هو الإمامُ عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، آخِرُ أئمَّةِ الدولة السعودية الأولى، وآخِرُ حاكمٍ اتَّخَذ من الدرعية عاصمةً للدولة السعودية، وكان عبدُ الله بن سعود ذا سيرةٍ حسنةٍ مقيمًا للشرائع آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكرِ كثيرَ الصَّمتِ حَسَن السَّمتِ، باذِلَ العطاء موقِّرًا للعلماء، وكان صالحَ التدبير في مغازيه، ثبت في مواطِنِ اللقاء وهو أثبَتُ مِن أبيه في مصابرةِ الأعداء، وكانت سيرتُه في مغازيه وفي الدرعية في مجالس الدروس، وفي قضاء حوائجِ الناس وغير ذلك على سيرةِ أبيه سعود. بعد أن تمَّت المصالحةُ بينه وبين إبراهيم باشا بيومين على أن يسَلِّمَ نفسَه مقابِلَ حَقنِ دماءِ أهل الدرعية أمر الباشا إبراهيمُ الإمامَ عبدَ الله بن سعود أن يتجهَّز للمسير إلى السلطانِ، ثم أمر رشوان أغا ومن معه من العساكِرِ والدويدار ومن معه من العسكر أن يتجهَّزوا للمسير معه، ورحل عبدُ الله من الدرعية وليس معه من قومِه إلَّا ثلاثة رجال أو أربعة، وقابل في مِصرَ محمد علي باشا، ثم بعد يومين سافر إلى استانبول، حيث قُتِل هناك في آيا صوفيا بعد وصولِه بقليلٍ، ولم يفِ السُّلطانُ بوعودِه، ورجع إبراهيمُ من الجزيرة في الحادي والعشرين من صفر من عام 1235هـ بعد أن استمَرَّ حُكمُه أربعَ سنوات, ثم إنَّ إبراهيم باشا لم يفِ بشروط الصُّلحِ التي أعطاها لعبد الله مقابِلَ استسلامِه، وسَفَّره للسلطان، فبعد سفر الإمام إلى مصر استمرَّ الباشا وجنودُه في الدرعية لتخريبِها، ففَرَّق قواتِه في نواحي الدرعية لهَدمِ الأسوارِ والحُصونِ ومصادرة الأرزاق، ثم إحراقها وتدميرِها وقطْع نخيلها قبل المغادرة، وبعد مغادرة الباشا الدرعية خلى الجو لمحمد بن مشاري بن معمر، وكان من أغنياء الدرعية، فاستولى على أكثر مناطِقِها، فقدم مشاري بن سعود فتولَّى الحكمَ في سنة 1235هـ ثمَّ بعد عدةِ أشهرٍ قَبَض عليه ابنُ معمر وسَلَّمه للعثمانيين فقَتَلوه، وعاد هو لحكم الدرعيةِ.
هو الإمامُ العلَّامة الفقيه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس، الملقَّب كأسلافه أبا بُطَيْن -بضم الباء وفتح الطاء وسكون الياء- من عوائل قحطان، العائذي نسبًا، الحنبلي مذهبًا، النجدي بلدًا، فقيه الديار النجديَّة في عصرِه، وإمامٌ من أئمة العلم في زمنه, ولِدَ الشيخ في بلدة الروضة من بلدان سدير، لعشر بقين من ذي القعدة سنة 1194هـ, ونشأ بها وقرأ على عالمها محمد بن الحاج عبد الله بن طراد الدوسري الحنبلي، فمَهَر في الفقه، ثم رحل إلى شقراء عاصمةِ الوشم بنجد واستوطنها، وقرأ على قاضيها الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله الحُصين تلميذِ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قرأ عليه في التفسير والحديث والفِقهِ وأصول الدين، حتى برع في ذلك كله، وأخذ عن العلَّامة أحمد بن حسن بن رشيد العفالق الأحسائي الحنبلي، وعن الشيخ العلامة حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر التميمي. رحل إلى الشام، ثمَّ عاد في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، فولَّاه قضاء الطائفِ، وبقي فيها مدة ثم رجع إلى شقراء وصار قاضيًا لها ولجميع بلدان الوشم، ولَمَّا تولى الإمام فيصل الحكمَ رغب إليه أهلُ القصيم أن يبعَثَ إليهم الشيخ أبا بطين قاضيًا لهم ومدرسًا، فبعثه الإمام فيصل وبَقِيَ عندهم إلى سنة 1370هـ حين رجع من عنيزة إلى شقراء، ومكث فيها إلى أن توفي فيها سنة 1383هـ. له "مجموعة رسائل وفتاوى" و"مختصر بدائع الفوائد" و"الانتصار للحنابلة" و"تأسيس التقديس في كشف شبهات ابن جرجيس". وقد أخذ عنه العلمَ بالقصيم وشقراء كثيرٌ من طلبة العلم.
بعد خروج عبد الله بن فيصل من الرياض وسيطرة أخيه سعود على الحكم فيها، توجه عبد الله لعدد من الجهات طلبًا للمساعدة ضِدَّ أخيه سعود، فاتصل بآل سليم في القصيم، وابن رشيد في حائل، ولَمَّا لم يجد منهم العون أرسل إلى العراق عبد العزيز أبا بُطين ومعه ثلاث رسائل، الأولى لمدحت باشا والي بغداد، والثانية إلى خليل بك والي البصرة، والثالثة إلى السيد محمد الرفاعي نقيب الأشراف، يطلب من الحكومة العثمانية المساعدةَ ضِدَّ أخيه سعود، فاستغل مدحت هذا العرضَ فشجَّع السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني على المبادرة بدخول الأحساء قبل أن تدخُلَ تحت النفوذ البريطاني بطلب من سعود بن فيصل، فأذن له السلطان بذلك، فجهز حملة من 5000 جندي بقيادة نافذ باشا واستعان بناصر السعدون رئيس المنتفق وعبد الله بن صباح حاكم الكويت وبني خالد، وأشرَفَ مدحت باشا بنفسه على الحملة للاطمئنان على نجاحِها. أبحرت الحملةُ من البصرة في ربيع الأول من هذا العام بحُجَّة انتزاع الأحساء من سعود بن فيصل وتسليمها لأخيه عبد الله، فوصلت القطيف واحتلَّتها دون مقاومة تذكَرُ، ثم تقدمت إلى الأحساء واحتلتها الحملة في 18 رجب، وأطلق عليها ولاية نجد طمعًا في مد العثمانيين حكمَهم إلى الرياض. بعد أن استتب الوضع للعثمانيين في الأحساء أعلن نافذ باشا أن سياسة الدولة ترمي إلى احتلال الرياض من سعود وأنَّه سيعمل على إعادة عبد الله بن فيصل إلى الحكم برتبةِ (قائم مقام)، وأن الدولة ستعَيِّن القضاة والولاة على المقاطعات، وحَدَّدت الضرائب التي ستُأخذ من الرعايا بالزكاة الشرعية، كما أجرت تنظيماتٍ في القوة العسكرية، فوضعت في الأحساء 5000 جندي نظامي، وأعلن مدحت باشا نهايةَ حكم آل سعود على الأحساء وحنث بوعده لعبد الله بن فيصل!!
وُلِد الشَّيخُ محمَّد علي الصابوني عام 1930 بمدينة حلب، وتعلَّم على يد والِدِه الشَّيخ جميل الصَّابوني أحَدِ عُلَماءِ حَلَب، ودرَس علومَ اللُّغةِ والدِّينِ على يَدِ شُيوخِ المدينةِ؛ مِثلُ محمد سعيد الإدلبي، ومحمد راغب الطبَّاخ. التحق بثانويَّةِ حَلَب الشرعيَّة (الخسروية)؛ حيث درَسَ علومَ التفسير والحديثِ والِفقهِ، والعلومَ الطبيعيَّةَ، وتخرج منها عام ١٣٦٨هـ الموافق 1949م، ثمَّ أكمل دراستَه في الأزهَرِ على نفقَتِها؛ حيث نال شهادةَ كُلِّيَّة الشَّريعة عام ١٣٧١هـ الموافق 1952م، وحصل على درجة التخَصُّص "العالِمية" في القضاءِ الشَّرعيِّ عام ١٣٧٣هـ الموافق 1954م.
بعد أن أنهى دراستَه في الأزهَرِ عاد الشَّيخ إلى سوريا وعَمِلَ أستاذًا لمادَّةِ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ في ثانويات حَلَب، وبَقِيَ في مهنةِ التدريسِ حتى عام ١٣٨٢هـ الموافق 1962م. بعد ذلك انتُدِبَ إلى المملكةِ العَرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ لكي يعمَلَ أستاذًا مُعارًا من قِبَل وزارةِ التربيةِ والتعليمِ السُّوريَّةِ، وذلك للتدريسِ بكُلِّيَّةِ الشَّريعةِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ، وكليَّةِ التربيةِ بالجامعةِ بمكَّةَ المكَرَّمة، فقام بالتدريسِ قُرابةَ ثلاثين عامًا. قامت بعدها جامعةُ أُمِّ القرى بتعيينِه باحثًا عِلْميًّا في مركَزِ البحثِ العِلميِّ وإحياءِ التراثِ الإسلاميِّ، ثم عَمِلَ بعد ذلك في رابطةِ العالمِ الإسلاميِّ كمستشارٍ في هيئةِ الإعجازِ العِلميِّ في القرآنِ والسُّنَّةِ، ومكث فيها عِدَّةَ سَنَواتٍ.
كان له دَرسٌ يوميٌّ في المسجِدِ الحرامِ بمكَّةَ المكرَّمةِ، ودرسٌ أُسبوعيٌّ في التفسيرِ في أحَدِ مَساجِدِ مدينةِ جُدَّة وبرنامج تفسيرِ القُرآنِ الكريمِ في التلفزيونِ السعوديِّ.
تولَّى رئاسةَ رابِطةِ العُلَماءِ السُّوريِّين، وله العديدُ من الكُتُبِ، أبرَزُها "صفوة التفاسير" و "مختَصَر تفسير ابن كثير"، و "مختَصَر تفسير الطَّبري"، و"التبيان في علوم القرآن"، و "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، و "قبس من نور القرآن". تُوفِّيَ -رحمه الله- في تركيا عن عمر تجاوز الـ 90 عامًا.
كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!
هو الإمامُ العلَّامةُ الأميرُ السيد الشريف المحقِّقُ محيي السنة وقامِعُ البدعة: أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله القنوجي البخاري، نزيل بهوبال، ويرجع نَسَبُه إلى زين العابدين بن علي بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب. ولِدَ في بلدة "بريلي" موطِنِ جَدِّه من جهةِ الأمِّ، عام 1248هـ ولما بلغ السادسةَ مِن عمره توفِّيَ والدُه، فرحل مع أمِّه إلى قِنَّوج موطِنِ آبائهِ بالهندِ، فنشأ فيها في حجرِ أمِّه يتيمًا فقيرًا على العَفافِ والطهارة، وتلقَّى الدروس في علومٍ شتى على صفوةٍ مِن علماءِ قِنَّوج ونواحيها وغيرهم. درسَ صِدِّيق على شيوخٍ كثيرين من مشايخِ الهند واليمن، واستفاد منهم في علومِ القرآن والحديثِ وغيرهما، ولقد أجازه شيوخٌ كثيرون ذكَرَهم في ثَبتِه "سلسة العَسْجَد في مشايخ السند". وله تلاميذ كثيرون درَسوا عليه واستجازوه، وبعد عودتِه مِن الحجازِ إلى الهند انتقل العلامةُ صِدِّيق حسن خان من (قنوج) إلى مدينة (بهوبال) في ولاية (مادهيا براديش) في وسط الهند، وقد ذاع صيتُه في تلك الأيام، كإمام في العلومِ الإسلامية، ومؤلِّفٍ بارع في العلوم العقليَّةِ والنَّقلية، وكاتبٍ قديرٍ في اللغات العربية والفارسية والأوردية، ومجتهدٍ متواصلٍ في الدرس والتأليف والتدوين، ولم يلبَثْ أن تزوَّجَ بأميرة بهوبال (شاهجان بيجوم) التي كانت تحكُمُها حينذاك، تزوَّجَت به لَمَّا عَلِمَت من شَرَفِ نَسَبِه وغزارة عِلمِه واستقامة سيرتِه، سنة 1287هـ، وجعلَتْه مُعتَمِدَ المهامِّ، ومنحته أقطاعًا من الأرضِ الخراجيَّة تغلُّ له خمسين ألف ربيَّة في كلِّ سنة، وخلعت عليه ولقَّبَتْه الدولةُ البريطانيةُ الحاكِمةُ بالهند نواب أمير الملك سيد محمد صديق حسن خان بهادر، ومنحته حَقَّ التعظيم في أرض الهند بطولِها وعرضِها بإطلاقِ المدافِعِ سَبعَ عشرة طلقةً، وخلَعَت عليه بالخِلَعِ الفاخرةِ، ومنَحَه السلطانُ عبد الحميد خان الوسامِ المجيدي من الدرجةِ الثانية. عَمِلَ صديق خان وزيرًا لزوجته الأميرة (شاهجان بيجوم) ونائبًا عنها. كان زواجُ العلَّامة صديق حسن خان بالأميرة شاهجان وتلقُّبه بأمير بهوبال نقطةَ تحوُّلٍ لا في حياتِه العلميَّةِ فقط، بل في النشاطِ العلميِّ والعهد التأليفي في الهند كلِّها، فكان له موهبةٌ فائقةٌ في الكتابة وفي التأليف، حتى قيل إنَّه كان يكتُبُ عَشَرات الصفحاتِ في يوم واحد، ويكمِلُ كتابًا ضخمًا في أيام قليلة، ومنها كتب نادرةٌ على منهج جديد، وعندما ساعدته الظروفُ المَنصبيَّةُ والاقتصادية على بذل المالِ الكثيرِ في طَبعِها وتوزيعِها، تكَلَّلت مساعيه العلمية بنجاحٍ منقطعِ النظير. من مؤلَّفاتِه: فتح البيان في مقاصد القرآن، ونيل المرام من تفسير آيات الأحكام، والدين الخالص (جمع فيه آيات التوحيد الواردة في القرآن، ولم يغادر آيةً منها إلا أتى عليها بالبيان الوافي)، وعون الباري بحَلِّ أدلة البخاري (شرح كتاب التجريد)، والسراج الوهاج في كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجَّاج، والحِرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون (في الحديث)، والرحمة المهداة إلى من يريد زيادةَ العلمِ على أحاديثِ المِشكاة، والجنة في الأسوة الحسنة بالسنَّة،(في اتباع السنة)، الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة، والروضة الندية شرح الدرر البهية للقاضي محمد اليمني الشوكاني، وفتح العلام شرح بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وحصول المأمول من علم الأصول (تلخيص إرشاد الفحول للشوكاني) (في أصول الفقه)، وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، وغيرها كثير، قال عبد الحي الطالبي: "له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ ومؤلَّفاتٌ شهيرة في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتاريخ والأدب، قلَّما يتَّفِقُ مثلُها لأحدٍ من العلماء، وكان سريعَ الكتابةِ حُلوَ الخَطِّ، يكتب كراستين في مجلسٍ واحدٍ بخَطٍّ خفيٍّ في ورقٍ عالٍ، ولكنه لا تخلو تأليفاتُه عن أشياءَ، إما تلخيص أو تجريد، أو نقل من لسانٍ إلى لسان آخر، وكان كثيرَ النقل عن القاضي الشوكاني، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية الحراني، وأمثالهم، شديدَ التمَسُّك بمختاراتهم، وقد اعتراه مرَضُ الاستسقاء، واشتدَّ به المرضُ وأعياه العلاجُ واعتراه الذهولُ والإغماء، وكانت أناملُه تتحَرَّك كأنَّه مشغول بالكتابة، فلما كان نصفُ الليل فاضت على لسانِه كلمةُ أحِبُّ لقاءَ اللهِ، قالها مرة أو مرتين، وطلب الماءَ واحتُضِرَ، وفاضت نفسه، وكان ذلك في ليلة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1307هـ، وله من العُمرِ تِسعٌ وخمسون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام، وشُيِّعَت جنازته في جمعٍ حاشدٍ، وصلِّيَ عليه ثلاث مرات، و كان قد أوصى بأن يُدفَنَ على طريقةِ السُّنَّة، فنُفِّذَت وصيَّتُه.
هو أبو عبد الله، الزبيرُ بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدي العباسي. ولد سنة 233ه, وأمُّه أم ولد روميَّة تسمَّى قبيحة, وما رُئِيَ في زمانِه أصبحَ وجهًا منه ولا من أمِّه قبيحة، تولَّى الخلافة بعد أن عزَلَ الأتراكُ المستعين بالله وأخذوا البيعة له، ثمَّ دبَّرَ من يقتل المستعينَ بعد عزله من الخلافة، وكان المعتزُ أمرَدَ حين ولِيَ الخلافة, وهو ابنُ عشرين سنة أو دونَها, وجلس جلوسًا عامًّا للناس, فلما كان بعد أشهُرٍ من ولايته، خلعَ أخاه المؤيَّد بالله إبراهيم من العهد، فما بقيَ إبراهيم حتى مات، وخاف المعتَزُّ من أن يتحَدَّثَ الناس أنَّه سَمَّه، فأحضر القضاةَ حتى شاهدوه، وما به أثَرٌ، كانت دولةُ المعتز مُستضعفةً مع الأتراك، اتَّفَق القواد منهم، وقالوا له: أعطِنا أرزاقنا, فطلَبَ مِن أمِّه مالًا ليُنفِقَه فيهم، فشَحَّتْ عليه، فتجَمَّع الأتراك لخلعه، وأتوا الدار, وبعثوا إلى المعتَزِّ ليخرُجَ إليهم, فقال: قد شَرِبتُ دواءً، وأنا ضعيفٌ، فهجم جماعةٌ منهم عليه، فجَرُّوه وضَرَبوه، وأقاموه في الحَرِّ، فبقي يتضوَّرُ وهم يلطِمونَه، ويقولون: اخلَعْ نفسَك, ثم أحضروا القاضيَ والعدول، وخلعوه، وأقدَموا من بغداد إلى سامرَّا محمد بن الواثق، وكان المعتَزُّ قد أبعده، فسَلَّمَ المعتزُّ إليه الخلافة، وبايعوه، ولقِّب بالمهتدي بالله. ثمَّ أخذ الأتراكُ المعتَزَّ بعد خمسة أيام فعذَّبوه ومُنِعَ من الطعام والشراب ثلاثةَ أيامٍ حتى جعل يطلُبَ شَربةً مِن ماء البئر فلم يُسقَ، ثم أدخلوه سردابًا فيه جصُّ جيرٍ فدسوه فيه فأصبح ميتًا، فاستلُّوه من الجصِّ سليمَ الجسَدِ وأشهدوا عليه جماعةً من الأعيان أنَّه مات وليس به أثَرٌ. مات عن عمرِ ثلاث وعشرين سنة, وصلَّى عليه المهتدي بالله، ودُفن مع أخيه المنتصر، فكانت مدَّةُ خلافته أربعَ سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، ولَمَّا قُتِلَ المعتزُّ وجدوا عند أمِّه قبيحةَ أموالًا عظيمة، وجواهِرَ نفيسة، كان من جملةِ ذلك ما يقارب ألفي ألف دينار، ومن الزمُرُّد والياقوت الأحمر الذي لم يُرَ مثلُه.
هو الموفَّقُ بالله أبو أحمد محمد بن جعفر المتوكِّل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد, وقيل: إن اسمه طلحة، الأميرُ العباسي وقائِدُ جيش الخليفة المعتَمِد على الله. ولِدَ في بغداد عام 227ه من أمِّ ولَدٍ للخليفة المتوكِّل على الله، وتربَّى تربيةً عِلميَّةً، وكان عالِمًا بالأدب والنَّسَب، والفِقه والقضاءِ، غزيرَ العَقلِ، حسَنَ التدبيرِ، كريمًا حازمًا، ذا مَقدِرةٍ في سياسةِ المُلْك، اعتبَرَه البعضُ بأنَّه المنصورُ الثاني. كان الموفَّقُ وليَّ عَهدِ المعتَمِد على الله، إلَّا أنه كان الخليفةَ الفعليَّ. كان الموفَّقُ عادِلًا حسَنَ السِّيرةِ، يَجلِسُ للمظالمِ وعنده القُضاة وغيرُهم، فينتصِفُ النَّاسُ بعضُهم من بعض. كما يعتبَر الموفَّقُ أبا الخلفاء الثاني بعد المنصورِ؛ إذ إنَّ الخلافةَ العباسية استمَرَّت في عَقِبِه حتى سقوطِها على يد هولاكو خان عام 656ه. كما أنَّه بعث الحياةَ في الخلافة العباسية بعد أن أشرَفَت على السقوطِ بسبب حالةِ الفوضى التي سادت على يدِ الأتراك بين عامي 247 - 256 بعد مقتل الخليفةِ المتوكِّل واستبداد الأتراكِ وقادتِهم بالأمرِ وقَتْلِهم للخُلَفاء: المنتصِر، والمُستعين، والمعتَزِّ، والمهتدي، واستقلال أمراء الأطراف بولاياتهم كالصَّفَّاريين في المشرق، والطولونيين في مصر. فقد تحمَّلَ الموفَّقُ بالله أعباءً كبيرةً في سبيل تثبيت الخلافة؛ إذ تمكَّنَ من القضاءِ على ثورةِ الزِّنجِ كما تمكَّنَ من إيقاعِ الهزيمةِ بجُموعِ الصَّفَّاريين وزعيمِهم يعقوبَ بنِ الليث، الذي كان قد اقتَرَب من بغداد في محاولةٍ لإرغام الخليفة على الاعترافِ بسُلطانه على المَشرِق، كما تمكَّنَ أيضًا من الحَدِّ من توسع الطولونيِّين غربًا. أُصيبَ الموفَّقُ بمرض النقرِس في بلاد الجبل، فانصرف وقد اشتَدَّ به وجع النقرس، فلم يقدِرْ على الركوب، فعُمِل له سريرٌ عليه قُبَّة، فكان يقعد عليه، وخادِمٌ له يُبَرِّد رجلَه بالأشياء الباردة، حتى إنَّه يضعُ عليها الثلج، ثم صارت عِلَّة داء الفيل برِجلِه، وهو ورَمٌ عظيمٌ يكون في السَّاق، يسيل منه ماء، ثم بقِيَ في داره مريضًا عِدَّةَ أيام حتى توفي. لَمَّا مات الموفَّقُ اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولايةِ العَهدِ، بعد المفَوِّض بن المعتَمِد، ولُقِّبَ المُعتَضِدَ بالله.
هو السُّلطانُ مُعِزُّ الدولة أبو الحسين, أحمدُ بنُ بُوَيه بن فنا خسرو بن تمام بن كوهي الديلمي الفارسي الشيعي, كان أبوه سمَّاكًا, وهو ربَّما احتطب. تملَّك العراق نيفًا وعشرين سنة بلا كُلفةٍ، ودانت له الأُمَم, ولَمَّا تغَلَّب على بغداد سنة 334 لقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمعزِّ الدولة، وتولى منصِبَ أميرِ الأمراء، وبدا بتسَلُّطه على الخليفة فأصرَّ أن يُذكَرَ اسمُه مع اسمِ الخليفةِ في خُطبة الجمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خمسة آلاف درهمٍ في كل يوم. وكذلك كان الخليفةُ المطيع لله مقهورًا معه، أظهر أبو الحُسَين الرَّفضَ ودعَمَ التشَيُّع. وهو أوَّلُ من أجرى السُّعاةَ بين يديه ليبعثَ بأخبارِه إلى أخيه ركن الدَّولةِ سريعًا إلى شيراز، وحظِيَ عنده أهلُ هذه الصناعةِ, وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل وبرغوش، يتعصَّبُ لأحدهما عوامُّ أهلِ السُّنَّة، وللآخر عوامُّ أهلِ الشيعة، وجَرَت لهما مَناصِفُ ومواقف، ولَمَّا كان الثالث عشر من ربيع الأول توفي أبو الحسن بعِلَّة الذَّرَب، فصار لا يَثبُت في مَعِدتِه شَيءٌ بالكُليَّة، فلمَّا أحسَّ بالموت قيل: إنه أظهر التَّوبةَ وأناب إلى الله عزَّ وجَلَّ، وترضَّى عن الصحابةِ, وأراق الخمورَ, ونَدِمَ على ما ظلم, وردَّ كثيرًا من المظالم، وتصَدَّق بكثيرٍ مِن ماله، وأعتق طائفةً كثيرةً مِن مماليكه، وعَهِدَ بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعضِ العُلَماءِ، فكَلَّمَه في السُّنَّة وأخبره أنَّ عليًّا زوَّجَ ابنَتَه أمَّ كُلثوم مِن عُمَرَ بنِ الخطاب، فقال: واللهِ ما سَمِعتُ بهذا قطُّ، فقيل إنَّه رجع إلى السُّنَّة ومتابعتِها- والله أعلم, ولَمَّا مات مُعِزُّ الدولة دُفِنَ بباب التبن في مقابر قريش، فبَعَث ابنُه عِزُّ الدولة ووليُّ عَهدِه إلى رؤوس الأُمَراءِ في هذه الأيام بمالٍ جزيلٍ لئلَّا يجتمعوا على مخالفتِه قبل استحكامِ مُبايعتِه، وهذا مِن دهائِه، وكانت مُدَّة ولاية معز الدولة إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرًا ويومين.
لَمَّا توفِّيَ يَمينُ الدَّولة وكان قد عَهِدَ لابنه محمَّدٍ دون مسعودٍ، وكان ابنُه مَسعودٌ بأصبهان، فلمَّا بلَغَه الخبَرُ سار إلى خراسان، واستخلف بأصبهانَ بَعضَ أصحابِه في طائفةٍ مِن العسكر، فحين فارَقَها ثار أهلُها بالوالي عليهم فقَتَلوه، وقَتَلوا مَن معه من الجُندِ، وأتى مسعودًا الخبَرُ، فعاد إليها وحَصَرها، وفتَحَها عَنوةً، وقَتَل فيها فأكثَرَ، ونهبَ الأموالَ، واستخلف فيها رجُلًا كافيًا، وكَتَب إلى أخيه محمَّدٍ يُعلِمُه بذلك، وأنَّه لا يريدُ مِن البلادِ التي وصَّى له أبوه بها شيئًا، وأنَّه يكتفي بما فتَحَه من بلاد طبرستان، وبلَد الجبل، وأصبهان، وغيرها، ويطلُبُ منه المُوافَقةَ، وأن يُقَدِّمَه في الخُطبةِ على نَفسِه، فأجابه محمَّدٌ جَوابَ مُغالِطٍ، وكان مسعودٌ قد وصلَ إلى الريِّ، فأحسَنَ إلى أهلِها، وسار منها إلى نَيسابور، ففعل مثل ذلك، وأمَّا مُحمَّدُ فإنه أخذَ على عَسكَرِه العهودَ والمواثيقَ على المُناصَحةِ له، والشَّدِّ منه، وسار في عساكِرِه إلى أخيه مسعودٍ مُحاربًا له، وكان بعضُ عساكِرِه يَميلُ إلى أخيه مسعودٍ لِكِبَرِه وشجاعتِه، ولأنَّه قد اعتاد التقَدُّمَ على الجيوشِ، وفَتْح البلاد، وبعضُهم يخافُه لقُوَّةِ نَفسِه، وكان محمَّدٌ قد جعَلَ مُقَدَّمَ جَيشِه عَمَّه يوسُفَ بن سبكتكين، وكان من أعيانِ أصحابِ أبيه محمودٍ مِمَّن أشار عليه بموافقةِ أخيه وترْكِ مخالفته، فلم يُصْغِ إلى قوله، وسار فوصَلَ إلى تكناباذ أوَّلَ يوم من رمضان، وأقام إلى العيدِ، فعَيَّدَ هناك، فلمَّا كان ليلةُ الثلاثاء ثالثَ شَوَّال ثار به جُندُه، فأخذوه وقَيَّدوه وحَبَسوه، وكان مشغولًا بالشَّرابِ واللَّعِبِ عن تدبيرِ المَملكةِ، والنَّظَر في أحوال الجُندِ والرعايا، فلمَّا قَبَضوا عليه نادوا بشِعارِ أخيه مسعود، ورفعوا محمدًا إلى قلعةِ تكناباذ، وكتبوا إلى مسعودٍ بالحال. فكان اجتماعُ المُلْكِ له واتِّفاقُ الكَلِمةِ عليه في ذي القَعدةِ، وكان وصولُ مسعودٍ إلى غزنةَ ثامنَ جُمادى الآخرة من سنة 422، فلما وصلَ إليها وثَبَّتَ مُلكَه بها أتَتْه رُسُلُ الملوكِ مِن سائِرِ الأقطار إلى بابه، واجتمَعَ له مُلْكُ خُراسانَ، وغزنة، وبلاد الهند والسند، وسجستان، وكرمان، ومكران، والري، وأصبهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعَظُم سلطانُه وخِيفُ جانِبُه.
عاوَدَ تكش العِصيانَ -قِيلَ: إن تكش مَملوكٌ لملكشاه. وقِيلَ: إنه لَصيقٌ له وإن أَباهُ النُّعمانُ- وكان أَصحابُ تكش يُؤثِرون الاختلاطَ، فحَسَّنوا له مُفارقةَ طاعَةِ ملكشاه، فأَجابَهم، وسارَ معهم، فمَلَكَ مرو الروذ وغيرَها إلى قَلعةٍ تُقارِب سرخس وهي لمسعودِ ابنِ الأَميرِ ياخز، وقد حَصَّنَها جُهْدَهُ، فحَصَروهُ بها، ولم يَبقَ غيرُ أَخْذِها منه، فاتَّفقَ أبو الفُتوحِ الطُّوسيُّ، صاحبُ نِظامِ المُلْكِ، وهو بنيسابور، وعَميدُ خراسان، وهو أبو عليٍّ، على أن يَكتُب أبو الفُتوحِ مُلَطِّفًا إلى مَسعودِ بن ياخز، وكان خَطُّ أبي الفُتوحِ أَشْبَهَ شَيءٍ بخَطِّ نِظامِ المُلْكِ، يقول فيه: كَتبتُ هذه الرُّقعَةَ من الرَّيِّ يومَ كذا، ونحن سائرونَ من الغَدِ نَحوَك، فاحفَظ القَلعةَ، ونحن نَكبِسُ العَدُوَّ في لَيلةِ كذا، فاسْتَدْعَيَا فَيْجًا –أي خادِم- يَثِقون به، وأَعطَياهُ دَنانيرَ صالحةً، وقالا: سِرْ نحوَ مَسعودٍ، فإذا وَصلتَ إلى المكانِ الفُلانيِّ فأَقِم به ونَمْ وأَخْفِ هذا المُلَطِّفَ في بعضِ حِيطانِه، فسَتأخُذك طلائِعُ تكش، فلا تَعتَرِف لهم حتى يَضرِبوكَ، فإذا فَعَلوا ذلك وبالَغوا فأَخرِجهُ لهم، وقُل: إنَّكَ فارَقتَ السُّلطانَ بالرَّيِّ ولك مِنَّا الحِباءُ والكَرامةُ، ففَعَلَ ذلك، وجَرَى الأَمرُ على ما وَصَفا، وأُحضِر بين يدي تكش وضُرِبَ، وعُرِّضَ على القَتلِ، فأَظهَرَ المُلَطِّفَ وسَلَّمَه إليهم، وأَخبَرهم أنَّه فارَقَ السُّلطانَ ونِظامَ المُلْكِ بالرَّيِّ في العَساكرِ، وهو سائرٌ، فلمَّا وَقَفوا على المُلَطِّف، وسَمِعوا كَلامَ الرَّجُلِ، وساروا ساروا مِن وَقتِهم، وتَركوا خِيامَهم ودَوابَّهم، والقُدورَ على النارِ، فلم يَصبِروا على ما فيها، وعادوا إلى قَلعةِ ونج. وكان هذا مِن الفَرَجِ العَجيبِ، فنَزلَ مسعودٌ وأَخذَ ما في المُعَسكَرِ، ووَرَدَ السُّلطانُ إلى خُراسان بعدَ ثلاثةِ أَشهُر، ولولا هذا الفِعلُ لنهب لذهب تكش إلى بابِ الرَّيِّ، ولمَّا وَصلَ السُّلطانُ قَصَدَ تكش وأَخَذَهُ، وكان قد حَلَفَ له بالأَيمانِ أنَّه لا يُؤذِيَه، ولا يَنالُه منه مَكروهٌ، فأَفتاهُ بَعضُ مَن حَضَرَ بأن يَجعلَ الأَمرَ إلى وَلَدِه أَحمدَ، ففَعَلَ ذلك، فأَمَرَ أَحمدَ بِتَسميلِ عَيْنَيْهِ، فسُمِلَتَا ثم سُجِنَ.
في هذه السنة وقع الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه. وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعمَّ الفساد، فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعًا فيها، محكومًا عليها، فلما رأى السلطانُ بركيارق المالَ عنده معدومًا، والطمع من العسكر زائدًا، أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين، إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح، فسار إليه وهو بالقرب من مراغة، فذكرا له ما أُرسِلا فيه، ورغَّباه في الصلح وفضيلته، وما شمل البلادَ من الخراب، وطَمَع عدوِّ الإسلام في أطراف الأرض، فأجاب إلى ذلك، وأرسل فيه رسلًا، واستقر الأمر، وحلف كلُّ واحد منهما لصاحبه، وتقررت القاعدة: أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمدًا في الطبل -كان من شعائر السلطنة أن تضرب الطبلخانات للسلطان خمس مرات في اليوم- وألَّا يُذكَر معه على سائر البلاد التي صارت له، وألَّا يكاتب أحدهما الآخرَ، بل تكون المكاتبة من الوزيرين، ولا يعارض أحدٌ من العسكر في قصد أيِّهما شاء، فأجاب بركيارق إلى هذا، وزال الخلاف والشغب، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد، وتسليمه إلى أصحاب أخيه، وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان، فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه وفي خدمته، فامتنعوا ورأوا لزوم خدمة صاحبهم، فسمَّاهم أهل العسكرين جميعًا: أهل الوفاء، وتوجهوا من أصبهان، ومعهم حريم السلطان محمد إليه، وأكرمهم بركيارق، وحمل لأهل أخيه المالَ الكثير، ومن الدواب ثلاثمائة جمل، ومائة وعشرين بغلًا تحمِلُ الثِّقلَ، وسَيَّرَ معهم العساكر يخدمونهم. ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح، وما استقرت القواعد عليه، حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق، فأجيب إلى ذلك، وفي ذي القعدة سُيِّرَت الخِلَع من الخليفة للسلطان بركيارق، وللأمير إياز، ولوزير بركيارق، والعهد بالسلطنة، وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا.
هو غياثُ الدين أبو شجاع السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة, والأقاليم الواسعة. كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلًا رحيمًا، سهل الأخلاق، محمود العشرة، لما توفي والده ملكشاه اقتسم مملكته أولادُه الثلاثة وهم: بركيارق، وسنجر، ومحمد، ولم يكن لمحمد وسنجر، وهما من أم واحدة، وجود في اهتمام بركيارق؛ لأنه كان السلطان المشار إليه، وهما كالأتباع له، ثم اختلف محمد وبركيارق، فدخل محمد وأخوه سنجر إلى بغداد، فخلع عليهما الخليفة المستظهر بالله, وخطب لمحمد، وتركوا الخطبة لبركيارق، وكان ذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقيل سنة 495, وقُطِعت خطبته عدة مرات، ولَقِيَ من المشاق والأخطار ما لا حدَّ له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، وعَظُمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر. قال ابن خلكان: "كان السلطان محمد رجل الملوك السلجوقية وفحلهم، وله الآثار الجميلة والسيرة الحسنة، والمعدلة الشاملة، والبر للفقراء والأيتام، والحرب للطائفة الملحِدة والنظر في أمور الرعية". مرض السلطان محمد زمانًا طويلًا، ولما أيس من نفسه أحضر ولده محمدًا فقَبَّله وبكى كلٌّ واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وينظر في أمور الناس، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، فقال: صدقتَ، ولكنْ على أبيك، وأمَّا عليك فمُبارَك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين، وتوفي يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة في هذه السنة بمدينة أصبهان، وعمره سبع وثلاثون سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وهو مدفون بأصبهان في مدرسة عظيمة، وهي موقوفة على الطائفة الحنفية، وليس بأصبهان مدرسة مثلها, ولم يخلف أحد من الملوك السلجوقية ما خلفه من الذخائر وأصناف الأموال والدواب.
لَمَّا قُطِعَت خُطبةُ الراشِدِ بالله وخُلِعَ، استشار السُّلطانُ جَماعةً مِن أعيان بغدادَ، منهم الوزيرُ علي بن طراد، وصاحِبُ المخزن، وغيرهما، فيمن يَصلُحُ أن يليَ الخلافة. فقال الوزير: أحدُ عُمومةِ الراشِدِ، وهو رجلٌ صالحٌ. قال: من هو؟ قال: لا أقدِرُ أن أُفصِحَ باسمِه لِئَلَّا يُقتَلَ، فتقَدَّم إليهم بعَمَلِ مَحضَرٍ في خَلعِ الرَّاشِدِ، فعَمِلوا محضرًا ذَكَروا فيه ما ارتكَبَه من أخذِ الأموالِ وأشياءَ تَقدَحُ في الإمامةِ، ثمَّ كَتَبوا فتوى: ما يقولُ العُلَماءُ فيمن هذه صِفَتُه، هل يَصلُحُ للإمامةِ أم لا؟ فأفتَوا أنَّ مَن هذه صِفَتُه لا يصلُحُ أن يكون إمامًا، فلمَّا فرغوا من ذلك أحضروا القاضيَ أبا طاهر بن الكرخي، فشَهِدوا عنده بذلك، فحَكَم بفِسقِه وخَلْعِه، وحَكمَ بعدَه غَيره، ولم يكن قاضي القضاة حاضِرًا ليَحكُمَ؛ فإنَّه كان عند عماد الدين زنكي بالمَوصِل، ثمَّ إنَّ شَرَفَ الدين الوزير ذكَرَ للسُّلطانِ أبا عبدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ المُستظهِر بالله، ودِينَه، وعَقْلَه، وعِفَّتَه، ولِينَ جانِبِه، فحضر السُّلطانُ دارَ الخلافة ومعه الوزيرُ شرف الدين الزينبي، وصاحبُ المخزن ابن البقشلاني وغيرهما، وأمر بإحضارِ الأميرِ أبي عبد الله محمد بن المستظهر مِنَ المكان الذي يَسكُنُ فيه، فأُحضِرَ وأُجلِسَ في المثمنة، ودخل السُّلطانُ إليه والوزيرُ شَرَف الدين وتحالفا، وقرَّرَ الوزيرُ القواعِدَ بينهما، وخرج السُّلطانُ مِن عنده وحضر الأمراءُ وأربابُ المناصِبِ والقُضاةُ والفُقَهاءُ وبايعوا ثامِنَ عَشَرَ ذي الحجة ولُقِّبَ المقتفيَ لأمر الله، ولَمَّا استُخلِفَ سُيِّرَت الكُتُب الحَكيمةُ بخِلافتِه إلى سائِرِ الأمصار، ثمَّ تتَبَّعَ المقتفي القَومَ الذين أفتَوا بفِسقِ الرَّاشِدِ وكَتَبوا المحضر، وعاقَب مَن استحَقَّ العقوبةَ، وعَزَل من يستحِقُّ العَزْلَ، ونكب الوزيرُ شرف الدين علي بن طراد. وقال المقتفي: إذا فعلوا هذا مع غيري فهم يفعلونَه معي، واستصفى أموالَ الزينبي، واستوزر عِوَضَه سديدَ الدَّولةِ بنَ الأنباري.
فارق السُّلطانُ مَسعودًا جماعةٌ مِن أكابِرِ الأمراءِ، وهم من أذربيجان: إيلدكر المسعودي، صاحِبُ كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك، وكان سَبَبُ ذلك مَيلَ السُّلطانِ إلى خاص بك واطِّراحَه لهم، فخافوا أن يَفعَلَ بهم مِثلَ فِعلِه بعبدِ الرَّحمنِ وعَبَّاس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، ووصل إليهم عليُّ بن دبيس صاحِبُ الحلة، فنزل بالجانب الغربيِّ، فجند الخليفةُ أجنادًا يحتمي بهم، ووقع القتالُ بين الأمراء وبين عامَّةِ بغداد ومَن بها مِن العَسكَرِ، واقتتلوا عِدَّةَ دَفعاتٍ، ففي بَعضِ الأيَّامِ انهزَمَ الأمراءُ الأعاجِمُ مِن عامَّةِ بغدادَ مَكرًا وخَديعةً، وتَبِعَهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بَعضُ العسكَرِ مِن ورائهم، ووضعوا السَّيفَ فقُتِلَ مِن العامَّةِ خَلقٌ كثير، ولم يُبقُوا على صغيرٍ ولا كبيرٍ، وفَتَكوا فيهم، فأصيبَ أهلُ بغداد بما لم يصابوا بمِثلِه، وكَثُرَ القتلى والجرحى، وأُسِرَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فقُتِلَ البعضُ وشُهر البَعضُ، ودفَنَ النَّاسُ مَن عرفوا، ومَن لم يُعرَفْ تُرِكَ طريحًا بالصَّحراءِ، وتفَرَّقَ العَسكَرُ في المحالِّ الغربية، فأخذوا مِن أهلِها الأموالَ الكثيرة، ونهَبوا بلدَ دجيل وغيره، وأخذوا النِّساءَ والولدان، ثمَّ إن الأمراءَ اجتَمَعوا ونزلوا مقابِلَ التاج وقَبَّلوا الأرضَ واعتَذروا، وتَردَّدَت الرُّسُلُ بينهم وبين الخليفةِ إلى آخِرِ النَّهارِ، وعادوا إلى خيامِهم، ورَحَلوا إلى النهروان، فنَهَبوا البلادَ، وأفسَدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد، ثمَّ إنَّ هؤلاء الأمراءَ تفَرَّقوا وفارَقوا العراقَ، وتوفِّيَ الأميرُ قيصر بأذربيجان، هذا كُلُّه والسُّلطانُ مَسعود مُقيمٌ ببَلَدِ الجبل، والرسُلُ بينه وبين عَمِّه السُّلطان سنجر مُتَّصِلة، فسار السُّلطانُ سنجر إلى الريِّ، فلَمَّا عَلِمَ السُّلطان مسعود بوصولِه سار إليه وترَضَّاه، واستنزله عمَّا في نَفسِه فسَكَنَ. وكان اجتماعُهما سنة 544.