هو السلطان أحمد الأول بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول. ولد في 12 جمادى الثانية سنة 998 (18 ابريل سنة 1590م) تولى السلطنة بعد أبيه ولم يتجاوز سنه الرابعة عشرة إلَّا بقليل, وقام بحجز أخيه مصطفى بين الخدم والجواري. كانت أركانُ الدولة في بداية حكمه غيرَ ثابتة، فنارُ الحرب مستعرة مع النمسا غربًا, ومع الصفويين شرقًا؛ حيث كانت الحرب معهم شديدة الوطأة؛ لتولي الشاه عباس الصفوي قيادتها، مما جعلها أعظمَ من كافة الحروب السابقة, فاضطربت أحوالُ الولايات الشرقية عمومًا، وسعت كلُّ أمة من الأمم المختلفة النازلة بها للحصول على الاستقلال، وكان من أهَمِّ الحركات حركةُ الأكراد بقيادة رجل كردي يلقَّب بجان بولاد، والأمير فخر الدين المعني الثاني الدرزي، وغيرهما، لكنْ قيَّض الله للدولة في هذه الشدة الوزير مراد باشا الملقب بقويوجي الذي عُيِّن صدرًا أعظم، وكان قد تجاوز الثمانين؛ ليكون عونًا وعضدًا للسلطان الفتى، فتقلد مع كِبَرِ سِنِّه ووَهَنِ قواه قيادةَ الجيوش وحارب الثائرين بهمَّة ونشاط زائِدَينِ، فانتصر على فخر الدين الدرزي, وجان بولاد الكردي، واستمال قلندر أوغلي أحد زعماء الثورة في الأناضول، وقبض على آخر يدعى أحمد بك وقتله بعد أن فرَّق جنده بالقرب من قونية، وفي سنة 1608 م انتصر على من بقِيَ من العصاة بقرب وان، وفي السنة التالية قَتَل آخر زعماء الثورة المدعو يوسف باشا الذي كان استقَلَّ بصاروخان ومنتشا وآيدين, وبذلك عادت السكينة وساد الأمن بهمَّة هذا الشجاع الذي لُقِّب بسيف الدولة عن استحقاق, وازدادت في أيام السلطان أحمد العلاقاتُ السياسية مع دول الإفرنج، فجددت مع فرنسا العقود والعهود القديمة مع بعض زيادات طفيفة، وفي سنة 1609 جُدِّدت مع مملكة بولونيا- بولندا- الاتفاقات التي أُبرِمَت معها في زمن السلطان محمد الثالث، وأهمُّ ما بها تعهُّد بولونيا بمنع قوزاق الروسية من الإغارة على إقليم البغدان، وتعهُّد الدولة العلية بمنع تتار القرم من التعدي على حدودها، وفي سنة 1612م تحصلت ولايات الفلمنك على امتيازات تجارية تضارع ما مُنحِتَه كلٌّ من فرنسا وإنكلترا, والفلمنك هم الذين أدخلوا في البلاد الإسلامية استعمالَ التبغ (الدخان) فعارض المفتي في استعمالِه وأصدر فتوى بمنعِه، فهاج الجند واشترك معهم بعضُ مُستخدَمي السراي السلطانية، حتى اضطروه إلى إباحته! وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة توفي السلطان أحمد ودُفِن عند جامع سلطان أحمد، وكانت مدة حكمه أربعة عشر عامًا, ولصِغَرِ سِنِّ ابنه عثمان الذي لم يتجاوَزْ ثلاث عشرة سنةً من عمره خالف السلطانُ أحمد العادة المتَّبَعة من ابتداء الغازي عثمان الأول بتنصيب أكبر الأولاد أو أحدهم مكان والده، فأوصى بالمُلكِ من بعده لأخيه مصطفى الأول.
هو السلطان العثماني محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن يزيد الثاني بن محمد الفاتح. ولد السلطان محمد عام 1051هـ، وتولى السلطنة وهو ابن سبع سنوات، فتولت جدته كوسيم مهبيكر نيابة السلطنة وأصبحت مقاليد الأمور في يديها، وساءت أحوال الدولة وتدخل الانكشارية (وهم قوات مشاة وفرسان بالجيش العثماني) في شؤونها فازدادت سوءًا، وبعد مقتل السلطانة كوسيم تولت والدة السلطان محمد خديجة تورخان نيابة السلطنة، وعلى الرغم من صغر سنها إلا أنها اتصفت برجاحة العقل فبحثت عن رجل منقذ للدولة، فوجدت بغيتها في محمد باشا كوبريلي الذي قَبِل منصب الصدر الأعظم بشرط أن تُطلق يده في تصريف الدولة. فأعلن محمد كوبريلي سنة 1066 أن السلطان محمد قد بلغ سن الرشد وتمكن من تولي زمام أمور الدولة, وبهذا الإعلان انتهى دور السلطانة الوالدة خديجة فتفرغت هي لأعمال الخير والبر, وتفرغ الصدر الأعظم كوبريلي لتدبير شؤون الدولة ومعالجة إشكالاتها الداخلية ومواجهة الأخطار الخارجية المحدِقة بها. في عهد السلطان محمد الرابع كوَّنت أوروبا حِلفًا ضم: النمسا، وبولونيا، والبندقية، ورهبان مالطة، والبابا، وروسيا، وسَمَّوه (الحلف المقدس) وذلك للوقوف في وجه المد العثماني الإسلامي الذي أصبح قريبًا من كل بيت في أوربا الشرقية بسبب جهاد العثمانيين الأبطال. بدأ الهجوم الصليبي على ديار الدولة العثمانية، وقيض الله لهذه الفترةِ آل كوبريلي الذين ساهموا في رد هجمات الأعداء وتقوية الدولة؛ فالصدر الأعظم محمد كوبريلي المتوفي عام (1072هـ/661م) أعاد للدولة هيبتها، وسار على نهجه ابنه (أحمد كوبريلي) الذي رفض الصلح مع النمسا والبندقية, وبوفاة الصدر الأعظم "أحمد كوبريلي" ضعُف النظام العثماني، وهاجمت النمسا بلاد المجر، واغتصبت قلعة نوهزل ومدينة بست ومدينة بودا، وأغار ملك بولونيا على ولاية البغدان، وأغارت سفن البندقية على سواحل المورة واليونان، واحتلت أثينا وكورنثة عام 1097هـ وغيرها من المدن, وكان من نتائج الهزائم المتتابعة التي لحقت بالدولة العثمانية في أواخر عهده أن ثار الجيشُ في وجه السلطان محمد الرابع، فاتفق العلماءُ ورجال الدولة على عزله، فعُزل في محرم عام 1099هـ بعد أن دامت سلطنته نحو أربعين سنة وخمسة أشهر، تولى خلالها السلطان محمد الرابع بنفسه قيادة جيوش الدولة، وبعد عزله تولى مكانه أخوه سليمان الثاني، وكانت الدولة أثناء خلع السلطان محمد الرابع قد فقدت كثيرًا من أراضيها, وبقيَ السلطان محمد الرابع في العزلة إلى أن توفي في 8 ربيع الآخر من هذه السنة بالغًا من العمر 53 سنة، ودُفن في تربة والدته ترخان سلطان.
هو الإمامُ قائِدُ الجنودِ سعود الكبير بن عبد العزيز بن محمد بن سعود ثالثُ حُكَّام الدولة السعودية الأولى، ولد بالدرعية سنة 1165هـ وتولى الحكمَ بعد وفاة والده سنة 1218هـ يعتبر عصر سعودٍ قِمَّةَ ازدهار الحكم السعودي في الدولة السعودية الأولى؛ فقد استطاع إخضاعَ الحجاز وعمان، وبلغ حوران من الشام. يصِفُ ابن بشر الإمامَ سعودًا وعهده بقوله: "أَمِنَت البلاد وطابت قلوب العباد, وانتظمت مصالحُ المسلمين بحُسن مساعيه وانضبطت الحوادث بيُمْنِ مراعيه.., وكان متيقظًا بعيد الهمة، يسَّر الله له الهيبةَ عند الأعداء والحِشمةَ في قلوب الرعايا ما لم يره أحد في وقته, وكانت له المعرفةُ التامة في تفسير القرآن، أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. وله معرفةٌ بالحديث والفقه وغير ذلك، بحيث إنه إذا كتب نصيحةً لبعض رعاياه من المسلمين ظهر عليه في حُسنِ نَظمِه ومضمونِ كلامِه عدمُ قصورٍ في الاطلاع على العلوم, وقد رأيتُ العجب في المنطوق والمفهوم.. فمن وقف على مراسلاتِه ونصائحه عرفَ بلاغتَه ووفورَ عِلمِه، وإذا تكلَّم في المحافل أو مجالِسِ التذكير بهر العقولَ مِمَّن لم يكن قد سَمِعه, وخال في نفسِه أنَّه لم يسمع مثله, وعليه الهيبةُ العظيمة التي ما سَمِعْنا بمثلها في الملوك السالفة. بحيث إنَّ ملوك الأقطار لا تتجاسَرُ مراجعة كلامه ولا ترمقُه ببصَرِها إجلالًا له وإعظامًا، وهو مع ذلك في الغاية من التواضع للمساكين وذوي الحاجة، وكثيرُ المداعبة والانبساط لخواصِّه وأصحابه, وكان ذا رأيٍ باهر وعقل وافر.. وكان ثبتًا شجاعًا في الحروب محبَّبًا إليه الجهاد في صِغَرِه وكبره، بحيث إنه لم يتخلَّفْ في جميع المغازي والحِجَج، ويغزو معه العلماء من أهل الدرعية.. وإخوانه وبنو عمه كلُّ واحد من هؤلاء بدولة عظيمة من الخيل والركاب والخيام والرجال وما يتبع ذلك من رحائِلِ الأمتاع والأزواد للضيفِ وغيره, وقام في الجهاد وبذَلَ الاجتهاد، وفتحَ أكثر البلدان في أيامِ أبيه وبعد موتِه، وأُعطي السعادةَ في مغازيه, ولا أعلَمُ أنه هُزِمَت له راية، بل نُصِر بالرعب في قلوب أعدائه، فإذا سمعوا بمغزاه ومعداه هرب كلٌّ منهم وترك أباه وأخاه وماله وما حواه" وكان له مجلس علم في الدرعية بعد طلوع الشمسِ يَحضُرُه جمعٌ عظيم، بحيث لا يتخَلَّفُ إلا النادر من أهل الأعمال يجلسون حِلَقًا كُلُّ حلقة خلفها حلقةٌ، لا يحصيهم العَدُّ، فإذا اجتمع الناسُ خرج سعود من قَصرِه ويجلس بجانِبِه الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو الذي يقرأ عليه، ومن الكتب التي تُقرأ عليه في هذا المجلس تفسيرُ ابن جرير الطبري، وابن كثير, وله مجالِسُ أخرى يُقرأ فيها عليه رياضُ الصالحين، وصحيح البخاري. توفي الإمام سعود ليلة الاثنين 11 جمادى الأولى من هذه السنة, عن عمر 74 سنة، وكانت ولايته عشر سنين وتسعة أشهر وأيامًا، وكان موته بعِلَّةٍ وقعت أسفل بطنه أصابه منها حَصَر بول, وكان قد أنجب 12 ولدًا وانقرضت ذريَّتُه سنة 1265هـ, وتولَّى بعده ابنه عبد الله خلفًا له.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأوحد الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الثِّقةُ الثَّبتُ, التقي الوَرِعُ المجاهد المحتَسِب, ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهية, الذي خَلَف والِدَه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخَلَفه في بثِّ العلم والقيام بدعوة التوحيد ونَشْرها، والدفاع عنها بالقلَمِ واللسان، والحُجَّة والبيان، وهو عالمُ نجد بعد أبيه ومُفتيها، ومَن له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والرُّدود العظيمة، ومن ضُرِبَت إليه أكبادُ الإبل مِن سائِرِ بلدان نجد، وتوالت عليه الأسئلةُ من جميع قرى نجد ومدُنِها. ولِدَ في الدرعية سنة 1165هـ ونشأ بها في كَنَف والده، وقرأ القرآنَ حتى حَفِظه ثم شرع في القراءةِ على والده، فتفَقَّه في المذاهب الإسلامية، ومهَرَ في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا عالِمًا بارزًا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفًا بالحديث ومعانيه، وبالفِقهِ وأصوله، وعلم النحو واللغة، وله اليدُ الطولي في جميع العلوم والفنون، كرَّس جُهدَه وأوقف حياته على تحصيلِ العلم وتعليمه ونَشْره تدريسًا وتأليفًا، فأخذ عنه العِلمَ خلقٌ كثيرٌ من فطاحلة عُلماء نجد وجهابِذتِهم، وكان مَرجِعَ القضاة في عهد الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنِه الإمام سعود، وابنِه الإمام عبد الله، وقد ألَّف مؤلفات كثيرة، منها: جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، ردَّ به على بعض عُلماء الزيدية الذين اعترضوا على دعوةِ التوحيد السَّلَفية، وألَّف مختَصَر السيرة النبوية في مجلَّدٍ ضخمٍ، والكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة، وألَّف منسكًا صغيرًا للحج، وكتب رسائِلَ وفتاوى كثيرة، وكان له دروسٌ خاصة يحضُرُها الإمام سعود عبد العزيز، وابنه الإمام عبد الله بن سعود، في الدرعية، وقد صَحِبَ الأمير سعودَ بن عبد العزيز في دخوله مكَّةَ سنة 1218، وكتب حالَ دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالةً وإجابةً منه لِمن سأله عمَّا يعتقدونه ويدينون للهِ به، وكان مع هذا شجاعًا مِقدامًا، وقف في باب البجيري المعروف -أثناء حصار إبراهيم باشا للدرعيَّة- وشهَرَ سَيفَه وقاتل قِتالَ الأبطال قائلًا كلمته المشهورة: "بطنُ الأرض على عِزٍّ خيرٌ من ظهرِها على ذُلٍّ" وقاتَلَ حتى رد العساكِرَ وزحزحهم عن مواقِفِهم، وذلك في آخر حرب الباشا على الدرعية، ثم نقله باشا إلى مصرَ بعد ما استولى على الدرعية، وذلك سنة 1242هـ, ونقل معه ابنه عبد الرحمن، وبقي بمصر محدودَ الإقامة حتى توفِّيَ بمصر، وقد أنجب ثلاثةَ أبناء عُلَماء، هم: الشيخ سليمان، الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية، وعليٌّ قُتِلَ فيما بعد على يد بعض عساكرِ الترك بنجد، وعبد الرحمن نُقِلَ مع أبيه إلى مصر صغيرًا وتعلَّم بها ودرَّس برُواق الحنابلةِ.
الخُميني قائدُ الثورة الإيرانيَّة، ومُنشئُ الحُكومة الإسلاميَّة الشيعيَّة التي أسْقَطَت حُكمَ الشاهِ، وصاحبُ نظريَّة (وِلايةُ الفَقيهِ)، واسمُه بالكامل رُوحُ اللهِ بنُ مصطفى موسَوي، وُلد في 29 جمادى الأولى سنةَ 1318هـ 24 سبتمبر 1900م، بقرية «خُمين» بإيرانَ، وكان أبوه من عُلماء الشيعةِ، وقد قُتل على يد أحد الإقطاعيِّينَ، والخُميني كان عمرُه سنةً واحدةً، فتكفَّلت أُمُّه برِعايته ورِعايةِ أخيه الأصغر «باسند»، ودفعت بهما لطريق العِلم الشيعي، ولمَّا تُوفيت أُمُّه وهو في الثامنةَ عَشْرةَ، انتقل هو وأخوه للإقامة قريبًا من مدينة «قُمَّ» الشهيرة، والتحق بالحوزة العلميَّة للشيخ عبد الكريم حيارى، وتدرَّج معه في العلوم الشيعيَّة وتخصَّص في الفلسفة والمنطِق؛ وعندما حاوَل الشاه إخضاعَ ثورةِ علماءِ الشيعةِ -وعلى رأسهم الخُميني- فأصدر قرارًا بأخذ بعض أملاك الحوزة الدينيَّة، ثار الخُميني، وألقى خُطبًا مُلتهِبةً أشعلت الأوضاع داخلَ إيرانَ، ووقعت مصادَماتٌ عنيفةٌ، راح ضحيتها الآلافُ، وذلك سنةَ 1384هـ، وبعدها تمَّ نَفيُ الخُميني، فانتقلَ أولًا إلى تُركيا، فلم يمكُثْ فيها أكثرَ من عام، ثم اتَّجَه سنةَ 1385ه إلى العراق، وأقام بالنجَف، ومن هناك قاد الخُميني الثورةَ والمعارَضة من خلال شرائط الخُطَب والدروس التي كانت تؤجِّج مشاعرَ الناس، وقد نجَح الخُميني في استغلال الظروف والحوادث لصالح ثورتِه، لكنْ تمَّ إبعادُه من العراق، وفي 6 أكتوبر 1978 غادَرَها إلى فرنسا، ومن هناك استأنَفَ قيادةَ الثورة ضدَّ الشاه حتى توَّج ثورتَه بالعودة لإيرانَ سنةَ 1399هـ، ودخل طِهرانَ دخولَ الفاتحين، وفرَّ الشاه من البلاد، وقد استقبَل الخُميني في المطار ستةُ ملايين إيرانيٍّ، وكان في الثمانين من العمرِ وقتَها، وأَعلنَ وقتَها قيامَ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه لن يرشِّح نفسَه لرئاسة الجمهورية، بل سيظلُّ مُرشدًا للثورة، والمرجعيَّة الشيعيَّة الأولى لشيعة العالَم، ولكنَّه في نفس الوقت جعل في إدارة دفَّة الحُكم رجالًا من أخلَص أعوانه، يُنفِّذون سياساتِه وأفكارَه، وأخذ الخُميني في تطبيق مبدأ ولاية الفقيه، وأظهر تَعصُّبه الشديدَ للتشيُّع، وأَعلن أن أهل السُّنة ما هم إلا أقليَّة، ليس لهم أنْ يشتركوا في السُّلْطة، على الرغم من أن نسبتَهم كانت تزيدُ على 30% من إجمالي السكان، كما أظهَر الخُمينيُّ عزْمَه على نشْر مبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية للدول المجاوِرة، وذلك بتشجيع الأقليَّات الشيعيَّة الموجودة بدول الخليج، وتبنَّى مواقفَ متشدِّدةً تجاهَ أمريكا وإسرائيل، وتشجيعَ الجهاد الفِلَسطيني، وإصدار فتاوى ضدَّ الملاحدة أمثال سلمان رشدي، وكان الخُميني ذا شخصيَّة استبداديَّة، لا يَسمَح بظهور أيِّ رجلٍ بجوارِه، فاصطَدَم معَ بني صدر رئيس الجمهورية وعزَلَه، وآية الله منتظري خليفته وعزَلَه، وكان الخُميني يَرى في نفسه العِصمةَ على اعتبار أنه نائبُ الإمام المعصوم الغائب، ولقد تعرَّض لعدَّة محاوَلات للاغتيال، ولكنَّه نجا منها جميعًا، حتى أتاه قَدَرُه المعلوم في 29 شوال 1409هـ.
هو أبو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حنبل بن هلال بن أسَدٍ الشَّيباني المروزي، نزيل بغداد، أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقهِ، ثِقةٌ حافِظٌ، فقيهٌ حُجَّةٌ، وهو رأسُ الطَّبقة العاشرة، خرجت أمُّه من مرو وهي حامِلٌ به، فولدته في بغداد، في شهرِ ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وقيل: إنَّه وُلِدَ بمَروٍ وحُمِلَ إلى بغداد وهو رضيعٌ. نشأ وتعلَّمَ ببغداد. كان مخضوبًا، طُوالًا، أسمرَ شديدَ السُّمرةِ. توفِّيَ والِدُه وهو شابٌّ, وتزوَّجَ بعد الأربعينَ. ورحل كثيرًا. وعُنِيَ بطلب الحديث، تفَقَّه على الشافعي، وكان له اجتهادٌ حتى صار إمامًا في الحديث والعِلَل، إمامًا في الفِقهِ، كلُّ ذلك مع وَرَعٍ وزُهدٍ وتقَشُّف، وإليه تُنسَبُ الحنابلة، هو الذي وقَفَ وقفَتَه المشهورةَ في مسألةِ خَلقِ القرآن فأبى أن يجيبَهم على بدعتِهم، فضُرِبَ بالسِّياطِ أيَّامَ المعتَصِم والواثِقِ، وبَقِيَ قبلها تحت العذابِ قُرابةَ الأربع سنينَ، وكلُّ ذلك هو ثابتٌ بتثبيت الله له، ثمَّ في عهد الواثقِ مُنِعَ من الفُتيا، وأُمِرَ بلُزومِ بَيتِه كإقامةٍ جَبريَّةٍ، ولم ينفرِجْ أمرُه حتى جاء المتوكِّلُ ورفع هذه المحنةَ، بقي قرابةَ الأربع عشرة سنةً في هذه المحنةِ بين ضَربٍ وحَبسٍ وإقامةٍ جَبريَّة، فكان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وكان الذين ثَبَتوا على الفتنةِ فلم يجيبوا بالكليَّة: خمسة: أحمدُ بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمَّد بن نوح بن ميمون الجند النيسابوري- ومات في الطريقِ- ونُعَيم بن حماد الخزاعي- وقد مات في السِّجنِ- وأبو يعقوب البويطي- وقد مات في سِجنِ الواثقِ على القول بخلق القرآنِ، وكان مُثقلًا بالحديد- وأحمدُ بنُ نصر الخزاعي، قَتَلَه الواثق، قال يحيى بن معين: "كان في أحمدَ بنِ حَنبل خِصالٌ ما رأيتُها في عالم قَطُّ: كان مُحدِّثًا، وكان حافِظًا، وكان عالِمًا، وكان وَرِعًا، وكان زاهِدًا، وكان عاقِلًا" قال الشافعي: "خرجتُ من العراق فما تركت رجلًا أفضَلَ ولا أعلَمَ ولا أورَعَ ولا أتقى من أحمدَ بنِ حنبل" وقال المُزَني: أحمدُ بن حنبل يومَ المحنة، وأبو بكرٍ يومَ الرِّدَّة، وعُمَرُ يومَ السقيفة، وعُثمانُ يومَ الدار، وعليٌّ يومَ الجَمَلِ وصِفِّين"، وكان- رحمه الله- إمامًا في الحِفظِ، قال أبو زرعة: "كان أحمدُ بنُ حنبل يحفَظُ ألفَ ألف حديثٍ، فقيل: له وما يدريك، قال: ذاكرتُه فأخذت عليه الأبوابَ", وقيل لأبي زُرعةَ: من رأيتَ من المشايخ المحدِّثين أحفَظَ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حَزَرتُ كُتُبَه اليومَ الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حِملًا وعِدلًا، ما كان على ظَهرِ كتابٍ منها حديثُ فلان، ولا في بطنِه حديثُ فلانٍ، وكلُّ ذلك كان يحفَظُه عن ظَهرِ قَلبِه", وقال إبراهيم الحربي: "رأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنَّ اللهَ قد جمع له عِلمَ الأوَّلينَ والآخِرينَ مِن كلِّ صِنفٍ، يقولُ ما شاء، ويُمسِكُ ما شاء". له كتابُ المُسنَد المشهورُ، وله غيرُ ذلك في الجرحِ والتعديل والعِلَل، توفي في بغداد، وكانت جنازتُه مشهودةً, وقيل: لَمَّا مات الإمامُ أحمد صلَّى عليه ألفُ ألفٍ وسِتُّمائة ألف رجلٍ، وأسلم وراءَ نَعشِه أربعةُ آلافِ ذِمِّي مِن هَولِ ما رأَوا.، فرَحِمَه اللهُ تعالى، وجزاه الله خيرًا عن الإسلامِ والمسلمين.
هو الوزيرُ العلَّامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني, قرطبي الأصل, نزل سلفة طليطلة ثم لوشة ثم غرناطة، كان سلفة قديمًا يُعرَفون ببني وزير، ثم صاروا يُعرَفون ببني الخطيب نسبةً إلى سعيد جده الأعلى، وكان قد ولِيَ الخَطابة بها وتحَوَّل جَدُّه الأدنى سعيد إلى غرناطة. ولِدَ لسان الدين سنة 713 في لوشة ونشأ في غرناطة، كان عالِمًا بالتاريخ والفلسفة والرياضيات، والفقه والأصول والطب، فألَّفَ في كلِّ ذلك, فله الإحاطة في أخبار غرناطة، وتاريخ ملوك غرناطة، ورسالة في الموسيقى، والحلل المرقومة في اللمع المنظومة، وهي منظومة في أصول الفقه، وله مؤلَّف في الطب ضخم، وعلاج السموم، وكتاب البيطرة. أخذ الطبَّ والمنطق والحساب عن يحيى بن هذيل الفيلسوف, وبرز في الطبِّ وتولَّع بالشعر، فنبغ فيه وترسل ففاق أقرانه، واتصل بالسلطان أبي الحجاج يوسف بن أبي الوليد بن نصر بن الأحمر فمدحه وتقرَّب منه واستكتبه من تحت يد أبي الحسن بن الجباب إلى أن مات أبو الحسَنِ، استقل بكتابة السر وأضاف إليه رسوم الوزارة واستعمله في السفارة إلى الملوك، واستنابه في جميع ما يملِكُه، فلما قُتِل أبو الحجاج سنة 755 وقام ابنُه محمد استمَرَّ لسان الدين الخطيب على وزارته، ثم أرسله إلى أبي عنان المريني بفاس ليستنجِدَه فمدحه فاهتزَّ له وبالغ في إكرامه، فلما خُلِعَ محمد وتغلب أخوه إسماعيل على السلطنة قُبِضَ على الخطيب بعد أن أمَّنَه واستؤصلت نِعمَتُه ولم يكن بالأندلس مِثلُها، فبيع جميعُ ما يَملِكُ, وشَمِلَ الطَّلَبُ جميعَ الأقارب واستمر مسجونًا إلى أن وردت شفاعةُ أبي سالم ابن أبي عنان فيه، ثم شفع له أبو سالم مرةً ثانية فرُدَّت عليه ضِياعُه بغرناطة وقُلِّدَ ما وراء باب السلطان، فباشره مقتصرًا على الكفاية راضيًا به هاجرًا للزُّخرف، صادِعًا بالحق في أسواق الباطل, وعَمَّر حينئذ زاوية ومدرسة وصَلَحت أمور سلطانه على يَدِه، فلم يزل في ذلك إلى أن وقع بينه وبين عثمان بن يحيى بن عمر شيخِ الغُزاة منافرةٌ أدت إلى نفي عُثمان سنة 764 فظَنَّ لسانُ الدين الخطيب أن الوقت صفا له وأقبل سلطانُه على اللهوِ، وانفرد هو بتدبير المملكة، فكَثُرت القالةُ فيه من الحَسَدة واستشعر في آخِرِ الأمر أنهم سَعَوا به, وخَشِيَ على نفسه, فأخذ في التحَيُّل في الخلاصِ، وراسل أبا سالم صاحب فاس في اللحاق به, فدخل مدينة فاس سنة 73 فتلقاه أبو سالم وبالغ في إكرامه وأجرى له الرواتِبَ فاشترى بها ضياعًا وبساتين، فبلغ ذلك أعداءه بالأندلس فسَعَوا به عند سلطانه حتى أذِنَ لهم في الدعوى عليه بمجلِسِ الحكم بكلماتٍ كانت تصدُرُ منه وتُنسَبُ إليه وأثبتوا ذلك وسألوه الحُكمَ به فحُكِمَ بزندقته وإراقةِ دَمِه، وأرسلوا صورة المكتوب إلى فاس، فامتنع أبو سالم فقال: هلا أثبتم ذلك عليه وهو عندكم، فأمَّا ما دام عندي فلا يُوصَلُ إليه، فاستمر على حالته بفاس إلى أن مات أبو سالم فلما تسلطَنَ بها أبو العباس بعده أغراه به بعضُ من كان يعادي الخطيبَ، فلم يزل إلى أن قُبِضَ عليه وحوكم فعَزَّرَه القاضي بالكلامِ ثم امتُحِنَ وعُذِّب، فسُجِنَ وقُتِلَ داخِلَ سِجنِه خَنقًا أوائلَ هذه السنة.
حاوَلَ بَعضُ الأمراء القضاءَ على برقوق وقَتْلَه، لكنَّه استطاع أن يقبِضَ عليهم ويسجِنَهم، ولكنه استمَرَّ بعد مَسْك هؤلاء في تخوف عظيم، واحترز على نفسه من مماليكِه وغيرِهم غايةَ الاحتراز، فأشار عليه بعد ذلك أعيانُ خشداشيته- زملاء مهنته- وأصحابه مثل أيتمش البجاسي، وألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقردم الحسني، وجركس الخليلي ويونس النوروزي الدوادار وغيرهم أن يتسلطَنَ ويحتَجِبَ عن الناس ويستريح ويُريحَ مِن هذا الذي هو فيه من الاحترازِ مِن قيامه وقعودِه، فجَبُنَ عن الوثوب على السلطنةِ وخاف عاقبةَ ذلك، فاستحَثَّه الأمراء، فاعتذر بأنه يهابُ قُدَماءَ الأمراء بالديار المصرية والبلاد الشامية، فركِبَ سودون الفخري الشيخوني حاجِبُ الحُجَّاب ودارَ على الأمراء سرًّا حتى استرضاهم، وما زال بهم حتى كلَّموا برقوقًا في ذلك وهَوَّنوا عليه الأمرَ وضَمِنوا له أصحابَهم من أعيان النواب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موتُ الأمير آقتمر عبد الغني؛ فإنَّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوقٌ يجلس في الموكِبِ تحتَه لِقِدَم هِجرتِه، وكذلك بموتِ الأمير أيدمر الشمسي؛ فإنه كان أيضًا من أقران اقتمر عبد الغني، فماتا في سنة واحدة، فعند ذلك طابت نفسُه وأجاب، وصار يقَدِّمُ رِجلًا ويؤخر أخرى، حتى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من هذه السنة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائي أمير سلاح وألطنبغا المعلم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاج فأخذاه من قاعة الدهيشة وأدخلاه إلى أهلِه بالدور السلطانيَّة، وأخذا منه النمجاة- سيف خاص بالملك أو السلطان- وأحضراها إلى الأتابك برقوقٍ العثماني، وقام بقيَّةُ الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفةَ والقُضاة وسَلْطَنوه، وخُلِعَ الملك الصالح من السلطنة، فكانت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنة واحدة وسبعة أشهر تنقُصُ أربعة أيام، على أنَه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهي لا كثيرٌ ولا قليل، أما السلطان المَلِكُ الظاهر فهو أبو سعيدٍ سَيفُ الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الشركسي، القائم بدولة الشراكسة بالدِّيارِ المصرية، وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثاني من الشراكِسة، إن كان المَلِكُ المظَفَّر بيبرس الجشنكير شركسيًّا؛ فقد قيل إن أصله تركي، وعليه فبرقوق هذا هو الأول من ملوك الشراكسة، وهو الأصحُّ، جلس على تخت الملك في وقت الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان بعد أن اجتمع الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخُ الإسلام سراج الذين عمر البلقيني، وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السَّلطنةِ وقَلَّدَه أمورَ المملكة، ثم بايعه من بعدِه القضاة والأمراء، ثم أُفيضَ على برقوق خِلعة السلطنة، وهي سوداء خليفتية على العادة، وأشار السراجُ البلقيني أن يكون لَقَبُه الملك الظاهر؛ فإنَّه وقت الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمرُ بعد أن كان خافيًا، فتلَقَّبَ بالملك الظاهر، وبه يبدأُ عهد المماليك البُرجية وينتهي عهدُ المماليك البحريَّة، ويُذكَرُ أن أصله من بلاد الشركس، ثمَّ أُخِذَ من بلاده وبِيعَ بمدينة قرم، فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمري الخاصكي الناصري في حدود سنة 764 وقبلها بيسير وأعتَقَه وجعله من جملة مماليكِه، واستمَرَّ أمره حتى صار أتابكَ العساكِرِ.
والشراكسة شعب مسلم موطنه الأصلي مرتفعات القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين.
في أوَّلِ شَهرِ رَجَب قَدِمَ منطاش دمشق، وسار إليها من مرعش على العُمق، حتى قارب من حماة، فانهزم منه نائِبُها إلى جهة طرابلس من غيرِ لقاء، ودخلها منطاش، ولم يُحدِثْ حدثًا، وتوجَّه منها إلى حمص، ففَرَّ منه أيضًا نائِبُها إلى دمشق، ومعه نائِبُ بعلبك، فخرج الأميرُ يلبغا الناصري يريد لقاءه من طريق الزبداني، فثار أحمد شكر بجماعة البيدمرية، ودخل دمشقَ من باب كيسان، وأخذ ما في الإسطبلاتِ من الخيول، وخرج في يوم الأحد التاسع والعشرين جمادى الآخرة، وقدم منطاش في يوم الاثنين أولَ رَجَب من طريق أخرى، ونزل القصرَ الأبلق، ونزل جماعتُه حوله، وقد أَحضر إليه أحمد شكر من الخيول التي نهبها ثمانمائة فرس، وندبه ليدخُلَ المدينة ويأخذ من أسواقها المالَ، فبينا هو كذلك إذ قَدِمَ الناصري بعساكر دمشقَ فاقتتلا قتالًا كبيرًا مدَّةَ أيام، ثم إن منطاش انكسر وقُتِلَ كثيرٌ مِمَّن معه، وفَرَّ معظم التركمان الذين قَدِمَ بهم، وصار محصورًا بالقَصرِ الأبلق، ثم إنَّ السلطان برقوق سار بنفسِه إلى دمشق ثم سار إلى حلب وفي ذي القعدة قَبَض سالم الذكرى على منطاش، وإن صاحب ماردين قبض على جماعةٍ مِن المنطاشية حَضَروا إليه، فبعث السلطانُ قرا دمرداش نائِبَ حلب على عسكر، والأميرَ يلبغا الناصري نائب دمشق على عسكرٍ، والأميرَ أينال اليوسفي أتابك العساكر على عسكر، فساروا لإحضارِ منطاش ومن معه، فنودِيَ في القاهرة بالأمان، وقد حصل غريمُ السلطان.
وقَدِمَ البَريدُ مِن حَلَب بِأَن الأمير قرا دمرداش وصل بعسكر حلب إلى أبيات سالم الذكرى، وأقام أربعة أيام يطالِبُه بتسليم منطاش وهو يماطِلُه، فحنق منه وركب بمن معه ونهب بيوته، وقتل عِدَّة من أصحابه، ففَرَّ سالم بمنطاش إلى سنجار وامتنع بها، ثم إنَّ الأميرَ يلبغا الناصري حضر بعساكر دمشق بعد ذلك، فأنكر على قرا دمرداش ما وقع منه وأغلَظَ في القول وهَمَّ بضَربِه، فكادت تكون فتنةٌ كبيرة وعادا، وإن الأمير أدينال وصل بعسكرِ مِصرَ إلى رأس عين، وتسَلَّمَ من صاحب ماردين الذين قَبَضَهم من المنطاشية، وكبيرهم قشتمر الأشرفي، وحضر بهم وبكتاب صاحب ماردين، وهو يعتذر ويَعِدُ تحصيل غريم السلطان، وفي يوم الاثنين أول ذي الحجة خرج السلطان من حلب يريد دمشق، وفي سادسه قدم البريد بأن السلطان لما بلغه ما جرى من قرا دمرداش وما وقع بينه وبين الناصري من الفتنة، وأنهما عادا بغير طائل، غَلَب على ظَنِّه صِحَّةُ ما نُقِلَ عن الناصري مِن أنَّ قَصْدَه مطاولةُ الأمر مع منطاش، وأنه لم يحضُرْ إلى دمشق إلا بمكاتبَتِه له بذلك، وأَنه قَصَّر في أخذه بدمشق، وأنَّ سالم الذكرى لم يرحَلْ بمنطاش إلى سنجار إلا بكتابِ الناصري إليه بذلك، فلما قَدِمَ إلى حلب قُبِضَ عليه وعلى شهاب الدين أحمد بن المهمندار نائب حماة، وكشلي أمير أخور الناصري، وشيخ حسن رأس نوبته، وقَتَلَهم في ليلة قَبْضِهم، ويُذكَرُ أن يلبغا الناصري هذا هو الذي تمالأ مع منطاش أولًا على برقوق، وسَعَيَا حتى خلعاه، ثم فسد الحالُ بينهما وفاز منطاش بالنيابةِ فسَجَنَ يلبغا، وعندما تسلَّم برقوق السلطنة مرة أخرى أخرج يلبغا وعفا عنه رغم ما فعَلَه ضِدَّه وأنعم عليه بنيابةِ دمشق، ثمَّ إنه تمالأ مرةً أخرى مع منطاش، فكان عاقبته القتل!
بعد أن رحل تيمورلنك من بغداد كتب إلى بايزيد الأول صاحب الروم أن يخرجَ السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردَّ بايزيد جوابه بلفظ خَشِنٍ إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع بايزيد الأولُ عساكرَه من المسلمين والنصارى وطوائف التتر، فلما تكامل جيشُه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع بايزيد الأول يقول لهم: نحن جنسٌ واحد، وهؤلاء تركمان ندفعُهم من بيننا، ويكون لكم الرومُ عِوَضَهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وسار بايزيد الأول بعساكِرِه على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردُّه عن عبور أرض الروم، فسلك تيمور غير طريق بايزيد واختار الطريق الأطول، ومشى في أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد بايزيد، ونزل بمعسكر بايزيد الأول بالقرب من أنقرة وضرب الحصار حولها, فلم يشعر بايزيد إلا وقد نُهِبت بلاده، فقامت قيامته وكرَّ راجعًا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعبُ مبلغًا أوهَنَ قواهم، وكلَّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل ببايزيد مخامرة التتار بأسْرِها عليه، فضَعُفَ بذلك عسكره؛ لأنهم كانوا معظمَ عسكره، ثم تلاهم ولدُه سليمان ورجع عن أبيه عائدًا إلى مدينة بورصا بباقي عسكرِه، فلم يبقَ مع بايزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمورلنك فالتَقَوا في معركة عُرِفت بمعركة أنقرة في ذي الحجة 804 (1402م) واستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فصدمهم جيش بايزيد صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، فكفَّت عساكر بايزيد، وتكاثر التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلَّتهم وكثرة التمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صُرِعَ منهم أكثرُ أبطالهم، وأُخِذَ بايزيد الأول أسيرًا قبضًا باليدِ على نحو ميل من مدينة أنقرة، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة بعد أن قُتِل غالب عسكره بالعطش، وصار تيمور يوقَف بين يديه في كل يوم السلطان بايزيد ويسخر منه ويُنكيه بالكلام، وجلس تيمور مرةً لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب بايزيد طلبًا مزعجًا، فحضر وهو يرسُفُ في قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور، ثم أعاده إلى محبسه، وأما أمر سليمان بن السلطان بايزيد الأول، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة بورصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس، وصالح أهل استانبول، فبعث تيمورلنك فرقةً كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى بورصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضًا بعساكره، ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس السلطان بايزيد، وخلع عليهما وولَّاهما بلادهما، وألزم كلَّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضَرْب السكة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش، ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر بايزيد حتى أفناهم عن آخرِهم، وأما السلطان بايزيد فإنه استمر في أسر تيمورلنك من ذي الحجة سنة أربع إلى أن مات بكربته وقيوده في أيام من ذي القعدة سنة 805.
كانا الأميران نوروز وشيخ مشتركينِ في العصيان على السلطان الناصر فرج بن برقوق حتى تم لهما التغلب عليه، وقاما بسلطنة الخليفة المستعين بالله الذي فوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام جميعه: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزة، وجعل له أن يعيِّنَ الأمراء والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي نواب القلاع الشامية والسواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة في ذلك، غير أنه يطالع الخليفة، ثم إن الأمير شيخًا استطاع أن يتسلطن ويخلع الخليفة من السلطنة فهذا ما أثار حفيظة نوروز الذي استدعى جميع النواب بالبلاد الشامية، فخرج الأمير نوروز إلى ملاقاتهم، والتقاهم وأكرمهم، وعاد بهم إلى دمشق، وجمع القضاة والأعيان، واستفتاهم في سلطنة الملك المؤيد شيخ وحبسه للخليفة وما أشبه ذلك، فلم يتكلم أحد بشيء، وانفضَّ المجلس بغير طائل، وأخذ الأمير نوروز في تقوية أموره واستعداده لقتال الملك المؤيد شيخ، وطلب التركمان، وأكثر من استخدام المماليك، وبلغ الملك المؤيد شيخًا ذلك فخلع في ثالث ذي الحجة من السنة على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الكبير باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي، فلما وصل قرقماس سيدي الكبير إلى غزة، سار منها في تاسع صفر وتوجَّه إلى صفد واجتمع بأخيه تغري بردي سيدي الصغير، ثم خرج في أثرهما الأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة، والجميع متوجِّهون لقتال الأمير نوروز فقرَّروا البدء بأخذ حلب لَمَّا بلغهم خروج نوروز منها إلى جهة دمشق، فعاد نوزوز من حلب إلى دمشق، فأقاموا بالرملة، ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرملة سار لحربهم، وخرج من دمشق بعساكره، فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الديار المصرية عجزًا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية، ثم إن السلطان جهز جيشًا وسيَّره إلى الشام للقاء نوروز، ثم في شهر صفر في ثامنه من السنة 817 نزل السلطان شيخ على قبة يلبغا خارج دمشق، وقد استعد نوروز وحَصَّن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أيامًا، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات، وكان السلطان -من الخربة- قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في السادس والعشرين ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأُجيبَ ونزل من القلعة، ومعه الأمراء: طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقُبِض عليهم جميعًا في الحادي والعشرين شهر ربيع الآخر، وقُتِل من ليلته، وحُمِل رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة، وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قَدِمَ في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة، وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى قدم رأس نوروز، فعُلِّقَ على باب القلعة!
سار عسكر المماليك من القاهرة لأخذ قلعة خرت برت، وقد مات متوليها، ونازلها عسكرُ قرا يلك صاحب آمد، فلما وصلوا إلى مدينة حلب ورد إليهم الخبر بأخذ قرا يلك قلعة خرت برت وتحصينها، وتسليمها لولده، فتوجه العسكر وقد انضم إليه الأمير سودن بن عبد الرحمن نائب الشام، وجميع نواب المماليك الشامية، ومضوا بأجمعهم إلى الرها، فأتاهم بالبيرة كتابُ أهل الرها بطلب الأمان، وقد رَغِبوا في الطاعة، فأمَّنوهم وكتبوا لهم به كتابًا، وساروا من البيرة، وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطاعة كشَّافة، فوصلت الكشافة إلى الرها في التاسع عشر من شوال، فإذا الأمير هابيل بن قرا يلك قد وصل إليها من قِبَل أبيه الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرا يلك صاحب آمد، وحَصَّنها وجمع فيها عامة أهل الضِّياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فناولوها وهم يرمونهم بالنشاب من فوق الأسوار، ثم برز إليهم الأمير هابيل في عسكر نحو ثلاثمائة فارس، وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعلق رؤوسهم على قلعة الرها، فأدركهم العسكر، ونزلوا على ظاهر الرها في يوم الجمعة العشرين من شوال، وقد ركب الرجال السور ورموا بالحجارة، فتراجع العسكر المصري والشامي عنهم، ثم ركبوا بأجمعهم بعد نصف النهار وأرسلوا إلى أهل قلعة الرها بتأمينهم، وإن لم تكفُّوا عن القتال وإلا أخربنا المدينة، فجعلوا الجوابَ رميهم بالنشاب، فزحف العسكر وأخذوا المدينة في لحظة، وامتنع الأكابر وأهل القوة بالقلعة، فانتشر العسكر وأتباعهم في المدينة ينهبون ما وجدوا، ويأسِرون من ظفروا به، فما تركوا قبيحًا حتى أتوه ولا أمرًا مستشنعًا إلا فعلوه! وكان فعلهم هذا كفعل أصحاب تيمورلنك لَمَّا أخذوا بلاد الشام! وأصبحوا يوم السبت محاصرين القلعة، وبعثوا إلى من فيها بالأمان فلم يقبلوا، ورموا بالنشاب والحجارة، حتى لم يقدر أحد على أن يدنوَ منها، وباتوا ليلة الأحد في أعمال النقوب على القلعة، وقاتلوا من الغد يوم الأحد حتى اشتد الضحى، فلم يثبت من بالقلعة، وصاحوا: الأمانَ، فكفوا عن قتالهم حتى أتت رسلهم الأمير نائب الشام، وقدم مُقَدَّم العساكر، فحلف لهم -هو والأمير قصروه نائب حلب- على أنهم لا يؤذونهم ولا يقتلون أحدًا منهم، فركنوا إلى أيمانهم، ونزل الأمير هابيل بن قرا يلك ومعه تسعة من أعيان دولته عند دخول وقت الظهر من يوم الأحد، فتسلمه الأمير أركماس الدوادار، وتقدَّم نواب المماليك إلى القلعة ليتسلموها، فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فمنعوهم فأفحشوا في الرد على النواب، وهمُّوا بمقاتلتهم، وهجموا على القلعة، فلم تُطِقِ النواب منعهم، ورجعوا إلى مخيماتهم، فمد المماليك أيديهم ومن تبعهم من التركمان والعربان والغلمان، ونهبوا جميع ما كان بها، وأسروا النساء والصبيان، وألقوا فيها النار، فأحرقوها بعد ما أخلَوها من كل صامت وناطق، وبعد ما أسرفوا في قتل من كان بها وبالمدينة حتى تجاوزوا الحد، وخربوا المدينة، وفَجَروا بالنساء علنًا من غير خوف لا من الله ولا من الناس!! وألقوا النار فيها فاحترقت، ثم رحلوا من الغد يوم الاثنين الثالث والعشرين، وأيديهم قد امتلأت بالنهوب والسبي، فتقطعت منهم عدة نساء من التعب، فمِتنَ عطشًا، وبِيعَت منهن بحلب وغيرها عدة، وكانت هذه الكائنة من مصائب الدهر!!
هو عثمانُ بن حمد بن عبد الله بن محمد بن حمد بن عبد الله بن محمد بن حمد بن حسن بن طوق بن سيف آل معمر، من العناقر، من بني سعد من بني تميم: أمير العيينة. تولى إمارتها خلفًا لأخيه محمد, وهو جدُّ سعود الكبير بن عبد العزيز بن محمد ثالث حكام الدولة السعودية الأولى. كان ابن معمر آوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العيينة ووعد بنصره بعد خروجه من حريملاء، لكنه طرد الشيخَ من العيينة بعد أن تلقَّى ابن معمر تهديدًا من قائد الأحساء بشأن الشيخ يأمره أن يقتله، وقال: إن المطوع الذي عندكم بلغنا عنه كذا وكذا، فإما أن تقتله، وإما أن نقطع عنك خراجَك الذي عندنا. فقال للشيخ: إن هذا الأمير كتب إلينا وإنه لا يحسُنُ منا أن نقتلك، وإنا نخاف هذا الأمير ولا نستطيع محاربته، فإذا رأيتَ أن تخرج عنا فعلتَ، فنصحه الشيخ ورغَّبه في نصرة لا إله إلا الله، وأن من تمسك بهذا الدين ونصره وصدق في ذلك، نصره الله وأيَّده وولاه على بلاد أعدائه، فإن صبرتَ واستقمتَ وقبِلتَ هذا الخير، فأبشر فسينصرك الله ويحميك من هذا البدوي وغيره، وسوف يولِّيك الله بلاده وعشيرته, فقال: أيها الشيخ إنا لا نستطيعُ محاربته، ولا صبْرَ لنا على مخالفته. فخرج الشيخ عنده وتحوَّل من العيينة إلى الدرعية، ثم لَمَّا قَوِيَ شأن الدعوة وقَوِيت بسببها إمارة الدرعية، اضطر ابن معمر أن يدخل تحتَ لواء حكام الدرعية، وقد ظهرت منه أمور تدلُّ على عدم صدقه، ونفاقِه، حتى إنه تآمر مع دهام بن دواس على المكر بالشيخ محمد بن عبد الوهاب, ولما كثرت شكايةُ أهل العيينة من تآمرِه على الدعوة اتفقوا مع الشيخ المجدد على التخلُّص منه، يقول ابن غنام: "لما تزايد شرُّ عثمان بن معمر على أهل التوحيد وظهر بغضُه لهم وموالاته لأهل الباطل، وتبيَّن الشيخ صدق ما كان يُروى عنه، وجاءه أهل البلاد كافة وشكوا إليه خشيتهم من غدره بالمسلمين، قال الشيخ حينئذ لمن وفد عليه من أهل العيينة: أريدُ منكم البيعةَ على دين الله ورسولِه، وعلى موالاة من والاه ومعاداة من حاربه وعاداه، ولو أنه أميركم عثمان, فأعطَوه على ذلك الأيمان وأجمعوا على البيعة, فملئ قلب عثمان من ذلك رعبًا, وزاد ما فيه من الحقد, وزيَّن له الشيطان أن يفتك بالمسلمين, ويُجليَهم إلى أقصى البلدان، فأرسل إلى ابن سويط وإبراهيم بن سلمان رئيس ثرمداء... يدعوهما إلى المجيء عنده لينفذ ما عزم عليه من الإيقاع بالمسلمين, فلما تحقق أهلُ الإسلام ذلك تعاهد على قتله نفرٌ، منهم حمد بن راشد, وإبراهيم بن زيد, فلما انفضَّت صلاة الجمعة قتلوه في مصلَّاه بالمسجد, فلما عَلِمَ بذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب عَجِل بالمسير إلى العيينة خشية اختلاف الناس وتنازُعِهم، فقدم عليهم في اليوم الثالث بعد مقتلِه، فهدأت النفوس فتجاذبوا عنان الرأي والمشورة فيمن يتولى الرئاسة والإمارة بعده، وأراد أهل التوحيد ألَّا يولى عليهم أحدٌ من آل معمر، فأبى الشيخ ووضَّح لهم طريقَ الصواب بالحجَّة ولمقنعة، وأمَّر عليهم مشاري بن معمر"
لم تكن الفتنةُ بين عبد الله وسعود أبناء فيصل بن تركي وليدةَ الساعة بعد وفاة والدهما، بل كانت روحُ التنافس موجودة بينهما من أيام والدهما؛ ولذلك جعل فيصل سعودًا أميرًا على الخَرجِ والأفلاج ومناطق جنوب بلاد العارض، وما أن توفي فيصل حتى ثار سعودٌ على أخيه عبد الله ينازعه في الحكمِ، واتجه إلى عسير ونزل على حكامِها آل عايض يطلب العونَ والمساعدة في حربِه على أخيه بحجَّةِ أنه كان يهينُه ولم يَرْعَ حَقَّه، وحاول عبد الله أن يثني سعودًا عن غرضه، ووعده بأن يلبي له طلبه إذا عاد إلى الرياض، لكِنَّ سعودًا لم ينثنِ عن عزمِه، ولَمَّا لم يجد العون من آل عايض اتجه إلى نجران يستنصِرُ بصاحبها، وهو في الأصل عدو لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك عدو لبيت آل سعود، فوعده بالنصرة، كما وقف مع سعود بن فيصل ضِدَّ أخيه عددٌ من القبائل، منهم العجمان، ويعض قبائل بدو الدواسر، وبنو مرة، وبدو نجران وأميرها الذي ساعده بالمال. وقد حَذَّر علماءُ أئمة الدعوة من هذه الفتنةِ، وأصدروا الفتاوى وبيَّنوا للعامَّةِ والخاصة بغيَ سعود على أخيه عبد الله، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوانِ، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنَّ الجماعةَ فرضٌ على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلامِ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولا تحصل الجماعةُ إلا بالسمع والطاعة لِمَن ولاه الله أمرَ المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العِرباضِ بن ساريةَ، قال: وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفت منها العيونُ،.... الحديث، وقد جمع الله أوائِلَ الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعةِ مَن خرج، وفتح الله لهم الفتوحَ، وجمع الله الناسَ عليهم، وتفهمون أنَّ الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامِكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل، فالذي بايع بايعَ وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايعَ لهم كبارُهم، واجتمع عليه أهلُ نجدٍ باديهم وحاضِرُهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحدٌ منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمرِ المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحدٌ من المسلمين. ونقَضَ البيعة، وتبيَّنَ لكم أمرُه أنه ساعٍ في شَقِّ العصا، واختلافِ المسلمين على إمامهم، وساعٍ في نقض بيعةِ الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91،92] وسعى سعودٌ في ثلاثة أمور كُلُّها مُنكَرة: نَقَض البيعةَ بنفسِه، وفارق الجماعةَ، ودعا الناس إلى نقضِ بيعة الإمام، فعلى هذا يجِبُ قتالُه وقِتالُ من أعانه".
هو الأميرُ عبدُ القادر ناصِرُ الدين بن محيي الدين الحسني المعروف بعبد القادر الجزائري, اشتهرَ بمناهضته للاحتلالِ الفرنسيِّ للجزائر. وُلِدَ في 23 رجب 1222هـ / مايو 1807م، بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" بالجزائر، ثم انتقل والِدُه إلى مدينة وهران. كان لوالِدِه محيي الدين صِدامٌ مع الحاكِمِ العثماني لمدينة "وهران"، وأدَّى هذا إلى تحديدِ إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرُجَ من الجزائر كلها في رحلةٍ طويلة. وكان الإذنُ له بالخروج لفريضةِ الحَجِّ عام 1241هـ/ 1825م، فخرج مصطحبًا ابنَه عبدالقادر معه، وفي رحلتِهم للحجِّ تعَرَّفوا على الطريقة الشاذلية والقادرية، فالتَقَوا في دمشق وبغداد ببعض شيوخِ الطريقتين وقرؤوا كتُبَهم، ثمَّ عادوا إلى الجزائِرِ عام 1244هـ/ 1828م، فلمَّا تعَرَّضت الجزائرُ لحَملةٍ عسكرية فرنسية شرسة، وتمكَّنَت من احتلال العاصمة. بحث أهالي وعلماء "غريس" عن زعيمٍ يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهادِ تحت قيادته، استقَرَّ الرأيُ على "محيي الدين الحسني" والدِ عبد القادر، وعَرَضوا عليه الأمر، ولكِنَّ الرجل اعتذر عن الإمارة وقَبِلَ قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحبِ المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقَبِلَ السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابنَ عمه "علي بن سليمان" ليكونَ أميرًا على وهران، وقبل أن تستقِرَّ الأمور تدخَّلَت فرنسا مهَدِّدةً سلطان المغرب بالحرب، فانسحَبَ السلطان واستدعى ابنَ عَمِّه فعاد، ولَمَّا كان محيي الدين قد رضِيَ بمسؤولية القيادة العسكرية، والتفَّتْ حوله الجموعُ مِن جديد، وخاصةً أنَّه حقَّق عدَّةَ انتصاراتٍ على العدوِّ، وكان عبد القادر على رأس الجيشِ في كثير من هذه الانتصارات، اقترح الوالِدُ أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصِبِ، فقَبِلَ الحاضرون، وقبل الشابُّ ذلك، وتمت البيعةُ، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطانًا" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ الموافق 20 نوفمبر 1832. فلمَّا بايعه الجزائريون وولَّوه القيامَ بأمرِ الجهاد، نهَضَ بهم، وقاتَلَ الفرنسيين خمسةَ عشر عامًا، ضرب في أثنائها نقودًا سَمَّاها " المحمَّدية " وأنشأ معامِلَ للأسلحة والأدوات الحربية وملابِسِ الجند. وعَقَدت فرنسا اتفاقيةَ هدنة معه، وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأميرِ عبد القادر، وبذلك بدأ الأميرُ يتَّجِهُ إلى أحوال البلاد وتنظيم شؤونها. وقبل أن يمُرَّ عام على الاتفاقية نقضَ القائد الفرنسي الهدنةَ، وناصره في هذه المرة بعضُ القبائل في مواجهةِ الأمير عبد القادر، ونادى الأميرُ في قومِه بالجهادِ ونَظَّم الجميعُ صُفوفَ القتال، حتى نجح في إحراز النصر؛ مما أجبر الفرنسيين على عقد معاهدةِ هُدنةٍ جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م. وعاد الأميرُ لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدَثَته المعارك بالحصون والقلاع، وتنظيم شؤون البلاد، ثمَّ كرر الفرنسيون نقضَ المعاهدة في عام 1839م، ورأى بعد حينٍ أنَّ من الصواب الجنوحَ للسِّلمِ، وشاور أعيانَ المجاهِدينَ في ذلك، لكِنَّ الفرنسيين أسَرُوه سنة 1263هـ/1847م وأنهَوا دورَه القياديَّ، توفي رحمه الله ليلة 19 رجب عام 1300هـ، 1883م عن عمر يناهز 76 عامًا.