غلا سعر القمح والشعير، وبرز مرسومُ الحوَّاط بالمناداة بدمشق، بأن لا يبيع حاضر لجلَّاب قمحًا ولا شعيرًا، فتخبَّطت دمشق، وزادت الأسعار وصَغُرت قطع الخبز، وطلبه الناس، وبيعت غرارة القمح بأربعمائة وعشرين درهم، والشعير بمائة وسبعين!!
بعدَ أن فَرغَ طُغرلبك من أَخيهِ إبراهيمَ وغيرِ ذلك من المَشاغلِ أَسرعَ بالعَوْدِ إلى بغداد وليس له هم إلَّا إِعادةُ الخَليفةِ لدارهِ، وكان قد راسلَ البساسيري على أن يُعيدوا الخَليفةَ ويَقنَع هو بعَدمِ العَودةِ إلى بغداد فلم يَرضَ البساسيري، فتَمكَّنَت عَساكرُ طُغرلبك مِن قَتلِه في ذي الحجَّةِ سَنةَ451هـ. أَرسلَ طُغرلبك مِن الطَّريقِ الإمامَ أبا بكرٍ أحمدَ بن محمدِ بن أيوبَ المعروف بابنِ فورك، إلى قُريشِ بن بَدران يَشكُرهُ على فِعلِه بالخَليفةِ، وحِفظِه على صِيانَتِه ابنةِ أَخيهِ امرأةِ الخليفةِ، ويُعرِّفهُ أنَّه قد أَرسلَ أبا بكرِ بن فورك للقيامِ بخِدمةِ الخليفةِ، وإحضارِهِ، وإحضارِ أرسلان خاتون ابنةِ أَخيهِ امرأةِ الخليفةِ، ولمَّا سَمِعَ قُريشٌ بِقَصدِ طُغرلبك العِراقَ أَرسلَ إلى مهارش بن مجلي الندوي يُحَرِّضُهُ على عَدمِ تَسليمِ الخَليفةِ حتى يَستَطيعوا أن يَشرُطوا ما يريدون؛ لكنَّهُ أَبَى عليهم ذلك، وسار مهارش ومعه الخليفةُ حادي عشر ذي القعدةِ سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العِراقِ، وجَعَلا طَريقَهما على بَلدِ بَدرِ بن مهلهل لِيَأمَنَا مَن يَقصِدهُما، ووَصلَ ابنُ فورك إلى حلَّةِ بدرِ بن مهلهل، وطلبَ منه أن يُوصِلَهُ إلى مهارش، فجاء إنسانٌ سوادي إلى بدرٍ وأَخبرهُ أنَّه رأى الخليفةَ ومهارشًا بتل عكبرا، فسُرَّ بذلك بَدرٌ ورَحلَ ومعه ابنُ فورك، وخَدَماهُ، وحَملَ له بَدرٌ شَيئًا كَثيرًا، وأَوصلَ إليه ابنُ فورك رِسالةَ طُغرلبك وهَدايا كَثيرةً أَرسلَها معه، ولمَّا سَمِعَ طُغرلبك بوُصولِ الخليفةِ إلى بَلدِ بَدرٍ أَرسلَ وَزيرَه الكندريَّ، والأُمراءَ، والحُجَّابَ، وأَصحبَهم الخِيامَ العَظيمةَ، والسُّرادِقات، والتُّحَف مِن الخَيلِ بالمَراكِب الذَّهبِ وغيرِ ذلك، فوَصَلوا إلى الخليفةِ وخَدموهُ ورَحَلوا، ووَصلَ الخليفةُ إلى النَّهروان في الرابعِ والعشرين من ذي القعدةِ، وخَرجَ السُّلطانُ إلى خِدمتِه، واعتَذرَ مِن تَأَخُّرِه بعِصيانِ إبراهيمَ، وأنه قَتَلَهُ عُقوبةً لِمَا جَرى منه من الوَهَنِ على الدَّولةِ العبَّاسيَّة، وبِوَفاةِ أَخيهِ داودَ بخُراسان، وأنه اضطرَّ إلى التَّرَيُّثِ حتى يُرَتِّبَ أَولادَهُ بعدَه في المملكةِ، ثم إنَّ الخليفةَ لم يَدخُل بغدادَ إلَّا في هذه السَّنَةِ في صفر في السابع عشر منها.
كانت وَقعةً للزنج انهزموا فيها، وكان سببَها أنَّ محمد بن عبيد الله كتب إلى عليِّ بن أبان بعدَ الصُّلحِ يَسألُه المعونةَ على الأكرادِ الدارنان، على أن يجعلَ له ولأصحابه غنائِمَهم، فكتب عليٌّ إلى صاحبه يستأذِنُه، فكتب إليه أن وجِّهْ إليه جيشًا وأقِمْ أنت، ولا تُنفِذ أحدًا حتى تستوثِقَ منه بالرهائنِ، ولا يأمن غزوه والطلب بثأره. فكتب عليٌّ إلى محمد يطلبُ منه اليمين والرهائن، فبذَلَ له اليمينَ، ومَطَله بالرهائِنِ، ولِحرصِ عليٍّ على الغنائم أنفذ إليه جيشًا، فسيَّرَ محمد معهم طائفةً من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكرادُ فقاتلوهم، ونشبت الحرب، فتخلَّى أصحاب محمد عن الزنج، فانهزموا وقَتَلت الأكرادُ منهم خلقًا كثيرًا، وكان محمَّدٌ قد أعدَّ لهم من يتعَرَّضُهم إذا انهزموا، فصادفوهم وأوقعوا بهم، وسَلَبوهم وأخذوا دوابَّهم، ورجعوا بأسوأ حالٍ، فأظهر الخبيثُ الغضَبَ على ابنِ أبان، فأرسل محمَّد إلى بهبود، ومحمد بن يحيى الكرماني، وكانا أقربَ الناسِ إلى علي، فضَمِنَ لهما مالًا إن أصلحا له عليًّا وصاحِبَه، ففعلا ذلك، فأجابهما الخبيثُ إلى الرضا عن محمد على أن يخطُبَ له على منابِرِ بلاده، وأعلما محمدًا بذلك، فأجابهما إلى كلِّ ما طلبا، وجعل يراوِغُ في الدعاءِ له على المنابر، ثم إنَّ عليًّا استعدَّ لمتوث- وهي بلدة بين قرقوب وكور الاهواز- فسار إليها فلم يظفَرْ بها فرَجَع، وعمِلَ السلاليم والآلات التي يصعَدُ بها إلى السور، واستعَدَّ لقَصدِها، فعرف ذلك مسرور البلخي، وهو يومئذٍ بكور الأهواز، فلما سار عليٌّ إليها سار إليه مسرورٌ، فوافاه قبل المغربِ وهو نازلٌ عليها، فلما عاين الزنج أوائِلَ خيل مسرور انهزموا أقبحَ هزيمة، وترَكوا جميعَ ما كانوا أعدُّوه، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وانصرف عليٌّ مهزومًا، فلم يلبثْ إلا يسيرًا حتى أتته الأخبارُ بإقبال الموفق، ولم يكن لعليٍّ بعد متوث وقعة، فكتب إليه صاحِبُه يأمره بالعودِ إليه، ويستحِثُّه حثًّا شديدًا.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العَلَمُ العلَّامةُ الفقيهُ الحافِظُ الزاهِدُ العابِدُ القدوةُ شيخُ الإسلامِ: تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثمَّ الدمشقي، وكان مولِدُه يومَ الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة 661، وقَدِمَ مع والده وأهلِه إلى دمشقَ وهو صغير، فسَمِعَ الحديثَ وقرأ بنفسِه الكثيرَ، وطلب الحديثَ وكُتُبَ الطبقاتِ والأثباتِ، ولازم السَّماعَ بنفسه مُدَّةَ سنين، وقَلَّ أن سَمِعَ شَيئًا إلَّا حَفِظَه، ثم اشتغل بالعلومِ، وكان ذكيًّا كثيرَ المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلَّق به عارفًا بالفقه، فيقال: إنه كان أعرَفَ بفقه المذاهِبِ مِن أهلِها الذي كانوا في زمانِه وغيره، وكان عالِمًا باختلاف العلماء، عالِمًا في الأصول والفروعِ، والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النَّقليَّة والعقلية، وما قُطع في مجلسٍ، ولا تكَلَّمَ معه فاضِلٌ في فنٍّ مِن الفنونِ إلَّا ظَنَّ أنَّ ذلك الفَنَّ فَنُّه، ورآه عارفًا به متقِنًا له، وأما الحديثُ فكان حامِلَ رايتِه حافظًا له مميِّزًا بين صحيحِه وسقيمِه، عارفًا برجاله متضَلِّعًا من ذلك، وله تصانيفُ كثيرة وتعاليقُ مُفيدة في الأصولِ والفروع، كمُلَ منها جملةٌ وبُيِّضَت وكُتِبَت عنه وقُرِئَت عليه أو بَعضُها، وجملةٌ كبيرةٌ لم يُكمِلْها، وأثنى عليه وعلى علومِه وفضائِلِه جماعةٌ من عُلَماءِ عَصرِه، وأمَّا أسماءُ مُصَنَّفاتِه وسيرته وما جرى بينه وبين الفُقَهاءِ والدولة وحَبسُه مراتٍ وأحوالُه، فلا يُحتَمَلُ ذِكرُ جَميعِها في هذا الموضِعِ، توفِّيَ في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة بقلعةِ دمشق بالقاعةِ التي كان محبوسًا بها، وحضر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِنَ لهم في الدخول عليه، وجَلَس جماعة عنده قبل الغُسلِ واقتصروا على مَن يُغَسِّلُه، فلما فُرِغَ مِن غُسلِه أُخرِجَ ثم اجتمع الخَلقُ بالقلعة والطريقِ إلى الجامعِ، وامتلأ بالجامع أيضًا وصَحنِه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازةُ في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووُضِعَت في الجامع، والجندُ قد احتاطوا بها يحفَظونَها من النَّاسِ مِن شِدَّة الزحام، وصُلِّيَ عليه أولًا بالقلعة، تقدَّمَ في الصلاة عليه أولًا الشيخ محمد بن تمام، ثم صُلِّيَ عليه بالجامِعِ الأمويِّ عَقيبَ صلاة الظهر، وقد تضاعَفَ اجتِماعُ الناس ثم تزايد الجَمعُ إلى أن ضاقت الرِّحابُ والأزِقَّة والأسواق بأهلِها ومَن فيها، ثم حُمِلَ بعد أن صُلِّيَ عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النَّعشُ به من باب البريد واشتدَّ الزحامُ وعَلَت الأصواتُ بالبُكاء والنَّحيب والترحُّم عليه والثَّناء والدعاء له، وألقى الناسُ على نعشِه مناديلَهم وعمائِمَهم وثيابَهم، وذهبت النِّعالُ مِن أرجُلٍ, وبالجملةِ كان يومُ جنازته يومًا مشهودًا لم يُعهَدْ مثلُه بدمشقَ إلَّا أن يكون في زمَنِ بني أمية حين كان الناسُ كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دُفِنَ عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكِنُ أحدًا حصرُ من حضر الجِنازةَ، وتقريبُ ذلك أنَّه عبارةٌ عمَّن أمكنه الحضورُ من أهل البلَدِ وحواضِرِه ولم يتخلَّفْ مِن الناس إلا القَليلُ مِن الصغار والمخَدَّرات، وما تخلَّفَ أحدٌ من أهل العلمِ إلَّا النفرُ اليسير تخلَّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثةُ أنفس: وهم ابنُ جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداتِه فاختَفَوا من الناس خوفًا على أنفُسِهم، بحيث إنَّهم علموا متى خرجوا قُتِلوا وأهلَكَهم الناس، ورُئيَت له مناماتٌ صالحةٌ عَجيبةٌ، ورُثِيَ بأشعارٍ كثيرة وقصائِدَ مُطَوَّلة جدًّا، وقد أُفرِدَت له تراجِمُ كثيرة، وصَنَّف في ذلك جماعةٌ من الفضلاء وغيرهم، ويدُلُّ على علمِه وفَضلِه مُصَنَّفاتُه، كالتفسير، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وفتاويه التي جُمِعَت، وغيرها كثير، كان جريئًا قويًّا لا يخاف في الله لومةَ لائم، حثَّ الناسَ والأمراء على جهاد التتار، بل ذهب بنفسه لمقابلةِ مَلِكهم قازان حين جاء ليدخُلَ دمشق وقال له: أنت تدعي أنك مسلم فلمَ جئت تغزو بلاد الإسلامِ؟ وغير ذلك من المواقف المشَرِّفة، مثل وقت استفتاه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في قَتْلِ الفقهاء والقضاة الذين كانوا ضِدَّه يومَ خَلَع نفسَه وكانوا مع المظفَّر بيبرس، وكان منهم من آذى الشيخَ نَفسَه، فلم يُفْتِ له الشيخُ بأذِيَّتِهم، بل بيَّنَ له حُرمةَ وقَدرَ العُلَماءِ، وقال: إنَّه لا ينتصر لنفسِه، وكلُّ من آذاه فهو في حِلٍّ، وهذا من تمامِ فَضلِه وحُسنِ خُلُقِه، وله الأثرُ الكبيرُ في مُناظرة أهلِ البِدَع والعقائِدِ الفاسدة بما أحيا اللهُ على يديه ممَّا اندرس بين النَّاسِ منها، فكان بحَقٍّ مُجَدِّدًا للدين، فرحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
جاء إلى مدينة عجلون سيلٌ عظيم من أوَّل النهار إلى وقتِ العصر، فهدَمَ مِن جامعِها وأسواقِها ورِباعِها ودُورِها شيئًا كثيرًا، وغَرِقَ سَبعة نَفَرٍ، وهلك للناس شيءٌ كثير من الأموال والغلات والأمتعة والمواشي ما يقارب قيمتُه ألف ألف درهم.
سَيَّرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاج بن يوسُف الثَّقفيَّ إلى عبدِ الله بن الزُّبير رضي الله عنه، وبعَث معه له أمانًا إنْ هو أطاعَ، فبَقِيَ الحَجَّاج مُدَّةً في الطَّائفِ يَبعَثُ البُعوثَ تُقاتِل ابنَ الزُّبير وتَظْفَرُ عليه. فكتَب الحَجَّاجُ إلى عبدِ الملك يُخبِرُه: بأنَّ ابنَ الزُّبير قد كَلَّ وتَفَرَّق عنه أَصحابُه, ويَسْتَأذِنُه بمُحاصَرةِ الحَرَمِ ثمَّ دُخولِ مكَّة، فأَمَدَّهُ عبدُ الملك بطارِقِ الذي كان يُحاصِر المدينةَ، ولمَّا حَصَرَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير نَصَبَ المَنْجَنيقَ على أبي قُبَيْسٍ ورَمَى به الكَعبةَ، وكان عبدُ الملك يُنْكِر ذلك أيَّامَ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، ثمَّ أَمَرَ به، وحَجَّ ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما تلك السَّنةَ فأَرسَل إلى الحَجَّاجِ: أنِ اتَّقِ الله، واكْفُفْ هذه الحِجارةَ عن النَّاسِ؛ فإنَّك في شَهْرٍ حَرامٍ وبَلَدٍ حَرامٍ، وقد قَدِمَت وُفودُ الله مِن أَقطارِ الأرضِ لِيُؤَدُّوا فَريضةَ الله ويَزْدادوا خيرًا، وإنَّ المَنْجنيق قد منعهم عن الطَّوافِ، فاكْفُفْ عن الرَّمْيِ حتَّى يَقْضوا ما يجب عليهم بمكَّة. فبَطَّلَ الرَّمْيَ حتَّى عاد النَّاسُ مِن عَرَفات وطافوا وسَعَوْا، ولم يَمْنَعْ ابنُ الزُّبير الحاجَّ مِن الطَّوافِ والسَّعْيِ، فلمَّا فرَغوا مِن طَوافِ الزَّيارةِ نادَى مُنادِي الحَجَّاجِ: انْصَرِفوا إلى بِلادِكم، فإنَّا نَعودُ بالحِجارَةِ على ابنِ الزُّبيرِ المُلْحِدِ. فأصاب النَّاسَ بعد ذلك مَجاعةٌ شديدةٌ بسَببِ الحِصارِ، فلمَّا كان قُبَيْلَ مَقْتَلِه تَفَرَّقَ النَّاسُ عنه، وخَرجوا إلى الحَجَّاجِ بالأمانِ، خرَج مِن عنده نحو عشرةِ آلاف، وكان ممَّن فارَقَه ابْناهُ حَمزةُ وخُبيبٌ، وأَخَذا لِأَنْفُسِهما أَمانًا، فقال عبدُ الله لابْنِه الزُّبيرِ: خُذْ لِنَفسِك أمانًا كما فعل أَخَواك، فَوَالله إنِّي لأُحِبُّ بَقاءَكُم. فقال: ما كنتُ لِأَرْغَبَ بِنَفسِي عنك. فصَبَر معه فقُتِلَ وقاتَلهم قِتالًا شديدًا، فتَعاوَرُوا عليه فقَتَلوهُ يومَ الثُلاثاءِ مِن جُمادَى الآخِرة وله ثلاثٌ وسبعون سَنةً، وتَوَلَّى قَتْلَهُ رجلٌ مِن مُرادٍ، وحمَل رَأسَهُ إلى الحَجَّاج، وبعَث الحَجَّاجُ بِرَأسِه، ورَأسِ عبدِ الله بن صَفوان، ورَأسِ عُمارةَ بن عَمرِو بن حَزْمٍ إلى المدينةِ، ثمَّ ذهَب بها إلى عبدِ الملك بن مَرْوان، وأخَذ جُثَّتَهُ فصَلَبَها على الثَّنِيَّةِ اليُمْنَى بالحُجُونِ، ثمَّ بعدَ أن أَنْزَلَهُ الحَجَّاجُ عن الخَشبةِ بعَث به إلى أُمِّه، فغَسَّلَتْهُ، فلمَّا أَصابَهُ الماءَ تَقَطَّعَ، فغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فاسْتَمْسَك، وصلَّى عليه أخوه عُروةُ، فَدَفَنَتْهُ.
لَمَّا تزايَدَت الوحشةُ بين مؤنسٍ صاحِبِ الجيشِ، والخليفةِ المُقتَدر وزاد ذلك انفرادُ الوزيرِ الحسين بن القاسم بأشياءَ أغاظت مؤنِسًا، الذي عزم على المسيرِ إلى الموصِلِ، فسار إليها وحارب فيها بني حمدانَ وهزمهم، فاستمال نحوه كثيرًا مِن الجند والأعراب وغيرهم، وجمع العساكِرَ وسار إلى المُقتَدِر على أن يُجرِيَ عليهم الأرزاقَ وإلَّا قاتلوه، وقد بعث بين يديه الطلائِعَ، حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وأشيرَ على الخليفة أن يستدينَ مِن والدتِه مالًا ينفِقُه في الأجناد، فقال: لم يبقَ عندها شيءٌ، وعزم الخليفةُ على الهربِ إلى واسط، وأن يترُكَ بغداد لمؤنسٍ حتى يتراجَعَ أمرُ النَّاسِ، ثم يعود إليها، فردَّه عن ذلك ابنُ ياقوت وأشار بمواجهتِه لمُؤنِس وأصحابه، فإنَّهم متى رأَوا الخليفةَ هربوا كلُّهم إليه وتركوا مؤنِسًا، فركب المقتَدِر وهو كارهٌ، وبين يديه الفُقَهاءُ ومعهم المصاحفُ المنشورة، وعليه البُردة والنَّاسُ حوله، ثم بعث إليه أمراؤُه يَعزِمون عليه أن يتقَدَّمَ، فامتنع من التقدُّمِ إلى محَلِّ المعركة، ثم ألحُّوا عليه فجاء بعد تمنُّعٍ شديدٍ، فما وصل إليهم حتى انهَزَموا وفَرُّوا راجعين، ولم يلتَفِتوا إليه ولا عطَفوا عليه، فكان أوَّلَ مَن لقيه من أمراء مؤنسٍ عليُّ بن بليق، فلما رآه ترجَّلَ وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، وقال: لعن اللهُ من أشار عليك بالخروجِ في هذا اليوم. ثم وكَّلَ به قومًا من المغاربة البربر، فلما ترَكَهم وإياه شَهَروا عليه السَّلاحَ، فقال لهم: ويلَكم أنا الخليفةُ, فضربه أحدُهم بسَيفِه على عاتقِه فسقط إلى الأرضِ، وذبَحَه آخَرُ وتركوا جُثَّتَه، وأخذت المغاربةُ رأس المقتَدِر على خشبةٍ قد رفعوها وهم يلعَنونه، فلما انتهوا به إلى مؤنسٍ- ولم يكن حاضرًا الوقعة- فحين نظر إليه لطم رأسَ نَفسِه ووجهَه وقال: ويلَكُم، واللهِ لم آمُرْكم بهذا، لعَنَكم الله، والله لنُقتَلَنَّ كُلُّنا، ثم ركب ووقف عند دارِ الخلافة حتى لا تُنهَب، وهرب عبدُ الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فِعْلُ مؤنسٍ هذا سببًا لطَمَعِ مُلوكِ الأطراف في الخُلَفاء، وضَعْفِ أمرِ الخلافةِ جِدًّا، مع ما كان المقتَدِر يعتمِدُه في التبذير والتَّفريط في الأموال، وطاعةِ النِّساءِ، وعزل الوُزراء، فلمَّا قُتِلَ المقتدر بالله عزَمَ مؤنِسٌ على تولية أبي العبَّاسِ بنِ المقتدر بعد أبيه ليُطَيِّبَ قلبَ أم المقتدر، فعدل عن ذلك جمهورُ من حضر من الأمراءِ، فقال أبو يعقوب إسحاقُ بنُ إسماعيل النوبختي بعد التَّعَبِ والنكد نبايعُ لخليفةٍ صبيٍّ له أمٌّ وخالاتٌ يُطيعُهن ويشاوِرُهنَّ؟ ثم أحضروا محمَّدَ بنَ المعتضد- وهو أخو المقتدر- فبايعه القُضاةُ والأُمراء والوُزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحَرِ يوم الخميس لليلتينِ بقيتا من شوال منها.
اشتَدَّ الغَلاءُ بديارِ مِصرَ حتى بِيعَ الدَّقيقُ رِطلًا بدِرهمٍ، واللَّحمُ أربعَ أواقٍ بدِرهَمٍ، ومات كثيرٌ مِن النَّاسِ بالجوعِ، وبلَغَت عِدَّةُ مَن مات في مُدَّةِ رَمَضانَ وشَوَّال وذي القَعدة، مِئَتي ألفٍ وسبعين ألفًا سوى الغُرَباءِ، وهم أكثَرُ مِن ذلك.
قِيلَ لِزيدِ بنِ أَرقمَ: " كم غَزا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن غَزوةٍ؟ قال: تِسعَ عشرةَ. قِيلَ: كم غَزوتَ أنت معه؟ قال: سبعَ عشرةَ. قِيلَ: فأَيُّهم كانت أوَّلَ؟ قال: الْعُسَيْرَةُ، أَوِ الْعُشَيْرُ.
وقعت غَزوةُ العُشَيْرَةِ قبلَ وَقعةِ بدرٍ، سَلَكَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على نَقْبِ بني دِينارٍ، ثمَّ على فَيْفاءِ الخَبارِ فنزل تحت شجرةٍ ببَطْحاءَ ابنِ أَزهرَ يُقالُ لها: ذاتُ السَّاقِ. فصَلَّى عندها... وصُنِعَ له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل النَّاسُ معه... واسْتُقِيَ له مِن ماءٍ به يُقالُ له: المُشْتَرِبُ، ثمَّ ارْتَحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائقَ بيَسارهِ وسلك شُعبةً يُقالُ لها: شُعبةُ عبدِ الله... ثمَّ صَبَّ لليَسارِ حتَّى هبَط يَلْيَلَ فنزل بِمُجتَمعِه ومُجتمعِ الضَّبُوعَةِ، واسْتَقى مِن بئرٍ بالضَّبُوعَةِ، ثمَّ سلك الفَرْشَ فَرْشَ مَلَلٍ حتَّى لَقِيَ الطَّريقَ بصحيرات بِصُخَيْراتِ اليَمامِ، ثمَّ اعتدل به الطَّريقُ حتَّى نزل العُشَيْرَةَ مِن بطنِ يَنْبُعَ فأقام بها جُمادى الأُولى ولياليَ مِن جُمادى الآخرةِ، وادَع فيها بني مُدْلِجٍ وحُلفاءَهُم مِن بني ضَمْرَةَ ثمَّ رجع إلى المدينةِ ولمْ يَلْقَ كَيْدًا.
نَهَبَ العَربُ البَصرةَ نَهْبًا قَبيحًا، وسَببُ ذلك أنَّه وَرَدَ إلى بغداد، في بَعضِ السِّنين، رَجلٌ أَشقرُ مِن سَوادِ النِّيلِ يَدَّعِي الأَدبَ، والنَّظَرَ في النُّجومِ، ويَستَجرِي الناسَ، فلَقَّبَهُ أَهلُ بغداد تليا –أي التابع-، وكان نازلًا في بَعضِ الخاناتِ، فسَرَقَ ثِيابًا من الدِّيباجِ وغَيرِه، وأَخفَاها في خلفا، وسار بهم، فرَآها الذين يَحفَظون الطَّريقَ، فمَنَعوهُ من السَّفَر اتِّهامًا له، وحَمَلوهُ إلى المُقَدَّم عليهم، فأَطلَقَه لِحُرمَةِ العِلْمِ، فسار إلى أَميرٍ من أُمراءِ العَربِ مِن بَنِي عامرٍ، وبِلادُه مُتاخِمَة الأَحساء، وقال له: أنت تَملِك الأرضَ، وقد فَعلَ أَجدادُك بالحاج كذا وكذا، وأَفعالُهم مَشهورَةٌ، مَذكورَةٌ في التَّواريخِ، وحَسَّنَ له نَهْبَ البَصرَةِ وأَخْذَها، فجَمعَ مِن العَربِ ما يَزيدُ على عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، وقَصدَ البَصرَةَ، وبها العَميدُ عصمة، وليس معه من الجُنْدِ إلا اليَسيرُ، لِكَوْنِ الدنيا آمِنَةً مِن ذاعِرٍ، ولأنَّ الناسَ في جِنَّةٍ مِن هَيبَةِ السُّلطانِ، فخَرجَ إليهم في أَصحابِه، وحارَبَهم، ولم يُمَكِّنهُم من دُخولِ البَلدِ، فأَتاهُ مَن أَخبَرهُ أنَّ أَهلَ البَلَدِ يُريدونَ أن يُسلِّموهُ إلى العَرَبِ، فخاف، ففارَقَهم، وقَصدَ الجَزيرةَ التي هي مكانُ القَلعةِ بنَهرِ معقل، فلمَّا عاد أَهلُ البَلدِ بذلك فارَقوا دِيارَهم وانصَرَفوا، ودَخلَ العَربُ حينئذٍ البَصرَةَ، وقد قَوِيَت نُفوسُهم، ونَهَبوا ما فيها نَهْبًا شَنيعًا، فكانوا يَنهَبون نَهارًا، وأَصحابُ العَميدِ عصمة يَنهَبون لَيلًا، وأَحرَقوا مَواضِعَ عِدَّةً، وفي جُملَةِ ما أَحرَقوا دارانِ للكُتُبِ إحداهما وُقِفَت قبلَ أيامِ عَضُدِ الدولةِ بن بويه، وهي أَوَّلُ دارٍ وُقِفَت في الإسلامِ. والأُخرى وَقَفَها الوَزيرُ أبو مَنصورِ بن شاه مردان، وكان بها نَفائِسُ الكُتُبِ وأَعيانُها، وأَحرَقوا أيضًا النَّحَّاسِينَ وغَيرَها من الأماكنِ، وخُرِّبَت وُقوفُ البَصرَةِ التي لم يكُن لها نَظيرٌ، وكان فِعْلُ العَربِ بالبَصرَةِ أَوَّلَ خَرْقٍ جَرَى في أيامِ السُّلطانِ ملكشاه. فلمَّا فَعَلوا ذلك، وبَلغَ الخَبرُ إلى بغداد، انحَدرَ سَعدُ الدولةِ كوهرائين، وسَيفُ الدولةِ صَدقةُ بن مزيد إلى البَصرَةِ لإصلاحِ أُمورِها، فوَجَدوا العَربَ قد فارَقوها، ثم إن تليا أُخِذَ بالبَحرَينِ، وأُرسِلَ إلى السُّلطانِ، فشَهَرَهُ ببغداد سَنةَ أربع وثمانين وأربعمائة على جَمَلٍ، وعلى رَأسِه طرطور، وهو يُصفَع بالدِّرَّةِ، والناسُ يَشتُمونَه، ويَسُبُّهم، ثم أُمِرَ به فصُلِبَ.
عَمِلَ البرنسُ صاحب الكرك أسطولًا، وفَرَغ منه بالكرك، ولم يبقَ إلَّا جمعٌ قطَعَه بعضُها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيلة، وجمعها في أسرع وقت، وفرغَ منها وشحَنَها بالمقاتِلة وسَيَّرَها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقةٌ أقامت على حِصنِ أيلة وهو للمسلمينَ يَحصُرونه، ويمنَعُ أهلَه من ورود الماء، فنال أهله شدةٌ شديدة وضِيقٌ عظيم؛ وأما الفرقةُ الثانية فإنَّهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكبِ الإسلامية ومَن فيها من التجَّار، وبغتوا الناسَ في بلادهم على حين غفلةٍ منهم؛ فإنهم لم يعهدوا بهذا البحرِ فرنجيًّا قطُّ لا تاجرًا ولا محاربًا، وكان بمصرَ الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوبُ عن أخيه صلاح الدين، فعمرَ أسطولًا وسيَّرَه، وفيه جمعٌ كثير من المسلمين، ومُقَدَّمُهم الحاجب حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، فسار لؤلؤ مجِدًّا في طلبهم، فابتدأ بالذين على أيلة فقاتلهم، فقتل بعضَهم، وأسر الباقيَ، وسار من وقته بعد الظَّفَر يقُصّ أثَرَ الذين قصدوا عيذاب، فلم يَرَهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لَقُوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى؛ ليفعلوا كما فعلوا فيه، وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، فأدركهم بساحلِ الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطبَ وشاهدوا الهلاكَ خرجوا إلى البَرِّ، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤٌ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشدَّ قِتالٍ، فظَفِرَ بهم وقَتَل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضَهم إلى مِنًى ليُنحِروا بها عقوبةً لِمن رام إخافةَ حَرَمِ الله تعالى وحَرَمِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقُتِلوا جميعُهم.
هو أبو سَعيدٍ جقر بنُ يعقوبَ الهَمَذانيُّ الملَقَّبُ نصير الدين، كان نائِبَ عمادِ الدين زنكي صاحِبِ الجزيرةِ الفُراتيَّة والمَوصِل والشَّام، استنابه عنه بالمَوصِل، وكان جَبَّارًا عَسُوفًا سَفَّاكًا للدَّماءِ مُستَحِلًّا للأموالِ، كان المَلِكُ فروخشاه بن السُّلطانِ مَحمود السلجوقي المعروف بالخفاجي يطمَعُ في السَّلطَنةِ بعد السُّلطانِ مَسعود, وكان فروخشاه بالموصِل هذه السَّنةَ ونَصيرُ الدين جقر يَنزِلُ إليه كُلَّ يَومٍ يَخدمُه ويَقِفُ عنده ساعةً ثمَّ يعودُ, وكان جقر يعارِضُه ويُعانِدُه في مقاصِدِه، فحَسَّنَ المُفسِدونَ للمَلِك فروخشاه قَتْلَه وقالوا له إنَّك إنْ قَتَلْتَه مَلَكْتَ المَوصِلَ وغَيرَها ويَعجِزُ أتابك أن يقيمَ بين يديك ولا يَجتَمِع معه فارسانِ عليك، فوقع هذا في نفسِه وظَنَّه صَحيحًا، فلمَّا دخل نصير الدين إليه على عادَتِه وثَبَ عليه جماعةٌ مِن غِلمانِه فقَتَلوه وألقَوا رأسَه إلى أصحابِه؛ ظَنًّا منهم أنَّ أصحابَه إذا رأَوْا رأسَه تفَرَّقوا ويَملِكُ الملك فروخشاه البلادَ, وكان الأمرُ بخِلافِ ما ظَنُّوا؛ فإنَّ أصحابَه وأصحابَ أتابك زنكي الذين معه لَمَّا رأوا رأسَه قاتَلُوا مَن بالدَّارِ مع المَلِك، واجتمَعَ معهم الخَلقُ الكثيرُ، وكانت دولةُ أتابك مملوءةً بالرِّجالِ الأجلادِ ذَوي الرَّأي والتَّجربةِ، فلم يتغيَّرْ عليه بهذا الفَتقِ شَيءٌ, وكان في جُملةِ مَن حضر القاضي تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري أخو كمالِ الدِّين، فدخَلَ إلى المَلِك فروخشاه وخَدَعَه حتى أصعَدَه إلى القَلعةِ وهو يُحسِّنُ له الصُّعودَ إليها وحينئذٍ يستَقِرُّ له مِلكُ البَلدِ، فلمَّا صَعِدَ القلعةَ سَجَنوه بها وقُتِلَ الغِلمانُ الذين قَتَلوا النصير وأرسَلوا إلى أتابك يُعَرِّفونَه الحالَ، فسَكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلْبَه وأرسل زينُ الدين على بن بكتكين واليًا على قلعةِ المَوصِل، وكان كثيرَ الثقةِ به والاعتمادِ عليه، فسَلَكَ بالنَّاسِ غَيرَ الطَّريقِ التي سلَكَها النصير، وسَهَّلَ الأمرَ، فاطمأنَّ النَّاسَ وأَمِنوا وازدادت البلادُ معه عمارةً.
الشيخ الصالحُ محمد بن منصور بن يحيى الشيخ أبي القاسم القباري الإسكندراني كان مقيمًا بغيط له يقتاتُ منه ويعمَلُ فيه ويبذره، ويتورَّعُ جدًّا ويُطعِمُ الناس من ثماره. توفي في سادس شعبان بالإسكندرية وله خمس وسبعون سنة، وكان يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر ويردَعُ الولاة عن الظلمِ فيَسمَعون منه ويطيعونَه لزهده، وإذا جاء الناسُ إلى زيارته إنما يكَلِّمُهم من طاقة المنزل وهم راضونَ منه بذلك، ولما توفي ترك من الأثاث ما يساوي خمسين درهمًا فبيع بمبلغ عشرين ألفًا.
قام ألفونسو بن فريناند ملك قشتالة بالاستيلاء على حصن أراغونة وعدة حصون أخرى وحاصر غرناطة، فقام ابن الأحمر أبو عبد الله محمد بن نصر بمهادنته بعد أن أيقَنَ أنَّه لا قِبَلَ له به وبمنازلتِه، ففَكَّ الحصار عن غرناطة بصلحٍ بينهما يقضي فيه أن يبقى ابن الأحمر حاكمًا على غرناطة، لكن باسم ملك قشتالة وتحت ظله، ويؤدي جزيةً سنوية ويُعينه على أعدائه وقت يريدُ، وأن يشهَدَ معه اجتماعَ مجلس قشتالة الكورتيس باعتباره بهذا العقد أميرًا من أمراء الملك التابعين له، ثمَّ سَلَّمه جيان وأراغونة وقلعة جابر وأبرم الصلح لمدة عشرين سنةً.