عقَد الأمينُ لعليِّ بنِ عيسى بن ماهان بالإمرةِ على الجبل وهمذان وأصبهان وقُم، وأمره بحربِ المأمونِ، وجَهَّزَه بجيشٍ كبير، فلمَّا وصل الجيشُ إلى الريِّ تلقَّاه طاهِرُ بن الحسين قائِدُ المأمون، فاقتتَلَ الطرفانِ، فقُتِلَ عليُّ بنُ عيسى بن ماهان، وانهزم جيشُه، ولَمَّا وصل الخبرُ إلى الأمين جهَّز جيشًا آخر بإمرةِ عبدالرحمن بن جَبَلة الأنباريِّ، ولكنَّه هُزِمَ هو أيضًا، فهرب بجيشِه إلى همذان، وطلب الأمانَ من طاهرِ بنِ الحُسين، فأمَّنَهم ولكنَّهم غدروا به وبجيشِه، وقتلوا منهم الكثيرَ، فنهض إليهم طاهِرٌ وقاتَلَهم، فقُتِلَ عبدالرحمن بن جَبَلة، وفَرَّ من نجا من القتلِ، ثم عاد الأمينُ فوَجَّه أحمد بن يزيد وعبدَ اللهِ بن حُميد بن قحطبة في أربعين ألفًا إلى حلوان لقِتالِ طاهِرِ بن الحُسين، وكان هذا في العامِ التَّالي، فلما وصَلوا إلى قريبٍ مِن حلوان خندق طاهِرٌ على جيشِه خندقًا، وجعل يعمَلُ الحيلةَ في إيقاعِ الفِتنةِ بين الأميرينِ، فاختلفا فرجعا ولم يُقاتِلاه، ودخل طاهِرٌ إلى حلوان، وجاءه كتابُ المأمون بتسليمِ ما تحت يدِه إلى هرثمة بن أعْيَن، وأن يتوجَّه هو إلى الأهواز، ففعل ذلك.
لَمَّا قُتِلَ باذ الكردي سار ابنُ أخته أبو عليِّ بنُ مروان الكردي في طائفةٍ مِن الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصَنِ المعاقل، وكان به امرأةُ باذ وأهلُه، فلمَّا بلغ الحِصنَ قال لزوجة خالِه: قد أنفذني خالي إليك في مُهِمَّة، فظنَّتْه حقًّا، فلمَّا صَعِدَ إليها أعلَمَها بهلاكِه، وأطمَعَها في التزوُّجِ بها، فوافقَتْه على مُلكِ الحِصنِ وغَيرِه، ونزل وقصَدَ حصنًا حصنًا، حتى مَلَك ما كان لخالِه، وسار إلى ميافارقين، وسار إليه أبو طاهرٍ وأبو عبد الله ابنا حَمدانَ طمعًا فيه، ومعهما رأسُ باذ، فوجدا أبا عليٍّ قد أحكَمَ أمْرَه، فتصافُّوا واقتَتَلوا أكثَرَ مِن مَرَّة، وأقام ابنُ مروان بدِيارِ بَكرٍ وضَبَطَها، وأحسَنَ إلى أهلِها، وألان جانِبَه لهم، فطَمِعَ فيه أهلُ ميافارقين، فاستطالوا على أصحابِه، فأمسك عنهم إلى يومِ العيد، وقد خرجوا إلى المصلَّى، فلمَّا تكاملوا في الصَّحراءِ وافى إلى البلَدِ، وأخذ أبا الصَّقرِ شيخَ البلد فألقاه مِن على السور، وقبَضَ على من كان معه، وأخذ الأكرادُ ثيابَ النَّاسِ خارِجَ البلد، وأغلق أبوابَ البلَدِ، وأمَرَ أهلَه أن ينصَرِفوا حيثُ شاؤوا، ولم يمَكِّنْهم من الدُّخولِ، فذهبوا كلَّ مذهَبٍ.
هو الإمامُ الثِّقةُ العلَّامة، شيخُ الإسلامِ: أبو نُعَيم، أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أحمد بن إسحاقَ بنِ موسى بن مهران، الأصبهاني الحافظ المشهور، الصوفيُّ، الأحول، سبطُ الزاهد محمد بن يوسف البنَّاء، وصاحب "الحِلْية". وُلِدَ سنة ست وثلاثين وثلاثمِئَة. كان أبوه من عُلَماءِ الحديثِ والرحَّالين، من أعلامِ المحدِّثين وأكابِرِ الثقاتِ الحُفَّاظ، رحلَ إلى العراقِ والحجاز وأصفهان، قال أحمدُ بنُ محمد بن مردويه: "كان أبو نُعَيم في وقته مرحولًا إليه، ولم يكُنْ في أفُقْ مِن الآفاقِ أسنَدُ ولا أحفَظُ منه، كان حُفَّاظُ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كلَّ يومٍ نَوبةُ واحد منهم يقرأُ ما يريده إلى قُريبِ الظَّهر، فإذا قام إلى داره، ربما كان يُقرأُ عليه في الطريق جزءٌ، وكان لا يضجَرُ، لم يكن له غداءٌ سوى التصنيف والتسميع". وقال حمزةُ بنُ العباس العلوي: "كان أصحابُ الحديثِ يقولون: بقيَ أبو نُعَيم أربعَ عشرةَ سنةً بلا نظيرٍ، لا يوجَدُ شَرقًا ولا غربًا أعلى منه إسنادًا، ولا أحفَظَ منه". أشهَرُ مُصنَّفاته (حِليةُ الأولياء) وله (مُعجم الصحابة) وغيرها من الكتب، توفِّي في أصبهان عن 96 عامًا.
هو الصاحبُ، الوَزيرُ، العَلَّامَةُ، أبو الوَليدِ أحمدُ بن عبدِ الله بن أحمدَ بن غالبِ بن زَيدونَ المَخزُومِيُّ، القُرشيُّ، الأندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ، الشاعرُ الماهرُ، حاملُ لِواءِ الشِّعْرِ في عَصرِه. اتَّصلَ بالأَميرِ المُعتَمِدِ بن عبَّادٍ، صاحبِ إشبيلية، فحَظِيَ عنده وصار مُشاوِرًا في مَنزِلَةِ الوَزيرِ، كان بارِعًا أَديبًا شاعرًا مُجيدًا، كان يُشعِر لِنَفسِه لا للتَّكَسُّبِ، أُفْعِمَ بِحُبِّ وَلَّادَة بِنتِ المُستَكْفِي المرواني أَميرِ الأندَلُس، سُجِنَ بِتُهمَةِ مَيْلِه لِبَني أُمَيَّةَ، قال ابنُ بَسَّام: " كان أبو الوَليدِ غايةَ مَنثورٍ ومَنظومٍ، وخاتِمةَ شُعراءِ بني مَخزومٍ، أَحدُ مَن جَرَّ الأيامَ جَرًّا، وفاتَ الأنامَ طُرًّا، وصَرَّفَ السُّلطانَ نَفْعًا وضُرًّا، ووَسَّعَ البيانَ نَظْمًا ونَثْرًا؛ إلى أَدبٍ ليس للبَحرِ تَدَفُّقُهُ، ولا للبَدرِ تَأَلُّقُهُ، وشِعْرٍ ليس للسِّحْرِ بَيانُه، وللنُّجومِ الزُّهْرِ اقتِرانُه. وحَظٍّ مِن النَّثْرِ غَريبِ المَباني، شِعريِّ الألفاظِ والمعاني", وكان من أَبناءِ وُجوهِ الفُقَهاءِ بقُرطُبة، فانتَقلَ منها إلى عند صاحبِ إشبيلية المُعتَضِدِ بن عبَّادٍ، بعد الأربعين وأربع مائة، فجَعَلَهُ مِن خَواصِّه، وبَقِيَ معه في صُورةِ وَزيرٍ. تُوفِّي في إشبيلية ثم نُقِلَ إلى قُرطُبة ودُفِنَ فيها.
قام الخليفةُ العباسيُّ المستعصم بالتوسُّط بين الأيوبيين أصحابِ الشَّامِ وبين المماليك أصحابِ مِصرَ لما كان بينهم من الحروب، فأرسل الشيخَ نجم الدين البادرائي للتوسُّط بينهم، الذي حمل رسالةً إلى الطرفين فتقرر الصلحُ بين الملك المعز أيبك وبين الملك الناصر صاحب دمشق، بسفارةِ نجم الدين البادرائي، وقد قَدِم نجمُ الدين إلى القاهرة، وصَحِبَه عز الدين أزدمر، وكاتبُ الإنشاء بحَلَب نظام الدين أبو عبد الله محمد بن المولى الحلبي، لتمهيدِ القواعد، فلم يبرحَا إلى أن انفصَلَت القضية على أن يكون للمصريِّينَ إلى الأردن، وللناصر ما وراء ذلك، وأن يدخُلَ فيها للمصريين غَزَّة والقدس ونابلس والساحلُ كله، وأن المعِزَّ يُطلِقُ جميع مَن أسَرَه من أصحاب الملك الناصر، وحَلَفَ كل منهما على ذلك، وكُتِبَت به العهود، وعاد المَلِكُ المعز وعسكره إلى قلعةِ الجبل في يوم الثلاثاء سابع صفر، ونزل البادرائي بالقاهرة، وأطلق الملك المعزُّ الملك المعظَّم توران شاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخاه نُصرة الدين، وسائرَ أولاد الملوك والأمراء، وأحضَرَهم دار الوزارة ليشهَدوا حَلِفَه للملك الناصر.
جرت الوقعةُ المشهورة بوقعة الحاير- وهو مكان يُعرَف بحاير سبيع، بين الرياض والخرج- وكانت هذه الوقعة ابتلاءً لأهل التوحيد أتباع الدرعية, وكان سببُ هذه الوقعة أن العجمان بعد أن هزمهم عبد العزيز بن محمد في قذلة عام 1177هـ وقتل منهم فريقًا وأسر فريقًا آخر، استنجدوا برئيس نجران وقبائل يام، فاستجاب صاحبُ نجران الحسنُ بن هبة الله المكرمي لشكواهم، وأعدَّ العدة لذلك، وأبلغ صاحِبَ الأحساء عريعر بن دجين عدو ابن سعود بعزمِه على السير لقتال الدرعية، وعقد معه اتفاقًا للتعاون والاشتراك بقتالها، وضرب له موعدًا للقاء عند الحاير، فلما وصل المكرمي الحاير بقي أيامًا يحارب أهلَها حتى وصل جيش الدرعية الذي قيل إنه كان معتدًّا بنفسه ومُعجبًا بقوَّتِه وكثرة عددِه، فلمَّا وصَلوا قرية الحاير التقى الجيشان واشتَدَّ القتال بينهما حتى انهزمت قوات الدرعية، وقُتِلَ منها 400 وأُسر 300، وتم الاتفاق على تبادُلِ الأسرى وانسحاب جيش نجران, ثم أرسل دهام بن دواس أمير الرياض هدايا يستميلُه لمحاربة بقية أتباع الدرعية، ويَعِدُه بكثيرٍ من الأموال والفوز وفتحِ البلدانِ وحُكمِها.
هو الملك محمد الثالث بن عبد الله بن إسماعيل ملك العلويين في المغرب الأقصى، وكانت عاصمتُه مراكش، ولد بمكناس سنة 1134. تولى الحكم سنة1171 في ظروف صعبة بعد اضطراباتٍ، وقد تميَّزَ بالعقل والرزانة وبُعدِ النظر، اجتهَدَ في المحافظة على بلادِه ووَحدتِها وتأمينِ الشواطئ المغربية من العدوان الأوروبي، وحرَّر مازاغان من يد البرتغاليين، وانتصر على الجيش الفرنسي في معركة العرائش سنة1179, وكان أول حاكمٍ يعترف باستقلالِ وسيادة الولايات المتحدة الأمريكية, ورفَضَ ربطَ علاقات دبلوماسية مع روسيا؛ بسبب محاربتها للدولة العثمانية، وبعث بالعديدِ مِن السفراء لاسترجاعِ المخطوطات العربية من إسبانيا, وداخليًّا كان دائمَ التنقُّل بين جهات مملكته الواسعة؛ ليطمئِنَّ على أحوال البلاد, وشَهِدَ عهدُه أوجَ الازدهار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي للمغرب الأقصى. تمرد وثار عليه عدةَ مراتٍ ابنُه وولي عهده يزيد، فنفاه في مشرق البلاد. توفِّيَ محمد الثالث في طريقِه إلى ابن عمه الذي خرج عن طاعتِه، فلما توفِّيَ تنازع أبناؤه الأربعة على خلافتِه، وهم هشام، ويزيد، وسليمان، ومَسلمة، حتى تمكَّن يزيد الأول أن يَخلُف أباه في الحُكم.
بعد أن ضَمَّ الملك عبدالعزيز الحجازَ حاول الإبقاء على النظام الإداري الذي وضعه المَلِكُ حسين في الحجاز، والتوفيق بين عُلماء الدين في نجد والحجاز، واستمَرَّت أعمال الشركات الأجنبية في الحجاز، وكان الوضعُ في الحجاز أكثَرَ تطورًا من نجد؛ حيث وجودُ الإدارة وَفقَ المعايير العثمانية والميزانية المالية، والجيش النظامي والمدارس على النظام الحديث حتى المرحلة الثانوية، كما كان يوجدُ في الحجاز صحيفة "القبلة" الناطقة باسم الحكومةِ، كما أدرك الملك عبدالعزيز أهميةَ إدخال الوسائل الحديثة للدولة من الهاتف والراديو والسيارة وغيرها، بعد أن اطَّلع على أثَرِها في الحياة العامة والخاصة، إلَّا أنَّ بعضَ هذه الوسائل الحديثة كانت مرفوضةً من بعض علماء نجد وإخوان من أطاع الله خاصة، كالهاتف والتلغراف والراديو، على أنها من أعمال "الشيطان". ومعظم شعوب العالم حتى في أوروبا استنكرتها في بدايتها ظنًّا منها أنَّها من أعمال السحر، ولكِنَّ الملك عبدالعزيز أصرَّ على استخدامها فانتشرت السيارة والتليفون في البلاد، ثم قام الملكُ عبد العزيز بإجراء بعض التغييرات السياسية؛ فعيَّن ابنَه فيصلًا نائبًا للمَلِك في الحجاز في منتصف عام 1926م، وأصدر "التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية" وهو كالدستور، حدَّد وضع نائب الملك، ومجلس الشورى، والإدارة العامة.
وُلِدَ الدكتورُ عبد السَّتَّار أبو غُدَّة عام ١٣٥٩هـ الموافق 1940م بحَلَب. حصل على ليسانس في الشريعة عام ١٣٨٤هـ الموافق 1964م من جامعة دمشق، كما حصل على ليسانس في الحقوقِ عام ١٣٨٥هـ الموافق 1965م من نفس الجامعةِ، وحصل على ماجستير في الشريعةِ عام ١٣٨٦هـ الموافق 1966م، ثمَّ ماجستير في علومِ الحديثِ عام ١٣٨٧هـ الموافق 1967م، ثمَّ على الدكتوراه في الشَّريعةِ في مجالِ (الفقهِ المقارِن) عام ١٣٩٥هـ الموافق 1975م كلُّها من جامعةِ الأزهرِ.
كان رحمه الله متخصِّصًا في فقهِ المعامَلاتِ الماليَّةِ والدِّراساتِ المَصرِفيَّة الإسلاميَّة، إضافةً إلى فقهِ الزَّكاةِ والأوقافِ، وفِقهِ المحاسَبةِ والمراجَعةِ، والدِّراساتِ القانونيَّة.
عَمِلَ أستاذًا في العديد من الجامعات في المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ والكويت ومصر وغيرها. وكان باحثًا في الموسوعةِ الفِقهيَّةِ بوزارةِ الأوقافِ بالكويت، وعضوَ مجلِسِ المعايير والمجلِسِ الشَّرعيِّ لهيئة المحاسَبة والمراجَعة للمُؤَسَّساتِ الماليَّة الإسلاميَّة، وعضوَ المجلسِ الأوربيِّ للإفتاءِ والبُحوثِ.
له العديدُ من المؤلَّفاتِ؛ منها: الخيارُ وأثرُه في العقودِ، دورُ الفِقهِ الإسلاميِّ في العَصرِ الحاضِرِ، بحوثٌ في الفقهِ الطِّبي والصِّحَّة النَّفسيَّة من منظورٍ إسلاميٍّ، دليل الزكاة.
تُوفِّي في مونتريال بكندا يوم الجمعة عن عمرٍ ناهز 80 عامًا.
عاوَدَ تكش العِصيانَ -قِيلَ: إن تكش مَملوكٌ لملكشاه. وقِيلَ: إنه لَصيقٌ له وإن أَباهُ النُّعمانُ- وكان أَصحابُ تكش يُؤثِرون الاختلاطَ، فحَسَّنوا له مُفارقةَ طاعَةِ ملكشاه، فأَجابَهم، وسارَ معهم، فمَلَكَ مرو الروذ وغيرَها إلى قَلعةٍ تُقارِب سرخس وهي لمسعودِ ابنِ الأَميرِ ياخز، وقد حَصَّنَها جُهْدَهُ، فحَصَروهُ بها، ولم يَبقَ غيرُ أَخْذِها منه، فاتَّفقَ أبو الفُتوحِ الطُّوسيُّ، صاحبُ نِظامِ المُلْكِ، وهو بنيسابور، وعَميدُ خراسان، وهو أبو عليٍّ، على أن يَكتُب أبو الفُتوحِ مُلَطِّفًا إلى مَسعودِ بن ياخز، وكان خَطُّ أبي الفُتوحِ أَشْبَهَ شَيءٍ بخَطِّ نِظامِ المُلْكِ، يقول فيه: كَتبتُ هذه الرُّقعَةَ من الرَّيِّ يومَ كذا، ونحن سائرونَ من الغَدِ نَحوَك، فاحفَظ القَلعةَ، ونحن نَكبِسُ العَدُوَّ في لَيلةِ كذا، فاسْتَدْعَيَا فَيْجًا –أي خادِم- يَثِقون به، وأَعطَياهُ دَنانيرَ صالحةً، وقالا: سِرْ نحوَ مَسعودٍ، فإذا وَصلتَ إلى المكانِ الفُلانيِّ فأَقِم به ونَمْ وأَخْفِ هذا المُلَطِّفَ في بعضِ حِيطانِه، فسَتأخُذك طلائِعُ تكش، فلا تَعتَرِف لهم حتى يَضرِبوكَ، فإذا فَعَلوا ذلك وبالَغوا فأَخرِجهُ لهم، وقُل: إنَّكَ فارَقتَ السُّلطانَ بالرَّيِّ ولك مِنَّا الحِباءُ والكَرامةُ، ففَعَلَ ذلك، وجَرَى الأَمرُ على ما وَصَفا، وأُحضِر بين يدي تكش وضُرِبَ، وعُرِّضَ على القَتلِ، فأَظهَرَ المُلَطِّفَ وسَلَّمَه إليهم، وأَخبَرهم أنَّه فارَقَ السُّلطانَ ونِظامَ المُلْكِ بالرَّيِّ في العَساكرِ، وهو سائرٌ، فلمَّا وَقَفوا على المُلَطِّف، وسَمِعوا كَلامَ الرَّجُلِ، وساروا ساروا مِن وَقتِهم، وتَركوا خِيامَهم ودَوابَّهم، والقُدورَ على النارِ، فلم يَصبِروا على ما فيها، وعادوا إلى قَلعةِ ونج. وكان هذا مِن الفَرَجِ العَجيبِ، فنَزلَ مسعودٌ وأَخذَ ما في المُعَسكَرِ، ووَرَدَ السُّلطانُ إلى خُراسان بعدَ ثلاثةِ أَشهُر، ولولا هذا الفِعلُ لنهب لذهب تكش إلى بابِ الرَّيِّ، ولمَّا وَصلَ السُّلطانُ قَصَدَ تكش وأَخَذَهُ، وكان قد حَلَفَ له بالأَيمانِ أنَّه لا يُؤذِيَه، ولا يَنالُه منه مَكروهٌ، فأَفتاهُ بَعضُ مَن حَضَرَ بأن يَجعلَ الأَمرَ إلى وَلَدِه أَحمدَ، ففَعَلَ ذلك، فأَمَرَ أَحمدَ بِتَسميلِ عَيْنَيْهِ، فسُمِلَتَا ثم سُجِنَ.
فارق السُّلطانُ مَسعودًا جماعةٌ مِن أكابِرِ الأمراءِ، وهم من أذربيجان: إيلدكر المسعودي، صاحِبُ كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك، وكان سَبَبُ ذلك مَيلَ السُّلطانِ إلى خاص بك واطِّراحَه لهم، فخافوا أن يَفعَلَ بهم مِثلَ فِعلِه بعبدِ الرَّحمنِ وعَبَّاس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، ووصل إليهم عليُّ بن دبيس صاحِبُ الحلة، فنزل بالجانب الغربيِّ، فجند الخليفةُ أجنادًا يحتمي بهم، ووقع القتالُ بين الأمراء وبين عامَّةِ بغداد ومَن بها مِن العَسكَرِ، واقتتلوا عِدَّةَ دَفعاتٍ، ففي بَعضِ الأيَّامِ انهزَمَ الأمراءُ الأعاجِمُ مِن عامَّةِ بغدادَ مَكرًا وخَديعةً، وتَبِعَهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بَعضُ العسكَرِ مِن ورائهم، ووضعوا السَّيفَ فقُتِلَ مِن العامَّةِ خَلقٌ كثير، ولم يُبقُوا على صغيرٍ ولا كبيرٍ، وفَتَكوا فيهم، فأصيبَ أهلُ بغداد بما لم يصابوا بمِثلِه، وكَثُرَ القتلى والجرحى، وأُسِرَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فقُتِلَ البعضُ وشُهر البَعضُ، ودفَنَ النَّاسُ مَن عرفوا، ومَن لم يُعرَفْ تُرِكَ طريحًا بالصَّحراءِ، وتفَرَّقَ العَسكَرُ في المحالِّ الغربية، فأخذوا مِن أهلِها الأموالَ الكثيرة، ونهَبوا بلدَ دجيل وغيره، وأخذوا النِّساءَ والولدان، ثمَّ إن الأمراءَ اجتَمَعوا ونزلوا مقابِلَ التاج وقَبَّلوا الأرضَ واعتَذروا، وتَردَّدَت الرُّسُلُ بينهم وبين الخليفةِ إلى آخِرِ النَّهارِ، وعادوا إلى خيامِهم، ورَحَلوا إلى النهروان، فنَهَبوا البلادَ، وأفسَدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد، ثمَّ إنَّ هؤلاء الأمراءَ تفَرَّقوا وفارَقوا العراقَ، وتوفِّيَ الأميرُ قيصر بأذربيجان، هذا كُلُّه والسُّلطانُ مَسعود مُقيمٌ ببَلَدِ الجبل، والرسُلُ بينه وبين عَمِّه السُّلطان سنجر مُتَّصِلة، فسار السُّلطانُ سنجر إلى الريِّ، فلَمَّا عَلِمَ السُّلطان مسعود بوصولِه سار إليه وترَضَّاه، واستنزله عمَّا في نَفسِه فسَكَنَ. وكان اجتماعُهما سنة 544.
كانت قريةٌ بحوران- وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن، ويقال لهم بنو لبسة وبنو ناشي- وهي حصينة منيعة يضوي إليها كلُّ مُفسدٍ وقاطع ومارق، ولجأ إليهم أحَدُ شياطين رويمن العشير، وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عددًا كثيرة ونهبوا ليغنَموا العشير، وفي هذا الحين بدَرَهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليرُدَّهم ويهديهم، وطلب الوالي منهم تسليمَ عمر الدنيط، فأبوا عليه وراموا مقاتلَتَه، وهم جمع كثير وجَمٌّ غفير، فتأخَّرَ عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمُدَّه بجيشٍ عونًا له عليهم وعلى أمثالهم، فجهَّزَ له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلمَّا بغَتَهم في بلدهم تجمَّعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحَجَزوا بينهم وبين البلد، فعند ذلك رمَتْهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، فَفَرُّوا على أعقابهم، وأَسَر منهم والي الولاة نحوًا من ستين رجلًا، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأَسرى، ونُهِبَت بيوت الفلَّاحين كلهم، وسُلِّمَت إلى مماليك نائب السلطنة، لم يفقَدْ منها ما يساوي ثلاثمائة درهم، وكرَّ راجِعًا إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملةِ أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصُّه، وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحِه وتعليق رأسِه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غيرَ مَرَّة حتى إنه قطع رأس شاب منهم وعَلَّقَ رأسه على أبيه، شيخٍ كبير، حتى قَدِمَ بهم بصرى، فشنكل طائفة من أولئك المأسورين، وشنكل آخرين، وقتل الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلَّق الرؤوسَ على أخشابٍ نَصَبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيلٌ شديد لم يقع مثلُه في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كلُّه سُلِّطَ عليهم بما كسَبَت أيديهم، وما ربُّك بظَلَّامٍ للعبيدِ!
بعد أن توفِّي السلطان العثماني محمد الفاتح كان كلٌّ من ولديه بعيدًا عنه، فالأوَّلُ بايزيد وهو الأكبر كان حاكمًا لمقاطعة أماسيا، وكان الآخر جم حاكمًا لقرمان، وكانت رغبة الصدر الأعظم قرماني محمد باشا في تولية الأمير جم؛ لذا أرسل إليه من يخبره بوفاة أبيه كي يأتي بأسرع وقت لتسلم الأمر، غيرَ أن حاكم الأناضول سنان باشا علم بالأمر فقتل رسول الصدر الأعظم حيث كانت رغبة الانكشاريين مع بايزيد؛ ولذلك لما علموا بما فعله الصدر الأعظم ثاروا عليه وقتلوه ونهبوا المدينةَ وأقاموا كركود نائبًا عن أبيه، وعندما وصل الأمير بايزيد استقبله الانكشاريون وبايعوه بالسلطنة وتسلَّم الأمر، أما جم فلما علم بالخبر سار إلى بورصة واحتلَّها عنوةً ودعا أخاه بايزيد لتقسيم البلاد فيستحوذ جم على القسم الآسيوي، ويستحوذ بايزيد على القسم الأوربي، الأمر الذي أثار بايزيد فسار إلى بورصة ففر منه جم ملتجئًا إلى المماليك عند السلطان قيتباي في القاهرة، وبقي عنده سنة ثم عاد إلى حلب وبدأ بمراسلة القاسم حفيد أمراء قرمان ووعده أن يعيد له إمارة قرمان إن تمكن من السلطة، فسارا معا للهجوم على قونية لكنهما فشلا فشلًا ذريعًا، ثم حاول جم الصلح مع أخيه على أن يعطيه مقاطعة فرفض بايزيد؛ لأن هذا سيكون بداية انقسام الدولة العثمانية، ثم التجأ جم إلى رودس حيث يوجد بها فرسان القديس يوحنا، وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقًا إلا أنه نقضه تحت ضغط بايزيد وأصبح جم سجينًا في جزيرة رودس، وكسب فرسان القديس يوحنا بهذه الرهينة الخطيرة امتيازات طورًا من بايزيد الثاني، ومرة أخرى من أنصار جم بالقاهرة، فلما تحصَّل على أموال ضخمة باع رهينته للبابا أنوست الثامن، فلما مات هذا البابا ترك جم لخلفه إسكندر السادس، ولكن الأخير لم يبقِ على جم كثيرًا؛ حيث قُتِل واتُّهِم في ذلك بايزيد الثاني الذي تخلص من خطر أخيه.
كانت المنظماتُ الصهيونيةُ تُصعِّد ضغوطَها منذ عام 1960م لاستصدار وثيقةٍ من الفاتيكان بتبرئة اليهود من دمِ المسيح، وقد صَدَرت بالفعل وثيقة فاتيكانية بعنوان (نوسترا ايتاتي) تعلن أن موت السيد المسيح -على زعمهم- لا يمكن أن يُعزَى عشوائيًّا إلى جميع الذين عاشوا في عهده أو إلى يهود اليوم. وكان البابا يوحنا الثالث والعشرون قد ألغى من الصلاة الكاثوليكية مقطعًا يتحدَّث عن اليهود الملعونين، كما ألغى من النصوصِ الدينية جُرْمَ قَتْل الرب، على اعتبار أن الوثيقة المذكورة نصَّت أيضًا على ألا يُنظَرَ إلى اليهود كمنبوذين من الرب وملعونين، كما لو جاء ذلك في الكتاب المقدس. وسَعَت الجماعاتُ اليهودية والصهيونية إلى استثمار سريع لوثيقة 1965م، ولكِنَّ عدوان يونيو 1967م ووقوع القدس في القبضة اليهودية أوجد متغيَّرًا جديدًا أمام الفاتيكان، فركَّز منذ ذلك الوقت على تدويل القدس، وأظهر تعاطفًا مع الكفاح الفلسطيني، وبدأت تظهرُ أيضًا تعبيرات الشعب اليهودي في تصريحاته، والإشارة إلى ما تحمَّله (الشعب اليهودي) من مآسٍ. وبعد عشرين عامًا خطا البابا يوحنا بولس الثاني الخطوةَ التالية في الاتجاه نفسه، فألغى عمليًّا التعديلات التي سبق أن أُدخِلت على الوثيقة الأصلية بتأثير اعتراضات الكنائس المسيحية في البلدان العربية في حينه، وأصدر في 24/6/1985م وثيقة لجنة الفاتيكان للعَلاقات الدينية التي تضمنت تبرئة سائر أجيال اليهود من دمِ المسيح، كما تضمَّنت الربطَ الوثيق بين اليهود وإسرائيل؛ توطئةً لما قام لاحقًا من علاقات مباشرة ودبلوماسية بينهما. ورافق إصدارَ الوثيقة تعميمٌ جديد يقضي بمزيد من تعليمات الفاتيكان لسائر الكنائس الكاثوليكية؛ لتعديل ما ينبغي تعديلُه من نصوص الصلوات والمناهج المدرسية وغيرها، وفقًا للنصوص البابوية. وزاد على ذلك في 13/4/1986م قيام يوحنا بولس الثاني بزيارة كنيس يهودي في روما، وذلك لأول مرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية؛ حيث خاطب سَدَنَتَه بقوله: الأحبَّاء الأعزَّاء والإخوة الكبار، وكان بينهم الحاخام الأكبر في الكنيس اليهودي، وقد اعتُبرت خطوةً رئيسة لمزيد من التقارب مع اليهود.
هو أبو الفضلِ جَعفرُ بنُ أحمدَ المعتَضِد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفَّق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين العبَّاسي، ولد في رمضان سنة 282، وأمُّه أمُّ ولَد اسمها شغب، بويعَ له بالخلافةِ بعد أخيه المُكتفي في ذي القَعدة، سنة 295، وهو يومئذٍ ابنُ ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام. وما وليَ أحدٌ قبله أصغَرُ منه، فانخرم نظامُ الإمامة في أيَّامِه، وصَغُرَ منصِبُ الخلافة؛ ولهذا أراد الجُندُ خَلعَه في بداية خلافتِه في ربيع الأول سنة 296 محتجِّينَ بصِغَرِه وعدَمِ بلوغِه، وتوليةَ عبد الله بن المعتَزِّ، فلم يتمَّ ذلك، وانتقض الأمرُ في ثاني يوم, ثم خلَعوه في المحرَّم سنة 317، وولَّوا أخاه محمَّدًا القاهر، فلم يتِمَّ ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافةِ, وقد كان المقتَدِر رَبْعةً مِن الرجال حسَنَ الوَجهِ والعَينينِ، بعيدَ ما بين المَنكِبَين، حسَنَ الشَّعرِ، مدوَّرَ الوَجهِ، مُشرَبًا بحُمرةٍ، حسَنَ الخُلُقِ، قد شاب رأسُه وعارضاه، وقد كان مِعطاءً جَوادًا، وله عقلٌ جَيِّد، وفهمٌ وافِرٌ، وذِهنٌ صحيح، وقد كان كثيرَ التحجُّبِ والتوسُّع في النفقاتِ مِتلافًا للأموال، مَحَقَ ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى منها. كان في دارِه أحد عشر ألفَ خادم خَصِيٍّ، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسُّودان، وكان له دارٌ يقال لها دارُ الشجرة، بها من الأثاثِ والأمتعة شيءٌ كثيرٌ جِدًّا، وكان كثيرَ الصَّدَقة والإحسانِ إلى أهل الحرمين وأربابِ الوظائف، وكان كثيرَ التنفُّل بالصَّلاةِ والصوم والعبادة، ولكنَّه كان مؤثِرًا لشهواتِه، مطيعا لخَدَمِه وغلمانِه، كثيرَ العَزلِ والولاية والتلَوُّن. وما زال ذلك دأبَه حتى كان هلاكُه على يدي غِلمانِ مُؤنسٍ الخادم، فقُتِلَ عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوالٍ من هذه السنة، وله من العمر ثمانٍ وثلاثون سنة، قال الذهبي: "كان منهومًا باللَّعِب والجواري، لا يلتَفِتُ إلى أعباء الأمور، فوهَنَت دولتُه، وفارقَه قائِدُه مؤنِسٌ الخادم مغاضِبًا له إلى الموصل، وتمَلَّكَها، ووصلت القرامطةُ في أيَّامِه إلى الكوفة، فهرب أهلُها منها. ودخلت الديلم الدينور فاستباحوها، وأقبلت جيوشُ الرومِ حتى بلغوا عَمُّورية، فقَتَلوا وسَبَوا" كانت مدة خلافته أربعًا وعشرين سنةً وأحد عشر شهرًا وأربعة عشر يومًا. كان أكثَرَ مُدَّةً ممَّن تقَدَّمَه من الخُلَفاء.