في ليلةِ الجُمُعةِ مُستهَلَّ رَمَضانَ احترق المسجدُ النبوي بالمدينةِ- على ساكِنِه أفضَلُ الصلاة والسلام، ابتدأ حريقُه من زاويتِه الغربيَّة من الشمال، وكان دخل أحدُ القومةِ إلى خزانةٍ ومعه نار فعَلِقَت في الأبوابِ ثم اتصلت بالسَّقفِ بسُرعةٍ، ثم دبَّت في السقوف، وأخذت قبلةً فأعجلت النَّاسَ عن قطعها، فما كان إلا ساعةٌ حتى احترقت سقوفُ المسجِدِ أجمع، ووقعت بعض أساطينِه وذاب رصاصُها، وكلُّ ذلك قبل أن ينامَ النَّاسُ، واحترق سقف الحُجرةِ النبويَّة ووقع ما وقع منه في الحُجرة، وقد خرَّب الحريقُ المسجِدَ، ولم يُفلِتْ منه إلاَّ قبَّةُ الناصر لدين الله التي كانت في رحبتِه، وبقي على حالِه حتى شرع في عمارةِ سَقفِه وسَقفِ المسجِدِ النبوي، وأصبح الناسُ فعزلوا موضعًا للصلاة، وعُدَّ ما وقع من تلك النَّار ِالخارجة وحريقِ المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منُذِرةً بما يعقُبُها في السنة الآتية من الكائناتِ، وحين بلغ المستعصِمَ العباسيَّ الخبَرُ أرسل الصنَّاعَ والآلاتِ في موسم الحج، وبدأ العمل عام 655هـ. وقد حدثت في هذا العامِ أحداثُ التتار وحروبهم، ولكِنَّ عمل البناءِ لم يتوقَّفْ؛ إذ اشترك فيه الملك المظفَّر ملك اليمن، وملك مصر نور الدين علي بن المعز الصالحي، وإن كانت العمارةُ لم تنتهِ إلا في عهد الملك الظاهر بيبرس.
هو أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ يزيدَ بنِ كثير بن غالب الطَّبَري، صاحبُ التَّفسيرِ الكبيرِ, والتاريخِ الشَّهيرِ، كان إمامًا في فنون كثيرةٍ، منها: التفسير والحديث، والفقه والتاريخ، وغير ذلك، وله مُصنَّفات مَليحة في فنونٍ عديدة تدلُّ على سَعةِ عِلمِه وغزارةِ فَضلِه، وكان من الأئمَّة المجتَهِدين، لم يقَلِّدْ أحدًا مِن المجتَهِدين. مولِدُه سنة 224 بآمل طبرستان. أكثَرَ مِن التَّرحالِ، ولقي نُبلاءَ الرِّجالِ، وكان من أفراد الدَّهرِ عِلمًا وذكاءً وكثرةَ تصانيفَ، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه. قال الذهبي: "كان ثقةً صادِقًا حافِظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماعِ والاختلاف، علَّامةً في التاريخِ وأيَّامِ النَّاسِ، عارِفًا بالقراءات وباللُّغة، وغير ذلك" قال أبو بكرٍ الخطيبُ: "كان أحدَ أئمَّةِ العُلَماءِ، يُحكَمُ بقَولِه، ويُرجَعُ إلى رأيِه؛ لِمَعرفتِه وفَضلِه، وكان قد جمعَ مِن العلوم ما لم يشارِكْه فيه أحدٌ مِن أهل عصره، وكان حافِظًا لكتابِ الله، عارفًا بالقراءاتِ، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكامِ القرآن، عالِمًا بالسُّنَن وطُرُقِها؛ صحيحِها وسَقيمِها، ناسِخِها ومَنسوخِها، عارفًا بأقاويلِ الصَّحابةِ والتابعين ومَن بعدَهم في الأحكامِ ومسائل الحلالِ والحرام، خبيرًا بأيَّامِ الناس وأخبارِهم، وله الكتابُ المشهور في تاريخِ الأُمَم والملوك، والكتابُ الذي في التفسيرِ لم يصنَّفْ مِثلُه، وله في أصولِ الفِقهِ وفُروعِه كتبٌ كثيرةٌ، وأخبارٌ مِن أقاويل الفقهاء، وتفرَّد بمسائل حُفِظَت عنه"، كان من العبادةِ والزَّهادةِ والوَرَع والقيامِ في الحَقِّ لا تأخذُه في ذلك لومةُ لائم، وكان حسَنَ الصَّوتِ بالقراءة مع المعرفةِ التَّامَّة بالقراءات على أحسَنِ الصِّفات، وكان من كبارِ الصَّالحينَ، يتعَفَّفُ عن قَبولِ أموال السلاطين والوزراء، وكان صاحِبَ هِمَّة عالية في الكتابةِ, قال الخطيب: "سمعتُ عليَّ بنَ عبيد الله اللُّغوي يحكي أنَّ محمَّدَ بنَ جرير مكث أربعينَ سَنةً يكتبُ في كلِّ يومٍ منها أربعينَ ورقةً". قال أبو محمد الفرغاني: " تمَّ مِن كتُبِ مُحمَّد بن جريرٍ كتابُ "التفسير" الذي لو ادَّعى عالمٌ أن يُصنِّفَ منه عشرةَ كُتُب، كلُّ كتابٍ منها يحتوي على عِلمٍ مُفَردٍ مُستقصًى، لفَعَلَ". وتمَّ مِن كُتُبِه كتاب "التاريخ" إلى عصرِه، وكتاب "تاريخ الرجال" من الصحابة والتابعين، وإلى شيوخه الذين لقِيَهم، وكتاب "لطيفُ القول في أحكام شرائع الإسلام" وهو مذهبه الذي اختاره وجَوَّده واحتَجَّ له، وهو ثلاثة وثمانون كتابًا، وكتاب "القراءات والتنزيل والعدد"، وكتاب "اختلاف علماء الأمصار"، وكتاب "الخفيف في أحكام شرائع الإسلام" وهو مختصر لطيف، وكتاب "التبصير" وهو رسالةٌ إلى أهل طبرستان، يشرحُ فيها ما تقَلَّده من أصول الدين، وابتدأ بتصنيف كتاب "تهذيب الآثار" وهو من عجائِبِ كُتُبِه، ابتداءً بما أسنده الصِّدِّيقُ ممَّا صَحَّ عنده سنَدُه، وتكلَّمَ على كلِّ حديثٍ منه بعِلَلِه وطُرُقِه، ثمَّ فِقهِه، واختلافِ العُلَماءِ وحُجَجِهم، وما فيه من المعاني والغريبِ، والردِّ على المُلحِدينَ، فتَمَّ منه مُسنَدُ العَشَرةِ وأهلِ البيت والموالي، وبعضُ "مسند ابن عبَّاس"، فمات قبل تمامِه".وهو أحدُ المحَدِّثين الذي اجتَمَعوا في مصرَ في أيام ابنِ طولون، وهم محمَّد بنُ إسحاقَ بنِ خُزيمة إمامُ الأئمَّة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمَّد بن هارون الروياني، ومحمد بن جريرٍ الطَّبري هذا. توفِّيَ ببغداد ودُفِنَ ليلًا بداره؛ لأنَّ العامَّة اجتمعت ومَنَعَت من دفنِه نهارًا، وادَّعوا عليه الرَّفضَ، ثمَّ ادَّعوا عليه الإلحادَ، وكان عليٌّ بن عيسى يقول: واللهِ لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرَّفضِ والإلحادِ ما عَرَفوه، ولا فَهِموه"، وحُوشِيَ ذلك الإمامُ عن مثلِ هذه الأشياءِ، وأمَّا ما ذكره عن تعصُّبِ العامَّة، فليس الأمرُ كذلك، وإنَّما بعض الحنابلةِ تعصَّبوا عليه، ووقَعُوا فيه، فتَبِعَهم غيرُهم؛ ولذلك سبَبٌ، وهو أنَّ الطبريَّ جمع كتابًا ذكر فيه اختلافَ الفُقَهاءِ، لم يُصنَّفْ مِثلُه، ولم يَذكُرْ فيه أحمدَ بنَ حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكُنْ فقيهًا، وإنَّما كان محدِّثًا، فاشتدَّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحصَونَ كثرةً ببغداد، فشَغَّبوا عليه- رحمه الله رحمةً واسعة.
هو الإمام العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن أدهم بن منصور التميمي البلْخي ويقال له العجلي. أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد. كانت له همة عالية في ذلك. أصله من بلْخ، ولد سنة 99،كان من الأشراف وكان أبوه كثيرَ المال والخَدَم, ثم ترَكَ ابنُ أدهم الدُّنيا وأقبل على آخِرتِه، سكن الشام وروى الحديثَ، قال النسائي: "إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد". اشتهر بالزُّهد والورع، فلا يُذكَرُ الزُّهدُ إلَّا ويُذكَرُ إبراهيمُ، كان لا يأكُلُ إلَّا مِن عمَلِ يديه، وقِصَصُه في الزهدِ مَشهورةٌ جدًّا. عن سفيان الثوري قال: لو كان إبراهيم بن أدهم في الصحابة لكان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه, وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل. قال ابن أدهم: الزهد ثلاثة، واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب، والزهد عن الشبهات سلامة. وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.
هو الفُضيلُ بنُ عِياضِ بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني، المجاوِرُ بحرم الله، وُلِدَ بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وارتحلَ في طلَبِ العلم؛ قال الفضل بن موسى: كان الفضيلُ بنُ عياض شاطِرًا يقطَعُ الطَّريقَ بين أبيورد وسرخس، وكان سبَبُ توبته أنَّه عَشِقَ جارية، فبينا هو يرتقي الجُدران إليها، إذ سَمِعَ تاليًا يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} [الحديد: 16] فلمَّا سَمِعَها، قال: بلى يا رَبِّ، قد آن، فرجع، فآواه الليلُ إلى خربةٍ، فإذا فيها سابلةٌ، فقال بعضُهم: نرحَلُ، وقال بعضهم: حتى نُصبحَ؛ فإنَّ فُضَيلًا على الطريق يقطَعُ علينا، قال: ففَكَّرتُ، وقلتُ: أنا أسعى باللَّيلِ في المعاصي، وقومٌ مِن المسلمينَ هاهنا، يخافونني، وما أرى اللهُ ساقني إليهم إلَّا لأرتَدِعَ، اللهمَّ إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورةَ البيتِ الحرامِ. وقال ابن المبارك: ما بقِيَ على ظهرِ الأرضِ عندي أفضَلُ من الفُضَيل بن عِياضٍ، وقيل: مات- رحمه الله- في ست وثمانين ومئة. قال الذهبيُّ: وله نيِّفٌ وثمانون سنة، وهو حُجَّةٌ كبيرُ القَدرِ.
هو أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ داود بن عليِّ بن خلف الأصبهانيُّ المعروفُ بالظاهريِّ. ابنُ الإمامِ داودَ بنِ عليٍّ الظاهري, كان عالِمًا بارعًا, إمامًا في الحديث, أديبًا شاعِرًا ظريفًا، فقيهًا ماهرًا، اشتغل على أبيه وتَبِعَه في مذهبه ومَسلَكِه وما اختاره من الطرائِقِ وارتضاه، وكان أبوه يحبُّه ويقَرِّبُه ويُدنيه. كان أحدَ من يُضرَبُ المثَلُ بذكائه. تصَدَّرَ للفُتيا بعد والده، لَمَّا جلس للفتوى بعد والِدِه استصغروه، فدَسُّوا عليه من سأله عن حَدِّ السُّكرِ، ومتى يعَدُّ الإنسانُ سَكرانَ؟ فقال: إذا عَزَبَت- يعني: بعُدت وغابت- عنه الهُمومُ، وباح بسِرِّه المكتومِ، فاستُحسِنَ ذلك منه. كان مِن أجمل النَّاسِ وأكرَمِهم خلقًا، وأبلَغِهم لسانًا، وأنظَفِهم هيئةً، مع الدِّينِ والورَع، وكلِّ خَلَّةٍ محمودةٍ، مُحَبَّبًا إلى الناس. حَفِظَ القرآنَ وله سبعُ سنين، وذاكَرَ الرِّجالَ بالآدابِ والشِّعرِ وله عشرُ سنين، وكان يُشاهَدُ في مَجلِسِه أربعُمئة صاحبِ مِحبَرةٍ، وله من التآليفِ: كتابُ الزهرة، صنَّفه في عنفوان شبابِه، وهو مجموعٌ في الأدبِ، جمعَ فيه غرائبَ ونوادِرَ وشِعرٍ رائق، كتابُ (الإنذار والإعذار)، وكتاب (التقصِّي) في الفقه، وكتاب (الإيجاز) ولم يَتِمَّ، وكتاب (الانتصارُ من محمَّد بن جريرٍ الطَّبَري)، وكتاب (الوصولُ إلى معرفة الأصول)، وكتاب (اختلافُ مصاحف الصحابة)، وكتاب (الفرائض) وكتاب (المناسِك).
سارَ السُّلطانُ ملكشاه في إثْرِ يعقوبَ لِقَتلِه مُقدِّمَ الجَكليَّة, والذي دَخلَ إلى أَخيهِ بكاشغر مُستجِيرًا به، فسَمِعَ السُّلطانُ بذلك، فأَرسلَ إلى مَلِكِ كاشغر يَتوعَّدُه، إن لم يُرسِلهُ إليه، أن يَقصِد بِلادَه، ويَصيرُ هو العَدُوَّ، فخافَ أن يَمنَع السُّلطانَ، فأَدَّاهُ اجتِهادُه إلى أن قَبَضَ على أَخيهِ يعقوبَ، وأَظهرَ أنه كان في طَلَبِه، فظَفَرَ به، وسَيَّرَهُ مع وَلَدِه، وجَماعةٍ من أَصحابِه، وكَّلَهم بيعقوب، وأَرسلَ معهم هَدايا كَثيرةً للسُّلطانِ، وأَمَرَ وَلدَه أنه إذا وَصلَ إلى قَلعةٍ بقُربِ السُّلطانِ أن يَسْمُلَ يعقوبَ ويَتركهُ، فإن رَضِيَ السُّلطانُ بذلك، وإلَّا سَلَّمَه إليه، فحَدثَ أن طغرل بن ينال استَولى على كاشغر وأَخَذَ صاحبَها أخا يعقوب, فأَطلَقوا يعقوبَ، فلمَّا رأى السُّلطانُ ذلك ورأى طَمَعَ طغرل بن ينال، ومَسيرَه إلى كاشغر، وقَبْضَ صاحِبِها، ومِلْكِه لها مع قُرْبِه منه، خاف أن يَنحَلَّ بَعضُ أَمرِه وتَزولَ هَيبتُه، وعَلِمَ أنه متى قَصدَ طغرل سار من بين يَديهِ، فإن عادَ عنه رَجعَ إلى بِلادِه، وكذلك يعقوب أخو صاحِبِ كاشغر، وأنه لا يُمكِنُه المَقامُ لِسِعَةِ البِلادِ وراءَهُ وخَوْفِ الموتِ بها، فوَضعَ تاجَ المُلْكِ على أن يَسعَى في إصلاحِ أَمرِ يعقوب معه، ففَعلَ ما أَمرَهُ به السُّلطانُ، فاتَّفَقَ هو ويعقوبُ، وعاد إلى خراسان، وجَعلَ يعقوبَ مُقابِلَ طغرل يَمنعُه من القُوَّةِ، ومِلْكِ البلادِ، وكلٌّ منهما يقوم في وَجهِ الآخرِ.
اشتَدَّ الغلاءُ بإفريقيَّةَ مِن سنة 537 إلى سنة اثنتين وأربعين حتى أكَلَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، وخَلَت القرى، ولحِقَ كثيرٌ مِن النَّاسِ بجزيرة صقلية، فاغتنمَ رجار مُتمَلِّكُها الفُرصةَ وبعث جرج، مُقَدَّم أسطولِه، فنزل على المهديَّة ثامِنَ صفر سنة 542، وبها الحَسَنُ بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، ففَرَّ بأخَفِّ حِملِه وتَبِعَه الناس، فدخل جرج المهديَّةَ بغيرِ مانعٍ، واستولى على قَصرِ الأمير حَسَن، وأخذ منه ذخائِرَ نَفيسةً وحظايا بديعاتٍ، وعزم حَسَن على المجيءِ إلى مصر، فقَبَضَ عليه يحيى بن العزيز، صاحِبُ بجاية، ووكَلَ به وبأولادِه، وأنزله في بعضِ الجزائر، فبَقي حتى ملك عبدُ المؤمنِ بنُ علي بجاية سنة 547، فأحسنَ إلى الأمير حسن وأقَرَّه في خدمتِه، فلَمَّا مَلَك المهديَّةَ تقَدَّمَ إلى نائبه بها أن يقتديَ برأيِ حَسَن ويَرجِعَ إلى قوله، وكان عِدَّةُ مَن ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحَسَن تسعةَ ملوك، ومُدَّةُ ولايتهم 208 سنوات، من سنة 335 إلى سنة 543, وفيها بَعَثَ رجار بن رجار مَلِكُ جزيرة صقلية إلى المهديَّة أُسطولَه، مائتين وخمسين من الشواني، مع جرجي بن ميخائيل، فجَدَّ في حِصارِها حتى أخَذَها في صفر، ومَلَك سوسة وصفاقس، وملك رجار بونة.
في صفر حضر السلطان إلى دمشق وأمر باعتقال الأمير شيخ المحمودي نائبها ومعه الأمير يشبك الشعباني وحُبِسا بالقلعة، وأما الأمير جركس المصارع فهرب، ووكل بهما الأمير منطوق ولكنهما استطاعا أن يستميلاه، فهربوا جميعًا من القلعة، فأرسل وراءهم ولكن لم يُقتَل إلا منطوق، واستطاع يشبك وجركس وشيخ التغلُّبَ على حمص، ثم لما رحل السلطان عن دمشق وترك عليها الأمير بكتمر شلق، ثم لما كانت ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر طرق الأمير شيخ - ومعه يشبك وجركس المصارع- دمشق، ففرَّ من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولى وعزل، ونادى بالأمان، وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة، فورد الخبر في يوم الأربعاء الحادي عشر، بأن بكتمر شلق نزل بعلبك في نفر قليل، فسار يشبك وجركس في عسكر، فمضى بكتمر إلى جهة حمص، فوافاهم الأمير نوروز بجمع كبير على كروم بعلبك، فكانت بينهما وقعة قُتِل فيها يشبك وجركس المصارع في طائفة، وقبض نوروز على عدة ممن معهما، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ سار من دمشق على طريق جرود في ليلة الجمعة الثالث عشر، وهي الليلة التي تلي يوم الوقعة، ودخل نوروز دمشق يوم السبت الرابع عشر بغير ممانع.
خرج الأسوَدُ العَنْسيُّ -واسمُه عَبهلةُ بنُ كَعبِ بنِ غَوثٍ- في آخِرِ حياةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَبْعِمائةِ مقاتلٍ، فكَتَب إلى عمَّالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها المتمَرِّدون علينا، أمسِكوا علينا ما أخَذْتُم مِن أرضِنا، ووفِّروا ما جمعتُم؛ فنحن أَولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثمَّ توجَّه مع مقاتِلِيه إلى نجرانَ فأخَذَها، ثمَّ قَصَد صنعاءَ، فخرج إليه شَهرُ بنُ باذامَ فتقاتلا، فغَلَبه الأسوَدُ وقتَلَه وتزوَّج بامرأةِ شَهرِ بنِ باذامَ، وهي ابنةُ عَمِّ فيروز الدَّيلميِّ، واسمُه آزاذُ، وكانت مؤمنةً باللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن الصَّالحاتِ، واحتَلَّ العَنسيُّ صنعاءَ، فذهب معاذُ بنُ جبَلٍ وأبو موسى الأشعريِّ إلى حَضرَموتَ، وانحاز عُمَّالُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الطَّاهِرِ، ورجَعَ عُمَرُ بنُ حرامٍ وخالِدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ إلى المدينةِ، واستوثقَت اليمَنُ للأسودِ العَنسيِّ، وجَعَل أمرُه يستطيرُ استطارةَ الشَّرارةِ، واشتَدَّ مُلكُه، واستغلظ أمرُه، وارتَدَّ خَلقٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، وعامَله المسلمون الذين هناك بالتَّقِيَّةِ فبعث رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين بلغَه خَبَرُ الأسودِ العَنسيِّ كِتابَه مع قيسِ بنِ مكشوحٍ يأمرُ فيه المسلمين الذين هناك بمُقاتلةِ العَنْسيِّ ومُصاولتِه، فقام معاذُ بنُ جَبَلٍ بهذا الكتابِ أتمَّ قيامٍ، واتَّفَق معاذُ بنُ جبَلٍ ومَن التَفَّ حولَه مِن أهلِ اليَمَنِ، وقيسُ بنُ عبدِ يغوثَ أميرُ جندِ الأسوَدِ، وفَيروز الدَّيلميُّ؛ على الفتكِ بالأسوَدِ وقَتْلِه، وتعاقدوا عليه، فلمَّا كان الليلُ دَخَلوا عليه البيتَ؛ تقَدَّم إليه فيروز الدَّيلميُّ، وكان الأسوَدُ نائمًا على فراشٍ من حريرٍ، قد غَرِقَ رأسُه في جَسَدِه، وهو سَكْرانُ يَغطُّ، والمرأةُ جالسةٌ عنده، فعاجله وخالَطَه، وهو مِثلُ الجَمَلِ، فأخَذَ رأسَه، فدَقَّ عُنُقَه ووَضَع رُكبتَيه في ظَهْرِه حتى قَتَلَه، وجلس قيسٌ وداذويه وفيروز يأتمرونَ كيف يُعلِمونَ أشياعَهم، فاتَّفَقوا على أنَّه إذا كان الصَّباحُ ينادون بشِعارِهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلمَّا كان الصَّباحُ قام أحَدُهم -وهو قيس- على سُورِ الحِصنِ، فنادى بشِعارِهم، فاجتمع المسلِمون والكافِرون حول الحِصنِ، فنادى قيسٌ: أشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأنَّ عَبهلةَ كذَّابٌ، وألقى إليهم رأسَه، فانهزم أصحابُه، وتَبِعَهم النَّاسُ يأخُذونهم ويرصُدونهم في كلِّ طريقٍ يأسِرونَهم، وظهر الإسلامُ وأهلُه، وتراجَعَ نوَّابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أعمالِهم، واتَّفَقوا على معاذِ بنِ جَبَلٍ يصلِّي بالنَّاسِ، وكتبوا بالخَبَرِ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ ظهر إلى أن قُتِلَ ثلاثةُ أشهُرٍ أو أربعةُ أشهرٍ.
هو الأميرُ محمدُ ابنُ المَلِكِ فَيصلِ ابنِ الملِكِ عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ فَيصَلٍ آل سعودٍ، ولِدَ عامَ 1356هـ في مدينةِ الطائفِ، وهو الابنُ الثاني بعدَ الأميرِ الشاعرِ عَبد اللهِ الفَيصَلِ لنائبِ المَلِكِ على الحجازِ، الأميرِ فَيصَلِ بنِ عبدِ العزيزِ -آنَذاكَ-، والابنُ البِكرُ للأميرةِ عِفَّت الثَّنيان آل سعودٍ، التي قادت مشروعَ تعليمِ الفتاةِ السُّعوديةِ، وأنشأَتْ أولَ مَدارسَ للبناتِ، دار الحَنانِ، في الخمسينيَّاتِ الميلاديةِ، ثم حَرَصَتْ أنْ تَختِمَ حَياتَها بأوَّلِ جامِعةٍ أهليَّةٍ للبناتِ (جامِعةِ عفت). فقَدَ الأميرُ محمدٌ ذاكِرتَه قبلَ العاشرةِ من عُمرِه نتيجةً لإصابتِه بمَرضِ التيفوئيد، وكان شفاؤه منه أُعجوبةً لضَعفِ الإمكانيَّاتِ الطِّبيَّةِ في ذلك الحينِ، ثم استعادَ قُدرتَهُ على الكَلامِ والمَشيِ، وعاد إلى مدرسةِ الطائفِ النموذجيَّةِ التي أنشأتها والدتُه، وانتقَلَ بعدَها ليواصِلَ دراستَه الثانويَّةَ والجامعيَّةَ في الولاياتِ المُتَّحدةِ، ويتخرَّجَ في كليَّةِ مانيلو، سان فرانسيسكو، بشهادةِ بكالوريوس في الاقتصادِ والإدارةِ عامَ 1963. ثم التحَقَ بالبَعثةِ الدبلوماسيةِ السعوديةِ في الأمَمِ المتَّحدةِ، إضافةً إلى دَورِه في التواصُل مع إدارةِ الرئيسِ جون كنيدي. ثم عاد إلى المَملكةِ فعَمِلَ في مؤسسةِ النقدِ، ثم انتقلَ للعَمَلِ مع وزارةِ الزراعةِ؛ لتنفيذِ مَشروعِه الرائدِ "تَحليةِ مِياهِ البَحرِ"، بدَأَ بأوَّلِ مَحطَّةٍ في جُدَّةَ، في أوائلِ السَّبعينيَّاتِ، ثم بشبَكةِ مَحطَّاتٍ على شواطئِ البحرِ الأحمرِ والخَليجِ العربيِّ. ولكنَّه لم يَنجَحْ في تَمريرِ مَشروعِه الرائدِ لتوفيرِ المياهِ والكَهرباءِ وتَحسينِ البيئةِ عن طريقِ نَقلِ قِطَعٍ من جبالِ الجَليدِ من القطبِ الجنوبيِّ إلى شواطئِ البحرِ الأحمرِ، برَغمِ دراساتِ الجَدوى التي شاركَ فيها عُلَماءُ مشاهيرُ في التخصُّصاتِ كافَّةً ذاتِ الصِّلةِ، وتوصِياتِ مُؤتمَراتٍ دَوليَّةٍ مُتعدِّدةٍ، تَكفَّلَ وَحدَه بنَفَقاتِها. استقالَ الأميرُ في نِهايةِ السَّبعينيَّاتِ من وظيفتِه كأوَّل محافظٍ للمؤسَّسةِ العامَّةِ لتَحلِيةِ مِياهِ البَحرِ؛ ليَعملَ على تحقيقِ حُلْمٍ آخرَ هو البنوكُ الإسلاميةُ التِّجاريَّةُ، بعد مُشاركتِه في إنشاءِ البنكِ الإسلاميِّ للتنميةِ. واستطاعَ أنْ يُنشِئَ شَبَكةَ فُروعِ "بَنكِ فَيصَلٍ الإسلاميِّ" في مِصرَ والسودان والإماراتِ والبحرينِ وجنيف وباكستانَ وتركيا. وأسَّسَ وقادَ أوَّلَ اتِّحادٍ للبنوكِ الإسلاميةِ. ثم أنشَأَ "جائزةَ محمدٍ الفَيصَلِ لدراساتِ الاقتصادِ الإسلاميِّ"، وخُصِّصَت الجائزةُ للطلَّابِ في مراحلِ ما قبلَ الدكتوراه. وبعد وفاةِ والدِه الملكِ فَيصلِ بنِ عَبدِ العزيزِ شاركَ الأميرُ محمدٌ مع إخوانِه في تكريمِ والدِهم بإقامةِ مؤسَّسةِ الملكِ فَيصَلٍ الخَيريَّةِ، التي يَتبَعُها مركزُ الملكِ فيصلٍ للبُحوثِ والدراساتِ الإسلاميةِ، وجامعةُ الفيصَلِ، وجامعةُ عفت، وجائزةُ الملكِ فَيصلٍ. وكانت وفاتُه -رحِمَه الله- عن عمرٍ يُناهِزُ 80 عامًا، وصُلِّيَ عليه بعد صلاةِ العَصرِ في المسجِدِ الحرامِ بمكَّةَ.
اتَّفَق أحَدُ المِصريِّينَ مِن أصحابِ الحاكِمِ مع جماعةٍ مِن الحُجَّاجِ المصريِّينَ على أمرٍ سُوءٍ، وذلك أنَّه لَمَّا كان يومُ النَّفرِ الأوَّلِ، طاف هذا الرجُلُ بالبَيتِ، فلما انتهى إلى الحَجَرِ الأسودِ جاء ليُقَبِّلَه فضَرَبه بدبوسٍ كان معه ثلاثَ ضَرَباتٍ مُتَوالياتٍ، وقال: إلى متى نعبُدُ هذا الحجَرَ؟ ولا مُحمَّدٌ ولا عليٌّ يَمنَعُني ممَّا أفعله، فإنِّي أهدم اليومَ هذا البيتَ، وجعل يرتَعِدُ، فاتَّقاه أكثَرُ الحاضرينَ وتأخَّروا عنه؛ وذلك لأنَّه كان رجُلًا طُوالًا جَسيمًا، وعلى باب المسجِدِ الحَرامِ جَماعةٌ مِن الفُرسان وُقوفٌ لِيَمنعوه ممَّن يريدُ مَنْعَه من هذا الفِعلِ وأراده بسُوءٍ، فتقَدَّمَ إليه رجلٌ مِن أهلِ اليَمَنِ معه خِنجَرٌ فوَجَأَه به، وتكاثَرَ النَّاسُ عليه فقَتَلوه وقَطَّعوه قِطَعًا، وحَرَّقوه بالنَّارِ، وتَتَّبَعوا أصحابَه فقتلوا منهم جماعةً، ونَهَبَت أهلُ مَكَّةَ الرَّكبَ المصريَّ، وتعدَّى النَّهبُ إلى غيرهم، وجَرَت خبطةٌ عَظيمةٌ، وفِتنةٌ كبيرةٌ جِدًّا، ثم سكَنَ الحالُ بعد أن تُتُّبِعَ أولئك النَّفَرُ الذين تمالَؤوا على الإلحادِ في أشرَفِ البلادِ، غيرَ أنَّه قد سقط من الحَجَرِ ثلاثُ فِلَقٍ مِثل الأظفارِ، وبدا ما تحتَها أسمَرَ يَضرِبُ إلى صُفرةٍ، مُحَبَّبًا مثل الخَشخاشِ، فأخذ بنو شيبةَ تلك الفِلَقَ فعَجَنوها بالمِسْكِ وحَشَوا بها تلك الشُّقوقَ التي بَدَت، فاستمسَكَ الحَجَرُ.
هو الحُسين بن منصور بن محمى الحلَّاج أبو مغيث، ويقالُ أبو عبد الله، كان جَدُّه مَجوسيًّا اسمُه محمى من أهل فارس، ونشأ بواسط، ويقال بتُستر، ودخل بغداد وتردَّدَ إلى مكة وجاور بها في وسطِ المسجدِ في البَردِ والحَرِّ، مكث على ذلك سنواتٍ متفرقةً، وكان يصابِرُ نَفسَه ويُجاهدُها، وقد صَحِبَ جماعةً من سادات المشايخ الصوفيَّة، كالجُنَيد بن محمد، وعمرِو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري، قال الخطيبُ البغدادي: "والصوفيَّةُ مختَلِفون فيه، فأكثَرُهم نفى أن يكونَ الحلَّاج منهم، وأبى أن يَعُدَّه فيهم، وقَبِلَه مِن متقَدِّميهم أبو العبَّاس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصَحَّحوا له حالَه، ودوَّنوا كلامَه، حتى قال ابن خفيف: الحُسين بن منصور عالمٌ ربَّاني، وقال الخطيب: والذين نَفَوه من الصوفية نسبوه إلى الشَّعبذة في فِعلِه، وإلى الزَّندقة في عقيدتِه، وله أصحابٌ يُنسَبون إليه، ويَغلُونَ فيه. وكان للحلاجِ حُسنُ عبارة، وحَلاوةُ منطقٍ، وشعرٌ على طريقةِ التصوُّفِ"، فأمَّا الفقهاء فحُكِيَ عن غيرِ واحدٍ من العلماء والأئمة إجماعُهم على قتلِه، وأنَّه قُتِل كافِرًا، وكان كافرًا مُمخرَقًا مُمَوِّهًا مشعبِذًا، وبهذا قال أكثَرُ الصوفيةِ فيه، وقال سفيان بن عيينة: "من فسَدَ مِن عُلَمائنا كان فيه شبَهٌ من اليهود، ومن فسدَ مِن عُبَّادِنا كان فيه شبَهٌ من النصارى، ولهذا دخلَ على الحلَّاجِ الحُلولُ والاتِّحادُ، فصار من أهل الانحلالِ والانحرافِ"، وقد روِيَ من وجهٍ أنَّه تقلَّبَت به الأحوالُ وترَدَّدَ إلى البلدان، وهو في ذلك كلِّه يُظهِرُ للناس أنَّه من الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وصحَّ أنَّه دخل إلى الهند وتعلَّمَ بها السحرَ، وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهلُ الهند يكاتِبونَه بالمُغيثِ- أي أنَّه مِن رجالِ المُغيث - ويكاتِبُه أهل تركستان بالمقيتِ، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزَّاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلَّاج الأسرار، ومما يدلُّ على أنه كان ذا حلولٍ في بدء أمره أشياءُ كثيرة، منها شعرُه في ذلك، فمن ذلك قولُه: "جبلت روحَك في روحي كما * يجبل العنبرُ بالمسك الفنق فإذا مسَّكَ شيءٌ مَسَّني * وإذا أنت أنا لا نفترق. وقوله: مُزِجَت روحُك في روحي كما * تُمزَجُ الخمرة بالماء الزلال، فإذا مسَّكَ شيءٌ مسَّني * فإذا أنت أنا في كلِّ حال"، وقد كان الحلاج يتلوَّنُ في ملابسِه، فتارةً يلبَسُ لباس الصوفية وتارة يتجَرَّدُ في ملابس زريَّة، وقد اتفق علماءُ بغداد على كُفرِ الحلَّاج وزندقتِه، وأجمعوا على قَتلِه وصَلبِه. حين أُحضِرَ الحَلَّاجُ في المرة الأولى سُئل عنه أبو بكر محمَّد بن داود الظاهريُّ- قبل وفاة- فقال: "إن كان ما أنزل اللهُ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا فما يقولُه الحلَّاجُ باطِلٌ" وكان شديدًا عليه، وقال أبو بكر الصولي: "قد رأيت الحلَّاجَ وخاطبتُه، فرأيته جاهلًا يتعاقلُ، وغبيًّا يتبالَغُ، وخبيثًا مُدَّعِيًا، وراغبًا يتزهَّدُ، وفاجِرًا يتعَبَّدُ"، قال الخطيب البغدادي وغيرُه في صفةِ مَقتَلِ الحَلَّاج: كان الحلَّاجُ قد قَدِمَ آخَرَ قَدْمةٍ إلى بغداد فصَحِبَ الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزيرُ إذ ذاك حامِدَ بن العباس، فبلغَه أنَّ الحلَّاجَ قد أضلَّ خَلقًا من الحَشَم والحُجَّاب في دار السلطان، ومِن غِلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملةِ ما ادَّعاه أنَّه يحيي الموتى، وأن الجِنَّ يخدُمونه ويُحضِرونَ له ما شاء ويختار ويشتهيه. وقال: إنَّه أحيا عدَّةً مِن الطيرِ"، وذُكِرَ لعلي بن عيسى أنَّ رجلًا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتِبُ يعبُدُ الحلَّاج ويدعو الناسَ إلى طاعتِه، فطلبه فكبَسَ منزِلَه فأخذه فأقَرَّ أنَّه من أصحاب الحلَّاج، ووجد في منزله أشياءَ بخَطِّ الحلَّاج مكتوبةً بماءِ الذهب في ورقِ الحريرِ مُجَلَّدة بأفخَرِ الجلود، ووجد عنده سفطًا فيه من رجيعِ الحلاجِ وعَذرتِه، وبولِه وأشياء من آثاره، وبقيَّة خبز من زاده، فطلب الوزيرُ من المقتدر أن يتكَلَّمَ في أمر الحلاج ففَوَّضَ أمرَه إليه، فاستدعى بجماعةٍ مِن أصحاب الحلَّاج فتهددهم فاعترفوا له أنَّه قد صح عندهم أنَّه إله مع الله، وأنَّه يحيي الموتى، وأنَّهم كاشَفُوا الحلاجَ بذلك ورَمَوه به في وجهِه، فجحَدَ ذلك وكذَّبهم وقال: "أعوذُ بالله أن أدَّعيَ الربوبيَّة أو النبوَّة، وإنما أنا رجلٌ أعبُدُ اللهَ وأكثرُ له الصوم والصلاة وفِعلَ الخير، لا أعرف غيرَ ذلك، وجعل لا يزيدُ على الشهادتين والتوحيدِ، ويكثر أن يقولَ: سبحانك لا إلهَ إلا أنت، عَمِلتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فاغفِرْ لي؛ إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، وكانت عليه مدرعةٌ سوداءُ، وفي رجليه ثلاثة عشر قيدًا، والمدرعة واصِلةٌ إلى ركبتيه، والقيودُ واصلةٌ إلى رُكبَتَيه أيضًا، وكان قبل احتياط الوزيرِ حامد بن العباس عليه في حُجرةٍ مِن دار نصر القشوري الحاجب، مأذونًا لِمَن يدخلُ إليه، وكان يسمِّي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمَّد بن أحمد الفارسي، وجُمِعَ له الفقهاء فأجمعوا على كُفرِه وزندقته، وأنه ساحِرٌ مُمخرقٌ، ورجع عنه رجلانِ صالحانِ ممَّن كان اتبَعَه، أحدُهما: أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخرُ يقال له الدبَّاس، فذكَرا من فضائحِه وما كان يدعو النَّاسَ إليه مِن الكَذِب والفُجورِ والمَخرَقة والسحر شيئًا كثيرًا، وكذلك أُحضِرَت زوجةُ ابنه سليمان فذكَرَت عنه فضائحَ كثيرة، من ذلك أنَّه أراد أن يغشاها وهي نائمةٌ فانتبهت، فقال: قومي إلى الصَّلاةِ؟ وإنما كان يريدُ أن يطأها، وأمَرَ ابنتها بالسجودِ له، فقالت: أوَيسجُدُ البشَرُ لبشرٍ؟ فقال: نعم، إلهٌ في السماء وإلهٌ في الأرض، ثمَّ أمرها أن تأخذَ مِن تحت باريَّة هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانيرَ كثيرةً مبدورة، ولما كان آخِرُ مجلسٍ مِن مجالسه أُحضِرَ القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيءَ بالحلَّاجِ، وقد أحضِرَ له كتابٌ مِن دورِ بعضِ أصحابِه، وفيه: من أراد الحجَّ ولم يتيسَّرْ له، فليبنِ في داره بيتًا لا ينالُه شيءٌ مِن النجاسة ولا يُمكِّن أحدًا من دخولِه، فإذا كان في أيَّامِ الحَجِّ، فليصم ثلاثةَ أيَّامٍ ولْيَطُفْ به كما يُطاف، فلما أخرجوه للصَّلبِ مشى إليه وهو يتبختَرُ في مشيته وفي رِجلَيه ثلاثةَ عشر قيدًا، وجعل ينشُدُ ويتمايل ثم قال: (يستعجِلُ بها الذين لا يؤمنونَ بها والذين آمنوا مشفِقونَ منها ويعلمون أنَّها الحقُّ) ثم لم ينطِقْ بعد ذلك حتى فُعِلَ به ما فُعِل، قالوا: ثم قُدِّمَ فضُرِبَ ألفَ سَوطٍ ثمَّ قطعت يداه ورِجلاه، وهو في ذلك كلِّه ساكتٌ ما نطق بكلمةٍ، ولم يتغيَّرْ لونُه، ويقال إنه جعل يقولُ مع كل سوطٍ: أحدٌ أحدٌ، ومنهم من قال: بل جَزِع عند القتلِ جَزعًا شديدًا وبكى بكاءً كثيرًا، فالله أعلم، قال أبو عمر بن حيويه: "لَمَّا أُخرِجَ الحُسَينُ بن منصور الحلَّاج ليُقتَل مَضَيتُ في جملة الناسِ، ولم أزل أزاحِمُ حتى رأيتُه فدنوت منه، فقال لأصحابه: لا يَهولنَّكم هذا الأمر، فإني عائدٌ اليكم بعد ثلاثينَ يومًا، ثم قُتِلَ فما عاد"، وذكر الخطيبُ أنَّه قال وهو يُضرَبُ لمحمَّد بن عبد الصمد والي الشُّرطة:: ادعُ بي إليك؛ فإن عندي نصيحةً تعدل فتحَ القُسطنطينية، فقال له: قد قيل لي إنَّك ستقولُ مثل هذا، وليس إلى رفعِ الضَّربِ عنك سبيل"، ثم قُطِعَت يداه ورجلاه وحُزَّ رأسُه وأُحرِقَت جُثَّتُه، وألقيَ رمادُها في دجلة، ونُصِبَ الرَّأسُ يومين ببغداد على الجسرِ، ثم حُمِلَ إلى خراسان وطِيفَ به في تلك النواحي، وجعل أصحابُه يَعِدون أنفُسَهم برجوعِه إليهم بعد ثلاثين يومًا، وزعم بعضُهم: "أنه رأى الحلَّاجَ مِن آخر ذلك اليوم وهو راكبٌ على حمارٍ في طريق النهروان، فقال: لعلَّك من هؤلاء النفَرِ الذين ظنُّوا أني أنا هو المضروبُ المقتولُ، إنِّي لستُ به، وإنَّما ألقِيَ شَبَهي على رجلٍ ففُعِلَ به ما رأيتَهم، وكانوا بجَهلِهم يقولون: إنَّما قتل عدوٌّ مِن أعداء الحلَّاج، فذُكِرَ هذا لبعض عُلَماء ذلك الزمان، فقال: إن كان هذا الرائي صادقًا، فقد تبدَّى له شيطانٌ على صورةِ الحَلَّاجِ؛ ليُضِلَّ الناسَ به، كما ضَلَّت فرقةُ النَّصارى بالمصلوبِ". ونودي ببغدادَ أنْ لا تُشتَرَى كتبُ الحلَّاج ولا تباع، وكان قتلُه يوم الثلاثاء لسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القَعدة من سنة تسعٍ وثلاثمائة ببغداد.
لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتَلَ مَن بها منهم، وملَكَها في العشرين من رجب بالسَّيفِ عَنوةً، ونَهَبها المسلمون، وغَنِموا ما فيها، وقتلوا الفرنجَ وأسَروا كثيرًا، وكان بها أكثَرُ ما أخذوه من عسكرِ مِصرَ والقفل -حِمل كبير- الذي كان معهم، وكان جماعةٌ من المماليك الصلاحيَّة قد وقفوا على أبوابِ مدينة يافا، وكلُّ مَن خرج من جند الفرنجِ ومعه شيء من الغنيمةِ أخذوه منه، فإن امتَنَع ضَرَبوه وأخذوا ما معه قهرًا، ثم زَحَفَت العساكر إلى قلعة يافا، فقاتلوا عليها آخِرَ النهار، وكادوا يأخُذونَها، فطلب مَن بالقلعة الأمان على أنفُسِهم، وخرج البطرك الكبيرُ الذي لهم، ومعه عِدَّةٌ من أكابر الفرنج، في ذلك، وترَدَّدوا، وكان قَصدُهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليلُ، وواعدوا المسلمينَ أن ينزلوا بكرةَ غَدٍ ويسَلِّموا القلعة، فلما أصبح الناسُ طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحِصنِ، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدةٌ مِن عكَّا، وأدركهم ملك الإنكليز، فأخرج مَن بيافا من المسلمين، وأتاه المدَدُ مِن عكا وبرز إلى ظاهِرِ المدينة، واعترض المسلمينَ وَحدَه، وحمل عليهم، فلم يتقَدَّم إليه أحد، وعاد عن الفرنجِ. ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتَمَعَت العساكر، وجاء إليه ابنُه الأفضل وأخوه العادل وعساكرُ الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظُرَ ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنجُ يافا ولم يبرَحوا منها.
جمالُ الدين أبو منصور حسن بن يوسف بن مُطَهَّر الحلي العراقي الشيعي المعتزلي، شيخُ الروافض بتلك النواحي وفقيهُهم، وله التصانيفُ الكثيرة، يقال تزيدُ على مائة وعشرين مجلدًا، وعِدَّتُها خمسةٌ وخمسون مصنَّفًا، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض، وغير ذلك من كبارٍ وصغار، وله كتابُ منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدرِ كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامةِ، وقد انتدب في الرَّدِّ عليه الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابنُ تيمية في كتابه منهاج السنَّة، أتى فيها بما يُبهِرُ العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وكان شيخُ الإسلام يسمِّيه ابن المُنَجَّس, وله كتابُ تبصرة المتعلمين في أحكام الدين، وله قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، وتهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول، وإرشاد الأذهان إلى أحكام القرآن، وتحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، وله خلاصة الأقوال في الرجال، وكشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين، وغيرها من الكتب في علم الكلام والعقائد، وُلِدَ ابن المطَهَّر الذي لم تُطهَّر خلائقُه ولم يتطَهَّر من دَنَسِ الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة 648، وتوفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغالُه ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولَمَّا تَرَفَّض الملك خربندا حَظِيَ عنده ابن المطَهَّر وساد جدًّا وأقطعه بلادًا كثيرة.
الملِكُ خالد بن عبد العزيز -رحمه الله- هو رابعُ مَن تولَّى ملِكَ المملكة العربية السُّعودية، بعْدَ أبيه الملِك عبد العزيز وأخوَيه سُعود وفَيصل، وقد تولَّى حُكمَ السُّعودية عقِب اغتيالِ أخيه فَيصل سنة 1395هـ - 1975م، وشهِدَ عهدُه ازدهارًا اقتصاديًّا كبيرًا للسُّعودية؛ بسَببِ ارتفاعِ أسعار النِّفط، وما صاحَب ذلك مِن انفتاحٍ على العالَم الخارجي بصورةٍ أكبرَ بكثيرٍ مِن السابق، وقد حاوَل الملِك خالدٌ الحدَّ من الآثار الجانبيةِ لهذا الانفتاحِ قدْر استطاعتِه؛ حيث دعا إلى السَّير ببُطْء في مَجال التصنيع؛ للحدِّ مِن تَنامي التدخُّل الأجنبي في البلاد، خاصةً وأن عددَ العمالةِ الأجنبية الغربيةَ قد تضاعَفَ خمْسَ مرَّات خلالَ سبعِ سنواتٍ. وقد وقعَتَ في عهْد الملِك خالدٍ حادثتانِ في غاية الخُطورة والأهمية؛ أولهما: الثَّورة الخُمينيةُ في إيرانَ، والتي أطاحت بالملَكِية هناك، وذلك سنةَ 1399هـ، والحادثةُ الثانيةُ: حادثة جُهميان العتيبيِّ، واقتحامه المسجدَ الحرامَ مع مُدَّعي المهْدِية محمد القحطاني، وذلك سنةَ 1400هـ. وكان الملِك خالدٌ يُعاني مِن مَرَضٍ بالقلْب، فما زال يَتزايد عليه المرضُ حتى مات رحمه الله في 21 شعبان 1402 هـ - 13 يونيه 1982م، أثناءَ استعدادِه لرحلة علاجٍ بالخارج، ثم بُويع الملِكُ فهدٌ مَلِكًا للمملكة العربية السُّعودية عقِبَ وفاة الملِك خالد بن عبد العزيزِ.