عَزَل مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان مُعاوِيَةَ بن خَديجٍ عن أفريقيا، واسْتَعمل عليها عُقبةَ بن نافعٍ الفِهْريَّ، وكان مُقِيمًا بِبَرْقَةَ وزَوِيلَةَ مُذْ فتَحها أيَّام عَمرِو بن العاصِ، وله في تلك البِلادِ جِهادٌ وفُتوحٌ. فلمَّا اسْتَعمله مُعاوِيَةُ سَيَّرَ إليه عشرةَ آلاف فارسٍ، فدخَل أفريقيا وانْضافَ إليه مَن أَسلَم مِن البَرْبَر، فكَثُرَ جَمْعُهُ، ووضَع السَّيفَ في أهلِ البِلادِ لأنَّهم كانوا إذا دخَل إليهم أميرٌ أطاعوا وأَظهَر بعضُهم الإسلامَ، فإذا عاد الأميرُ عنهم نَكَثوا وارْتَدَّ مَن أَسلَم، ثمَّ رأى أن يَتَّخِذَ مدينةً يكون بها عَسكرُ المسلمين وأَهلُهُم وأَموالُهم لِيأمَنوا مِن ثَورةٍ تكونُ مِن أهلِ البِلادِ، فقصَد مَوضِعَ القَيْروان، وبَنَى المسجدَ الجامعَ، وبَنَى النَّاسُ مَساجِدَهم ومَساكِنَهم, فأَمِنُوا واطْمَأنُّوا على المَقامِ فثَبَتَ الإسلامُ في تلك البلادِ المفتوحةِ. ثمَّ إنَّ مُعاوِيَة بن أبي سُفيان اسْتَعمل على مِصْر وأفريقيا مَسلَمةَ بن مَخْلَد الأنصاريَّ، فاسْتَعمل مَسلَمةُ على أفريقيا مَوْلًى له يُقالُ له: أبو المُهاجِر، فقَدِم أفريقيا وعزَل عُقبةَ واسْتَخَفَّ به، وسار عُقبةُ إلى الشَّامِ وعاتَبَ مُعاوِيَةَ على ما فَعلَهُ به أبو المُهاجِر، فاعْتَذَر إليه ووَعَدَهُ بإعادتِه إلى عَمَلِه، فتُوفِّي مُعاوِيَةُ ووَلِيَ بعدَه ابنُه يَزيدُ، فاسْتَعمل عُقبةَ بن نافعٍ على البِلادِ سنة اثنتين وسِتِّين، فسار إليها.
هو سُليمان بن عبدِ الملك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أُمَيَّة بن عبدِ شَمس القُرشيُّ الأُمَويُّ، أبو أَيُّوب. كان مَولِده بالمدينة في بني جَذيلَة، وهو الخَليفَة الأُمَوي السَّابِع، ويُعَدُّ مِن خُلفاء بني أُمَيَّة الأقوِياء, وُلِدَ بدِمشق عام 54هـ ووَلِيَ الخِلافَة بعدَ أَخيه الوَليد عام 96هـ. ومُدَّة خِلافَتِه لا تَتَجاوز السَّنَتيْنِ وسَبعَة شُهور. كان النَّاس في دِمشق يُسَمُّونه مُفتاحَ الخَير، ذَهَبَ عنهم الحَجَّاجُ، فوَلِيَ سُليمان، أَحَبَّهُ النَّاسُ وتباركوا به، أَشاعَ العَدلَ، وأَنصفَ كُلَّ مَن وَقَف بِبابِه، كان فَصيحًا, ويَتَّصِفُ بالجَمالِ والوَقارِ، عَظيم الخِلْقَة، طَويل القامَة، أَبيض الوَجْه، مَقْرون الحاجِبَيْنِ، فصيحًا بليغًا، عَمِلَ في فَترةِ تَوْلِيَةِ الخِلافَة كُلَّ ما فيه مَصلحَة النَّاس، وحافَظَ على اتِّساع وقُوَّة الدَّولة الأُمويَّة، واهْتَمَّ بِكُلِّ ما يَعْنِي النَّاس، أَطلَق الأَسْرَى، وأَخلَى السُّجونَ، وأَحسَن مُعاملَة الجَميعَ، فكَسَب مَحَبَّتَهم، وكان مِن أَعدَل خُلفاء بني أُمَيَّة والمسلمين، واسْتَخْلَف عُمَرَ بن عبدِ العزيز مِن بَعدِه. مُحِبًّا للغَزْوِ، فَتَحَ في عَهدِه جُرجان وطَبَرِسْتان، وجَهَّزَ جَيشًا كَبيرًا مِن سَواحِل الشَّامِ بقِيادَة أَخيهِ مَسلمَة ومعه ابنُه داود، وسَيَّرَهُ في السُّفُن لِحِصارِ القُسطنطينيَّة، وسار سُليمان بن عبدِ الملك مع الحَمْلَة حتَّى بَلَغ دابِق، وعَزَم أن لا يَعود منها حتَّى تُفتَح القُسطنطينيَّة أو يموت، فمات مُرابِطًا في دابِق شَمالَ مَدينَة حَلَب.
قام أُمراءُ خوارزمَ بقَتلِ حاكِمِهم أبي العَبَّاسِ خوارزمشاه لَمَّا رأَوْا مِن مُوافَقَتِه ليَمينِ الدَّولةِ ودُعائِه له على المنابِرِ، فقَتَلوه غِيلةً وأجلَسوا مكانَه أحدَ أولادِه، وتعاهَدوا على مُقاتَلةِ يَمينِ الدَّولة ومُقارَعتِه، واتَّصَل الخبَرُ بيمينِ الدَّولة، فجمَعَ العساكِرَ وسار نحوَهم، فلمَّا قارَبَهم جَمَعَهم صاحِبُ جَيشِهم، ويُعرَفُ بالبتكين البخاري، وأمَرَهم بالخُروجِ إلى لِقاءِ مُقَدِّمةِ يَمينِ الدَّولةِ والإيقاعِ بمن فيها من الأجنادِ، فساروا معه وقاتَلوا مُقَدِّمةَ يَمينِ الدَّولة، واشتَدَّ القِتالُ بينهم، واتَّصَل الخبَرُ بيَمينِ الدَّولة، فتقَدَّمَ نَحوَهم في سائِرِ جُيوشِه، فلَحِقَهم وهم في الحَربِ، فثَبَت الخوارزميَّةُ إلى أن انتَصَف النَّهارُ، وأحسَنوا القِتالَ، ثمَّ إنَّهم انهزموا، ورَكِبَهم أصحابُ يمينِ الدَّولةِ يَقتُلونَ ويأسِرونَ، ولم يَسلَمْ إلَّا القليلُ، ثمَّ إنَّ البتكين رَكِبَ سفينةً لينجوَ فيها، فجرى بينه وبين مَن معه مُنافَرةٌ، فقاموا عليه وأوثقوه، ورَدُّوا السَّفينةَ إلى ناحيةِ يَمينِ الدَّولة، وسَلَّموه إليه، فأخَذَه وسائِرَ القُوَّادِ المأسورينَ معه، وصَلَبَهم عند قبرِ أبي العبَّاسِ خوارزمشاه، وأخذَ الباقينَ مِن الأسرى فسَيَّرَهم إلى غزنةَ فوجًا بعد فوجٍ، فلمَّا اجتَمَعوا بها أفرَجَ عنهم، وأجرى لهم الأرزاقَ، وسَيَّرَهم إلى أطرافِ بلادِه مِن أرضِ الهِندِ يَحمُونَها مِن الأعداءِ، ويَحفَظونَها من أهلِ الفَسادِ، وأخذ خوارزمَ واستنابَ بها حاجِبَه التونتاش.
الملِكُ خالد بن عبد العزيز -رحمه الله- هو رابعُ مَن تولَّى ملِكَ المملكة العربية السُّعودية، بعْدَ أبيه الملِك عبد العزيز وأخوَيه سُعود وفَيصل، وقد تولَّى حُكمَ السُّعودية عقِب اغتيالِ أخيه فَيصل سنة 1395هـ - 1975م، وشهِدَ عهدُه ازدهارًا اقتصاديًّا كبيرًا للسُّعودية؛ بسَببِ ارتفاعِ أسعار النِّفط، وما صاحَب ذلك مِن انفتاحٍ على العالَم الخارجي بصورةٍ أكبرَ بكثيرٍ مِن السابق، وقد حاوَل الملِك خالدٌ الحدَّ من الآثار الجانبيةِ لهذا الانفتاحِ قدْر استطاعتِه؛ حيث دعا إلى السَّير ببُطْء في مَجال التصنيع؛ للحدِّ مِن تَنامي التدخُّل الأجنبي في البلاد، خاصةً وأن عددَ العمالةِ الأجنبية الغربيةَ قد تضاعَفَ خمْسَ مرَّات خلالَ سبعِ سنواتٍ. وقد وقعَتَ في عهْد الملِك خالدٍ حادثتانِ في غاية الخُطورة والأهمية؛ أولهما: الثَّورة الخُمينيةُ في إيرانَ، والتي أطاحت بالملَكِية هناك، وذلك سنةَ 1399هـ، والحادثةُ الثانيةُ: حادثة جُهميان العتيبيِّ، واقتحامه المسجدَ الحرامَ مع مُدَّعي المهْدِية محمد القحطاني، وذلك سنةَ 1400هـ. وكان الملِك خالدٌ يُعاني مِن مَرَضٍ بالقلْب، فما زال يَتزايد عليه المرضُ حتى مات رحمه الله في 21 شعبان 1402 هـ - 13 يونيه 1982م، أثناءَ استعدادِه لرحلة علاجٍ بالخارج، ثم بُويع الملِكُ فهدٌ مَلِكًا للمملكة العربية السُّعودية عقِبَ وفاة الملِك خالد بن عبد العزيزِ.
خرج المجوسُ كما سمَّاهم الأندلسيُّون، وهم النرماند أو الفايكونغ، في نحو ثمانين مركبًا، فحَلُّوا بأشبونة، ثمَّ أقبلوا إلى قادس، وشذونة، ثم قَدِموا على إشبيلية فدخَلوها قَسرًا، واستأصلوا أهلَها قَتلًا وأسْرًا. فبَقُوا بها سبعة أيام، يسقونَ أهلَها كأسَ الحِمامِ. واتَّصلَ الخبَرُ بالأميرِ عبدِ الرحمن بن الحَكَم، فقَدِمَ على الخيلِ عيسى بن شهيد الحاجِب، وتوجَّه بالخيلِ عبدُ الله ابن كليب وابنُ رستم وغيرُهما من القوَّاد، واحتل بالشَّرف. وكتب إلى عمَّال الكور في استنفارِ النَّاس، فحَلُّوا بقُرطبة، ونفَرَ بهم نصرُ الفتى. وتوافت للمجوسِ مراكِبُ على مراكِبَ، وجعلوا يَقتُلونَ الرِّجالَ، ويَسْبُونَ النساء، ويأخذون الصِّبيان، وذلك بطولِ ثلاثة عشر يومًا، وكانت بينهم وبين المسلمينَ ملاحِمُ. ثم نهضوا إلى قبطيل، فأقاموا بها ثلاثةَ أيَّام، ودخلوا قورة، على اثني عشرَ ميلًا من إشبيلية، فقتلوا من المسلمين عددًا كثيرًا، ثم دخلوا إلى طليلطِة، على ميلين من إشبيلية، فنزلوها ليلًا، وظهروا بالغَداةِ بمَوضعٍ يُعرَف بالنخارين، ثم مَضَوا بمراكبهم، واعتَرَكوا مع المسلمين. فانهزم المسلمون، وقُتِلَ منهم ما لا يُحصى. ثم عادوا إلى مراكِبِهم. ثم نهضوا إلى شذونة، ومنها إلى قادس، وذلك بعد أن وجَّه الأميرُ عبدُ الرحمن قوَّادَه، فدافعهم ودافَعوه، ونُصِبَت المجانيقُ عليهم، وتوافت الأمدادُ مِن قُرطُبة إليهم. فانهزم المجوسُ، وقُتِلَ منهم نحوٌ من خمسمائة عِلجٍ، وأصيبت لهم أربعةُ مراكِبَ بما فيها، فأمر ابنُ رستم بإحراقِها وبَيعِ ما فيها من الفَيءِ. ثم كانت الوقعةُ عليهم يوم الثلاثاء لخَمسٍ بقين من صفر، قُتِلَ فيها منهم خلقٌ كثيرٌ، وأُحرِقَ مِن مراكبهم ثلاثون مَركبًا. وعلق من المجوس بإشبيليةَ عددٌ كثيرٌ، ورُفِعَ منهم في جذوعِ النَّخلِ التي كانت بها. وركب سائِرُهم مراكِبَهم، وساروا إلى لبلة، ثم توجَّهوا منها إلى الأشنونة فانقطع خَبَرُهم. ولَمَّا قتل اللهُ أميرَهم، وأفنى عديدَهم، وفتح فيهم، خرجت الكتُبُ إلى الآفاقِ بخبَرِهم. وكتب الأميرُ عبد الرحمن إلى مَن بطنجةَ مِن صِنهاجة، يُعلِمُهم بما كان مِن صُنعِ الله في المجوس، وبما أَنزَلَ فيهم من النِّقمةِ والهَلَكةِ، وبعثَ إليهم برأسِ أميرِهم وبمائتي رأسٍ مِن أنجادِهم.
كان أبو بكرٍ قد كتَب إلى خالدٍ أن يَلحقَ بالشَّام لِمُساندةِ أَجنادِ المسلمين، وأَمَدَّ هِرقلُ الرُّومَ بباهان، فطلَع عليهم وقد قَدَّمَ الشَّمامِسَةَ والرُّهْبانَ والقِسِّيسينَ يَحُضُّونهم على القِتالِ، ولمَّا قَدِمَ خالدٌ الشَّامَ أشار على الأُمراءِ أن يَجتمِعوا تحت قِيادةٍ واحدةٍ، فقال لهم: إنَّ تَأْمِيرَ بعضِكم لا يُنْقِصُكم عند الله ولا عند خَليفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهَلُمُّوا فَلْنَتَعاوَر الإمارةَ، فليَكُنْ عليها بَعضُنا اليومَ، والآخرُ غدًا، حتَّى يتَأَمَّرَ كُلُّكُم، ودَعوني أَتَوَلَّى أَمْرَكم اليومَ, فأَمَّرُوه. خرَجت الرُّومُ في تَعْبِئَةٍ لم يَرَ الرَّاءون مِثلَها قَطُّ، مِائتي ألفٍ وأربعين ألفًا، منهم ثمانون ألفًا مُقَيَّدٌ بالسَّلاسِل. وخرَج خالدٌ في تَعْبِئَةٍ لم تُعَبِّئْها العَربُ قبلَ ذلك، وكان المسلمون سِتَّة وثلاثين ألفًا. وقِيلَ سِتَّة وأربعين ألفًا, جعلهم خالدٌ في سِتَّة وثلاثين كُرْدُوسا إلى الأربعين كُرْدُوس، شَهِدَ اليَرموك ألفٌ مِن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيهم نحوٌ مِن مِائةٍ مِن أهلِ بدرٍ, وكان أبو سُفيانَ يَسيرُ فيَقِفُ على الكَراديس فيقول: الله الله، إنَّكم ذَادَةُ العَربِ، وأنصارُ الإسلامِ، وإنَّهم ذَادَةُ الرُّومِ وأنصارُ الشِرْكِ! اللَّهمَّ إنَّ هذا يومٌ مِن أيَّامِك، اللَّهمَّ أَنزِلْ نَصرَك على عِبادِك. قال رجلٌ لخالدٍ: ما أكثرَ الرُّومَ وأَقَلَّ المسلمين! فقال خالدٌ: ما أَقَلَّ الرُّومَ وأكثرَ المسلمين! إنَّما تَكْثُرُ الجُنودُ بالنَّصرِ وتَقِلُّ بالخُذلانِ، لا بعددِ الرِّجالِ، والله لوَدِدْتُ أنَّ الأشقرَ -يعني فَرَسَهُ- بَرَأَ مِن تَوَجُّعِه وأنَّهم أَضْعَفُوا في العَدَدِ. خرَج جَرَجَةُ أحدُ قادةِ الرُّومِ حتَّى كان بين الصَّفَّيْنِ، ونادى: لِيَخرُج إليَّ خالدٌ، فخرَج إليه خالدٌ، فوافَقَهُ بين الصَّفَّيْنِ، حتَّى اختلفت أَعناقُ دابَّتَيْهِما، فحاوَرهُ خالدٌ حتَّى دخَل في الإسلامِ وكانت وَهْنًا على الرُّومِ. أَمَّرَ خالدٌ عِكرِمةَ والقَعقاعَ، والْتَحَم النَّاسُ، وتَطارَد الفِرْسانُ وهُم على ذلك إذ قَدِم البَريدُ مِن المدينةِ، بموتِ أبي بكرٍ وتَأْميرِ أبي عُبيدةَ، فأسرَّ خالدٌ الخَبَرَ حتَّى لا يُوهِنَ الجيشَ، وحَمِيَ الوَطيسُ، واشْتَدَّ القِتالُ, وقام عِكرمةُ بن أبي جهلٍ يُنادي: مَن يُبايِع على الموتِ؟ فبايَعَهُ أربعمائة مِن وجوه المسلمين، فقاتلوا حتَّى أُثْبِتُوا جميعًا, فهزَم الله الرُّومَ مع اللَّيلِ، وصعَد المسلمون العَقبةَ، وأصابوا ما في العَسكرِ، وقتَل الله صناديدَهُم ورءوسَهُم وفِرسانَهُم، وقتَل الله أخا هِرقل، وأُخِذَ التَّذارِقُ، وقاتَل جَرَجَةُ قِتالًا شديدًا مع المسلمين، إلى أن قُتِلَ عند آخرِ النَّهارِ، وصلَّى النَّاسُ الأوُلى والعصرَ إيماءً، وتَضَعْضَع الرُّومُ، ونهد خالد بالقلبِ حتَّى كان بين خَيْلِهِم ورَجْلِهم، فانهزم الفِرْسان وتركوا الرَّجَّالةَ. ولمَّا رَأي المسلمون خيلَ الرُّومِ قد تَوجَّهَت للمَهْرَبِ أَفرَجوا لها، فتَفرَّقَت وقُتِلَ الرَّجَّالةُ، واقتحموا في خَندقِهم فاقْتَحَمه عليهم، فعَمِدوا إلى الوَاقُوصَةِ حتَّى هوى فيها المُقتَرِنون وغيرُهم، ثمانون ألفًا مِن المُقْتَرِنين، ودخَل خالدٌ الخَندقَ ونزَل في رِواقِ تَذارِق، وانتهت الهَزيمةُ إلى هِرقل وهو دون مَدينةِ حِمْصَ، فارْتَحَلَ.
في المحَرَّم حاصَرَ صلاح الدين الحِصنَ، لكنه رآه منيعًا فكان رحيلُه عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشقَ إلى قلعة صفد فحصَرَها وقاتلها، ونصب عليها المجانيقَ، وأدام الرميَ إليها ليلًا ونهارًا بالحِجارةِ والسهام، وكان أهلُها قد قاربت ذخائرُهم وأزوادُهم أن تفنى في المدَّةِ التي كانوا فيها محاصَرينَ، فإنَّ عَسكَرَ صلاح الدين كان يحاصِرُهم مِن أول السنة، فلما رأى أهلُه جِدَّ صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم وتسَلَّمَها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنينَ شَرَّهم، ثمَّ لما كان صلاح الدين يحاصِرُ صفد، اجتمع مَن بصور من الفرنج، وقالوا: إنْ فَتحَ المسلمون قلعةَ صفد لم تبقَ كوكب، ولو أنَّها مُعلَّقة بالكوكب، وحينئذ ينقَطِعُ طَمَعُنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيُهم على إنفاذِ نجدة لها سرًّا من رجال وسلاحٍ وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجلٍ مِن شجعان الفرنج وأجلادِهم، فساروا الليلَ مُستَخفين، وأقاموا النَّهارَ مُكمِنين، فاتَّفق مِن قَدَرِ الله تعالى أنَّ رجلًا من المسلمين الذين يحاصِرونَ كوكب خرج متصَيِّدًا، فلَقِيَ رجلًا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرضِ، فضَرَبه ليُعلِمَه بحاله، وما الذي أقدَمَه إلى هناك، فأقَرَّ بالحال، ودلَّه على أصحابِه، فعاد الجنديُّ المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مُقَدَّم ذلك العسكر، فأعلمه الخبَرَ، والفرنجيُّ معه، فركب في طائفةٍ مِن العسكر إلى الموضعِ الذي قد اختفى فيه الفرنجُ، فكَبَسَهم فأخَذَهم وتتبعهم في الشِّعابِ والكهوف، فلم يُفلِتْ منهم أحدٌ، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى مَن بها من الفرنج يبذُلُ لهم الأمانَ إن سَلَّموا، ويتهَدَّدُهم بالقتل والسبي والنهب إن امتَنَعوا، فلم يسمعوا قولَه، وأصروا على الامتناع، فجَدَّ في قتالهم، ونَصَب عليهم المجانيقَ، وتابَعَ رميَ الأحجارِ إليهم، وزحف مرَّةً بعد مرة، وكانت الأمطارُ كثيرة لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا، فلم يتمكَّن المسلمونَ مِن القتال على الوجهِ الذي يريدوه، وطال مقامُهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعاتٍ مُتناوبةً في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائِطٌ ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقَّابون والرُّماة يحمونَهم بالنشاب، فلم يقدِرْ أحد منهم أن يُخرِجَ رأسَه من أعلى السور، فنقَّبوا الباشورة فسقطت، وتقَدَّموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنجُ ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، وتسلم الحِصنَ منهم منتصَفَ ذي القعدة، وسَيَّرَهم إلى صور, واجتمع للمُسلمين بفَتحِ كوكب وصفد من حدِّ أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصِلُ بينه غيرُ مدينة صور، وجميعُ أعمال أنطاكية سوى القصير. قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كلُّ صنديد، فاشتَدَّت شوكتُهم، وحَمِيَت جمرتهم، وتابعوا الرسُلَ إلى مَن بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستَغيثونَ ويَستَنجِدونَ، والأمدادُ كُلَّ قليل تأتيهم، وكان ذلك كُلُّه بتفريطِ صلاحِ الدين في إطلاقِ كُلِّ مَن حصره، حتى عَضَّ بَنانَه نَدَمًا وأسفًا حيث لم ينفَعْه ذلك".
كان الشَّريفُ عجلان قد قَدِمَ مِن مكَّةَ لمِصرَ، فعزله السلطان عن إمارتها، وولَّى عِوَضَه الشريفان محمد بن عطفة وسند بن رميثة، وقواهما بالأمير جركتمر الحاجب والأمير قطلوبغا المنصوري، وناصر الدين أحمد بن أصلم؛ ليقيموا بمكة حتى يأتيهم البَدَلُ مِن مِصرَ.
صدرت أوامِرُ مِن حكومة أيوب خان (سُنِّي) رئيس باكستان بحلِّ الجماعة الإسلامية، ومُصادرة أموالها، وكانت الحكومةُ مِن قبل شهرٍ قد صادرت مجلة ترجمان القرآن، التي كان يُصدِرُها أبو الأعلى المودودي، وزجَّت به مع أعضاءِ جماعته البارزين في السُّجون، وكان هذا قبل وقوعِ الحرب الثانية بين الهند وباكستان على كشمير.
وُلِد القارئ الشيخُ محمد محمود الطَّبْلاوي عامَ 1353هـ / 1934م، في محافظةِ الجيزةِ، وأصْلُه مِن المنوفيةِ، أصبَحَ من مَشاهيرِ القُراءِ الإذاعيينَ قبْل أن يَبلُغ الخامسةَ عشْرةَ مِن عُمرِه، واحتلَّ بيْنهم مكانةً مَرموقةً.
تُوفِّي عن عُمرٍ ناهَزَ 86 عامًا بعْد معاناةٍ مع المرضِ.
في خامس ذي الحجة اقتتل الأمير جكم الجركسي الظاهري، والأمير شيخ المحمودي نائب الشام، بأرض الرستن -فيما بين حماة وحمص- قُتِل فيها الأمير طولو نائب صفد، والأمير علاق نائب حماة، وجماعة كثيرة من الفريقين، وانهزم الأمير شيخ ومعه الأمير دمرداش المحمدي إلى دمشق، ومضى منها إلى الرملة يريد القاهرة، فإن الأمير شيخ توجَّه من دمشق بعد عيد الأضحى، ومعه الأمير دمرداش، فنزل مرج عذراء في عسكره يريد حمص، وقد نزل بها عسكر جكم عليهم الأمير، ونزل جكم على سلمية، فلبس الأمير دمرداش خلعة نيابة حلب الواصلة إليه مع تقليده وهو بالمرج، وقدِمَ إليهم الأمير عجل ابن نعير بعربه طالبًا أخذ ثأره من جكم، ووصل أيضًا ابن صاحب الباز يريد أيضًا أخذ ثأر أخيه من جكم، ومعه جمع من التركمان، فسار بهم الأمير شيخ من المرج في ليلة الاثنين الثالث عشر إلى أن نزل قارا ليلة الثلاثاء، فوصل تقليد العجل بن نعير بإمرة العرب، وقدِمَ الأمير علان نائب حماة وحلب - كان- من مصر، وقد استقر أتابك دمشق، ونزل الأمير شيخ حمص يوم الخميس السادس عشر، فكاتب الفريقان في الصلح فلم يتِمَّ، واقتتلا في يوم الخميس الثالث والعشرين بالرستن، فوقف الأمير شيخ والأمراء في الميمنة، ووقف العرب في الميسرة، فحمل جكم بمن معه على جهة الأمير شيخ فكسره، وتحول إلى جهة العرب، وقد صار شيخ إليها وقاتلوا قتالًا كبيرًا ثبتوا فيه، فلم يطيقوا جموع جكم وانهزموا، وسار شيخ بمن معه -من دمرداش وغيره- إلى دمشق، فدخلوها يوم السبت الخامس والعشرين، وجمعوا الخيول والبغال، وأصحابهم متلاحقيين بها، ثم مضوا من دمشق بكرة الأحد، فقدم في أثناء النهار من أصحاب الأمير جكم الأمير نكبيه، وأزبك، دوادار الأمير نوروز، ونزل أزبك بدار السعادة، وقدم الأمير جرباش، فخرج الناس إلى لقاء نوروز، فدخل دمشق يوم الاثنين السابع والعشرين، ونزل الإسطبل، ودخل الأمير جكم يوم الخميس آخره، ونادى ألا يشوش أحد على أحد، وكان قد شنق رجلًا في حلب رعى فرسه في زرع، وشنق آخر بسلمية، ثم شنق جنديًّا بدمشق على ذلك، فخافه الناس، وانكفُّوا عن التظاهر بالخمر، وقُتِل في وقعة الرستن الأمير علان نائب حماة وحلب، والأمير طولو نائب صفد، قُدِّما بين يدي الأمير جكم فضرب أعناقهما وعُنُقَ طواشي كان في خدمة الأمير شيخ، كان يؤذي جماعة نوروز المسجونين، ومضى الأمير شيخ إلى جهة الرملة.
في سابع شهر صفر قدم الخبر بأن الأمير جقمق نائب الشام أخذ قلعة دمشق واستولى على ما فيها من الأموال وغيرها، وكان بها نحو المائة ألف دينار، فاضطرب أهلُ الدولة؛ وذلك لما بلغه من أن الأمير ططر قام بأمور السلطنة كلها وتفرد بها، وفي ثامن عشر ربيع الآخر قدم الخبر بأن عساكر دمشق برزت منها، وأنها نزلت باللجون، فركب الأمير ططر في يوم الثلاثاء التاسع عشر من قلعة الجبل ومعه السلطان الملك المظفر أحمد والأمراء، يريد السفر إلى الشام، ونزل بهم في المخيم ظاهر القاهرة، وخرج الناس أفواجًا في إثره، وأصبح يوم الأربعاء الأمير تنبك ميق راحلًا، ومعه عدة من الأمراء وغيرهم، ثم استقل الأمير ططر بالمسير ومعه السلطان والخليفة وبقية العسكر في يوم الجمعة الثاني والعشرين، وفي يوم الأحد ثاني شهر جمادى الأولى دخل الأمير ططر بالسلطان إلى غزة، فقدم إليه طائعًا كثيرٌ ممن خرج من عسكر دمشق، منهم الأمير جلبان أمير أخور أحد المجردين إلى حلب في أيام المؤيد، والأمير أينال نائب حماة، فسُرَّ بهم، وأنعم عليهم، وفرَّ ممن كان معهم الأمير مقبل الدوادار في طائفة يريد دمشق، فلما كان في يوم الاثنين ثالثه: بلغ القرمشي عن جقمق بأنه يريد أن يقبض عليه، فبادر القرمشي إلى محاربته، وركب في جماعته بآلة الحرب، ووقف بهم تجاه القلعة، وقد رفع الصنجق السلطاني، فأتاه جماعة عديدة راغبين في الطاعة، وكانت بينه وبين جقمق وقعة طول النهار، فانكسر جقمق ومضى هو والأمير طوغان أمير أخور والأمير مقبل الدوادار في نحو الخمسين فارسًا إلى جهة صرخد، وأن القرمشي استولى على مدينة دمشق وتقدم إلى القضاة والأعيان أن يتوجهوا إلى ملاقاة السلطان، فقدموا إلى العسكر، وسار الأمير ططر بمن معه إلى دمشق، فدخلها بكرة يوم الأحد الخامس عشر، وأول ما بدأ به أن قبض على القرمشي والمرقبي وجرباش، وعلى الأمير أردبغا من أمراء الألوف بدمشق، وعلى الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين أستادار المؤيد، وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس كان بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الإسطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور، فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما، وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشر شعبان، وأنه قدم بهم إلى دمشق في الثالث والعشرين، فقتل جقمق نائب الشام.
جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبى عبد الله، ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، امتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن علي بن عثمان وله عصبة وقوة، فاستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فانهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فانهزم أبو عمرو بعدما قتل أبو الحسن عدةً من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلةَ في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحُمِل رأسه إليه بتونس، ففَتَّ ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت العساكر بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن علي إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد اجتمع به الأعيان، وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح، وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس، فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلًا حتى نزل جبل عجيسة، فأقر عساكرَه حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسُرَّ أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها واستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة، فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى تونس، فكثُرَ جمع أبي الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء.
ظهرت فكرة محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي مع تزايد غطرسة الكنيسة الكاثوليكية واجتهادها في مراقبة ضمائر الناس في الدول التي كانت تحت سيطرتها، فكان بابا روما يكلف بعض الأساقفة بتعقب من كانت أفكاره مخالفة لتعاليم الكنيسة وطبق هذا النظام في البداية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا حيث كان يتجول مندوبو البابا في أنحاء البلاد لتقصي أخبار الناس واتهام كل مخالف بالكفر ثم القبض عليه ومعاقبته, وكانت تُعقَد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت بمثابة محاكم التفتيش المبدئية. ثم تحل المحكمة بعد مطاردة المتهمين والقضاء عليهم. وهكذا عذبت الكنيسة الكاثوليكية أجيالًا كاملة من المفكرين والعلماء في أنحاء أوربا بكل قساوة وبطرق إجرامية لا تمتُّ للإنسانية بصلة. كان الملك فرديناند ملك أراغوان والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة وقتذاك معنيين بالمتنصِّرين في الأندلس بصفة خاصة، آملين أن يأتي وقت يصبح فيه جميع سكان الأندلس من المسلمين مسيحيين مخلصين، وأجرت إيزابيلا مدرسة لأصول الدين لتعليمهم، ومع ذلك فقد احتفظ كثير منهم بعقيدته السالفة سرًّا ولقنوها أبناءهم. وسكنت كراهية الكاثوليك لليهود غير المعمَّدين إلى حين، بينما اشتد الحنق على "المسيحيين الجدد" ونشبت الفتن ضدهم في طليطلة (1467م) وبلد الوليد (1470م) وقرطبة (1472م) وسيجوفيا (1474م) وأصبحت المسألة الدينية عنصرية، ودبر الملك والملكة الوسائل التي تحول هذا المزيج المضطرب في الشعوب واللغات والمذاهب المتصارعة إلى وحدة منسجمة وسلام اجتماعي. ورأيَا أن خير وسيلة لبلوغ هذه الأهداف هي تأسيس محاكم التفتيش في إسبانيا. خاصة أن إيزابيلا التي عاشت في جو علماء الدين كانت تتبنى آراء دينية متشددة تجاه المخالفين للكاثوليكية من النصارى واليهود فضلًا عن المسلمين. ولعل فرديناند، الذي كان رجلًا صلبًا من رجال الدنيا قد ارتاب في بعض إجراءات هذه المحاكم، ولكن يبدو أنه اقتنع بأن توحيد العقيدة الدينية يجعل إسبانيا أيسر حكمًا، وأقدر في التغلب على أعدائها. ولقد أصدر البابا سكستوس الرابع، بناء على رغبة فردينان وإيزابيلا، قرارًا في هذه السنة 883 (أول نوفمبر 1478م) يفوض لهما أن يعينا ستة قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش؛ ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها. ووضعت الهيئة برُمَّتها بعد سنة 889 (1483م) تحت إمرة وكالة حكومية، ولم تمسَّ محاكم التفتيش في أول أمرها اليهود الذين لم يتنصروا، وإنما وجهت أهوالها إلى المتنصرين الذين يشكُّ أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو إلى الإسلام، وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وكان اليهودي غير المتنصر إلى سنة 900 (1492م) آمنًا على نفسه أكثر من المعمَّد، وطالب القس والرهبان والمتعبدون الإعفاء من التفتيش، ولكن مطالبهم رُفضت، وقاوم اليسوعيون تشريعَها نصف قرن، ولكنهم غُلبوا على أمرهم أيضًا, وكانت محاكم التفتيش تطالب بتعاون من جميع الموظفين المدنيين، وشرعت القوانين والإجراءات الخاصة بها. وكانت قبل أن تقيم قضاتها في مدينة من المدن تذيع في الشعب عن طريق منابر الكنائس منشورًا دينيًّا "يطالب كل من له علم بهرطقة أن يكشف عنها لرجال التفتيش, وشجع كل امرئ على أن يكون شاهدًا، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه، وكان البابا ستيكوس الرابع أصدر الموافقة على طلب الملكة إيزابيلا ملكة مملكة قشتالة بإنشاء محاكم تفتيش لتزيد من سلطانها باسم الدين النصراني, كما أصدر الملك أنريكي الرابع، ملك قشتالة، سنة 863 (1459م) أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المارقين المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وهكذا ابتدأ الاضطهاد الكنسي ضد اليهود المتنصرين فأحرق منهم الجمَّ الغفير قبل سقوط غرناطة. ولم تشمل هذه المحاكم آنذاك المسلمين أو المدجنين- المداهنين- بعدُ، بل أرسل سكتوس الرابع- بابا روما- مرسولًا كلفه بالتحقيق والقبض على الخارجين على الكنيسة ومعاقبتهم. فخاف الملكان فراندو وإيزابيلا أول الأمر على سلطتِهما ووقفا ضد هذه المحاولة البابوية، فأوقفا القساوسة من متابعة النصارى من أصل يهودي. لكن مقاومة الملكين الكاثوليكيين لم تدم طويلًا؛ إذ أرسلا سفيرهما إلى البابا سنة 1478 م في هذا الأمر. فأصدر البابا مرسومًا في شهر نوفمبر من سنة 1478 م بإنشاء محكمة التفتيش في قشتالة وتعيين المفتشين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين, وندب مفتشين إلى إشبيلية، عاصمة قشتالة آنذاك. وهكذا ابتدأت محاكم التفتيش عملها الجهنمي ضد المسلمين في إسبانيا. فكانت إجراءات هذه المحاكم تتم باسم الديانة الكاثوليكية وتقضي على المناوئين لها ولسياستها ومصادرة ممتلكاتهم، والأمر بتعذيبهم وإحراقهم، ثم انتقلت هذه المحاكم إلى غرناطة بعد سقوطها بيد الإسبان سنة 897 (1489م).
كانت بنو هَوازِنَ قد مَدَّتْ يدَ المَعونَةِ لأعداءِ المسلمين مِرارًا, فأَرسلَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شُجاعَ بنَ وَهْبٍ الأَسديَّ في خمسةٍ وعشرين رجلًا، وهم بالسِّيِّ, ناحيةَ رُكْبَةَ, مِن وراءِ المَعدِن, وهي مِنَ المدينةِ على خمسِ ليالٍ، وأَمرهُ أن يُغِيرَ عليهم, فكان يَسيرُ اللَّيلَ ويكَمُنُ النَّهارَ, حتَّى صَبَّحَهُم وهُم غارون، وقد أَوعزَ إلى أصحابِه ألَّا يُمْعِنوا في الطَّلَبِ، فأصابوا نَعَمًا كَثيرًا وشاءً, ولم يَلقوا كَيْداً, واسْتاقوا ذلك حتَّى قَدِموا المدينةَ, واقْتسَموا الغَنيمةَ, فكانت سهمانهم خمسةَ عشرَ بَعيرًا لِكُلِّ رَجلٍ, وعَدلوا البَعيرَ بِعشرٍ مِنَ الغَنَمِ، وكان مَغيبُهم خمسَ عشرةَ ليلةً.