الوَزيرُ عَميدُ المُلْكِ، أبو نَصرٍ محمدُ بن منصورِ بن محمدٍ الكندريُّ، وَزيرُ السُّلطانِ طُغرلبك. كان أَحَدَ رِجالِ الدَّهرِ شَهامةً وكتابةً وكَرَمًا. وُلِدَ سنة 415هـ بقَريةِ كندر في نيسابور. تَفَقَّهَ لأبي حنيفةَ، وتَأَدَّبَ، ثم صَحِبَ رَئيسًا بنيسابور، فاستَخدَمهُ في ضِياعِه، ثم استَنابَهُ عنه في خِدمَةِ السُّلطانِ طُغرلبك، فطَلَبَه منه، فوَصَل في خِدمَتِه، وصار صاحِبَ خِبْرَةٍ. ثم وَلَّاهُ خوارزم، وعَظُمَ جاهُهُ. وعَصَى بخوارزم، ثم ظَفَرَ به السُّلطانُ، ونَقَمَ عليه أنَّه تَزَوَّج امرأةَ مَلِكِ خوارزم فخَصاهُ, ثم رَقَّ له فدَاوَاهُ وعُوفِيَ, واستَوْزَرهُ وله إحدى وثلاثون سنةً, فقَدِمَ بغداد، وأقامَ بها مُدَّةً، ولَقَّبَهُ الخليفةُ بسَيِّدِ الوُزراءِ, ونالَ من الجاهِ والحُرْمَةِ ما لم يَنَلْهُ أَحَدٌ. قال الذهبيُّ: "كان كَريمًا جَوادًا، مُتَعَصِّبًا لِمَذهَبِه، مُعتَزِليًّا، مُتكَلِّمًا له النَّظْمُ والنَّثْرُ". قال ابنُ الأثيرِ: "كان شديدَ التَّعَصُّبِ على الشافعيَّةِ، كَثيرَ الوَقيعَةِ في الشافعيِّ رضي الله عنه، بَلَغَ مِن تَعَصُّبِه أنه خاطَبَ السُّلطانِ في لَعْنِ الرَّافِضَةِ على مَنابر خُراسان، فأَذِنَ في ذلك، فأَمَرَ بِلَعْنِهِم، وأَضافَ إليهم الأَشعريَّة، فأَنِفَ من ذلك أَئمَّةُ خُراسان، منهم الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، وغيرُهما، ففارقوا خُراسان، وأقامَ إمامُ الحَرمينِ بمَكَّةَ أربعَ سنين إلى أن انقَضَت دَولتُه، فلما جاء الوزيرُ نِظامُ المُلكِ، أَحضرَ مَن انتَزحَ منهم وأَكرَمَهم، وأَحسنَ إليهم, وقيلَ: إن الكندريَّ تابَ مِن الوَقيعةِ في الشافعيِّ، فإن صَحَّ فقد أَفلحَ، وإلَّا فَعَلَى نَفسِها براقش تَجنِي" في هذه السَّنَةِ قَبَضَ عليه ألب أرسلان، وسَجنَهُ ببَيتِه ثم أرسل إليه مَن قَتَلهُ. قُتِلَ بمروالروذ في ذي الحجَّةِ. وكان قد قُطِعَت مَذاكِرُه ودُفِنَت بخوارزم، فلمَّا قُتِلَ حُمِلَ رَأسُه إلى نيسابور. ولهذا قال ابنُ الأثير: "ومِن العَجَبِ أن ذَكَرَهُ دُفِنَ بخوارزم لمَّا خُصِيَ، ودَمُهُ مَسفوحٌ بمرو، وجَسَدُه مَدفونٌ بكندر، ورَأسُه مَدفونٌ بنيسابور، فاعتَبِروا يا أولي الأبصار".
كان أبو سَلمةَ عبدُ الله بنُ عبدِ الأسدِ أوَّلَ مَن هاجر إلى المدينةِ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ المُهاجرين مِن قُريشٍ مِن بني مَخزومٍ، وكانتْ هِجرتُه إليها بعدَ بَيعةِ العَقبةِ الأولى، وقبلَ بَيعةِ العَقبةِ الثَّانيةِ، حين آذتْهُ قُريشٌ بعدَ مَرجعِهِ مِنَ الحَبشةِ، فعزم على الرُّجوعِ إليها، ثمَّ بَلغهُ أنَّ بالمدينةِ لهم إخوانًا، فعزم في الهِجرةِ إليها.
قالتْ أمُّ سَلمةَ: لمَّا أجمع أبو سَلمةَ الخُروجُ إلى المدينةِ رَحَّلَ لي بَعيرَهُ ثمَّ حملَني عليه، وجعل معي ابْنِي سَلمةَ بنَ أبي سَلمةَ في حِجْري، ثمَّ خرج يقود بي بَعيرَهُ، وانطلق به بنو عبدِ الأسدِ، وحبسني بنو المُغيرةِ عندهم وانطلق زوجي أبو سَلمةَ إلى المدينةِ. قالتْ: ففُرِّق بيني وبين ابْنِي وبين زوجي. قالت: فكنتُ أخرُج كُلَّ غَداةٍ فأجلِسُ في الأَبْطَحِ، فما أزالُ أبكي حتَّى أُمْسي، سَنَةً أو قريبًا منها، حتَّى مَرَّ بي رجلٌ مِن بني عَمِّي أحدُ بني المُغيرةِ، فرأى ما بي فرحِمَني، فقال لِبَني المُغيرةِ: ألا تحرجون من هذه المِسكينةِ؟ فرَّقتُم بينها وبين زوجِها وبين ولدِها؟ قالت: فقالوا لي: الْحَقي بزوجِك إن شئتِ. قالت: فَرَدَّ بنو عبدِ الأسدِ إليَّ عند ذلك ابْنِي، قالت: فارتحلتُ بعيري، ثمَّ أخذتُ ابْنِي فوضعتُه في حِجْري، ثمَّ خرجتُ أُريدُ زوجي بالمدينةِ. قالت: وما معي أحدٌ من خَلقِ الله، حتَّى إذا كنتُ بالتَّنعيمِ لَقيتُ عُثمانَ بنَ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ أخا بني عبدِ الدَّارِ، فقال: إلى أين يا ابنةَ أبي أُميَّةَ؟ قلتُ: أُريدُ زوجي بالمدينةِ. قال: أَوَمَا معكِ أحدٌ؟ قلتُ: ما معي أحدٌ إلَّا الله وابْنِي هذا. فقال: والله ما لكِ مِن مَتْرَكٍ. فأخذ بخِطامِ البَعيرِ فانطلق معي يَهْوي بي، فَوَالله ما صَحِبتُ رجلًا مِن العربِ قَطُّ أَرى أنَّه كان أَكرمَ منه، كان إذا بلغ المنزِلَ أناخ بي، ثمَّ استأخر عنِّي حتَّى إذا نزلتُ استأخر ببعيري فحَطَّ عنه ثمَّ قيَّدهُ في الشَّجرِ، ثمَّ تنحَّى إلى شجرةٍ فاضطجع تحتها. فإذا دَنا الرَّواحُ قام إلى بعيري فقدَّمهُ فَرَحَّلَهُ، ثمَّ استأخر عنِّي وقال: ارْكَبي. فإذا رَكِبْتُ فاستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخِطامهِ فقادَني حتَّى يَنزِلُ بي، فلمْ يَزلْ يصنعُ ذلك بي حتَّى أَقْدَمَني المدينةَ، فلمَّا نظر إلى قريةِ بني عَمرِو بنِ عَوفٍ بقُباءٍ قال: زوجُكِ في هذه القريةِ. وكان أبو سَلمةَ بها نازلًا، فادْخُليها على بركةِ الله. ثمَّ انصرف راجعًا إلى مكَّةَ. فكانت تقولُ أمُّ سَلمةَ: ما أعلمُ أهلَ بيتٍ في الإسلامِ أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمةَ، وما رأيتُ صاحبًا قَطُّ كان أكرمَ مِن عُثمانَ بنِ طلحةَ. أَسلمَ عُثمانُ بنُ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ العَبْدَريُّ بعدَ الحُدَيبيةِ.
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمُسلمين: «إنِّي أُريتُ دارَ هِجرتِكُم ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَيْنِ». وهُما الحَرَّتانِ، فهاجر مَن هاجر قِبَلَ المدينةِ، ورجع عامَّةُ مَن كان هاجر بأرضِ الحَبشةِ إلى المدينةِ، وتَجهَّز أبو بكرٍ قِبَلَ المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكَ، فإنِّي أرجو أن يُؤذنَ لي». فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبَس أبو بكرٍ نَفْسَهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيصحبَهُ، وعلَف راحِلتينِ كانتا عنده وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الخَبَطُ- أربعةَ أَشهُرٍ. قال ابنُ شهابٍ: قال عُروةُ: قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظَّهيرةِ، قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمِّي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أَمْرٌ، قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاسْتأذَن، فأُذِنَ له فدخل، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: «أَخْرِجْ مَن عندك». فقال أبو بكرٍ: إنَّما هُم أَهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ». فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة بأبي أنت يا رسولَ الله؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال أبو بكرٍ: فَخُذْ -بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتي هاتينِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمنِ». قالت عائشةُ: فجَهَّزناهُما أَحَثَّ الجِهازِ، وصنعنا لهُما سُفْرَةً في جِرابٍ، فقطعتْ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ، فبذلك سُمِّيت: ذاتَ النِّطاقينِ. قالت: ثمَّ لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بِغارٍ في جبلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامُ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِن عندهِما بِسَحَرٍ، فيُصبحُ مع قُريشٍ بمكَّةَ كَبائِتٍ، فلا يسمعُ أمرًا، يُكتادانِ به إلَّا وعاهُ، حتَّى يأتيَهُما بخبرِ ذلك حين يَختلِطُ الظَّلامُ، ويَرعى عليهِما عامرُ بنُ فُهيرةَ، مولى أبي بكرٍ مِنْحَةً مِن غَنَمٍ، فيُريحُها عليهِما حين تَذهبُ ساعةٌ مِنَ العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ، وهو لبنُ مِنْحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حتَّى يَنْعِقَ بها عامرُ بنُ فُهيرةَ بِغَلَسٍ، يفعلُ ذلك في كُلِّ ليلةٍ مِن تلك اللَّيالي الثَّلاثِ، واسْتأجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ رجلًا مِن بني الدِّيلِ، وهو مِن بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ الماهرُ بالهِدايةِ- قد غَمَسَ حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ، وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناهُ فدَفعا إليه راحِلَتَيْهِما، وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ بعدَ ثلاثِ ليالٍ، بِراحِلَتيهِما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامرُ بنُ فُهيرةَ والدَّليلُ، فأخذ بهم طريقَ السَّواحلِ. قال: سُراقةُ بنُ جُعْشُمٍ: جاءنا رُسُلُ كُفَّارِ قُريشٍ، يجعلون في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، دِيَةَ كُلِّ واحدٍ منهما، مَن قَتلهُ أو أَسَرهُ، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ مِن مجالسِ قَومي بني مُدْلِجٍ، أقبل رجلٌ منهم حتَّى قام علينا ونحن جُلوسٌ، فقال يا سُراقةُ: إنِّي قد رأيتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالسَّاحلِ، أُراها محمَّدًا وأصحابَه، قال سُراقةُ: فعرَفتُ أنَّهم هُم، فقلتُ له: إنَّهم لَيسوا بهِم، ولكنَّك رأيتَ فُلانًا وفُلانًا، انطلَقوا بِأَعْيُنِنا، ثمَّ لَبِثْتُ في المجلسِ ساعةً، ثمَّ قمتُ فدخلتُ فأمرتُ جاريتي أن تَخرُجَ بفَرسي، وهي مِن وراءِ أَكَمَةٍ، فتَحبِسَها عليَّ، وأخذتُ رُمحي، فخرجتُ به مِن ظَهرِ البيتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرضَ، وخَفضتُ عالِيَهُ، حتَّى أتيتُ فَرسي فركِبتُها، فرفَعتُها تُقَرِّبُ بي، حتَّى دَنوتُ منهم، فعَثَرَتْ بي فَرسي، فخَررتُ عنها، فقمتُ فأَهويتُ يدي إلى كِنانتي، فاسْتخرجتُ منها الأَزلامَ فاسْتقسَمتُ بها: أَضرُّهُم أم لا، فخرج الذي أَكرهُ، فركِبتُ فَرسي، وعصيتُ الأَزلامَ، تُقَرِّبُ بي حتَّى إذا سمعتُ قِراءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَلتفتُ، وأبو بكرٍ يُكثِرُ الالتِفاتَ، ساختْ يَدا فَرسي في الأرضِ، حتَّى بَلغتا الرُّكبَتينِ، فخررتُ عنها، ثمَّ زجرتُها فنهَضتْ، فلم تكدْ تُخرِجُ يدَيها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لِأثَرِ يدَيها عُثانٌ ساطعٌ في السَّماءِ مِثلُ الدُّخانِ، فاسْتقسَمتُ بالأَزلامِ، فخرج الذي أَكرهُ، فنادَيتُهم بالأَمانِ فوقفوا، فركِبتُ فَرسي حتَّى جِئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبسِ عنهم أن سَيظهرُ أَمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ له: إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يُريدُ النَّاسُ بهِم، وعرضتُ عليهم الزَّادَ والمتاعَ، فلم يَرْزآني ولم يَسألاني، إلَّا أن قال: «أَخْفِ عَنَّا». فسألتُه أن يَكتُبَ لي كتابَ أَمْنٍ، فأمر عامرَ بنَ فُهيرةَ فكتب في رُقعةٍ مِن أَديمٍ، ثمَّ مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وعن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبيرَ في رَكْبٍ مِنَ المسلمين، كانوا تُجَّارًا قافِلين مِن الشَّأْمِ، فكَسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ ثِيابَ بَياضٍ، وسمِع المسلمون بالمدينةِ مَخرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، فكانوا يَغدون كُلَّ غَداةٍ إلى الحَرَّةِ، فيَنتظِرونَهُ حتَّى يَرُدَّهُم حَرُّ الظَّهيرةِ، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارَهُم، فلمَّا أَوَوْا إلى بُيوتِهم، أَوفى رجلٌ مِن يَهودَ على أُطُمٍ مِن آطامِهِم، لِأَمْرٍ يَنظرُ إليه، فبصر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مُبَيَّضِين يَزولُ بهِم السَّرابُ، فلم يملِك اليَهوديُّ أن قال بأعلى صوتِه: يا مَعاشِرَ العربِ، هذا جَدُّكُم الذي تَنتظِرون، فثار المسلمون إلى السِّلاحِ، فتَلَقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بظَهْرِ الحَرَّةِ، فعَدل بهِم ذاتَ اليمينِ، حتَّى نزل بهِم في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، وذلك يومَ الاثنينِ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، فقام أبو بكرٍ للنَّاسِ، وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطَفِقَ مَن جاء مِنَ الأنصارِ -ممَّن لم يَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- يُحَيِّي أبا بكرٍ، حتَّى أصابتِ الشَّمسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكرٍ حتَّى ظَلَّلَ عليه بِردائِه، فعرَف النَّاسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
مَرَّ سديدُ الدولة ديانُ اليهودي بقارئٍ يقرأ قَولَه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1], فوَقَف سديدُ الدولة واستعاده قراءتَها، وبكى بكاءً شَديدًا، وقد اجتمَعَ عليه الناسُ، ثم أعلن بكلمةِ الإسلام، فارتَجَّت بغداد لإسلامه، وغُلِّقَت أسواقُها، وخرج النِّساء والأولاد، فأسلم بإسلامِه سِتَّةٌ من أعيان اليهود، وسارعت العامَّةُ ببغداد إلى كنائِسِ اليهود، فخَرَّبوها ونَهَبوا ما فيها، وسديدُ الدولة هذا هو من نوابِ الملك المغولي أبو سعيدٍ.
عزَّ على علماء الأندلس انتهاكُ الحكَمِ بنِ هشام للحُرُمات، وأْتَمَروا ليخلعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجَرَت بالأندلس فتنةٌ عظيمة على الإسلام وأهلِه- فلا قوة إلا بالله- فلمَّا هَمَّ العُلَماءُ بخلعِ الحَكَمِ، قالوا: إنَّه غيرُ عدلٍ، ونكَثُوه في نفوس العوامِّ، وزعموا أنَّه لا يحِلُّ المُكثُ ولا الصبرُ على هذه السيرةِ الذَّميمةِ، وكان ممن تقدَّمَ العلماءَ في الدعوةِ لخلعِ الحكَمِ بن هشام يحيى بن يحيى الليثي، وطالوتُ المعافري, وعوَّلَ أهلُ العلم على تقديمِ أحدِ أهل الشورى بقرطبة، وهو أبو الشماس أحمد بن المنذر بن عبدالرحمن الداخل ابن عمِّ الحكم بن هشام؛ لِما عرفوا من صلاحِه وعَقلِه، ودينِه، فقصدوه، وعرَّفوه بالأمر، فأبدى الميلَ إليهم والبُشرى بهم، وقال لهم: أنتم أضيافي الليلةَ؛ فإنَّ الليلَ أستَرُ. وناموا، وقام هو إلى ابنِ عَمِّه الحكَمِ، فأخبَرَه بشأنهم، فاغتاظ لذلك، وقال: جئتَ لسَفكِ دمي أو دمائِهم، وهم أعلامٌ، فمن أين نتوصَّلُ إلى ما ذكرت? فقال: أرسِلْ معي من تثِقُ به ليتحقَّقَ. فوجَّه من أحبَّ، فأدخلهم أحمدُ في بيته تحت سِترٍ، ودخل الليلُ، وجاء القَومُ، فقال: خبِّروني مَن معكم? فقالوا: فلانٌ الفقيهُ، وفلانٌ الوزير. وعَدُّوا كبارًا، والكاتِبُ يكتب حتى امتلأ الرَّقُّ، فمَدَّ أحدُهم يدَه وراء السترِ، فرأى القومَ، فقام وقاموا، وقالوا: فعلْتَها يا عدوَّ الله. فمَن فَرَّ لحينِه نجا، ومن لا، قُبِضَ عليه، فكان ممَّن فَرَّ: عيسى بن دينار الفقيه، ويحيى بن يحيى الفقيه صاحِبُ مالك، وقرعوس بن العباس الثَّقفي, وقبض على ناس كمالك بن يزيد القاضي، وموسى بن سالم الخولاني، ويحيى بن مُضَر الفقيه، وأمثالهم من أهل العلمِ والدين، في سَبعةٍ وسبعين رجلًا، فضُرِبَت أعناقُهم وصُلِبوا, وأضاف إليهم الحكَمُ عَمَّيه؛ كُليبًا وأميَّة، فصُلِبا، وأحرق القلوبَ عليهم، وسار بأمرِهم الرِّفاقُ، وعَلِمَ الحكمُ أنَّه محقودٌ من الناس كلهم، فأخذ في جمعِ الجُنود والحشَمِ، وتهيَّأ، وأخذت العامَّةُ في الهياجِ، واستأسد النَّاسُ، وتنَمَّروا، وتأهَّبوا. واستفحل الشَّرُّ.
كان الشُّروعُ ببِناءِ المَدرسَةِ النِّظامِيَّة نِسبةً إلى الوَزيرِ نِظامِ المُلْكِ، وَزيرِ ملكشاه في مَدينةِ بغداد، في ذي الحجَّةِ من عام 457هـ ونُقِضَ لأَجلِها دُورٌ كَثيرةٌ مِن مَشرعَةِ الزَّوايا وبابِ البَصرةِ، ثم في ذي القَعدةِ من سَنةِ 459هـ، فَرغَت عِمارةُ المَدرسَةِ النِّظامِيَّة، وتَقرَّر التَّدريسُ بها للشيخِ أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ الشافعيِّ، فجَمعَ العَميدُ أبو سعدٍ القاضي الناسَ على طَبقاتِهم إلى المَدرسةِ، وجَعَلَها بِرَسْمِ أبي إسحاقَ الشيرازيِّ الفيروزآبادي، صاحبِ كِتابِ ((التَّنْبيهُ)) في الفِقهِ على مَذهبِ الإمامِ الشافعيِّ بعدَ أن وَافَقَهُ على ذلك، فلمَّا كان يومُ اجتِماعِ الناسِ فيها وتَوقَّعوا مَجيءَ أبي إسحاقَ فلم يَحضُر، فطُلِبَ فلم يَظهَر، وكان السببُ أن شابًّا لَقِيَه فقال: يا سيدنا، تُريدُ تُدَرِّسُ في المدرسةِ؟ فقال: نعم. فقال: وكيف تُدَرِّسُ في مَكانٍ مَغصُوبٍ؟ فغَيَّرَ نِيَّتَه فلم يَحضُر، فلمَّا ارتَفعَ النَّهارُ، وأَيِسَ الناسُ مِن حُضورِه، أشارَ الشيخُ أبو منصورِ بن يُوسُف بأبي نَصرِ بن الصَّبَّاغِ، صاحبِ كتابِ ((الشامل))، وقال: لا يجوزُ أن يَنفَصِلَ هذا الجَمْعُ إلَّا عن مُدَرِّسٍ، ولم يَبقَ ببغداد مَن لم يَحضُر غيرَ الوَزيرِ، فجلسَ أبو نَصرٍ للدَّرْسِ، ثم ظَهرَ الشيخُ أبو إسحاقَ بعدَ ذلك، ولمَّا بَلغَ نِظامَ المُلْكِ الخَبَرُ أَقامَ القِيامةَ على العَميدِ أبي سعدٍ، ولم يَزَل يُرفِق بالشيخِ أبي إسحاقَ حتى دَرَّسَ بالمدرسةِ، وكانت مُدَّةُ تَدريسِ ابنِ الصَّبَّاغِ عشرين يومًا فقط. أَجرَى نِظامُ المُلْكِ للمُتَفَقِّهَةِ لِكلِّ واحدٍ أَربعةَ أَرطالِ خُبزٍ كلَّ يَومٍ, وقد أَشارَ ابنُ الجوزيِّ الى وَقْفِ هذه المدرسة ومُسْتَحِقِّيهِ بقَولِه: "هذه المَدرسةُ وسُقوفُها المَوقُوفُ عليها، وفي كِتابِ شَرْطِها أنَّها وُقِفَت على أَصحابِ الشافعيِّ أَصلًا، وكذلك الأَملاكُ المَوقوفةُ عليها شَرطٌ فيها أن تكونَ على أَصحابِ الشافعيِّ أَصلًا، وكذلك شَرْطٌ في المُدَرِّسِ الذي يكون فيها، والواعِظِ الذي يَعِظُ فيها ومُتَوَلِّي الكُتُبِ, وشَرْطٌ أن يكونَ فيها مُقرئٌ يَقرأُ القُرآنَ، ونَحْوِيٌّ يُدَرِّس العَربيَّةَ، وفُرِضَ لِكلٍّ قِسْطٌ مِن الوَقْفِ" ووَصفَها المَقرِيزيُّ بقَولِه: "أَشهَرُ ما بُنِيَ في القَديمِ المَدرسةُ النِّظامِيَّة ببغداد، لأنَّها أوَّلُ مَدرسةٍ قُرِّرَ بها للفُقهاءِ مَعاليمُ – أي مِقدار مِن المالِ-"
نزل جلال الدين خوارزم شاه على خلاط وحاصرها وضايقها أشَدَّ مضايقة، وأخذَها من نواب الملك الأشرف، وهو مقيمٌ بدمشق، ولم يمكِنْه في ذلك الوقت قَصْدَها للدفع عنها لأعذارٍ كانت له. ثم عقيبَ ذلك دخل الأشرفُ بلاد الروم باتفاق مع سلطانِها علاء الدين كيقباذ، وتعاقدا على قصد خوارزم شاه، وضرب المصاف معه، فإن صاحب الروم كان يخاف على بلاده منه؛ لكونِه مجاوِرَه، فتوجَّها نحوه في جيش عظيم من جهة الشام والشرق في خدمة الملك الأشرف، وعسكر صاحب الروم، والتقوا بين خلاط وأرزنكان، بموضع يقال له: يا للرحمان في يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة 627، وانكسر خوارزم شاه، وهي واقعة مشهورة، وعادت خلاط إلى الملك الأشرف وقد خربت.
هو السُّلطانُ الكبيرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ: صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الكردي الدُوِيني، ثم التِكريتي المولد. صاحِبُ الدِّيارِ المصريَّة والبلادِ الشاميَّة والفُراتيَّة واليمنيَّة، واسطة عقدِ آل أيوب، وشُهرتُه أكبَرُ مِن أن تحتاج إلى التنبيهِ عليه. اتَّفَق أهل التاريخ على أن أباه وأهلَه من دُوِين؛ بلدةٍ في آخِرِ عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكرادٌ رَواديِّة، والرَوَاديَّة: بطن من الهَذَبانِيَّة، وهي قبيلةٌ كبيرة من الأكراد. قال ابنُ خَلِّكان: "قال لي رجلٌ فقيه عارِفٌ بما يقول، وهو من أهل دُوِين: إنَّ على باب دوين قريةً يقال لها أجدانقان، وجميع أهلها أكراد رَوَاديَّة، ومولد أيوب بن شاذي والد صلاح الدين وعمه شيركوه بها، ثم أخذ شاذي ولَدَيه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخَرَجَ بهما إلى بغداد، ومِن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، ولقد تتبعت نِسبَتَهم كثيرًا فلم أجِدْ أحدًا ذَكَرَ بعد شاذي أبًا آخر، حتى إنِّي وقفتُ على كتب كثيرة بأوقافٍ وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أرَ فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير" ثم خَدَم أيوب وشيركوه مجاهِدَ الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنةً بالعراق- الشحنة: القَيِّم لضَبطِ أمن البلد- فلما رأى مجاهِدُ الدين في نجم الدين أيوب عقلًا ورأيًا حسنًا وحُسنَ سيرة، جعله دُزدَار تكريت، أي: حافظ القلعة، وواليها, ثم انتقل أيوب وشيركوه لخدمة عماد الدين زنكي بالموصل، فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين أيوب واليًا عليها. قال ابن خلكان: " اتفق أربابُ التواريخ أنَّ صلاح الدين وُلِدَ سنة 532 بقلعة تكريت لَمَّا كان أبوه بها، ولم يَزَل صلاح الدين تحت كَنَف أبيه حتى ترعرع, ولما مَلَك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشقَ لازم نجم الدين أيوب خِدمَتَه، وكذلك وَلَدُه صلاح الدين، وكانت مخايلُ السعادة عليه لائحةً، والنجابةُ تُقَدِّمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويُؤثِرُه، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائِقَ الخيرِ وفِعلَ المعروف والاجتهادِ في أمور الجهاد، حتى تجهَّزَ للمَسيرِ مع عمه شيركوه إلى الديار المِصريَّة" قال الذهبي: "سَمِعَ صلاح الدين من أبي طاهر السِّلَفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري، وحدَّث". أمَّر نورُ الدين صلاحَ الدين، وبَعَثَه في عسكره مع عَمِّه أسد الدين شيركوه، فحَكَم شيركوه على مصر، فما لَبِثَ أن توفي، فقام بعدَه صلاح الدين، ودانت له العساكِرُ، وقَهَر بني عُبَيد، ومحا دولَتَهم، واستولى على قصرِ القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت, وخلا القصرُ مِن أهله وذخائره، وأقام الدعوة العباسية. وكان خليقًا للإمارة مَهيبًا، شُجاعًا حازِمًا مجاهِدًا، كثيرَ الغزو، عاليَ الهِمَّة، كانت دولتُه نيفًا وعشرين سنة. قال ابن خلكان: " قال شيخُنا ابن شداد (في سيرة صلاح الدين): "سمعتُ صلاح الدين يوسف بن أيوب يقول: لَمَّا يَسَّرَ لي الله الديارَ المصرية عَلِمتُ أنه أراد فتح الساحِلِ؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي, ثم قال ابن شداد: ومِن حينِ استتَبَّ له الأمر ما زال يشُنُّ الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغَشِيَ الناس من سحائِبِ الإفضال والإنعام ما لم يُؤَرَّخْ من غير تلك الأيام، وهذا كلُّه وهو وزيرٌ متابِعُ القوم، لكنه يقومُ بمَذهَبِ أهل السنة، غارسًا في البلاد أهلَ الفقه والعِلمِ والتصوف والدين، والناس يُهرَعون إليه من كلِّ صَوبٍ ويَفِدون عليه من كل جانب، وهو لا يخَيِّب قاصدًا ولا يعدِمُ وافدًا ". تملك بعد نور الدين، واتَّسَعَت بلاده. ومنذ تسلطَنَ طَلَّقَ الخَمرَ واللَّذَّات، وأنشأ سورًا على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثمَّ فتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق مِن ابن نور الدين. وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه. وفي سنة ثلاث وسبعين كسَرَته الفرنج على الرملة، وفَرَّ في جماعة ونجا, وفي سنة خمس التقاهم وكَسَرهم, وفي سنة ستٍّ أمر ببناء قلعة الجبل, وفي سنة ثمانٍ عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصَرَ الموصل، ثم تمَلَّك حلب، وعَوَّضَ صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانيًا وثالثًا، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج, وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين سنة 585 بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا، فحال بينهم وبين الماء على تَلٍّ، وسلموا نفوسَهم وأسر ملوكهم وأمراءَهم، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر بيت المقدس، وجَدَّ في ذلك فأخذه بالأمان، ثم إن الفرنج قامت قيامتُهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطيعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بَرًّا وبحرًا وأحاطوا بعكا ليستردُّوها وطال حصارُهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقًا، فأحاط بهم السلطانُ، ودام الحصار لهم وعليهم نيفا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحِمُ وحروب تَشيبُ لها النواصي، وما فكُّوا حتى أخذوها، وجَرَت لهم وللسلطان حروب وسِيَر. وعندما ضرس الفريقان، وكلَّ الحِزبان، تهادن المِلَّتان في صلح الرملة سنة 588. وكانت لصلاح الدين هِمَّة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضدادِ ما سُمِعَ بمِثلِها لأحدٍ في دهر. قال الموفق عبد اللطيف: "أتيتُ وصلاح الدين بالقُدسِ، فرأيتُ مَلِكًا يملأ العيون روعةً، والقلوبَ مَحبَّةً، قَريبًا بعيدًا، سَهلًا مُحَبَّبًا، وأصحابه يتشَبَّهون به، يتسابقونَ إلى المعروف، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأوَّلَ ليلة حضرتُه وجدت مجلِسَه حافِلًا بأهلِ العلم يتذاكرون، وهو يُحسِنُ الاستماع والمشاركة، ويأخُذُ في كيفيَّة بناء الأسوار، وحَفْر الخنادق، ويأتي بكلِّ معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحَفْرِ خَندقِه، ويتولى ذلك بنَفسِه، وينقُل الحجارةَ على عاتِقِه، ويتأسى به الخَلقُ حتى القاضي الفاضِلُ، والعمادُ إلى وقت الظهر، فيمُدُّ السماط ويستريح، ويركبُ العَصرَ، ثم يرجع في ضوء المشاعِلِ، وكان يحفَظُ (الحماسة)، ويظُنُّ أنَّ كلَّ فقيه يحفَظُها، فإذا أنشَدَ وتوقَّفَ، استطعَمَ فلا يُطعَمُ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكُن يحفَظُها، وخرج فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين دينارًا في الشهر، وأطلق أولادُه لي رواتِبَ، وكان أبوه ذا صلاحٍ، ولم يكن صلاحُ الدين بأكبَرِ أولاده، وكان محبَّبًا إلى نور الدين يلاعِبُه بالكُرةِ". لما قَدِمَ الحجيجُ إلى دمشق في يوم الاثنين حادي عشر صفر من هذه السنة خرج السلطانُ لتَلَقِّيهم، ثم عاد إلى القلعةِ فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخِرَ ما رَكِبَ في هذه الدنيا، ثمَّ إنه اعتراه حُمَّى صفراوية ليلةَ السبت سادس عشر صفر، فلما أصبَحَ دخل عليه القاضي الفاضِلُ وابن شداد وابنُه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرةَ قلَقِه البارحة، وطاب له الحديثُ، وطال مجلِسُهم عنده، ثم تزايدَ به المرضُ واستمَرَّ، وقَصَده الأطباءُ في اليوم الرابع، ثم اعتراه يَبسٌ وحصَلَ له عَرَقٌ شَديدٌ بحيث نَفَذ إلى الأرض، ثم قَوِيَ اليبس فأحضَرَ الأمراءَ الأكابِرَ فبُويعَ لولده الأفضَل نور الدين علي، وكان نائبًا على دمشق، وذلك عندما ظَهَرت مخايل الضَّعفِ الشديد، وغيبوبة الذِّهنِ في بعض الأوقاتِ، وكان الذين يدخُلونَ عليه في هذه الحال الفاضِلُ وابنُ شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتَدَّ به الحال ليلةَ الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخَ أبا جعفر إمامَ الكلاسة ليبيتَ عنده يقرأُ القرآن ويُلَقِّنَه الشهادة إذا جَدَّ به الأمرُ، فلما أُذِّنَ الصبحُ جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخِرِ رمقٍ، فلما قرأ القارئُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فتبَسَّمَ وتهَلَّلَ وَجهُه، وأسلَمَ رُوحَه إلى ربِّه سبحانه وتعالى، ثم أخَذوا في تجهيزه، وحَضَر جميعُ أولاده وأهله، وكان الذي تولَّى غُسلَه خطيب البلد الفقيهُ الدولعي، وكان الذي أحضَرَ الكفَنَ ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل مِن صُلبِ مالِه الحلال، هذا وأولادُه الكبار والصغار يتباكَون وينادون، وأخذ الناسُ في العويل والانتحاب والدُّعاء له والابتهال، ثم أُبرِزَ جِسمُه في نعشِه في تابوتٍ بعد صلاة الظهر، وأمَّ النَّاسَ عليه القاضي ابنُ الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شَرَع ابنُه في بناء تربةٍ له ومدرسة للشافعيَّة بالقرب من مسجدِ القدم؛ لوصيته بذلك قديمًا، فلم يكمل بناؤها، ثم اشترى له الأفضَلُ دارًا شماليَّ الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربةً، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلَّى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي بن الزكي، عن إذنِ الأفضل، ودخل في لحْدِه ولَدُه الأفضلُ فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطانُ الشام، ويقالُ إنه دَفَن معه سَيفَه الذي كان يحضُرُ به الجهادَ، ويُذكَرُ أنَّ صَلاحَ الدين- رحمه الله تعالى- لم يخَلِّفْ في خزائِنِه غيرَ دينار واحدٍ صوري، وأربعين درهمًا ناصريَّة، ثمَّ تولى ابنُه الأفضل مُلكَ دِمشق، والساحل، وبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم، وكان وَلَدُه الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميعِ أعمالِها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصارَ معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع المَلِكَ الأفضل.
لَمَّا انشغل الحكَمُ بن هشام بإخماد عِصيانِ أهل مارد. طمِعَ الفرنج في ثغورِ المسلمين، وقَصَدوها بالغارة والقتل، والنَّهبِ والسَّبي، فأتاه الخبَرُ بشِدَّة الأمر على أهل الثغر، وما بلغ العدوُّ منهم، وسَمِعَ أنَّ امرأةً مُسلمةً أُخِذَت سبيةً، فنادت: واغَوْثاه، يا حَكَمُ! فعَظُمَ الأمر عليه، وكان قد فرَغ من أهل ماردِ، فجمَعَ عَسكَرَه واستعَدَّ وحَشَد وسار إلى بلد الفرنج, وأثخَنَ في بلادهم، وافتتح عِدَّةَ حُصونٍ، وقتَل الرِّجالَ، وسبى الحريمَ، وقصَدَ الناحيةَ التي كانت بها تلك المرأةُ، فأمَرَ لهم من الأسرى بما يُفادون به أَسراهم، وبالغ في الوصيَّة في تخليص تلك المرأة، فتخَلَّصَت من الأسر، وقُتِل باقي الأسرى، فلما فرغ من غَزاتِه قال لأهل الثغور: هل أغاثكم الحَكَمُ؟ فقالوا: نعم، ودَعَوا له وأثنَوا عليه خيرًا، وعاد إلى قُرطبة مُظفرًا.
توفي الملك الأوحد نجم الدين والدنيا أيوب بن السلطان الملك العادل أبي بكر، صاحب خلاط بتركيا في أيام أبيه الملك العادل، مَلَكَ خلاط ونواحيها، فظلم وعسَف وسفك الدماء بها, وقيل إنه قتل ثمانية عشر ألف نَسَمة بخلاط عندما أخذها، فابتُلي بأمراضٍ مزمنة، فتمنى الموتَ، فمات قبل الكهولة, وكان قد استزار أخاه الملك الأشرف موسى من حران، فأقام عنده أيامًا، واشتد مرضُه فطلب الأشرف الرجوع إلى حران، فقال له الأوحدُ: يا أخي لم تلِحُّ في الرواح، والله إني ميت وأنت تأخذ البلادَ مِن بعدي، فكان كذلك! وملك الأشرف بعد موته خلاط وأحبَّه أهلُها، كلُّ ذلك في حياة أبيهما الملك العادل، فكانت مدَّة تملك الأوحد خلاط أقلَّ من خمس سنين.
في ليلةِ أوَّلِ المحَرَّم أخرَجَ مَن في الجُبِّ مِن الأمراء، وقد كان اعتقَلَهم قبل ذلك لأمورٍ رآها منهم، ومنهم من اعتُقِلَ قبل هذا وأُطلِقَ ثمَّ اعتُقِلَ ثانيًا، وهم سنقر الأشقر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين، وأمر بخَنقِهم أمامَ السلطان، فخُنِقوا بأجمعِهم حتى ماتوا، وتولى خنقَ لاجين الأميرُ قرا سنقر، فلمَّا وضع الوتَرَ في عنقِه انقطع، فقال: "يا خوند، مالي ذنب إلا حميي طقصوا وقد هلك، وأنا أطَلِّقُ ابنته، وكان قرا سنقر له به عناية، فتلطَّف به ولم يعجَلْ عليه، لما أراد الله من أن لاجين يقتُلُ الأشرفَ ويَملِكُ مَوضِعَه، وانتظر أن تقَعَ به شفاعة، فشفَعَ الأمير بدر الدين بيدرا في لاجين، وساعَدَه مَن حضر من الأمراء، فعفا عنه ظنًّا أنه لا يعيشُ!
كان لأمراء بني عبد الحميد العروسيين- أصحاب قصر كتامة- رياسةٌ وسياسةٌ وجهادٌ في العدوِّ إلى أن انقرض أمرُهم, وأخبر غيرُ واحد من فقهاء قصر كتامة أنَّ الشيخ أبا الرواين المحجوب جاء إلى القصر وصاحَبَه يومئذ القائدُ عبد الواحد العروسي في عصبةٍ من أقاربه أولاد عبد الحميد، فصعد أبو الرواين صومعةَ المسجد ثم نادى بأعلى صوتِه: يا بني عبد الحميد، اشتروا مني القصرَ وإلَّا خرجتُم منه في هذه السنة، فسمع القائدُ عبد الواحد ذلك، فقال: إن كان القصرُ له أو بيده فلينزِعْه منَّا، ما بقي لنا إلا كلامُ الحمقى نلتفت إليه! ومِن الغد خرج الشيخ أبو الرواين من البلد وهو يقول: القائدُ عبد الواحد وأهله يخرجون من القصرِ ولا يعودون إليه أبدًا، فكان كذلك بقدرةِ الله تعالى.
هو الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، ولِدَ 1132هـ/1720م ونشأ في الدرعيَّة، ونهل من علومِها الشرعية، ودرس على عُلَماء عصره، وأبرزهم الشيخُ محمد بن عبد الوهاب في العُيَينة، وبعد قدومه الدرعية عام 1157هـ شارك في كثير من المعارك والحروبِ في حياة أبيه, وبعد وفاةِ والده تولَّى الحكمَ سنة 1179هـ, وأكمل بناءَ الدولة ونشر الدعوةَ الإصلاحية التي بدأ بها والده الإمام محمد بمؤازرة الإمامِ محمد بن عبد الوهابِ وتوجيهِه، يقول ابن بشر: "وما يجيءُ إلى الدرعية من دقيقِ الأشياء وجليلِها تُدفَعُ إليه- أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعُها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيرُه من ذلك شيئًا إلا عن أمرِه، بيَدِه الحَلُّ والعقدُ، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيشٌ ولا يصدُرُ رأيٌ مِن محمد وابنِه عبد العزيز إلَّا عن قوله ورأيه. فلما فتح اللهُ الرياض واتسَعَت ناحية الإسلام وأمِنَت السبُلُ وانقاد كل صعبٍ من بادٍ وحاضر، جعل الشيخ الأمرَ بيد عبد العزيز وفوَّض أمور المسلمين وبيتَ المال إليه. وانسلخ منها ولَزِم العبادةَ وتعليم العِلمِ، ولكن ما يقطَعُ عبد العزيز أمرًا دونه ولا ينفِّذُه إلا بإذنه" وفي عهدِه امتَدَّ نفوذ الدولة إلى الرياض وجميع بلدان الخرج، ووادي الدواسر في الجنوب، وفي الشمال امتد إلى القصيم ودومة الجندل بالجوف، ووادي سرحان وتيماء وخيبر والعراق, وفي الشرق تمكَّن الإمام عبد العزيز من السيطرةِ على الأحساءِ وإنهاء حكم بني خالد فيها, والبريمي التي كانت خاضعة لحكم قطر لسنوات طويلة، وامتد نفوذُ الدولة وانتشرت الدعوةُ إلى البحرين وعمان عن طريق ولاءِ قبائل المنطقة ودفْعِها الزكاةَ لدولة الدرعية, وفي الغربِ امتَدَّ نفوذ الدولة إلى شرقي الحجاز, في الجنوب الغربي وصل نفوذ الدولة إلى بيشة والليث وجازان, وقد تحقَّق فيها الأمن والإيمان حتى أَمِنت البلدان والسبل. يقول ابن بشر: "كانت الأقطارُ والرعية في زمنه مطمئنةً في عيشةٍ هنيئة، وهو حقيق بأن يلقَّب مهديَّ زمانه؛ لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أيَّ وقت شاء شتاء أو صيفًا، يمنًا أو شامًا، شرقًا وغربًا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدًا إلا الله فلا يخشى سارقًا ولا مكابرًا. وكانت جميعُ بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسَيِّبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك، ليس لها راعٍ ولا مراعٍ، بل إذا عَطِشت وردت على البلدانِ ثمَّ تصدُرُ إلى مفالها حتى ينقضيَ الربيع أو يحتاجون لها أهلها". وكانت دولتُهم تُعرَف بدولةِ آل مقرن في الدرعية إلى نهايةِ عهد الإمام عبد العزيز، وفي عهد ابنه سعود الكبير، نُسِبَت الدولة إلى اسم العائلة فعُرِفَت بالدولة السعودية. اغتال الإمامَ عبد العزيز شيعةُ العراق انتقامًا لِما أصابهم في غزوةِ كربلاء قبل عامين, يقول ابن بشر: "قُتِل الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسجدِ الطريف المعروف في الدرعية وهو ساجِدٌ في أثناء صلاة العصر؛ مضى عليه رجلٌ قيل إنَّه كردي من أهل العمادية بلد الأكراد المعروفةِ عند الموصل اسمُه عثمان، أقبل من موطنه لهذا القصدِ مُحتَسِبًا حتى وصل الدرعية في صورة درويش وادَّعى أنه مهاجر, وأظهر النسُكَ بالطاعة، وتعلمَ شيئًا من القرآن فأكرمه عبد العزيز وأعطاه وكساه... وكان قصدُه غيرَ ذلك، فوثب عليه في الصف الثالث والناسُ في السجودِ فطعنه في أبهرِه، رحمه الله، أو في خاصرته أسفلَ البطن بخنجرٍ كان قد أخفاه وأعده لذلك، وقد تأهب للموت فاضطرب المسجِدُ وماج بعضُه في بعض ولم يكن يدرون ما الأمر... وكان لَمَّا طُعن عبد العزيز أهوى إلى أخيه عبد الله وهو في جانبِه وبَرَك عليه ليطعنَه، فنهض عليه وتصارعا وجرح عبد الله جرحًا شديدًا، ثم إنَّ عبد الله صرعه وضربه بالسَّيفِ، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقد تبين لهم وجه الأمرِ، ثمَّ حُمل الإمام إلى قصرِه وقد غاب ذهنُه وقرُبَ نزعُه لأنَّ الطعنة قد هوت إلى جوفِه، فلم يلبث أن توفِّيَ بعدما صعدوا به القصر رحمه الله تعالى وعفا عنه، واشتد الأمرُ بالمسلمين وبُهِتوا" وذلك في أواخر شهر رجب لهذا العام, كان الأميرُ سعود حين قُتِل والده في نخل له في الدرعية، فلما بلغه الخبر أقبل مسرعًا، واجتمع الناس عنده فقام فيهم ووعظهم موعظةً بليغة وعزَّاهم, فقام الناسُ فبايعوه خاصتُهم وعامتهم، وعزَّوه في أبيه، ثم كتب إلى أهل النواحي نصيحةً يَعِظُهم ويخبرهم بالأمر ويعزِّيهم ويأمرُهم بالمبايعة، وكل أهل بلد وناحية يبايعون أميرَهم لسعود، فبايعه أهلُ النواحي والبلدان ورؤساء قبائل العربان، ولم يختلف منهم اثنان.
قال أبو حيَّان التوحيديُّ: " سألني وزيرُ صمصام الدَّولة بن عضُدِ الدولة عن زيد بن رفاعة في حدود سنة 373 قال: لا أزالُ أسمَعُ مِن زيد بن رفاعة قولًا يَريبُني، ومذهبًا لا عهد لي به، وقد بلغني أنَّك تغشاه وتجلِسُ إليه وتُكثِرُ عنده. ومن طالت عشرتُه لإنسانٍ أمكَنَ اطِّلاعُه على مستكنِّ رأيه. فقلت: أيُّها الوزيرُ، عنده ذكاءٌ غالِبٌ، وذهن وقَّاد. قال: فعلى هذا ما مذهَبُه؟ قلت: لا يُنسَبُ إلى شيءٍ، لكنه قد أقام بالبصرةِ زمانًا طويلًا وصادف بها جماعةً لأصنافِ العِلمِ، فصَحِبَهم وخَدَمهم، وكانت هذه العُصابةُ قد تألَّفَت بالعِشرة وتصافَتْ بالصَداقةِ، واجتمعت على القُدسِ والطَّهارة والنصيحةِ، فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنَّهم قرَّبوا به الطريقَ إلى الفوز برضوانِ الله، وذلك أنهم قالوا: إنَّ الشريعةَ قد تدنَّسَت بالجَهالاتِ واختَلَطت بالضَّلالاتِ، ولا سبيل إلى غَسلِها وتطهيرِها إلَّا بالفَلسفةِ!!! وزَعموا أنَّه متى انتظَمَت الفلسفةُ اليونانيَّة والشَّريعة العربية فقد حصل الكَمالُ، وصنفوا خمسين رسالة في خمسينَ نَوعًا من الحكمة، ومقالةً حاديةً وخمسين جامعةً لأنواعِ المقالات على طريقِ الاختصارِ والإيجازِ، وسمَّوها "رسائل إخوان الصَّفا" وكتَموا فيها أسماءَهم وبثُّوها في الورَّاقينَ ووَهبوها للنَّاسِ، وحَشَوا هذه الرسائلَ بالكَلِمات الدينيَّة، والأمثال الشرعيَّة، والحروف المجتَمِعة، والطُّرُق الممَوَّهة، وهي مبثوثةٌ مِن كُلِّ فنٍّ بلا إشباعٍ ولا كفايةٍ، وفيها خرافات وكنايات، وتلفيقات وتلزيقات، فتَعِبوا وما أغْنَوا، وغَنَّوا وما أطرَبُوا، ونسَجُوا فهَلْهَلوا، ومَشَطوا ففَلْفَلوا!! وبالجملة فهي مقالاتٌ مُشوِّقاتٌ غيرُ مستقصاةٍ، ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج". ولما كتم مصنِّفو رسائل إخوان الصفا أسماءَهم، اختلف النَّاسُ في الذي وضعها، ولا تزال مصدرَ خِلافٍ بين عُلَماءِ الإسلام والتساؤل حولَ الانتماء المذهبيِّ للجماعة؛ فالبعض اعتبَرَهم من أتباع المدرسة المعتزِليَّة، والبعض الآخر اعتبرهم من نِتاجِ المدرسةِ الباطنيَّة، وذهب البعض الآخر إلى وصْفِهم بالإلحادِ والزندقة. قال الذهبي عنها: "حُبِّبَ إلى أبي حامدٍ الغزالي إدمانُ النَّظرِ في كتابِ "رسائل إخوان الصفا" وهو داءٌ عُضالٌ، وجَرَبٌ مُرْدٍ، وسمٌّ قتَّالٌ، ولولا أنَّ أبا حامد من كبارِ الأذكياء، وخِيارِ المُخلِصين، لتَلِفَ؛ فالحَذارِ الحَذارِ مِن هذه الكتبِ، واهربوا بدينِكم من شُبَهِ الأوائلِ، وإلَّا وقَعْتُم في الحَيرةِ، فمن رام النَّجاةَ والفوزَ فلْيَلزم العبوديَّة، ولْيُدمِن الاستغاثةَ باللهِ، ولْيَبتَهِلْ إلى مولاه في الثَّباتِ على الإسلامِ، وأن يُتوفَّى على إيمانِ الصَّحابةِ, وسادةِ التابعين، واللهُ المُوَفِّق، فبُحسنِ قَصدِ العالِمِ يُغفَرُ له وينجو، إن شاء اللهُ".
بَعثَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولَه عبدَ الله بنَ جَحشٍ الأسَديَّ إلى نَخلةَ في رَجبٍ على رأسِ سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا من الهِجرةِ في اثنَيْ عَشَرَ رَجلًا من المُهاجِرين، كلُّ اثنَينِ يَعتَقِبان على بَعيرٍ، فوَصَلوا إلى بَطنِ نَخلةَ يَرصُدون عيرًا لقُريشٍ، وفي هذه السَّريَّةِ سُمِّيَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله كَتَب له كِتابًا، وأمرَه ألَّا يَنظُرَ فيه حتى يَسيرَ يَومَين ثم يَنظُرَ فيه، ولمَّا فَتَح الكِتابَ وَجَد فيه: "إذا نَظَرْتَ في كِتابي هذا، فامْضِ حتى تَنزِلَ نَخلةَ بينَ مكَّةَ والطَّائِفِ فتَرصُدَ بها قُريشًا، وتَعلَمَ لنا من أخبارِهِم"، فقال: سَمعًا وطاعةً، وأخبَرَ أصحابَه بذلك، وبأنَّه لا يَستَكرِهُهم، فمَن أحبَّ الشَّهادةَ فليَنهَض، ومَن كَرِهَ الموتَ فليَرجِع، وأمَّا أنا فناهِضٌ. فمَضَوا كلُّهم.
فلمَّا كان في أثناء الطَّريقِ أضلَّ سعدُ بن أبي وقَّاصٍ وعُتبةُ بن غَزوانَ بعيرًا لهما كانا يَعتَقِبانِه، فتَخَلَّفا في طَلَبِه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ حتَّى نزل بنخلةَ، فمَرَّت به عيرٌ لقُرَيشٍ تَحمِلُ زَبيبًا وأُدمًا وتجارةً فيها عَمرُو بنُ الحَضرَميِّ، وعُثمانُ ونَوفَلُ بنُ عبدِ الله بن المُغيرةَ، والحَكَمُ بنُ كَيسانَ مَولَى بني المُغيرةِ فتَشاوَرَ المسلمون، وقالوا: نحنُ في آخِرِ يَومٍ من رَجَبٍ الشَّهرِ الحَرامِ، فإنْ قاتلناهم، انتَهَكْنا الشَّهرَ الحرامَ، وإن تَرَكناهمُ اللَّيلةَ دَخَلوا الحرمَ، ثمَّ أجمَعوا على مُلاقاتِهم فرَمَى أحدُهم عمرَو بنَ الحَضرَميِّ فقَتَلَه، وأسَروا عُثمانَ والحَكَمَ، وأفلتَ نَوفَلٌ، ثم قَدِموا بالعيرِ والأسيرَينِ، وقد عَزَلوا من ذلك الخُمُسَ، وهو أوَّلُ خُمُسٍ كان في الإسلامِ، وأوَّلُ قتيلٍ في الإسلامِ وأوَّلُ أسيرَينِ في الإسلامِ، وأنكرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم ما فعلوه، واشتَدَّ تَعنُّتُ قُريشٍ وإنكارُهم ذلك، وزَعَموا أنَّهم قد وَجَدوا مَقالًا، فقَالوا: قد أحلَّ مُحمَّدٌ الشَّهرَ الحرامَ، واشتدَّ على المسلمين ذلك، حتى أنزلَ اللهُ تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنةُ أكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].