمَ معه، فاختار المقامَ معه.
تفاقم أمرُ الباطنيين كثيرًا حتى أصبحت لهم يدٌ طولى في اغتيال الأمراء والسلاطين، كما ساعد على ذلك كثرةُ الحروب بين السلاطين أنفُسِهم، فأصبح كثيرٌ منهم لا يفارقه درعُه وسلاحُه، وقد قتل الباطنيون نظامَ الملك، وأرسلان أرغون بن ألب أرسلان، والأمير برسق، وقتلوا الأميرَ بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان، ضربه باطنيٌّ بسكين في خاصرته بأصبهان في دار السلطان محمد، وكان بلكابك كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لُبسُ الدرع ومن يمنع عنه، ففي ذلك اليوم الذي قُتِلَ فيه لم يلبس دِرعًا، ودخل دارَ السلطان في قِلَّةٍ، فقتله الباطنية، ومات من أولادِه في هذه الليلة جماعة، خرج من داره خمسُ جنائز في صبيحتها, وقتلوا غيرَهم من الأكابر في السلطنة، ثم كانوا سببًا لقتل مجد الملك البلاساني؛ فقد زعموا أنه هو الذي يحرِّضُهم على القتل، وقد ظهرت مقالةُ الباطنية بعد عودة السلطان بركيارق من حصاره لأخيه محمود، وأمه خاتون الجلالية، في أصبهان، وانتشرت قوتُهم بها، وكانوا متفرِّقين في المحالِّ مِن قَبلُ، فاجتمعوا وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونَهم، فعلوا هذا بخلق كثير، وزاد الأمر، حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقَّنوا قتْلَه، وقعدوا للعزاءِ به، فحَذِرَ الناسُ وصاروا لا ينفرِدُ أحد منهم.