كان التركمان الإيوانية قد تغلَّبوا على مدينة أسنة وأرمية، من نواحي أذربيجان، وأخذوا الخراجَ من أهلِها ليكفُّوا عنهم، واغتروا باشتغال جلال الدين بالكرج، وبُعدِهم بخلاط، وازداد طمعُهم، وانبسطوا بأذربيجان ينهبون، ويقطعون الطريقَ، والأخبار تأتي إلى جلال الدين بن خوارزم شاه، وهو يتغافل عنهم لاشتغاله بما هو المهمُّ عنده، فلما اشتد ذلك على الناس وعظُمَ الشَّرُّ أرسلت زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل ونوابه في البلاد إليه يستغيثون، ويعرفونَه أن البلاد قد خربها الإيوانية، ولئن لم يلحَقْها وإلا هلكت بالمرَّة، فاتفق هذا إلى خوفِ الثلج، فرحل عن خلاط، وجدَّ السير إلى الإيوانية، وهم آمنون مطمئنون؛ لعِلمِهم أن خوارزم شاه على خلاط، وظنوا أنَّه لا يفارِقُها، فلم يَرُعْهم إلا والعساكر الجلالية قد أحاطت بهم، وأخذهم السَّيفُ من كل جانب، فأكثروا القتلَ فيهم، والنهبَ والسبي، واسترقُّوا الحريم والأولاد، وأخذوا من عندهم ما لا يدخلُ تحت الحصر، فرأوا كثيرًا من الأمتعة التي أخذوها من التجَّار بحالها في الشذوات، هذا سوى ما كانوا قد حلوه وفصلوه، فلما فرغ عاد إلى تبريز.
رأى السلطانُ الناصر بن قلاوون أن يُقَدم برشنبو النوبي، وهو ابنُ أخت داود ملك النوبة، فجَهَّز صحبته الأميرَ عِزَّ الدين أيبك على عسكر، فلما بلغ ذلك كرنبس ملك النوبة بعَث ابن أختِه كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز يسألُ السلطانَ في أمره، فاعتقل كنز الدولة، ووصل العسكَرُ إلى دنقلة، وقد فَرَّ كرنبس وأخوه أبرام، فقُبِضَ عليهما وحُملا إلى القاهرة، فاعتُقِلا، ومَلَك عبد الله برشنبو دنقلةَ، ورجع العسكَرُ في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، وأفرج عن كنز الدولة، فسار إلى دنقلة وجمع النَّاسَ وحارب برشنبو، فخذله جماعتُه حتى قُتِلَ، وملك كنزُ الدولة، فلما بلغ السلطانَ ذلك أطلق أبرام وبعَثَه إلى النوبة، ووَعَدَه إنَّ بعث إليه بكنز الدولة مقيَّدًا أفرج عن أخيه كرنبس، فلما وصل أبرام خرج إليه كنز الدولة طائعًا، فقبض عليه ليرسِلَه، فمات أبرام بعد ثلاثة أيام من قَبضِه، فاجتمع أهلُ النوبة على كنزِ الدولة ومَلَّكوه البلادَ.
قام الملك محمد الثامن الملقب بأبي عبد الله الصغير بطرد الوزير يوسف سراج الدين الذي لجأ إلى ملك قشتالة ودبَّر معه رد المُلْكِ إلى محمد التاسع الملقب بالأيسر الذي خُلِعَ سنة 831، فقام الوزير المذكور باستدعاء محمد التاسع الأيسر من تونس حيث كان لاجئًا عند ملك فاس فلبى الدعوة وعاد إلى الأندلس، فزوده ملك قشتالة بالفرسان والهدايا، فورد الخبر إلى الملك محمد الثامن أبي عبد الله الصغير الذي أرسل قواتِه لقتال الأيسر، لكن أكثر الجند مالوا وانضموا للأيسر؛ مما أتاح للأيسر الزحف على غرناطة، فاعتصم ملكها أبو عبد الله الصغير بقلعة الحمراء، ولكنَّ دخول محمد الأيسر إلى غرناطة وحفاوة كثير من الناس به ومبالغته بالحصار أتاح له القبضَ على الملك محمد الثامن أبي عبد الله الصغير، وقَتَلَه وأعاد الوزير سراج الدين للوزارة، ثم إن ملك قشتالة طلب من الملك العائد الأيسر أن يؤدي له مقابل ما قدَّمه له في سبيل عودته للملك، وفرض عليه جزيةً سنوية مقابل ذلك وأن يبقى تحت طاعته، فرفض ذلك محمد الأيسر.
لَمَّا توفِّيَ المنصور أحمد الذهبي السعدي وفرَغَ الناس من دفنِه، اجتمع أهلُ الحَلِّ والعقد من أعيان فاس وكبرائها والجمهورِ من جيش المنصور على بيعةِ ولده زيدان، وقالوا إن المنصور استخلفه في حياتِه ومات في حجرِه، وكان ممن تصدى لذلك القاضيان قاضي الجماعة بفاس أبو القاسم بن أبي النعيم، والقاضي أبو الحسن علي بن عمران السلاسي, وكان زيدان لما توفِّي والده كتم موتَه وبعث جماعةً للقبض على أخيه محمد الشيخ المأمون المسجون بمكناسة، فمنعهم من ذلك الباشا جؤذر كبير جيش الأندلس، وحُمل محمد الشيخ موثقًا إلى مراكش حتى دُفِع إلى أخيه أبي فارس، وكان شقيقًا له فلم يزل مسجونًا عنده إلى أن أخرجه أبو فارس ليقاتِلَ به أخاهما زيدان، وقيل: إن زيدان لما اشتغل بدفنِ والده احتال القائد أبو العباس أحمد بن منصور العلج، فذهب بنصف المحلةِ إلى مراكش نازعًا طاعتَه عن زيدان إلى أبي فارس، ومرَّ في طريقه بمكناسة فأخرج محمد الشيخ من اعتقالِه واحتمله معه إلى أبي فارس، فسجنه فلم يزل مسجونًا عنده.
ظهر أحمد بن سليمان باي بن رمضان باي بن مراد الأول قائمًا في البلاد فجمع أهل الفساد، فجهَّز له إبراهيم الشريف آغة الصبايحية، وخرج له في الرابع من محرم هذه السنة وقصده نحو السوس، فالتقى عسكر من عساكر إبراهيم الشريف بأحمد بن سليمان، فوقعت الهزيمة على جيش إبراهيم الشريف، فرحل أحمد بن سليمان نحو إفريقية بقرب جندوبة، وتبعه إبراهيم الشريف، والتقيا في الحادي عشر من محرم، فانهزم أحمد بن سليمان وتشتت جمعه، وكان ينيف على ثلاثين ألفًا، ولم يكن مع إبراهيم الشريف إلا نحو ثمانية آلاف، فقصَّ آذان القتلى وبعث بها إلى تونس، فكانت أزيد من ثلاثمائة زوج، ثم دخل جبال خمير وعمدون بنفسه، وقطع قطعة من محلته وأمر عليها حسن آغة الصبايحية، وبعث بها نحو القيروان حرسًا من العدو، فبلغ ذلك أحمد بن سليمان فقصدهم فجأة وصدمهم برئيس قومه جلال بن المسعي، فانتبه له حسن آغة ونصب لهم كمينًا، فلما وردوا ماء المنايا ضربوا جلالًا فسقط عن فرسه فقُطع رأسه وبُعث به إلى تونس، فاستراح الناسُ من بغيه.
فتح الجنودُ الفرنسيون في مصرَ بعضَ البيوت المغلَقة لأمراء المماليك واستولوا على ما فيها، ثم تركوها لطائفةِ الجعيدية يستأصلونَ ما فيها، وقد توافد الفرنسيون بعدها على القاهرةِ وسَكَنوا بيوتها. فتجمَّع أهل مصر (القاهرة) وجمعوا السلاحَ والفرسان وتجمَّعوا في الأزهر وعملوا المتاريسَ ثم وصلت طائفةٌ من الفرنسيين من ناحية المناخلية، فاستطاعوا إجلاءَها من المقاتلين المصريين، فخاف الناس وأرجفوا حتى بلغ إلى نهبِ بيوت النصارى من الشاميين والروم، وأمَّا الفرنسيون فأحضروا آلاتِ الحرب على تلالِ الرقية والقلعة، وبقي الرميُ متتابعًا بين الجهتين، ثم ضرب الفرنسيون بالمدافع وتقَصَّدوا الجامع الأزهر بالضرب، وتهدَّمت كثيرٌ من البيوت، ولَمَّا تفاقم الأمر ذهب بعض المشايخ إلى كبير الفرنسيين، فعاتبهم على التأخير ولكنه رفع الرميَ عنهم، ثم دخل الفرنسيون المدينةَ كالسيل المنهَمِر ولا ممانِعَ لهم، ودخلوا الجامع الأزهر وهم راكبون على الخيولِ وبينهم المشاة، وربطوا خيولهم بقبلتِه وكسروا القناديل والخزَّانات وداسوا المصاحِفَ بأقدامِهم، ورموا بالكتب على الأرض وداسوها كذلك، وزادوا الأمرَ بأن تغوَّطوا وبالوا وشَرِبوا الخمر فيه، ونهبوا الديارَ بحجَّة التفتيش!!
أعاد الحزبُ الشيوعي في أندونيسيا تنظيمَ نفسه مجدَّدًا بعد أن فَشِلَت ثورته الأولى عام 1367هـ، وبدأ بتقويةِ وَضْعِه وخاصةً مع مساعدة الرئيس أحمد سوكارنو لهم بالإضافة للأموال الضخمةِ من المعسكر الشيوعي، ثم أعلن الحزبُ الشيوعي أنَّه سيكون الحزبَ الوحيدَ، وأنَّه سيحوِّل البلادَ إلى دولة تسير حَسَب المنهج الشيوعي، وبدأت أعمالُ الشيوعيين الإرهابية، وأخافوا الناس؛ فهجموا على المدارس الإسلامية والشخصيات البارزة، وقرروا إعلان الثورة في 5 جمادى الآخرة / 30 أيلول، وبرَّروا ذلك بمرض الرئيس أحمد سوكارنو، وبعدم مبالاة القوات المسلحة بالأمر، وبعدم أهليةِ مجلس الجنرالات، ورغبته في الاستيلاء على السلطة، وكذلك زعمُهم حمايةَ البلاد من الرجعية والإمبريالية، وفي يوم إعلان الثورة أمر رئيسُ الحرس الجمهوري باختطاف بعض كبار الضباط، وفي اليوم التالي للثورة أذاع الشيوعيون أوَّلَ بياناتهم بالإذاعة الرسمية، ولكِنَّ وزير الدفاع الذي استطاع الإفلاتَ من محاولة القضاء عليه أعطى أوامِرَه للقضاء على الثورة الشيوعية، وانتفض الشعبُ أيضًا، ولم تمضِ ساعاتٌ حتى فَشِل الشيوعيون، وسيطرت القواتُ المسلَّحةُ على الوضع.
هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ الكَبيرُ، الصادِقُ القدوة، العابد الأثَري المتَّبع، عالِم الحفاظ: تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي، صاحب التصانيف المشهورة، ولد سنة 541 بجماعيل, وهي قرية من أعمال نابلس وكان أكبَرَ مِن الشيخ موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي بأربعة أشهر، وهما ابنا خالة، كان إمامًا حافظًا متقنًا مصنفًا ثقة، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وكتب الكثير، وسيرته مذكورة في جزأين، ألفها الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله المقدسي. كان الحافظ عبد الغني ليس بالأبيض بل يميل إلى السمرة، حسن الشَّعر، كثَّ اللحية، واسِعَ الجبين، عظيمَ الخَلقِ، تامَّ القامة، كأنَّ النور يخرج من وجهه. هاجر صغيرًا إلى دمشق بعد الخمسين، فسمع بها ثم ارتحَلَ إلى بغداد فالإسكندرية ثم أصبهان. قال ابن كثير: " كان قدوم الحافظِ وابن خالته الموفَّق مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجِدِ أبي صالح أولًا بدمشق، ثم انتقلوا إلى السفح فعُرِفَت المحلة بهم، فقيل لها الصالحية، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن، وسمع الحديث" قال السبط ابن الجوزي: "كان عبد الغني ورعًا زاهدًا عابدًا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة، كَوِردِ الإمامِ أحمد بن حنبل، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريمًا جوادًا لا يدَّخِرُ شيئا، ويتصَدَّقُ على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يُرَقِّعُ ثوبه ويؤثِرُ بثَمَن الجديد، وكان قد ضَعُف بصره من كثرة المطالعة والبكاءِ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ", وهو أحد أكابر أهل الحديث وأعيان حُفَّاظهم، قال ضياء الدين: "كان شيخُنا الحافظ لا يكاد يُسألُ عن حديث إلا ذكَرَه وبينه، وذكَرَ صِحَّته أو سَقَمَه، ولا يُسأل عن رجلٍ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكُرُ نَسَبَه، فكان أميرَ المؤمنين في الحديث، سمعته يقول: كنتُ عند الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين رجلٍ منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري. فقلتُ: ليس هو فيه. قال: فكَتَبَه في رقعة، ورفَعَها إلى أبي موسى المديني يسألُه، قال: فناولني أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول؟ فقلتُ: ما هو في البخاري، فخَجِلَ الرجُل" وقال ابنه عبد الرحمن: "سمعت بعضَ أهلنا يقول: إنَّ الحافِظَ سُئل: لم لا تقرأُ مِن غير كتاب؟ قال: أخاف العُجبَ". كان مجتهدًا على الطلب، يُكرِم الطلبة، ويُحسِنُ إليهم، وإذا صار عنده طالبٌ يفهَمُ، أمَرَه بالرِّحلةِ، ويفرح لهم بسماع ما يحَصِّلونه. وقَعَت له محن على الاعتقادِ ونُفِيَ إلى مصر بسَبَبِ ذلك فاستقبله فيها أهلُ الحديث وأكرموه. قال ابن كثير: "رحل إلى أصبهان فسَمِعَ بها الكثير، ووقف على مصَنَّف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته في أماكِنَ مِن الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فأبَغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في إزار. ولما دخلَ في طريقه إلى الموصل سَمِع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفيَّةُ بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفًا يترقَّبُ، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديثَ بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلةِ مِن جامع دمشق، فاجتمعَ الناس عليه وإليه، وكان رقيقَ القلب سريع الدمعة، فحصل له قَبولٌ مِن الناس جدًّا، فحَسَده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشِقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجَهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكَلَّم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهَرَ بصَوتِه مهما أمكنه، حتى يشَوِّشَ عليه، فحَوَّل عبد الغني ميعادَه إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدتَه على الكرسيِّ، فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين. وتكلموا معه في مسألةِ العلو ومسألة النزول، ومسألة الحَرفِ والصوت، وطال الكلامُ وظهر عليهم بالحُجَّة، فقال له برغش نائب القلعة: كلُّ هؤلاء على الضلالةِ وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغَضِبَ برغش من ذلك وأمره بالخروجِ من البلد، فارتحل بعد ثلاثٍ إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديثَ بها فثار عليه الفُقَهاءُ بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودُفِنَ بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق". قال تاج الدين الكندي: هو أعلم من الدارقطني والحافظ أبي موسى المديني" ولعبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال، وكتاب أشراط الساعة، وغير ذلك. قال ابن كثير: "وقد هَذَّب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي كتابه الكمال في أسماء الرجال- رجال الكتب الستة- بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوًا من ألف موضع، وذلك الإمام المِزِّي الذي لا يُمارى ولا يُجارى، وكتابه التهذيب لم يُسبَق إلى مثله، ولا يُلحَق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادِرَين في زمانهما في أسماء الرجال حِفظًا وإتقانًا، وسماعًا وإسماعًا وسَردًا للمتون وأسماء الرجال، والحاسِدُ لا يُفلحُ ولا ينال منالًا طائلًا." قال الذهبي: " ولم يَزَل يطلب ويسمَع، ويكتب ويسهر، ويدأب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتقي الله ويتعبد ويصوم، ويتهجد وينشر العلم، إلى أن مات. رحل إلى بغداد مرتين، وإلى مصر مرتين، سافر إلى بغدادَ هو وابن خاله الشيخ الموفق في أول سنة إحدى وستين، فكانا يخرجان معًا، ويذهب أحدهما في صحبة رفيقِه إلى درسه وسماعه، كانا شابَّين مختطَّين- يعني: أول ظهور الشعر في وجهيهما- وخوَّفهما الناس من أهل بغداد، وكان الحافظ مَيلُه إلى الحديث، والموفَّق يريد الفقه، فتفَقَّه الحافظ، وسَمِعَ الموفَّق معه الكثير، فلما رآهما العُقَلاء على التصَوُّن وقلة المخالطة أحبوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا عِلمًا جَمًّا، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، ونزلا أولًا عند الشيخ عبد القادر الجيلي- وكان لا يترك أحدًا ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما النجابة- فأحسن إليهما، ثم مات بعد قدومهما بخمسين ليلة، ثم اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المني". قال موفق الدين: "كان الحافظ عبد الغني جامعًا للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، ورفيقي في طلب العلم، وما كنا نستَبِقُ إلى خير إلَّا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورُزِقَ العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّر, وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيتُ أحدًا أشد محافظة على وقته من أخي". قال الحافظ: "أضافني رجلٌ بأصبهان، فلما تعشَّينا، كان عنده رجلٌ أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يُصَلِّ، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجلٌ شمسي- أي من عبدة الشمس- فضاق صدري، وقلتُ للرجل: ما أضفتَني إلا مع كافر! قال: إنَّه كاتبٌ، ولنا عنده راحة، ثم قمتُ بالليل أصلي، وذاك يستَمِعُ، فلما سمع القرآن تزفَّرَ، ثم أسلَمَ بعد أيَّام، وقال: لَمَّا سمعتك تقرأ، وقع الإسلامُ في قلبي". كان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَه بيده أو بلسانه، وكان لا تأخُذُه في الله لومة لائم. أهرق مرةً خَمرًا، فجَبَذ صاحِبُه السيفَ فلم يَخَف عبد الغني منه، وأخذ السيفَ مِن يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق يُنكِرُ ويكسِرُ الطنابير والشبَّابات, فقد كان لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. قال الضياء قال الحافظ: "كنت يومًا مع عبد الهادي عند حمام كافور، إذا قومٌ كثيرٌ معهم عِصِيٌّ، فخفَّفتُ المشي، وجعلت أقولُ: حسبي الله ونعم الوكيل، فلمَّا صرت على الجسر، لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كَسَرتُ لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر. قال: فإذا فارسٌ يركض، فترجَّلَ، وقبَّل يدي، وقال: الصبيانُ ما عرفوك, وكان قد وضع اللهُ له هيبةً في النفوس". دخل الحافظ على العادل، فقام له، فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ، فقالوا: آمَنَّا بكراماتِك يا حافظ. وذكروا أن العادِلَ قال: ما خِفتُ مِن أحد ما خِفتُ من هذا. فقلنا: أيُّها الملك، هذا رجلٌ فقيه. قال: لَمَّا دخل ما خُيِّلَ إليَّ إلا أنَّه سَبُع. قال الضياء: رأيتُ بخط الحافظ: "والملك العادِلُ اجتمعْتُ به، وما رأيتُ منه إلا الجميل، فأقبل عليَّ وقام لي والتزمني، ودعوتُ له، ثم قلت: عندنا قصورٌ هو الذي يوجِبُ التقصير. فقال: ما عندك لا تقصيرٌ ولا قصورٌ، وذكَرَ أمْرَ السُّنَّة، فقال: ما عندك شيءٌ تعاب به لا في الدين ولا الدنيا، ولا بُدَّ للناس من حاسِدينَ.
وبلغني بعدُ عنه- قاله الضياء- أن العادل قال: ما رأيتُ بالشامِ ولا مصر مثلَ الحافظ؛ دخَلَ عليَّ فخُيِّلَ إليَّ أنه أسد، وهذا ببركة دعائِكم ودعاء الأصحاب. ثم قال الضياء: كانوا قد وغروا عليه صدر العادل، وتكَلَّموا فيه، وكان بعضُهم أرسل إلى العادل يبذُلُ في قتل الحافِظِ خمسة آلاف دينار. قلتُ-الضياء: جرَّ هذه الفتنةَ نَشرُ الحافظ أحاديث النزول والصفات، فقاموا عليه، ورموه بالتجسيم، فما دارى كما كان يداريهم الشيخُ الموفَّق". قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن الطحان، يقول: كان في دولة الأفضَلِ جعلوا الملاهيَ عند الدَّرَج، فجاء الحافِظُ فكسَّرَ شيئًا كثيرا، ثم صَعِدَ يقرأ الحديث، فجاء رسولُ القاضي يأمره بالمشيِ إليه ليناظره في الدفِّ والشبابة، فقال: ذاك عندي حرامٌ، ولا أمشي إليه، ثم قرأ الحديث. فعاد الرَّسولُ، فقال: لا بدَّ مِن المشي إليه، أنت قد بَطَّلتَ هذه الأشياء على السلطان. فقال الحافظ: ضَرَبَ الله رقبَتَه ورقبة السلطان. فمضى الرسولُ وخفنا، فما جاء أحدٌ". مات عبد الغني يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة.
خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.
تعد ثورةُ ظفار في الجزء الجنوبي من سلطنة عمان على حُكمِ السلطان سعيد بن تيمور واحدةً من أطولِ الثورات العربية؛ حيث امتدَّت زهاءَ عشرة أعوام، وقد واكبت حقبةَ الثورات التحرُّرية من الاستعمار العالمي، والتي شَهِدتْها المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومن أسبابِ الثورة وقيامها: حالةُ التخَلُّف التي سادت سلطنةَ مسقط وعمان بشكلٍ عامٍّ، وإقليم ظفار بشكل خاص، وكثرة الممنوعات والمعاناة من الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهلَ العمانيين، وبعدما تعرَّف الظفاريون على أنماط المعيشة المختلفة في دول الخليج التي يعملون بها والراقية قياسًا بالوضعِ في عمان خُلِقت لديهم الرَّغبةُ الجامحة في التغيير، كما أنَّ الأوضاعَ التي عاشتها المنطقةُ آنذاك، وانتشارَ المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر أدَّى إلى تأثُّر أبناء الأمة العربية، ومِن ضمنِهم الظفاريون بأفكار القومية العربية المنادية بالوحدة والتحَرُّر من الاستعمار ومقاومته بشتى الوسائل؛ مما ولَّد لدى الظفاريين النزعةَ نحو الثورة ضِدَّ الوجود البريطاني في عمان. عَمِلَ الظفاريون على تنفيذ الثورة من خلالِ تشكيل تنظيمات سريَّة متعَدِّدة كان لها دوافِعُ وانتماءات مختلفة بين قوميٍّ عربيٍّ هدفُه مقاومةُ بريطانيا، وتمثَّل في التنظيم لحركة القوميين العرب، وآخَرَ هدفُه تحسينُ الأوضاع الاجتماعية في عمان، وتمثَّل في الجمعية الخيرية الظفارية. وتُنسَب بدايةُ الثورة إلى مسلم بن نفل الذي كان يعمَلُ في مزرعة قصر السلطان سعيد بن تيمور والذي أقصاه من عمله في القصر السلطاني عام 1963 بسبب أفكاره الثورية, فكانت بداية الثورة في أبريل 1963 من خلال هجومٍ مسلح على حافلات شركة النفط، خطَّط له مسلم بن نفل، ثم فرَّ مسلم بن نفل مع 30 رجلًا من جماعته خارج عمان حيث رحلوا إلى العراق التي كانت تُحكَمُ من قبل النظام البعثي، فتلقَّوا تدريبًا عسكريًّا، وفي صيف 1964 عادت مجموعةُ ابن نفل إلى ظفار بدعم مالي وعسكري من عدد من الدول العربية، منها: مصر، واليمن الجنوبي، ولم يلبث عام 1965م أن شهد إعلان قيام "جبهة تحرير ظفار" التي أعلنت الثورةَ ضِدَّ حكم السلطنة، كما دعا بيانٌ للجبهة الظفاريين إلى الانضمام إلى الثوَّار؛ من أجل تحرير الوطن من حكم السلطان سعيد بن تيمور، وتحرير البلاد من البطالة والفقر والجهل، وإقامة حكم وطني ديمقراطي. بدأت حربُ ظفار بعمليات كرٍّ وفرٍّ ضِدَّ أهداف تابعة لحكومة السلطان سعيد بن تيمور، وكانت الحربُ سِجالًا بين الثوار وقوَّات السلطان سعيد، وفي 28 أبريل 1966 وقعت محاولةٌ لاغتيال السلطان سعيد بن تيمور احتجب بعدها السلطانُ عن الظهور، الأمر الذي جعل الثوَّارَ يعتقدون أنه قُتِل، وأن السلطات البريطانية هي التي تدير شؤون السلطنة. إلَّا أن الثوار تلقَّوا هزائم متكررة، وبعد تولِّي السلطان قابوس بن سعيد مقاليدَ الحكم في 23 يوليو 1970م كمبادرة منه لإنهاء ثورة ظفار أعلن العفوَ العامَّ عن جميع المتمرِّدين، ووعد أيَّ ظفاري مشترِك في حركة التمرد بمعاملة حسنة، ووعد كذلك بتحقيق مطالبِ المتمرِّدين الرئيسية وَفق برنامج إصلاحي اجتماعي، وقد حصل السلطانُ بوعدٍ من إيران بتقديمِ مساعدة عسكرية للقضاء على حركة التحرر، وقام السلطان بحملةِ قتل جماعية في حقِّ عدد من أعضاء الجبهة قُدِّرَ عَددُهم بـ 300 عضو، وفي نفس الفترة قام مسلم بن نفل بتسليم نفسه إلى قوات السلطان، ثم تزايدت الاغتيالات في صفوف الجبهة؛ حيث تمَّ تنفيذ أحكام قتل على مجموعة كبيرة أخرى من الظفاريين قريب من 40 شخصًا. كما زاد عددُ الذين يستسلمون لجيش السلطان، ثم ينضمون بأسلحتهم إلى ما يسمى بالفِرَق الوطنية لمحاربة قادتهم السياسيين في جبهة تحرير ظفار، وبلغ عددهم 2000 مقاتل، ومع بداية عام 1975م بات الثوارُ غير قادرين على مواجهة قوات السلطان المدعومة بالقوات الإيرانية على جميع جبهات القتال، ولأولِ مرة منذ 10 أعوام أصبح كل إقليم ظفار تحت سيطرة الحكومة، وفي الجانب السياسيِّ توصَّلت سلطنة عمان واليمن الجنوبي برعاية سعودية إلى اتفاقٍ ينهي الخلافات القائمةَ بينهما، وتوقَّف اليمن الجنوبي عن دعم الثوار؛ ممَّا أدى إلى استسلام العديد من قياداتها للسلطنة، كان من أبرزهم عمر بن سليم العمري الذي كان من القادة المتنفذين في الجبهة، ولم يمضِ عام 1976م حتى تمَّت التصفية النهائية للثورة في ظفار، وبعد القضاء على الحركة أعلن السلطانُ قابوس في العيد الوطني السادس للسلطنة في نوفمبر 1976م دمج إقليم ظفار في سلطنة عمان.
بعد أن اتَّفَقَ فَريقُ عَلِيِّ بن أبي طالبٍ وفَريقُ مُعاويةَ على التَّحْكيمِ بعدَ القِتالِ الذي دارَ في صِفِّينَ وعاد كلُّ فَريقٍ إلى مَكانِه الأوَّلِ، فسار علِيُّ بن أبي طالبٍ عائِدًا إلى الكوفَةِ، وفي الطَّريقِ انْحازَت جَماعةٌ ممَّن لم يكونوا راضِينَ عن التَّحكيمِ وكانوا يَرَوْن أنَّ التَّحْكيمَ فقط لِكتابِ الله لا للرِّجالِ، فانصرفوا إلى حَرُوراءَ وبدأوا يَبُثُّون هذه الفِكرةَ، خارِجِينَ عن عَلِيٍّ مُنابِذِينَ له، فأرسَل إليهم عَلِيٌّ الرُّسُلَ يُناقِشونَهُم لَعلَّهُم يَثُوبون للحَقِّ، وكان مِن أولئك الرُّسُلِ ابنُ عبَّاسٍ، وعاد على يَديهِ قُرابةَ الألفي رجلٍ، ثمَّ سار عَلِيٌّ بِنَفسِه إليهم وحاجَجَهُم فرَجَعوا إلى الكوفةِ، ولكنَّهم بَقَوْا يَقولون: لا حُكْمَ إلَّا لله. وعَلِيٌّ يقولُ: كَلِمَةُ حَقِّ أُرِيدَ بها باطلٌ. ثمَّ لمَّا أراد عَلِيٌّ الخُروجَ للشَّامِ بعدَ فَشَلِ التَّحْكيم، بدأ الخَوارجُ يَتَسلَّلون مِن جَيشِه إلى النَّهْرَوان، فبدأوا بالفَسادِ فقَتَلوا عبدَ الله بن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ مع نِسْوَةٍ آخَرين، فأرسَل عَلِيٌّ إليهم رسولًا فقَتلوهُ، ممَّا اضْطَرَّ عَلِيًّا للعَودةِ إليهم ومُقاتَلتِهم، فطلَب منهم تَسْليمَ قَتَلَةِ عبدِ الله فأَبَوْا وتَمَرَّدوا وبدأوا القِتالَ، فحارَبهُم عَلِيٌّ فأبادَهُم في النَّهْرَوان إلَّا اليَسيرَ الذين بَقوا بعدَ ذلك في الكوفةِ والبَصرَةِ يَنشُرون أفكارَهُم وهُم مُتَسَتِّرون.
كان أَمرُ الدَّعوة العَبَّاسِيَّة قد اسْتَفحَل خِلالَ السَّنوات الماضِيَة وقَوِيَ أَمرُها جِدًّا في خُراسان وما حولها، حتَّى بَدأَت البُعوثُ تَسيرُ إلى العِراق فخَرَج مَرْوان بن محمَّد بِجَيشٍ إليهم مِن حَرَّان حتَّى بلَغ الزَّاب وحَفَر خَندقًا وكان في عِشرين ومائة ألف، وسار أبو عَوْن وهو القادِمُ إلى العِراق للدَّعوة العَبَّاسِيَّة إلى الزَّاب، فوَجَّه أبو سَلمَة إلى أبي عَوْن عُيينَة بن موسى، والمِنْهالِ بن فَتَّان، وإسحاق بن طَلحَة، كُلُّ واحدٍ في ثلاثةِ آلاف، فعَبَر عُيينَة بن موسى في خَمسةِ آلاف، فانْتَهى إلى عَسكرِ مَرْوان، فقاتَلَهم حتَّى أَمْسَوا، ورَجَع إلى عبدِ الله بن عَلِيٍّ وأَصبحَ مَرْوان فعَقَد الجِسرَ وعَبَر عليه، فنَهاهُ وُزراؤهُ عن ذلك، فلم يَقبَل وسَيَّرَ ابنَه عبدَ الله، فنَزَل أَسفلَ مِن عَسكرِ عبدِ الله بن عَلِيٍّ، فبَعَث عبدُ الله بن عَلِيٍّ المُخارِقَ في أَربعةِ آلاف نحو عبدِ الله بن مَرْوان، فسَرَّح إليه ابنُ مَرْوان الوَليدَ بن مُعاوِيَة بن مَرْوان بن الحَكَم، فالْتَقَيا، فانْهزَم أصحابُ المُخارِق وثَبت هو فأُسِرَ هو وجَماعَة وسَيَّرَهم إلى مَرْوان مع رُؤوسِ القَتلى، وأَرسَل مَرْوان إلى عبدِ الله يَسأَله المُوادَعَة فلم يَقبَل ثمَّ حَصَل قِتالٌ بينهم كانت فيه هَزيمةُ مَرْوان ومَن معه وَفَرَّ مَرْوان إلى حَرَّان.
استولى مُحمَّدُ بنُ رائق على بلاد الشامِ فدخل حمصَ أوَّلًا فأخذها، ثم جاء إلى دمشقَ وعليها بدر بن عبد الله الإخشيد المعروف ببدر الإخشيد وهو محمَّد بن طغج، فأخرجه ابنُ رائق من دمشق قهرًا واستولى عليها، ثم ركبَ ابن رائق في جيشٍ إلى الرملة فأخذها، ثمَّ إلى عريش مصر فأراد دخولَها فلقيه محمد بن طغج الإخشيدي فاقتتلا هناك فهَزَمه ابنُ رائق واشتغل أصحابُه بالنهبِ ونزلوا بخيام المصريين، فكَرَّ عليهم المصريونَ فقَتَلوهم قتلًا عظيما، وهرب ابنُ رائق في سبعين رجلًا من أصحابه، فدخل دمشقَ في أسوأِ حالٍ وشَرِّها، وأرسل له ابنُ ظغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيشٍ فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابنُ رائق المصريين وقُتِلَ أخو الإخشيد فيمن قُتل، فغَسَّلَه ابنُ رائق وكفَّنَه وبعث به إلى أخيه بمصرَ وأرسل معه ولَدَه وكتب إليه يحلِفُ أنَّه ما أراد قَتْلَه، ولقد شَقَّ عليه، وهذا ولدي فاقتَدْ منه، فأكرَمَ الإخشيدُ ولدَ مُحمَّد بن رائق، واصطلحا على أن تكونَ الرَّملةُ وما بعدها إلى ديار مصرَ للإخشيد، ويحمِلُ إليه الإخشيد في كلِّ سَنةٍ مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملةِ إلى جهة دمشق تكونُ لابنِ رائقٍ.
استولى الخوارجُ المُقيمونَ بجبال عُمان على مدينةِ الولاية، وسبَبُ ذلك أنَّ صاحِبَها الأمير أبا المُظَفَّر ابن الملك أبي كاليجار كان مُقيمًا بها، ومعه خادِمٌ له قد استولى على الأمورِ، وحَكَم على البلاد، وأساء السيرةَ في أهلها، فأخذ أموالَهم، فنفروا منه وأبغَضوه، وعَرَفَ إنسانٌ من الخوارجِ- يقالُ له ابنُ راشدٍ- الحالَ، فجمع مَن عنده منهم فقَصَد المدينةَ، فخرج إليه الأميرُ أبو المُظَفَّر في عساكِرِه، فالتَقَوا واقتَتَلوا، فانهزمت الخوارجُ وعادوا إلى موضِعِهم، وأقام ابنُ راشد مدَّةً يجمَعُ ويحتَشِدُ، ثم سار ثانيًا، وقاتله الديلم فأعانه أهلُ البلد لسوءِ سِيرةِ الديلم فيهم، فانهزم الديلم، وملَكَ ابنُ راشد البلد وقتل الخادِمَ وكثيرًا من الديلم، وقبض على الأميرِ أبي المظفَّر وسَيَّرَه إلى جباله مُستَظهرًا عليه، وسَجَن معه كُلَّ مَن خَطَّ بقلمٍ مِن الديلم، وأصحابَ الأعمال، وأخرب دارَ الإمارة، وقال: هذه أحقُّ دارٍ بالخراب، وأظهَرَ العدل، وأسقَطَ المكوسَ، واقتصر على رَفعِ عُشرِ ما يَرِدُ إليهم، وخطَبَ لنَفسِه، وتلقَّبَ بالراشد بالله، ولَبِسَ الصوف، وبنى موضعًا على شَكلِ مسجد، وقد كان هذا الرجلُ تَحَرَّك أيضًا أيامَ أبي القاسم بن مكرم، فسَيَّرَ إليه أبو القاسِمِ مَن منعه وحصَرَه وأزال طَمَعَه.
عَصَى مَلِكُ كرمان، وهو "قرا أرسلان"، على السُّلطانِ ألب أرسلان، وسببُ ذلك أنَّه كان له وَزيرٌ جاهلٌ سَوَّلَت له نَفسُه الاستِبدادَ بالبِلادِ عن السُّلطانِ، وأن صاحِبَه إذا عَصَى احتاجَ إلى التَّمَسُّكِ به، فحَسُنَ لصاحِبِه الخِلافُ على السُّلطانِ، فأجابَ إلى ذلك، وخَلعَ الطَّاعةَ، وقَطعَ الخُطبةَ، فسَمِعَ ألبُ أرسلان، فسارَ إلى كرمان، فلمَّا قارَبَها وَقعَت طَليعَتُه على طَليعَةِ قرا أرسلان، فانهزمت طَليعَةُ قرا أرسلان بعدَ قِتالٍ، فلمَّا سَمِعَ قرا أرسلان وعَسكرُه بانهِزامِ طَليعَتِهم، خافوا وتَحَيَّرُوا، فانهَزَموا لا يَلوِي أَحدٌ على آخر، فدَخلَ قرا أرسلان إلى جيرفت وامتَنعَ بها، وأَرسلَ إلى السُّلطانِ ألب أرسلان يُظهِر الطَّاعةَ ويَسألُ العَفْوَ عن زَلَّتِه، فعَفَا عنه، وأَعادهُ إلى مَملَكتِه، ولم يُغَيِّر عليه شيئًا مِن حالِه، ثم سار منها إلى فارس فوَصلَ إلى إصطخر، وفَتحَ قَلعتَها، واستَنزلَ وَالِيَهَا، فحَملَ إليه الوالي هَدايا عَظيمةً جَليلةَ المِقدارِ، وأَطاعهُ جَميعُ حُصونِ فارس، وبَقِيَت قَلعةٌ يُقالُ لها: بهنزاد، فسار نِظامُ المُلْكِ إليها، وحَصرَها تحتَ جَبلِها، وأعطى كُلَّ مَن رَمَى بسَهمٍ وأصابَ قَبضةً مِن الدَّنانيرِ، ومَن رَمَى حَجرًا ثَوْبًا نَفيسًا، ففَتحَ القَلعةَ في اليومِ السادس عشر مِن نُزولِه، ووَصلَ السُّلطانُ إليه بعدَ الفَتحِ، فعَظُمَ مَحَلُّ نِظامِ المُلْكِ عِندَه، فأَعلَى مَنزِلَتَهُ، وزادَ في تَحكِيمِه.