دَعا البابا أوربان الثاني إلى حَربٍ صَليبيَّةٍ ضِدَّ المسلمين واستَجابَ أُمراءُ أوربا لهذا النِّداءِ فأَوقَفوا الحُروبَ بينهم وأَعَدُّوا حَملَةً صَليبيَّةً مُنَظَّمَةً اشتَركَ فيها الدوق جودفري بويون أَميرُ مُقاطَعَةِ اللورين السُّفلَى، وأَخوهُ بودوان، وريمون أَميرُ تولوز، وبروفانس وبوهمند النورماندي أَميرُ تارانت، وابنُ أُختِه تانكرد، وروبير أَميرُ نورماندي وهو ابنُ وليم الفاتح، وصِهرُه اتيان أَميرُ مُقاطَعةِ بلوا وشارتر، وبَدَأوا بالمَسيرِ من مَدينةِ كولونيا إلى بِلادِ البَلقان. ونُفوسُهم تَسمُوا للوُصولِ للشامِ ثم بَيتِ المَقدِس مَسجِدِ أَنبِيائِهِم ومَطلَعِ دِينِهم، فتَتابَعوا إليه نِهايةَ القَرنِ الخامس الهِجريِّ، وتَواثَبوا على أَمصارِ الشامِ وحُصونِه وسَواحِلِه. ويُقال: "إنَّ المُستَنصِرَ العُبيديَّ هو الذي دَعاهُم لذلك وحَرَّضَهم عليه لِمَا رَجَى فيه مِن اشتِغالِ مُلوكِ السَّلجوقيَّةِ بأَمرِهِم، وإقامَتِهم سَدًّا بينه وبينهم عندما سَمَوا إلى مُلْكِ الشامِ ومصر" وقد ذَكَرَ السيوطيُّ في تاريخِ الخُلفاءِ: "أن صاحِبَ مصر لمَّا رأى قُوَّةَ السَّلجوقيَّةِ واستِيلائِهِم على الشامِ كاتَبَ الفِرنجَ يَدعوهُم إلى المَجيءِ إلى الشامِ لِيَملكُوها، وكَثُرَ النَّفيرُ على الفِرنجِ مِن كُلِّ جِهَةٍ"
في هذه السَّنَةِ مَلَكَ تَميمُ بنُ المُعِزِّ مَدينةَ قابس، وأَخرَجَ منها أَخاهُ عَمْرًا, وسَببُ ذلك أنه كان بها إنسانٌ يُقال له قاضي بن إبراهيمَ بن بلمونه فماتَ، فوَلَّى أَهلُها عليهم عَمرَو بنَ المُعِزِّ، فأَساءَ السِّيرَةَ، وكان قاضي بن إبراهيمَ عاصِيًا على تَميمٍ، وتَميمٌ يُعرِض عنه، فعَصَى عَمرٌو على أَخيهِ كقاضي بن إبراهيم، فأَخرجَ تَميمٌ العَساكِرَ إلى أَخيهِ عَمرٍو لِيَأخُذَ المَدينةَ منه، فقال بَعضُ أَصحابِه: يا مَولانا لمَّا كان فيها قاضي تَوانَيتَ عنه وتَركتَهُ، فلمَّا وَلِيَها أَخوكَ جَرَرتَ إليه العَساكِرَ! فقال: لمَّا كان فيها غُلامٌ مِن عَبيدِنا كان زَوالُه سَهلًا علينا، وأمَّا اليومَ، وابنُ المُعِزِّ بالمَهدِيَّةِ، وابنُ المُعِزِّ بقابس، فهذا ما لا يُمكِن السُّكوتُ عليه.
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بن نِظامِ الدِّينِ نَصرِ بنِ نَصيرِ الدَّولةِ مَروانَ بنِ دوستك الكُرديُّ، صاحِبُ دِيارِ بَكرٍ، تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ وَالدِه نِظامِ الدِّين في ذي الحجَّةِ سَنةَ 472هـ، ودَبَّرَ دَولتَهُ ابنُ الأَنبارِيِّ، ولم يَزَل في مُلكِه إلى أن انقَرَضَ أَمرُ بَنِي مَروانَ على يَدِ فَخرِ الدَّولةِ بنِ جَهيرٍ حين حارَبَهُ، وكان جكرمش قد قَبَضَ عليه بالجَزيرَةِ، وتَرَكَهُ عند رَجلٍ يَهوديٍّ، فمات في دارِه، وحَمَلَتهُ زَوجتُه إلى تُربَةِ آبائِه، فدَفَنَتهُ ثم حَجَّت، وعادَت إلى بَلدِ البَشْنَوِيَّة. قال ابنُ الأَثيرِ: " كان مَنصورٌ شُجاعًا، شَدِيدَ البُخْلِ، له في البُخْلِ حِكاياتٌ عَجيبَة، فتَعْسًا لِطالِبِ الدُّنيا، المُعرِض عن الآخِرَةِ، ألا يَنظُر إلى فِعلِها بأَبنائِها، بينما مَنصورٌ هذا مَلِكٌ مِن بَيتِ مَلِكٍ آلَ أَمرُه إلى أن ماتَ في بَيتِ يَهودِيٍّ، نَسألُ الله تعالى أن يُحسِن أَعمالَنا، ويُصلِح عاقِبَةَ أَمرِنا في الدنيا والآخرة، بمَنِّهِ وكَرَمِه".
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الجَبَّارِ بنِ أَحمدَ بنِ محمدٍ، السَّمعانيُّ، التَّميميُّ المَروَزِيُّ، الفَقِيهُ الحَنفيُّ ثم الشافعيُّ. الحافِظُ، مِن أَهلِ مَرْو، وُلِدَ في ذي الحجَّةِ 426هـ, وتَفَقَّهَ أَوَّلًا على أَبيهِ في مَذهَبِ أبي حَنيفَةَ، حتى بَرَعَ فيه وبَرَزَ على أَقرانِه, ثم انتَقَل إلى مَذهَبِ الشافعيِّ فأَخَذَ عن أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ وابنِ الصَّبَّاغِ. ذَكرَهُ أبو الحَسنِ عبدُ الغافِر فقال: "هو وَحيدُ عَصرِه في وَقتِه فَضلًا، وطَريقَةً، وزُهْدًا، ووَرَعًا، من بَيتِ العِلمِ والزُّهدِ. تَفَقَّه بأَبيهِ، وصار من فُحولِ أَهلِ النَّظَرِ، وأَخَذَ يُطالِع كُتُبَ الحَديثِ، وحَجَّ، فلمَّا رَجَعَ إلى وَطَنِه تَرَكَ طَريقَتَهُ التي ناظَرَ عليها أَكثرَ من ثلاثين سَنةً، وتَحَوَّلَ شافِعِيًّا. أَظهَرَ ذلك في سَنةِ ثَمانٍ وسِتِّين وأربعمائة. واضطَرَبَ أَهلُ مَرو لذلك، وتَشَوَّشَ العَوامُّ، إلى أن وَرَدَت الكُتُبُ مِن جِهَةِ بلكابك من بَلخ في شَأنِه والتَّشديدِ عليه، فخَرجَ مِن مَرو، ورافَقَهُ ذو المَجدَينِ أبو القاسمِ الموسويُّ، وطائِفةٌ من الأَصحابِ، وخَرجَ في خِدمَتِه جَماعةٌ من الفُقهاءِ وصار إلى طُوس، وقَصَدَ نيسابور، فاستَقبَلَهُ الأَصحابُ استِقبالًا عَظيمًا, وكان في نَوبَةِ نِظامِ المُلْكِ وعَميدِ الحَضرَةِ أبي سعدٍ محمدِ بنِ مَنصورٍ، فأَكرَموا مَورِدَه، وأَنزَلوه في عِزٍّ وحِشمَةٍ، وعُقِدَ له مَجلِسُ التَّذكيرِ في مَدرسةِ الشافعيَّةِ", وكان بَحرًا في الوَعظِ، حافِظًا لكَثيرٍ من الرِّواياتِ والحِكاياتِ والنُّكَتِ والأَشعارِ، فظَهرَ له القَبولُ عند الخاصِّ والعامِّ. واستَحكَمَ أَمرُه في مَذهبِ الشافعيِّ. ثم عاد إلى مَرو، ودَرَّسَ بها في مَدرسةِ أَصحابِ الشافعيِّ، وقَدَّمَهُ نِظامُ المُلْكِ على أَقرانِه، وعَلَا أَمرُه، وظَهرَ له الأَصحابُ. وخَرجَ إلى أصبهان، ورَجعَ إلى مَرو. وكان قَبولُه كلَّ يَومٍ في عُلُوٍّ, وتَعَصَّبَ للسُّنَّةِ والجَماعَةِ وأَهلِ الحَديثِ. وكان شَوْكًا في أَعيُنِ المُخالِفين، وحُجَّةً لأَهلِ السُّنَّةِ. قال أبو المعالي الجُويني: "لو كان مِن الفِقْهِ ثَوْبًا طاوِيًا لكان أبو المُظَفَّر بن السمعاني طَرَّازَهُ".قال الإمامُ أبو عليِّ بن أبي القاسمِ الصَّفَّارِ: "إذا ناظَرتَ أبا المُظَفَّر السمعانيَّ، فكأنِّي أُناظِرُ رَجُلًا من أئِمَّةِ التَّابِعين، ممَّا أَرَى عليه من آثارِ الصَّالِحين سَمْتًا، وحُسْنًا، ودِينًا".كانت له يَدٌ طُولَى في فُنونٍ كَثيرةٍ، وصَنَّفَ التَّفسيرَ وكِتابَ ((الانتصار)) في الحَديثِ، و((البرهان)) و((القواطع)) في أصول الفقه، و((الاصطلام)) وغيرَ ذلك، ووَعَظَ في مَدينةِ نيسابور. كان يقول: "ما حَفِظتُ شَيئًا فنَسيتُه، وسُئِلَ عن أَخبارِ الصِّفاتِ فقال: عليكم بِدِينِ العَجائِزِ وصِبيانِ الكَتاتيبِ. وسُئِلَ عن الاستِواءِ فأَنشدَ قائِلًا:
جِئتُماني لِتَعلَما سِرَّ سُعْدَى
تَجِداني بِسِرِّ سُعْدَى شَحيحا
إن سُعْدَى لَمُنْيَةُ المُتَمَنِّي
جَمَعَت عِفَّةً ووَجْهًا صَبيحا"
دُفِنَ في مَقبَرةِ مَرو.
مَلَكَ قِوامُ الدَّولةِ أبو سَعيدٍ كربوقا التُّركيُّ مَدينةَ المَوصِل، فأَسَرَهُ تاجُ الدولةِ تتش لمَّا قَتَلَ أتسز وبوزان، فلمَّا أَسَرَهُ أَبقَى عليه، ولم يكُن له بلدٌ يَملِكُه إذا قَتلَه، كما فَعلَ الأُميرُ بوزان، فإنه قَتَلَهُ واستَولَى على بِلادِه الرها وحران. ولم يَزَل قِوامُ الدولةِ مَحبوسًا بحَلَب إلى أن قُتِلَ تتش، ومَلَكَ ابنُه المَلِكُ رضوان حَلَب فأَرسلَ السُّلطانُ بركيارق رَسولًا يَأمُرهُ بإطلاقِه وإطلاقِ أَخيهِ التونتاش، فلمَّا أُطلِقَا سارا واجتَمَع عليهما كَثيرٌ من العَساكِر البَطَّالين، فأَتَيَا حران فتَسَلَّماها، وكاتَبَهُما محمدُ بنُ شَرفِ الدولةِ مُسلمِ بنِ قُريشٍ العُقيليُّ، وهو بنصيبين، ومعه ثروانُ بنُ وهيب، وأبو الهَيْجاءِ الكُرديُّ، يَستَنصِرونَ بهما على الأَميرِ عليِّ بنِ شَرفِ الدولةِ العُقيليِّ، وكان بالمَوصِل قد جَعلَهُ بها تاجُ الدولةِ تتش بعدَ وَقعَةِ المُضَيَّع, فسار قِوامُ الدولةِ إليهم، فلَقِيَهُ محمدُ بنُ شَرفِ الدولةِ على مَرحَلتَينِ من نصيبين، واستَحلَفَهُما لِنَفسِه، فقَبَضَ عليه قِوامُ الدولةِ بعدَ اليَمينِ، وحَمَلَهُ معه، وأَتَى نصيبين، فامتَنَعت عليه، فحَصَرَها أربعين يومًا، وتَسَلَّمها، وسار إلى المَوصِل فحَصَرَها، فلم يَظفَر منها بشيءٍ، فسار عنها إلى بلدٍ، وقَتَلَ بها محمدَ بنَ شَرفِ الدولةِ، وغَرَّقَهُ، وعاد إلى حِصارِ المَوصِل، ونَزلَ على فَرسَخٍ منها بقَريَةِ باحلافا، وتَركَ التونتاش شَرقيَّ المَوصِل، فاستَنجَد عليُّ بنُ مُسلمِ بن قُريشٍ العُقيليُّ صاحِبُها بالأَميرِ جكرمش، صاحِبِ جَزيرَةِ ابنِ عُمَرَ، فسار إليه نَجدَةً له، فلمَّا عَلِمَ التونتاش بذلك سار إلى طَريقِه، فقاتَلَهُ، فانهَزَم جكرمش، وعاد إلى الجَزيرَةِ مُنهَزِمًا، وصار في طاعَةِ قِوامِ الدولةِ، وأَعانَهُ على حَصْرِ المَوصِل، وعُدِمَت الأَقواتُ بها وكلُّ شيءٍ، حتى ما يُوقِدونَه، فأَوقَدوا القِيرَ، وحَبَّ القُطنِ. فلمَّا ضاقَ بصاحِبِها عليٍّ الأَمرُ وفارَقَها وسار إلى الأَميرِ صَدقَةَ بن مزيد الأَسَديِّ، أَميرِ العَربِ بالحِلَّةِ، وتَسَلَّم قِوامُ الدولةِ البلدَ بعدَ أن حَصَرَهُ تِسعةَ أَشهُر، وخافَهُ أَهلُه لأنه بَلَغَهم أن التونتاش يُريدُ نَهبَهم، وأن قِوامَ الدولةِ يَمنَعهُ من ذلك، فاشتَغَل التونتاش بالقَبضِ على أَعيانِ البَلدِ، ومُطالَبَتِهم بوَدائِع البلدِ، واستَطالَ على قِوامِ الدولةِ، فأَمَرَ بقَتْلِ التونتاش، فقُتِلَ في اليومِ الثالثِ، وأَمِنَ الناسُ شَرَّهُ، وأَحسَنَ قِوامُ الدولةِ السِّيرَةَ فيهم، وسارَ نحوَ الرَّحبَة، فمُنِعَ عنها، فمَلَكَها ونَهَبَها واستَنابَ بها وعاد.
جَمَعَ أَميرٌ كَبيرٌ مِن أُمراءِ خراسان جَمْعًا كَثيرًا، وسار بهم إلى نيسابور، فحَصَرَها، فاجتَمَع أَهلُها وقاتَلوهُ أَشَدَّ قِتالٍ، ولازَمَ حِصارَهم نحوَ أربعين يومًا، فلمَّا لم يَجِد له مَطْمَعًا فيها سار عنها في المُحرَّمِ سَنةَ 489هـ، فلمَّا فارَقَها وَقَعَت الفِتنَةُ بها بين الكَرامِيَّة وسائرِ الطَّوائفِ من أَهلِها، فقُتِلَ بينهم قَتلَى كَثيرةٌ، وكان مُقَدَّمُ الشافعيَّةِ أبا القاسمِ بن إمامِ الحَرمَينِ أبي المعالي الجُويني، ومُقَدَّمُ الحَنفيَّةِ القاضي محمدَ بنَ أَحمدَ بنِ صاعِد، وهُما مُتَّفِقان على الكَرامِيَّةِ، ومُقَدَّمُ الكَرامِيَّةِ محمشاد، فكان الظَّفَرُ للشافعيَّةِ والحَنفيَّةِ على الكَراميَّةِ، فخَرِبَت مَدارِسُهم، وقُتِلَ كَثيرٌ منهم ومن غَيرِهم، وكانت فِتنَةٌ عَظيمةٌ.
لَمَّا زحف الإفرنجُ إلى سواحل الشام جعلوا طريقَهم على القسطنطينية، فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرَطَ عليهم أن يعطوه أنطاكية إذا ملكوها، فأجابوا لذلك، وعبروا خليجَ القسطنطينية، ومروا ببلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قطلمش السلجوقي فلَقِيَهم في جموعه قريبًا من قونية، فهزموه.
كان الأميرُ قودن صار في جملة الأمير قماج، فلما توفي قماج، والسلطان بمرو، فاستوحش قودن، وأظهر المرض، وتأخَّرَ بمروٍ بعد مسير السلطان بركيارق إلى العراق، وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي، وقد ولاه السلطان خوارزم، ولقَّبه خوارزمشاه، فجمع عساكِرَه وسار في عشرة آلاف فارس ليلحقَ السلطان، فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس، وتشاغل بالشُّرب، فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله، فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه، وساروا إلى خوارزم، وأظهروا أنَّ السلطان قد استعملهما عليها فتسلَّماها، وبلغ الخبر إلى السلطان، فأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما، فسار إلى هراة، وأقام ينتظر اجتماعَ العساكر معه، فعاجلاه في خمسة عشر ألفًا، فعَلِمَ أمير داذ أنَّه لا طاقة له بهما، فعبَرَ جيحون، فسارا إليه، وتقدَّم يارقطاش ليلحقه قودن، فعاجله يارقطاش وحده وقاتله، فانهزم يارقطاش وأُخذ أسيرًا، وبلغ الخبر إلى قودن، فثار به عسكرُه، ونهبوا خزائنَه وما معه، فبقيَ في سبعة نفر، فهرب إلى بخارى، فقَبَض عليه صاحبُها، ثم أحسن إليه، وبقِيَ عنده، وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ، فقَبِله أحسنَ قبول، وبذل له قودن أن يكفيَه أمورَه، ويقومَ بجمع العساكر على طاعته، فقُدِّرَ أنه مات عن قريبٍ، وأما يارقطاش فبقِيَ أسيرًا إلى أن قتل أمير داذ.
هو صاحبُ خراسانَ أرسلان أرغون بن ألب أرسلان السلجوقي: أخو السلطان ملكشاه. لما مات أخوه السلطان ملكشاه بادر أرسلان أرغون واستولى على خراسان، وتمكَّن من تملُّك بلخ ومرو وترمذ، وخرَّبَ سورَ نيسابور وغيرَها من المدائن، ووزَر له عمادُ الملك بن نظام الملك، ثم قَبَض عليه وأخذ منه ثلاثمائة ألف دينار وذبحه. وكان ظالِمًا شرس الأخلاق, قتل أرسلان أرغون بمرو، وكان سبب قتله أنه كان شديدًا على غلمانه، كثيرَ الإهانة لهم والعقوبة، وكانوا يخافونه خوفًا عظيمًا، فاتفق أنَّه طلب غلامًا له فدخل عليه وليس معه أحدٌ، فأنكر عليه تأخُّرَه عن الخدمة فاعتذَرَ، فلم يقبَلْ عُذرَه وضربه، فأخرج الغلامُ سكينًا معه وقتَلَه، وأُخِذَ الغلام، فقيل له: لمَ فعلتَ هذا؟ فقال: لأريحَ الناسَ مِن ظُلمِه. وكانت دولته أربع سنين، فلما عَلِمَ بمقتله السلطان بركيارق بن ملكشاه سار إلى خراسان واستولى عليها، وخطب لبركيارق أيضًا ببلاد ما وراء النهر، واستناب على خراسان أخاه الملك سنجر الذي امتدَّت أيامه.
على إثر دعوة البابا قامت حركة شعبية ضخمة ارتبطت باسم بطرس الناسك الذي أخذ يتجول غرب أوربا، بثيابه الرثَّة وقدميه العاريتين وحمارِه الأعرج، يدعو العامةَ والدهماءَ، وقد استجاب له في سرعة غريبة الفلاحون والمعدِمون بسبب الظروف القاسية التي كانوا يعيشون فيها، وقد وصف وِل ديورَانت هذه الحملةَ والمنضمِّين لها في قصة الحضارة بقوله: "وانضوت جماعاتٌ لا عدد لها تحت لواء هذه الحرب مدفوعة إلى هذا بمغريات جمَّة، منها: أنَّ كل من يخرُّ صريعًا في الحرب قد وُعِد بأن تُغفَرَ له جميعُ ذنوبِه، وأُذِن لأرقَّاءِ الأرض أن يغادروا الأراضيَ التي كانوا مرتبطين بها، وتوسَّع البابا في سلطاته توسعًا جريئًا فأطلق سراحَ المسجونين، وخفَّف أحكامَ القتل عن المحكوم عليهم بها إذا خدموا طوالَ حياتهم في فلسطين، وانضمَّ آلافٌ من المتشردين إلى القائمين بهذه الرحلة المقدَّسة؛ ليخلِّصوا الأراضيَ التي وُلِدَ فيها المسيح ومات، منهم رجالٌ سَئِموا الفقر الذي كانوا يعانونه، ومنهم الأبناء الصغار الذين يرجون أن تكون لهم إقطاعياتٌ في تلك البلاد، ومنهم ذوو النفوس الضعيفة الذين يخشون أن يرميَهم الناسُ بالجبن وخور العزيمة. ونشطت الدعايةُ المُغرِضة والمألوفة في الحروب فأخذَت تؤكِّدُ الاضطهادَ الذي يلقاه المسيحيون في فلسطين، والمعاملاتِ الوحشيةَ التي يلقونَها على أيدي المسلمين، والأكاذيبَ عَمَّا في العقيدةِ الإسلاميَّةِ مِن زَيغٍ وضَلالٍ؛ فكان المسلمون يُوصَفون بأنَّهم يعبدون تمثالًا للنبيَّ محمد! وكان البابا إربان الثاني قد حدَّد لبدء رحيل الحملة شهر أغسطس من عام 1096، ولكِنَّ الفلاحين القلقين الذين كانوا أوائِلَ المتطوعين لم يستطيعوا الانتظارَ إلى هذا الموعد، فسار جحفلٌ منهم عدتُه نحو اثني عشر ألفًا لم يكن من بينهم إلَّا ثمانية من الفرسان, وبدؤوا رحلتهم من فرنسا شهر مارس بقيادة بطرس الناسك, وولتر المفلس. كانت هذه الجموعُ غير النظامية هي التي قامت بأكثر الاعتداءات على يهود ألمانيا ويوهيميا، وكان قادتُهم تعوزهم التجاربَ فلم يعدُّوا العُدَّة لإطعامهم، وقدَّرَ كثيرون من الزاحفين المسافةَ بأقَلَّ منِ قدرها الصحيحِ، وكانوا وهم يسيرون على ضفاف الرين والدانوب كلَّما عرجوا على بلدة من البلدان يسألُهم أبناؤهم في لهفةٍ: أليست هذه أورشليم؟ ولَمَّا فرغت أموالهم وعضَّهم الجوع، اضطروا إلى نَهبِ من في طريقهم من الحقول والبيوت، وسرعان ما أضافوا الفِسقَ إلى السَّلبِ والنهب، وقاومهم أهلُ البلاد مقاومةً عنيفة، وأغلَقَت بعضُ المدن أبوابَها في وجوهِهم، وأمرهم بعضُها أن يرحلوا عنها بلا مَهلٍ، ولما بلغوا آخِرَ الأمرِ مدينةَ القسطنطينية رحَّب بهم ألكسيوس، ولكنه لم يقدِّم لهم كفايتَهم من الطعام، فانطلقوا في أرباضِ المدينة، ونهبوا الكنائسَ والمنازلَ والقصورَ, وأراد ألكسيوس أن ينقِذَ عاصمته من هذه الجموع الفتَّاكة التي أهلكت الحرثَ والنسلَ، فأمدها بالسفُنِ التي عبَرَت بهم البسفور، وأرسل إليهم المؤنَ، وأمرهم بالانتظار حتى تصِلَ إليهم فِرَقٌ أخرى أحسَنُ سلاحًا وعتادًا. ولكنَّهم لم يستمعوا إلى هذه الأوامر، فزحفوا على نيقية، وخرجت عليهم قوةٌ منظَّمةٌ من الترك من مَهَرةِ الرماة، وأبادوا هذه الطليعةَ مِن فِرَق الحرب الصليبية الأولى، فلم تكَدْ تبقي على أحدٍ منهم. وكان ولتر المفلِس من بين القتلى. وأما بطرس الناسك فكانت نفسُه قد اشمأزَّت من هذه الجموع التي لا تخضع لقيادة، وعاد قبل المعركة إلى القسطنطينية، وأقام فيها سالِمًا حتى عام 1115م".
وصل عسكرٌ كثيرٌ من مصر إلى ثغر صور بساحل الشام، فحصرها وملَكَها، وسبب ذلك أنَّ الواليَ بها -ويعرف بكتيلة- أظهر العصيانَ على المستعلي الفاطمي العبيدي صاحب مصر، والخروجَ عن طاعته؛ فسيَّرَ إليه جيشًا، فحصروه بها وضيقوا عليه وعلى من معه من جنديٍّ وعامي، ثم افتتحها عَنوةً بالسيف، وقُتِل بها خلقٌ كثير، ونُهِب منها المال الجزيل، وأُخذ الوالي أسيرًا بغير أمان، وحُمِل إلى مصر فقُتِل بها.
كانت أوَّل حركة الفرنج لأخذ سواحل المسلمين وخروجهم إليها في هذه السنة، ساروا إليها، وأوَّل ما أخذوا نيقية، وهو أوَّلُ بلد فتحوه وأخذوه من المسلمين. ثمَّ فتحوا حصونَ الدروب شيئًا بعد شيء، ووصلوا إلى البارة، وجبل السَّمَّاق، وفامية، وكفر طاب، ونواحيها. واستباح الفرنج تلك النواحي، فكان هذا أولَ مظهر للفرنج بالشام، قَدِموا في بحر القسطنطينية في جمعٍ عظيم، وانزعجت الملوك والرعية، وعَظُم الخَطبُ، وقيل: "إنَّ صاحب مصر لما رأى قوة السلجوقية واستيلاءَهم على الشام، كاتب الفرنجَ يدعوهم إلى المجيءِ إلى الشام ليملكوها، وكثُرَ النفيرُ على الفرنج من كل جهة"؛ فأسفرت حملتهم الأولى عن قيام 4 إمارات صليبية، هي: إمارة الرها، وأنطاكية، وطرابلس، ومملكة بيت المقدس.
سار الفرنجةُ إلى أنطاكية ولم ينازلوها، وجاؤوا إلى المعرَّة فنصبوا عليها السَّلالم فنزلوا إليها فقَتَلوا من أهلها مائة ألف إنسان، وسَبَوا مثلها. ثمَّ دخلوا كفر طاب وفعلوا مثل ذلك، وعادوا إلى أنطاكية، وكان بها الأميرُ باغي سيان، وكان على الفرنج صنجيل، فحاصرها مدَّة، فنافق رجلٌ من أنطاكية يقال له فيروز,, وفتح لهم في الليل شبَّاكًا فدخلوا منه, قال أبو يعلى بن القلانسي: "في جمادى الأولى ورد الخبر بأنَّ قومًا من أهل أنطاكية عملوا عليها وواطؤوا الفرنجَ على تسليمها إليهم لإساءة تقدَّمت من حاكم البلد في حقِّهم ومصادرته لهم، ووجدوا الفرصةَ في برج من الأبراج التي للبلد مما يلى الجبل، فباعوهم إيَّاه، وأصعدوا منه في السَّحَر وصاحوا، فانهزم ياغي سيان وخرج في خلقٍ عظيمٍ، فلم يسلم منهم شخصٌ! فسقط الأمير عن فرسه عند معرَّة مصرين، فحمله بعضُ أصحابه وأركبه فلم يَثبُت على ظهر الفرس وسقط ثانيًا فمات. وأمَّا أنطاكية فقتل منها وسُبي من الرجال والنساء والأطفال ما لا يدرِكُه حصر، وهرب إلى القلعة قدر ثلاثة آلاف تحصَّنوا بها".
خرج أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي في عساكِرَ جمة، ورحل من القاهرة في شعبان، وسار يريدُ أخذ بيت المقدِسِ من الأمير سكمان وإيلغازي بني أرتق، وكانا به في كثير من أصحابهما، فبعث إليهما يلتمِسُ منهما أن يسَلِّما البلدَ ولا يحوِجاه إلى الحرب، فأبيا عليه، فنزل على البلدِ ونصَب عليها من المجانيقَ نيِّفًا وأربعين منجنيقًا، وأقام عليها يحاصِرُها نيِّفًا وأربعين يومًا، حتى هدم جانبًا من السورِ، ولم يبقَ إلا أخذُها، فسيَّرَ إليه من بها ومكَّناه من البلد. فخلع على ولدي أرتق وأكرمهما، وأخلى عنهما، فمضيا بمن معهما. وملك البلدَ في شهر رمضان لخمسٍ بَقِين منه، وولَّى فيه من قبله.
كان أخذُ المعرَّة بعد أخذ أنطاكية. ولَمَّا وقع ذلك اجتمع ملوكُ الإسلام بالشام، وهم رضوان صاحِبُ حلب، وأخوه دقماق، وطغتكين صاحب دمشق، وصاحب الموصل، وسكمان بن أرتق صاحب ماردين، وأرسلان شاه صاحب سنجار, ولم ينهَضْ أمير الجيوش الأفضل بن بدر بإخراج عساكِرِ مِصرَ مع قدرته على المال والرجال, فاجتمع الجميعُ ونازلوا أنطاكية وضيَّقوا على الفرنجَ حتَّى أكلوا ورق الشجر. وكان صنجيل مقدَّم الفرنج عنده دهاءٌ ومكر، فرتَّب مع راهب حيلة وقال: اذهب فادفن هذه الحربةَ في مكان كذا، ثم قُلْ للفرنج بعد ذلك: رأيتُ المسيحَ في منامي وهو يقولُ: في المكان الفلاني حربةٌ مدفونة فاطلبوها، فإن وجدتموها فالظَّفَرُ لكم، وهي حربتي، فصوموا ثلاثةَ أيَّامٍ وصلُّوا وتصدَّقوا، ثم قام وهم معه إلى المكان ففتَّشوه فظهرت الحَربةُ؛ فصاحوا وصاموا وتصدَّقوا وخرجوا إلى المسلمين من الباب متفرِّقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقِفَ على الباب، فتقتُلَ كُلَّ من يخرج، فإنَّ أمْرَهم الآن وهم متفرقون سَهلٌ. فقال: لا تفعلوا، أمهلوهم حتى يتكامَلَ خروجُهم فنقتُلَهم! ولم يمكِنْ من معاجلتِهم، فقَتَل قومٌ من المسلمين جماعةً من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه ومنعهم ونهاهم، فلما تكامل خروجُ الفرنج ولم يبق بأنطاكية أحدٌ منهم، ضربوا مصافًّا عظيمًا، فولى المسلمون منهزِمين؛ لِما عاملهم به كربوقا أولًا من الاستهانة بهم والإعراض عنهم، وثانيًا: مِن مَنعِهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمةُ عليهم، ولم يضرِبْ أحدٌ منهم بسيف، ولا طعَنَ برُمحٍ، ولا رمى بسهمٍ! وآخِرُ من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة؛ لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنجُ ذلك ظنُّوه مكيدة؛ إذ لم يجرِ قِتالٌ يُنهزَمُ مِن مِثلِه! وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعةٌ من المجاهدين، وقاتلوا حِسبةً، وطلبًا للشهادة، فقَتَل الفرنجُ منهم ألوفًا، وغَنِموا ما في العسكرِ مِن الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوَّتُهم، فلما فعل الفرنجُ بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرَّة النعمان، فنازلوها وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالًا شديدًا، ورأى الفرنجُ منهم شدةً ونكاية، ولقُوا منهم الجِدَّ في حربهم، والاجتهادَ في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجًا من خشب يوازي سورَ المدينة، ووقع القتالُ عليه، فلم يضُرَّ المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قومٌ من المسلمين، وانتابهم الفشَلُ والهلع، وظنُّوا أنهم إذا تحصنوا ببعضِ الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السورِ وأخلَوا الموضِعَ الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفةٌ أخرى، ففعلوا كفِعلِهم، فخلا مكانُهم أيضًا من السور، ولم تزَلْ تتبَعُ طائفةٌ منهم التي تليها في النزولِ حتى خلا السور! فصعد الفرنجُ إليه على السلاليم، فلما علوه تحيَّر المسلمون، ودخلوا دورَهم، فوضع الفرنجُ فيهم السيفَ ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسَبَوا السبيَ الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يومًا! وساروا إلى عرقة فحصروها أربعةَ أشهر، ونقبوا سورَها عدةَ نُقوبٍ، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها. ثم كتب دقماق ورضوان والأمراء إلى الخليفة المستظهر العباسي يستنصِرونَه، فأخرج الخليفةُ أبا نصر ابن الموصلايا إلى السلطان بركيارق بن السلطان ملكشاه السلجوقي يستنجده. كلُّ ذلك وعساكر مصر لم تُهيَّأ للخروج!!