سيَّرَ عبدُ الرحمن بن الحَكَم عبدَ اللهِ المعروفَ بابنِ البَلنسيِّ إلى بلادِ العَدُوِّ، فوصلوا إلى "ألبة" والقلاعِ، فخرج المشركونَ إليه في جَمعِهم، وكان بينهم حربٌ شديدة وقتالٌ عظيم، فانهزم المشركونَ، وقُتلَ منهم ما لا يُحصى، وجُمِعَت الرؤوس أكداسًا، وفي هذه السنة أيضًا خرج لذريق في عسكَرِه، وأراد الغارةَ على مدينةِ سالم من الأندلس، فسار إليه عبدُ الرحمن بن الحَكَم فوتون بن موسى في عسكَرٍ جرار، فلَقِيَه وقاتَلَه، فانهزم لذريقُ وكَثُر القتلُ في عسكَرِه، وسار فوتون إلى الحصنِ الذي كان بناه أهلُ ألبة بإزاء ثُغورِ المسلمين، فحَصَره، وافتَتَحه وهَدَمه.
حاصرَ أحمدُ بن طولون نائِبُ الدِّيارِ المصريةِ مدينةَ أنطاكيةَ وفيها سيما الطويلُ، فأخذها منه وجاءته هدايا مَلِكُ الروم، وفي جُملتِها أُسارى من أُسارى المسلمين، ومع كلِّ أسيرٍ مُصحَفٌ، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس، الذي كان عامِلَ الثغورِ، فاجتمع لأحمد بن طولون مُلكُ الشَّامِ بكمالِه مع الدِّيارِ المصريةِ؛ لأنَّه لَمَّا مات نائِبُ دمشق أماخور ركِبَ ابنُ طولون من مصرَ فتلقَّاه ابن أماخور إلى الرملة، فأقَرَّه عليها، وسار إلى دمشق فدخَلَها، ثمَّ إلى حمص فتسَلَّمَها، ثمَّ إلى حلب فأخذها، ثم أكملَ ابنُ طولون استيلاءَه على الشام باستيلائِه على أنطاكية.
احتَرَق مسجِدُ سامِرَّا المشهورُ بمِئذنتِه المُلتَوية، كما احتَرَق مَشهَدُ الحُسَينِ بنِ علي بكَربَلاءَ وأروقتُه، وكان سبَبُ ذلك أنَّ القومةَ أشعلوا شمعتينِ كَبيرتينِ، فمالتا في اللَّيلِ على التأزيرِ- الخشَبِ المُحيطِ بالشَّمعَتَينِ- ونَفِذَت النَّارُ منه إلى غيرِه حتى كان ما كان، ثمَّ بعد ذلك احتَرَقَت دارُ القطن ببغدادَ وأماكِنُ كثيرةٌ بباب البصرة، وفيها ورَدَ الخبَرُ بتشعيثِ الُّركنِ اليَمانيِّ من المسجِدِ الحرامِ، وسُقوطِ جِدارٍ بينَ يَدَي قَبرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمدينةِ، وأنَّه سَقَطَت القُبَّةُ الكبيرةُ على صَخرةِ بَيتِ المَقدِس، وهذا مِن أغرَبِ الاتِّفاقاتِ وأعجَبِها. العِبَر في خبَرِ مَن غَبَر (2/ 214)
هو حَمزةُ بنُ عليِّ بنِ أحمد الفارسي الزوزني، مِن كبارِ الباطنيَّة، ويُعتبَرُ مُؤَسِّسَ المذهَبِ الدرزي وواضِعَ أُسُسِه وعقائِدِه، اتَّصَل بمصرَ برجالِ الدعوة السِّرِّية من شيعة الحاكِمِ بأمر الله الفاطمي العُبَيدي، نادى بالتقَمُّص والحلول مع محمد بن إسماعيلَ الدرزي، أظهر الدعوةَ بألوهيَّةِ الحاكم وأنَّ الإلهَ قد حلَّ فيه، جعله الحاكِمُ داعيَ الدُّعاة، ولَمَّا قُتِلَ الحاكِمُ غادر حمزةُ مصر إلى الشام ونشر فيها مذهَبَه، فعُرِفَ أتباعُه بالدروز ويتَسَمَّونَ بالموحِّدين أيضًا، ويُعتبَرُ حَمزةُ هذا هو قائِمَ الزمانِ وآخِرَ من حل فيه العقلُ الإلهيُّ وهو الواضِعُ لأركان الدينِ عندهم.
افتُتِحَت الجوالي –أموال الجزية- في المحَرَّم ببغداد، فأنفذ الملِكُ جلال الدَّولة البويهي فأخذ ما تحصَّلَ منها، وكانت العادةُ أن يُحمَلَ منها إلى الخُلفاءِ لا تُعارِضُهم فيها الملوك، فلمَّا فَعَل جلالُ الدَّولة ذلك، عَظُمَ الأمرُ فيه على القائِمِ بأمرِ الله واشتَدَّ عليه، وأرسَلَ مع أقضى القُضاة أبي الحسن الماوَردي في ذلك، وتكَرَّرت الرَّسائلُ، فلم يُصْغِ جلالُ الدَّولة لذلك، وأخذ الجواليَ، فجمع الخليفةُ الهاشميِّينَ بالدارِ والرجَّالة، وأرسل إلى أصحابِ الأطرافِ والقُضاة بما عزَمَ عليه، وأظهر العَزمَ على مفارقةِ بغداد، فلم يتِمَّ ذلك، وحدث وحشةٌ مِن الجِهَتينِ، فاقتَضَت الحالُ أنَّ المَلِك يتركُ معارضةَ النوَّاب الإماميَّة فيها في السنةِ الآتيةِ.
بعدَ أن أَصبحَ أحمدُ بن سُليمانَ بن هود أَميرًا لسرقسطة بعَهدِ أَبيهِ تُوفِّي في هذا العامِ وكان يُلقَّب بالمُقتَدِر باللهِ، وكان قبلَ وَفاتِه قد قَسَّمَ مَملكَتَه بين وَلدَيهِ فأَعطَى المُؤتَمن سرقسطة وأَعمالَها، وأَعطَى المُنذِرَ بلادَ الثَّغرِ الأعلى دانية ولاردة، ولكنَّ المُؤتَمن أَعلَن الحَربَ على أَخيهِ للاستِيلاءِ على حِصَّتِه مُستعينًا بكمبيادرو النَّصرانيِّ حَليفَ أَبيهِ فقامَ المُنذِرُ بالاستِنصارِ بسانشو مَلِكِ أراجون لكنَّه انهَزمَ أَمامَ أَخيهِ، أما طليطلة فإنَّ أَهلَها ثاروا على أَميرِها القادرِ ذي النونِ فهَربَ من المدينةِ ولَجأَ إلى قونكة، وكَتبَ إلى ألفونسو مَلِكِ قشتالة وطَلبَ المَعونةَ منه فاستَجابَ له وأَعادَهُ إلى طليطلة.
هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي البلنسي النحوي، أحد أئمة اللغة والأدب في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد ببطليوس سنة 444, ونشأ بها، ثم سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرؤون عليه ويقتبسون منه، واشتهر بالتبحر في الأدب واللغة، وكان مقدَّمًا في معرفتهما وإتقانهما، وانتصب لإقراء علوم النحو، واجتمع إليه الناس، وله يدٌ في العلوم القديمة، وكان حسَنَ التعليم، جيِّدَ التفهيم، ثقة ضابطًا. ألَّف كتبًا نافعة ممتعة, ومن أشهر كتبه: المثلث في اللغة، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب. وكانت وفاته في 15 رجب من هذه السنة.
فتَحَ نورُ الدين محمود بن زنكي حِصنَ المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشِدْ له، ولا جمَعَ عساكِرَه، وإنما سار إليه جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- على غِرَّة منهم، وعَلِمَ أنه إن جمع العساكِرَ حَذِروا وجمعوا، وانتهز الفرصةَ وسار إلى المنيطرة وحصره، وجَدَّ في قتاله، فأخذه عَنوةً وقهرًا، وقتل من بها وسبى، وغَنِمَ غنيمة كثيرة، فإنَّ الذين به كانوا آمنين، فأخذتهم خيل الله بغتةً وهم لا يشعرون، ولم يجتمع الفرنج لدفعِه إلَّا وقد ملكه، ولو علموا أنه جريدة في قِلَّةٍ مِن العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنُّوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفَرَّقوا وأيِسُوا من رَدِّه.
كانت الفتنةُ ببغدادَ بين أمير العسكَرِ قطب الدين قايماز المظفري والخليفةِ المستضيء بأمرِ الله، وسَبَبُها أنَّ الخليفة أمرَ بإعادة عَضدِ الدين ابن رئيس الرؤساءِ إلى الوزارة، فمنع منه قُطب الدين، وأغلق بابَ النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصَرة، فأجاب الخليفةُ إلى تَركِ وَزارته، فقال قطب الدين: "لا أقنَعُ إلا بإخراج عضد الدينِ مِن بغداد؛ فأمر بالخروجِ منها" فالتجأ عضدُ الدين إلى صدر الدين شيخِ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطِه وأجاره، ونقله إلى دارِ الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثمَّ عاد إلى بيته في جُمادى الآخرة.
جهَّز الخليفةُ النَّاصِرُ لدين الله جيشًا وسَيَّرَه إلى أصفهان، ومُقَدَّمُهم سيف الدين طغرل، مُقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكَرٌ لخوارزم شاه مع ولده، وكان أهلُ أصفهان يكرهونَهم، فكاتب صَدرُ الدين الخجندي رئيسُ الشافعية بأصفهان الديوانَ ببغداد يبذُلُ من نفسِه تسليمَ البلد إلى من يَصِلُ الديوان من العساكر، وكان هو الحاكِمَ بأصفهان على جميعِ أهلها، فسُيِّرَت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهِرِ البلد، وفارقه عسكَرُ خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتَبِعَهم بعض عسكر الخليفة، فتخَطَّفوا منهم، وأخذوا مِن ساقةِ العَسكَرِ مَن قَدَروا عليه، ودخل عسكَرُ الخليفة إلى أصفهان ومَلَكوها.
هو الأميرُ مجيرُ الدين طاشتكين بن عبد الله المقتفوي المستنجدي, أميرُ الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخًا غاليًا في التشَيُّع، وكانت الحلة الشيعيَّة إقطاعَه، وكان شجاعًا قليلَ الكلام، يمضي عليه الأسبوعُ لا يتكلم فيه بكلمةٍ، وذُكِرَ أنَّه حج بالناس ستًّا وعشرين سنة، كان يكونُ في الحجاز كأنَّه مَلِكٌ، وقد رماه الوزيرُ ابن يونس بأنه يكاتب صلاحَ الدين فحبَسَه الخليفة، ثم تبيَّنَ له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان، ثم أعاده إلى إمرة الحَجِّ، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحُملَ تابوتُه إلى الكوفة فدُفِنَ بمشهد عليٍّ لوصيَّتِه بذلك.
قام ألفونسو بن فريناند ملك قشتالة بالاستيلاء على حصن أراغونة وعدة حصون أخرى وحاصر غرناطة، فقام ابن الأحمر أبو عبد الله محمد بن نصر بمهادنته بعد أن أيقَنَ أنَّه لا قِبَلَ له به وبمنازلتِه، ففَكَّ الحصار عن غرناطة بصلحٍ بينهما يقضي فيه أن يبقى ابن الأحمر حاكمًا على غرناطة، لكن باسم ملك قشتالة وتحت ظله، ويؤدي جزيةً سنوية ويُعينه على أعدائه وقت يريدُ، وأن يشهَدَ معه اجتماعَ مجلس قشتالة الكورتيس باعتباره بهذا العقد أميرًا من أمراء الملك التابعين له، ثمَّ سَلَّمه جيان وأراغونة وقلعة جابر وأبرم الصلح لمدة عشرين سنةً.
بعد أن منَّ الله على المسلمينَ بفتح عكا، فُتِحَت صور وحيفا وعثليث وبعض صيدا بغيرِ قِتالٍ، وفَرَّ أهلُها خوفًا على أنفُسِهم، فتسَلَّمَها الأميرُ علم الدين سنجر الشجاعي، فقَدِمَت البشائرُ بتسليم مدينة صور في التاسع عشر، وبتسليم صيدا في العشرينَ منه، وأنَّ طائفةً مِن الفرنج عصَوا في برجٍ منها، فأمر السلطانُ بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفا، فتوجَّه الأمير شمس الدين نبا الجمقدار بن الجمقدار لهدم صور، واتفق أمرٌ عجيب، وهو أن الفرنج لَمَّا قدموا إلى صور كان بها عزُّ الدين نبا واليًا عليها من قِبَل المصريين، فباع صور للفرنجِ بمالٍ، وصار إلى دمشقَ!
خرج نائِبُ السلطنة بمن بقي من الجيوشِ الشاميَّة، وقد كان تقَدَّمَ بين يديه طائفةٌ من الجيش مع ابن تيميَّة في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرَّفضِ والتيامنة والدروز فخرج نائبُ السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروجِ الشيخ لغزوهم، فنصَرَهم الله عليهم وأبادوا خلقًا كثيرًا منهم ومِن فِرقَتِهم الضالَّة، ووَطِئوا أراضيَ كثيرةً مِن صُنعِ بلادهم، وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشقَ في صحبته الشَّيخُ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبَبِ شهود الشيخ هذه الغزوةَ خَيرٌ كثيرٌ، وأبان الشيخ علمًا وشجاعةً في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوبُ أعدائه حسدًا له وغَمًّا.
وقعَ مَطَرٌ عظيمٌ في أوَّلِ هذا الشَّهرِ بمصر، وهو شهرُ فبراير، وثلجٌ عظيمٌ، فرَوِيَت البساتينُ التي كانت لها عن الماءِ عِدَّةُ شهور، ولا يحصلُ لأحدٍ مِن الناس سَقيٌ إلا بكلفة عظيمة ومشقَّة، ومبلغ كثير، حتى كاد الناسُ يقتتلون عليه بالأيدي والدبابيس وغير ذلك من البَذلِ الكثير، وذلك في شهورِ ديسمبر والثاني، وأول فبراير؛ وذلك لقِلَّةِ مياه الأنهار وضَعفِها، وكذلك بلادُ حوران أكثَرُهم يروون من أماكنَ بعيدة في هذه الشهور، ثمَّ مَنَّ الله تعالى فجَرَت الأوديةُ وكَثُرت الأمطارُ والثلوج، وغَزُرت الأنهار, وتوالت الأمطارُ، فكأنه حصل السيلُ في هذه السَّنةِ مِن كانون إلى فبراير.