في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة، وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر، ربَّاه صغيرًا، ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته، فلما قام الملك الأشرف برسباي بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال نيابة صفد، وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة، فشَقَّ عليه ذلك، وأخذ في تدبيرِ أمره، واتَّفق مع جماعة على العصيان، وخرج عن الطاعة، وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد، وهم: الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار، ثم رأس نوبة النوب، والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب، والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدَّمي الألوف، وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها، ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمِرَّ إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد، ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال، ثم ورد على السلطان الأشرف كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي، ويشبك أنالي، وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان، وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال، فنزل إليه إينال بمن معه، بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة، فتسلم أعوان السلطان قلعةَ صفد في الحال، وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس، وكان قد وعد ذلك، لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقرَّ الأمر على أن يكون إينال من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أمانًا ونسخةَ يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيَّدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال، ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلَّقوهم بأعلاها.
هو السُّلطانُ الملك الأفضل علي بن يوسف بن أيوب بن شاذي. ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ولد يوم عيد الفطر سنة 565 بالقاهرة، وقيل: سنة ست وستين. وسمع من عبد الله بن بري النحوي، وأبي الطاهر إسماعيل بن عوف الزهري، وأجاز له جماعة. وله شِعر حسن، وترسُّل، وخط مليح. وكان أسنَّ إخوانه، وإليه كانت ولاية عهد أبيه. ولما مات أبوه، كان معه بدمشق، فاستقل بسلطنتها، واستقل أخوه الملك العزيز بمصر، وأخوهما الظاهر بحلب. ثم جرت للأفضل والعزيز فتن وحروب، ثم اتفق العزيز وعمه الملك العادل على الأفضل، وقصدا دمشق، وحاصراه، وأخذاها منه، فالتجأ إلى صرخد، وأقام بها قليلًا، فمات العزيز بمصر، وقام ولده المنصور محمد وهو صبي، فطلبوا له الملك الأفضل ليكون أتابكه، فقدم مصر، ومشى في ركاب الصبي. ثم إن العادل عَمِلَ على الأفضل، وقَدِمَ مصر وأخذها، ودفع إلى الأفضل ثلاثة مدائن بالشرق، فسار إليها، فلم يحصل له سوى سميساط، فأقام بها ولم يزَلْ بها إلى أن توفي بها، وكان خيرًا، وما أحسن ما قال القاضي الفاضل: "أمَّا هذا البيت، فإن الآباء منه اتَّفقوا فمَلَكوا، والأبناء منه اختلفوا فهلكوا". قال الذهبي: "كان فيه تشيُّع". وقد قال ابن الأثير " إنَّه ما ملك الأفضل شيئًا من البلاد إلا وأخذه عمُّه منه، بل ذكر أنه رأى عمودًا من الرخام الفاخر في بيت المقدس فقيل له إنه كان للأفضل، ثم أخذه منه عمه العادل"، ولما مات الأفضل اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى، ولم يقوَ أحد منهم على الباقين ليستبدَّ بالأمر.
لَمَّا قُتِل الآمر بحكم الله الفاطمي ولم يكن له ولد ذكَرٌ بعده، وقد كان عَهِد بالولاية لحملٍ كان ما يزال في بطنِ أمِّه منه، فوَلِيَ بعده ابن عمه الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايَع بالحكم، وإنما بُويعَ له لينظُرَ في أمر الحمل أيكون ذكرًا أم أنثى، ويكون هو نائبًا عنه، ولما وليَ استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، واستبدَّ الوزير بالأمر، وتغلَّب على الحافظ وحجر عليه، وأودعه في خزانة، ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي، وبقي الحافِظُ له اسم لا معنى تحته، ونقل أبو علي كلَّ ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها، ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن قُتِل أبو علي سنة ست وعشرين وخمسمائة، فاستقامت أمور الحافظ، وحكم في دولته، وتمكَّن من ولايته وبلاده.
كان الحاكِمُ بأمرِ اللهِ العُبَيديُّ حالُه مُضطربةٌ في الجَورِ والعَدلِ، والإخافةِ والأمنِ، والنُّسُك والبِدعة, ومذهَبُه في الرَّفضِ مَعروفٌ. ولقد كان مضطرِبًا فيه، فكان يَأذَنُ في صلاةِ التَّراويحِ ثمَّ ينهي عنها، وكان يرى بعِلمِ النُّجومِ ويُؤثِرُه، ويُنقَلُ عنه أنَّه منع النِّساءَ مِن التصرُّفِ في الأسواقِ، ومنَعَ مِن أكلِ الملوخيَّا. ورُفِعَ إليه أنَّ جماعةً مِن الرَّوافِضِ تعرَّضوا لأهلِ السنَّةِ في التراويحِ بالرَّجمِ، وفي الجنائِزِ، فكتب في ذلك سجِلًّا قُرِئَ على المِنبَرِ بمِصرَ في رمضان، ورَدَ فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ يتلو عليكم آيةً مِن كِتابِ اللهِ المُبينِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} مضى أمسُ بما فيه، وأتى اليومُ بما يَقتَضيه. معاشِرَ المُسلِمينَ نحنُ الأئِمَّة، وأنتم الأمَّة. لا يحِلُّ قَتلُ مَن شَهِدَ الشَّهادَتينِ ولا يحلُّ عروةً بين اثنين تجمَعُها هذه الأخوَّة، عصم اللهُ بها من عَصَم، وحرَّم لها ما حرَّم، مِن كُلِّ مُحرًّمٍ مِن دمٍ ومالٍ ومَنكَحٍ، الصَّلاحُ والأصلَحُ بين الناسِ أصلَحُ، والفَسادُ والإفسادُ مِن العبَّادِ يُستقبَحُ. يُطوى ما كان فيما مضى فلا يُنشَر، ويُعرَض عَمَّا انقضى فلا يُذكَر. ولا يُقبَلُ على ما مرَّ وأدبَر من إجراءِ الأمورِ على ما كانت عليه في الأيَّام الخاليةِ؛ أيَّامَ آبائِنا الأئمَّة المُهتَدين. سلامُ الله عليهم أجمعين، يصومُ الصَّائِمونَ على حِسابِهم ويُفطِرون، ولا يُعارضُ أهل الرُّؤية فيما هم عليه صائِمون ويُفطِرون، وصلاةُ الخمسين للذين بما جاءهم فيها يُصَلُّون، وصلاةُ الضحى وصلاة التراويح لا مانِعَ لهم منها ولا هم عنها يُدفَعون، ويُخَمِّسُ في التكبير على الجنائِزِ المُخَمِّسون، ولا يُمنَعُ مِن التربيع عليها المُرَبِّعون؛ يُؤذِّنُ بحيَّ على خيرِ العَمَلِ المُؤذِّنون، ولا يُؤذَى مَن بها لا يُؤَذِّنون؛ لا يُسَبُّ أحَدٌ مِن السَّلَف، ولا يُحتَسَب على الواصِفِ فيهم بما يَصِف، والحالِفُ منهم بما حلف؛ لكُلِّ مُسلمٍ مُجتَهِدٍ في دينه اجتهادٌ، وفي يوم عيد الغديرِ مُنِعَ النَّاسُ مِن عَمَلِه". ودَرَسَت كنائِسُ كانت بطريقِ المكس وكنيسة بحارة الرُّوم من القاهرةِ ونُهِبَ ما فيها، وقُتِلَ في هذه الليلة كثيرٌ مِن الخَدَم والصَّقالبة والكُتَّاب، بعد أن قُطِعَت أيديهم بالسَّاطورِ على خشبةٍ مِن وسط الذِّراعِ.
بعد أن استعاد الجيشُ المصري الإنجليزي السودانَ، تم التوقيعُ على الحُكم الثنائي للسودان، وذلك بين كرومر المندوب السامي الإنجليزيِّ في مصر ووزيرِ خارجية مصر بطرس غالي، وقد كانت الاتفاقيَّةُ بشأنِ إدارة السودان في المستقبَلِ، وأُطلِقَ لفظُ السودان في هذه الاتفاقية على جميع الأراضي الواقعة جنوبَ خَطِّ العرض 22 شمالًا، وأن يُرفَعَ العلمان البريطاني والمصري في البَرِّ والبحر في جميع أنحاء السودان عدا سواكن، فلا يُرفَعُ إلا العلمُ المصري، وغيرها من البنود التي تتضَمَّن تبعيةَ السودان لمصر. وعَمِلَت إنجلترا على إقحامِ مِصرَ مع أنَّه فعليًّا الأمر للإنجليز؛ من أجلِ فرنسا، وأُطلِقَ على الحُكم بالثنائي يعني بين مصر وإنجلترا، وهذا أيضًا ينهي السيادة العثمانية على السودانِ.
بعد ما كان من الفِتنةِ بمكَّةَ العامَ السَّابِقَ وانزعاج السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون كثيرًا لذلك، ففي المحَرَّم هذا العام قَدِمَ الحاجُّ، وأخبروا بكثرةِ الفِتَن بمكَّةَ بين الشريفين عُطيفة ورُميثة، وقُوَّة رُمَيثة على عُطَيفة ونهْبِه مكَّة وخروجه عن الطاعة، وأنه لم يلقَ رَكبَ الحُجَّاج، فكتب بحضورِه، فلما ورد المرسومُ بطلب الشريفينِ إلى مصر اتَّفَقا وخرجا عن الطاعة، فشقَّ ذلك على السلطان، وعَزَم على إخراج بني حسَن من مكة، وتقَدَّم السلطان إلى الأمير سيف الدين أيتمش أن يَخرُجَ بعسكرٍ إلى مكة، وقال له بحضرة القضاة: "لا تدع في مكَّةَ أحدًا من الأشرافِ ولا من القُوَّاد ولا مِن عَبيدِهم، ونادِ بها من أقام منهم حَلَّ دَمُه، ثم أحرِقْ جَميعَ وادي نخلةَ، وألقِ في نَخلِها النَّارَ حتى لا تدَعَ شَجرةً مُثمِرةً ولا دِمنةً- آثار الديار- عامرةً، وخَرِّبْ ما حول مكَّةَ من المساكن، وأخرِجْ حَرَم الأشرافِ منها، وأقِمْ بها بمن معك حتى يأتيك عسكَرٌ آخرُ"، فقام في ذلك قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني ووعَظَ السُّلطانَ وذَكَّره بوجوبِ تَعظيمِ الحَرَمِ، إلى أن استقَرَّ الأمر على أن كُتِبَ لرُمَيثة أمانٌ وتقليد بإمرة مكَّة، وسار العسكر من ظاهر القاهرة في نصف صفر، وعِدَّتُهم سبعمائة فارس، وفي سابع جمادى الآخرة قدم الأمير أيتمش بالعسكر المجرَّد إلى مكة، وكان الشريفُ رُمَيثة قد جمع عربًا كثيرةً يريدُ محاربتهم، فكتب إليه الأميرُ أيتمش يُعَرِّفُه بأمان السلطان له وتقليدِه إمرةَ مَكَّة، ويحثُّه على الحضور إليه ويرَغِّبُه في الطاعة، ويحَذِّرُه عاقبةَ الخلاف ويهدده على ذلك، ويُعَرِّفُه بما أمر به السلطانُ من إجلاء بني حسن وأتباعِهم عن مكة، فلما وقف رُمَيثةُ على ذلك اطمأَنَّ إلى الأمير أيتمش وأجابه بما كان قد عزم عليه من الحربِ لو أنَّ غَيرَه قام مقامَه، وطلب منه أن يحلِفَ هو ومن معه ألَّا يَغدِرَ، وأن يُقرِضَه مبلغ خمسين ألف درهم يتعَوَّضُها من إقطاعِه، فتقَرَّر الحال على أن يبعثَ إليه الأمير أيتمش عشرةَ أحمال من الدقيق والشعير والبقسماط وغيره، ومبلغ خمسة ألاف درهم، فقَدِمَ حينئذ، فلما قارب رُمَيثة مكة رَكِبَ الأمير أيتمش بمن معه إلى لقائِه، فإذا عِدَّةٌ من قواده مع وزيره قد تقَدَّموه ليحَلِّفوا له العسكر، فعادوا بهم إلى الحَرَمِ وحلفوا له أيمانًا مؤكَّدة، ثم ركبوا إلى لقائِه وقابَلوه بما يليقُ به من الإكرام، فلَبِسَ رميثة تشريفَ السلطان، وتقَلَّد إمارةَ مكَّة، وعَزَم على تقدمة شيءٍ للأمراء، فامتنعوا أن يقبلوا منه هَدِيَّةً، وكتبوا إلى السلطانِ بعَودِ الشريف إلى الطاعةِ.
عصى الأميرُ يلبغا الناصريُّ نائِبُ حَلَب على السلطان برقوق، وأمر السلطانُ بخروج العسكر إليه، ولكن الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمري الناصري والأمير دمرداش اليوسفي والأمير كمشبغا الخاصكي الأشرفي وآقبغا قبجق، اجتمع معهم عدَّةٌ كثيرة من المماليك المنفيِّين بطرابلس، وثبوا على نائبها الأمير أسندمر المحمدي وقبضوا عليه، وقتلوا من أمراءِ طرابلس الأميرَ صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه، وقبضوا على جماعةٍ كبيرة من أمراء طرابلس، ثمَّ دخل الجميعُ في طاعة الناصري، وكاتبوه بذلك ومَلَكوا مدينة طرابلس، ثمَّ إنَّ مماليك الأمير سودون العثماني نائِبِ حماة اتَّفَقوا على قتله، ففر منهم إلى دمشق، وأنَّ الأمير بيرم العزي حاجِبَ حجَّاب حماة سَلَّم حماة إلى الأمير يلبغا الناصري ودخل تحت طاعته، ثم تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشاميَّة والمماليك الأشرفيَّة واليلبغاوية في طاعة الناصري، وكذلك الأميرُ سولي بن دلغادر أمير التركمان، ونعير أمير العربان، وغيرهما من التركمان والأعراب، دخل الجميعُ في طاعة الناصري على محاربة السلطانِ الملك الظاهر برقوق، وأنَّ الناصري أقام أعلامًا خليفتيَّة، وأخذ جميعَ القلاع بالبلاد الشاميَّة، واستولى عليها ما خلا قلعةَ الشام وبعلبك والكرك، ثم في يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر قَدِمَ البريد بأنَّ الأمير كمشبغا المنجكي نائِبَ بعلبك دخل تحت طاعة يلبغا الناصري، وكذلك في خامِسِه قَدِمَ البريد بأن ثلاثة عشر أميرًا من أمراء دمشق ساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصري، وأما العسكر المصري الظاهري فإنه سار من غزَّةَ حتى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر، ودخلوا دمشق بعد أن تلقَّاهم نائبها الأمير حسام الدين طرنطاي، ودخلوا دمشق قبل وصول الناصري بعساكره إليها بمدة، وأقبل المماليكُ السلطانية على الفَسادِ بدمشق، واشتغلوا باللَّهوِ، وأبادوا أهلَ دمشق، حتى سَئِمَتهم أهل الشام وانطلقت الألسنةُ بالوقيعة فيهم وفي مُرسِلِهم، وبينما هم في ذلك جاءهم الخبَرُ بنزول يلبغا الناصري بعساكره على خان لاجين خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر، فعند ذلك تهيَّأ الأمراء المصريون والشاميون إلى قتالِهم، وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين في الحادي والعشرين إلى برزة، والتقوا بالناصري على خان لاجين، وتصافُّوا ثم اقتَتَلوا قتالًا شديدًا ثَبَت فيه كلٌّ من الفريقين ثباتًا لم يُسمَعْ بمِثلِه، ثم تكاثر العسكَرُ المصري وصَدَقوا الحملة على الناصري ومن معه، فهزموهم وغيَّروه عن موقفه، ثم تراجع عسكر الناصري وحمل بهم، والتقى العسكَرُ السلطاني ثانيًا واصطدما صدمةً هائلة ثبت فيها أيضًا الطائفتانِ وتقاتلا قتالًا شديدًا، قُتلَ فيها جماعة من الطائفتين، حتى انكسر الناصريُّ ثانيًا، ثم تراجع عسكَرُه وعاد إليهم والتقاهم ثالثَ مَرَّة، فعندما تنازلوا في المرة الثالثة والتحم القتالُ لَحِقَ الأمير أحمد بن يلبغا بعساكِرِ الناصري بمن معه من مماليكه وحواشيه، ثم تَبِعَه الأمير أيدكار العمري حاجِبُ الحجاب أيضًا بطَلَبِه ومماليكه، ثم الأمير فارس الصرغتمشي ثم الأمير شاهين أمير آخور بمن معهم، وعادوا قاتلوا العسكر المصري، فعند ذلك ضَعُفَ أمرُ العساكر المصرية وتقهقروا وانهزموا أقبحَ هزيمة، فلما ولَّوا الأدبار في أوائل الهزيمة، هَجَم مملوكٌ من عسكر الناصري يقال له يلبغا الزيني الأعور وضرب الأميرَ جاركس الخليلي بالسيف فقتَلَه وأخَذَ سَلَبَه، وترك رمَّتَه عاريةً، إلى أن كفَّنَتْه امرأة بعد أيام ودفنته، ثم مَدَّت التركمان والعرب أيديَهم ينهبون من انهزم من العسكر المصري ويقتُلون ويأسرون من ظَفِروا به، وساق الأميرُ الكبير أيتمش البجاسي حتى لحق بدمشق وتحصَّن بقلعتها، وتمزَّق العسكر المصري وذهب كأنَّه لم يكن، ودخل الناصريُّ من يومه إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقَصرِ من الميدان، وتسَلَّم القلعة بغير قتال، وأوقع الحوطةَ على سائر العسكر، وأنزل بالأميرِ الكبير أيتمش وقَيَّده هو والأمير طرنطاي نائب الشام وسجَنَهما بقلعة دمشق، وتتبَّعَ بقيَّةَ الأمراء والمماليك حتى قبض من يومِه أيضًا على الأمير بكلمش العلائي في عدة من أعيان المماليك الظاهرية، فاعتقلهم أيضًا بقلعة دمشق، ثم مَدَّت التركمان والأجناد أيديَهم في النهب، فما عَفَوا ولا كفُّوا وتمادَوا على هذا عدة أيام، وقَدِمَ هذا الخبر على الملك الظاهر برقوق من غزة في يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، فاضطرب الناسُ اضطرابًا عظيمًا، لا سيَّما لما بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلي والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسي، وغُلِّقَت الأسواق، وانتُهِبَت الأخباز، وتشغبت الزعر، وطغى أهلُ الفساد، هذا مع ما للنَّاسِ فيه من الشغل بدفن موتاهم، وعِظَم الطاعون بمصر، وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لما بلغه ما وقع لعسكره وَجَمَ وتحَيَّرَ في أمره، وعَظُم عليه قتلُ جاركس الخليلي والقبض على أيتمش أكثَرَ من انهزام عسكره، فإنَّهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمينَ بتدبير مُلكِه، وأخذ يفحصُ عن أخبار يونس الدوادار فلم يقِفْ له على خبر؛ لسرعة مجيء خبَرِ الوقعة له من مدينةِ غزة، ولم يأتِه أحَدٌ ممن باشر الواقعة، غيرَ أنَّه صَحَّ عنده ما بلغه، وبقَتلِ يونس الدوادار استشعر كلُّ أحد بذهاب مُلْك المَلِك الظاهر، ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوي نائب الكرك في طاعة الناصري، وأنَّه سَلَّم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح، ثم أخذ السلطان ينقلُ إلى قلعة الجبل المناجيقَ والمكاحل والعُدَد، وأمر السلطانُ سُكَّان قلعةِ الجَبَلِ من الناس بادِّخار القوتِ بها لشهرينِ، وسار الناصريُّ بمن معه من العساكر يريد الديارَ المصريَّة، وهو يظُنُّ أنه يلقى العساكِرَ المصرية بالقرب من الشام، واستمَرَّ في سَيرِه على هِينةٍ إلى أن وصل إلى غزَّة، فتلقَّاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتقادُم والإقامات، فسأله الناصري عن أخبار عسكر مِصرَ، فقال: لم يَرِدْ خَبَرٌ بخروج عسكر من مصر، ثم سار الناصري من الغد يريد ديار مصر، وأرسل أمامَه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكِه كَشَّافة، واستمَرَّ في السير إلى أن نزلَ مدينة قطيا، وجاء الخبَرُ بنزول الناصري بعساكِرِه على قطيا، فلم يتحرك السلطان بحركة، وفي ليلة وصول الخبَرِ فَرَّ من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصري، وهي ليلةُ الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم في يوم الجمعة نزلت عساكِرُ الناصري بالبئر البيضاء، فأخذ عند ذلك عسكَرُ السلطان يتسَلَّلُ إلى الناصري شيئًا بعد شيءٍ، ثمَّ نَصَب السلطان السناجق السلطانية على أبراج القلعة، ودُقَّت الكوسات الحربية، فاجتمعت العساكِرُ جميعها، وعليهم آلةُ الحرب والسلاح، ثم ركِبَ السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبلِ بعد العصر، وسار السلطانُ بمن معه حتى وقفا خلفَ دار الضيافة، وقد اجتمع حولَ السلطان من العامَّةِ خلائِقُ لا تُحصى كثرةً، فوقف هناك ساعة، ثم عاد وطلع إلى الإسطبل السلطاني، وجلس فيه مِن غير أن يلقى حَربًا، ثم ركب السلطان ثانيًا من القلعةِ، ومعه الخليفةُ المتوكل على الله، ونزل إلى دار الضيافة، فقدم عليه الخبَرُ بأن طليعة الناصري وصلت إلى الخراب طرف الحسينية، فلقيتهم كشافة السلطان فكسَرَتهم، ثم ندب السلطانُ الأمراء فتوجَّهوا بالعساكر إلى جهة قبَّة النصر، ونزل السلطانُ ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار، ثم عاد إلى الإسطبل السلطاني وصحبته الأمراء الذين توجَّهوا لقبة النصر، والكوسات تُدَقُّ، وهم على أُهبة اللقاء وملاقاة العدو، وخاصكية السلطان حوله، والنفوطُ لا تفتُرُ، والرميلة قد امتلأت بالزعر، والعامة ومماليك الأمراء، ولم يزالوا على ذلك حتى أصبحوا يوم الاثنين، وإذا بالأمير آقبغا المارديني حاجب الحجاب والأمير جمق بن أيتمشر البجاسي والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائي الدوادار قد خرجوا في الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحِقوا بالناصري، ثم أصبح السلطانُ من الغد، وهو يوم خامس جمادى الآخرة، فَرَّ الأمير قرقماس الطشتمري الدوادار الكبير، وقرا دمرداش الأحمدي أتابك العساكر بالديار المصرية، والأمير سودون باق، أمير مجلس ولحقوا بالناصري، ولما بلغ السلطان نفاقُ هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء، علم أن دولته قد زالت، فأغلق في الحالِ باب زويلةَ وجميع الدروب، وتعطَّلَت الأسواق، وامتلأت القاهرةُ بالزعر، واشتدَّ فسادَهم، وتلاشت الدولةُ الظاهرية وانحَلَّ أمرُها، وخاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسِه، فقام من خلف باب زويلة وتوجَّه إلى بيته واختفى، وبَقِيَ الناس غوغاء، وقطع المسجونون قيودَهم بخزانة شمائل، وكَسَروا باب الحبس وخرجوا على حميةٍ جملةً واحدة، فلم يرُدَّهم أحدٌ؛ لشُغلِ كُلِّ واحد بنفسه، وكذلك فعَلَ أهل حبس الديلم، وأهلُ سجن الرحبة، هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل، والنفوطُ عَمَّالة، والكوسات تُدَقُّ حربيًّا، ثم أمر السلطان مماليكَه فنزلوا ومنعوا العامَّةَ من التوجه إلى يلبغا الناصري، فرجمهم العامَّةُ بالحجارة، فرماهم المماليكُ بالنشَّاب، وقتلوا منهم جماعةً تزيد عِدَّتُهم على عشر أنفس، ثم أقبلت طليعة الناصري مع عِدَّة من أعيان الأمراء من أصحابِه، فبَرَز لهم الأمير قجماس ابن عم السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم، وأكثر الرمي عليهم من فوق القلعة بالسهام والنفوط والحجارة بالمقاليع، وهم يوالون الكَرَّ والفَرَّ غَيرَ مَرَّة، وثبتت المماليك السلطانية ثباتًا جيدًا، غير أنهم في عِلمٍ بزوال دولتهم، هذا وأصحابُ السلطان تتفَرَّقُ عنه شيئًا بعد شيء، فمنهم من يتوجه إلى الناصري، ومنهم من يختفي خوفًا على نفسه، حتى لم يبقَ عند السلطان إلا جماعةٌ يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء، فلما كان آخِرُ النهار أراد السلطان أن يسَلِّمَ نفسَه، فمنعه من بقِيَ عنده من الأمراء وخاصكيته، ثم بعد العصر من اليوم قَدِمَ جماعة من عسكر الناصري عليهم الطواشي طقطاي الرومي الطشتمري، والأمير بزلار العمري الناصري، وكان من الشجعان، والأمير ألطنبغا الأشربي، في نحو الألف وخمسمائة مقاتل يريدون القلعة، فبرز لهم الأمير بطا الطولوتمري الظاهري الخاصكي، والأمير شكر باي العثماني الظاهري، وسودون شقراق في نحو عشرين مملوكًا من الخاصكية الظاهرية، وتلاقوا مع عسكر الناصري فصدموهم صدمةً واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبة النصر، ولم يُقتَلْ منهم غير سودون شقراق؛ فإنَّه أُمسِكَ وأُتي به إلى الناصري فوسَّطه، ولم يَقتُل الناصريُّ في هذه الوقعة أحدًا غيره، لا قبله ولا بعده- يعني صَبرًا- غيرَ أن جماعة كبيرة قُتِلوا في المعركة، وورد الخبَرُ بنصرتهم على الملك الظاهر، فلم يغتَرَّ بذلك، وعلم أنَّ أمرَه قد زال، فأخذ في تدبيرِ أمره مع خواصه، فأشار عليه من عنده أن يستأمِنَ من الناصري، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكي شاد القصر بالنمجاة إلى الأمير يلبغا الناصري أنْ يأخذا له أمانًا على نفسِه، ويترققا له، فسارا من وقتهما إلى قبة النصر، ودخلا على الناصري وهو بمخَيَّمه، واجتمعا به في خلوةٍ، فأمَّنَه على نفسه، وأخذَ منهما منجاة الملك- سيف خاص بالملك أو السلطان- وقال: الملك الظاهر أخونا وخشداشنا- زميلنا في المهنة- ولكِنَّه يختفي بمكان إلى أن تُخمَدَ الفتنة، فإنَّ الآن كل واحد له رأي وكلام، حتى ندَبِّرَ له أمرًا يكون فيه نجاتُه، فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق، وأقام السلطانُ بعد ذلك في مكانه مع خواصِّه إلى أن صلى عشاء الآخرة، وقام الخليفةُ المتوكل على الله إلى منزله بالقلعةِ على العادة في كلِّ ليلة، وبقي الملك الظاهر في قليل من أصحابه، وأذِنَ لسودون النائب في التوجُّه إلى حال سبيله والنظَرِ في مصلحة نفسه، فودَّعَه وقام ونزل من وقته، ثم فَرَّق الملك الظاهر بقيَّة أصحابه، فمضى كلُّ واحد إلى حال سبيله، ثم استتر الملك الظاهر وغيَّرَ صِفَتَه، حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيًا على قَدَمَيه، فلم يَعرِفْ له أحد خبرًا، وانفَضَّ ذلك الجمع كلُّه في أسرع ما يكون، وسكَنَ في الحال دَقُّ الكوساتِ ورَمْيُ مدافع النفط، ووقعَ النَّهبُ في حواصل الإسطبل، حتى أخذوا سائِرَ ما كان فيه من السروج واللجم وغيرها والعبي، ونهبوا أيضًا ما كان بالميدان من الغَنَمِ الضأن، وكان عِدَّتُها نحو الألفي رأس، ونُهِبَت طباق المماليك بالقلعة، وطار الخبَرُ في الوقت إلى الناصري، فلم يتحَرَّك من مكانه، ودام بمخَيَّمه، وأرسل جماعةً من الأمراء من أصحابه، فسار من عسكره عِدَّةٌ كبيرة واحتاطوا بالقلعة، وأصبح الأمير يلبغا الناصري بمكانه، وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة، وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة، فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني، فنزل إليه الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسار مع منطاش إلى الناصري بقبَّة النصر، حتى نزل بمخَيَّمه، فقام الناصري إليه وتلقَّاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث، وأمَّا الناصري فإنه لَمَّا نزل إليه الخليفة وأكرمه، وحضَرَ قضاة القضاة والأعيان للهناء، أمَرَهم الناصري بالإقامة عنده، وأنزل الخليفةَ بمُخَيَّم، وأنزل القضاةَ بخَيمةٍ أخرى ثم طلب الناصريُّ مَن عنده من الأمراء والأعيان وتكَلَّم معهم فيما يكون، وسألهم فيمن يُنصَب في السلطنةِ بعد الملك الظاهر برقوق، فأشار أكابِرُهم بسلطنة الناصري، فامتنع الناصريُّ مِن ذلك أشدَّ امتناع، وهم يُلِحُّونَ عليه ويقولون له: ما المصلحةُ إلَّا ما ذكَرْنا، وهو يأبى، وانفَضَّ المجلس من غير طائل، ثم استدعى الأميرُ الكبير يلبغا الناصري الأمراءَ واستشارهم فيمن ينصِبُه في سلطنة مصر، فكَثُر الكلام بينهم، وكان غَرَضُ غالب الأمراء سلطنة الناصري ما خلا منطاش وجماعة من الأشرفية، حتى استقَرَّ الرأي على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيًا، بعد أن أعيا الأمراءَ أمرُ الناصري في عدم قبوله السلطنةِ، وهو يقول: المصلحةُ سَلطنةُ الملك الصالح أمير حاج؛ فإن الملك الظاهر برقوقًا خلَعَه من غير مُوجِبٍ، فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة، واستدعَوا الملك الصالح وسَلْطَنوه، وغيَّروا لَقَبَه بالملك المنصور، وأما الملك الظاهر برقوق فإنه دام في اختفائِه إلى أن قُبِضَ عليه بعد أيام متخفيًا في بيت مملوك له، ثم رُسِمَ بسجنه إلى الكرك، فأخرج إليها وسُجِنَ هناك بعد أن حَكَم مصر أميرًا كبيرًا وسُلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وزالت دولةُ الملك الظاهر كأن لم تكن، فكانت مُدَّة تحَكُّمه منذ قُبِض على الأمير طَشْتَمُر الدوادار في تاسع ذي الحجة سنة 779، إلى أن جلس على تخت الملك وتلقَّب بالملك الظاهر في تاسع عشر شهر رمضان سنة 784، أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ويقال له في هذه المدة الأمير الكبير أتابك العساكر، ومن حين تسلطَنَ إلى أن اختفي ست سنين، وثمانية أشهر، وسبعة عشر يومًا، فيكون مدة حكمه أميرًا وسلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وترك مُلْكَ مِصرَ وله نحو الألفي مملوك اشتراهم، سوى المُستخدَمينَ.
هو المنصورُ بنُ يوسُفَ بلكين أميرُ إفريقيَّة، كان مَلِكًا شجاعًا، عادِلًا حازِمًا. توفِّيَ خارج صبرة، ودُفِنَ بقَصرِه. وَلِيَ بَعدَه ابنُه باديس، ويكَنَّى بأبي مناد، فلما استقَرَّ في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه النَّاسُ مِن كُلِّ ناحية للتَّعزيةِ والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمامُ أبيه أن يخالِفوا عليه، فمنَعَهم أصحابُ أبيه وأصحابُه, وأتته الخِلَعُ والعَهدُ بالولايةِ مِن العزيزِ حاكِمِ مِصرَ العُبَيديِّ، فقُرِئَ العَهدُ، وبايع للعزيزِ هو وجماعةُ بني عَمِّه والأعيانُ مِن القُوَّاد.
لَمَّا بلغ أهلَ الأحساء هزيمةُ بني خالد في الشيط، وقع الرعب في قلوبهم وخافوا خوفًا عظيمًا، ثم سار الأمير سعود بجنوده ناحيةَ الأحساء فنزل الردينية الماء المعروف في الطف فأقام أيامًا وأتته المكاتبات مع رسل أهل الأحساء يدعونه إليهم ليبايعوه، فارتحل منها وسار إلى الأحساء ونزل عينَ النجم خارج البلدِ، فخرج إليه أهلُها وبايعوه على دين الله ورسولِه والسمع والطاعة, ثم دخل جيشُ سعود الأحساءَ فهَدَموا جميع ما فيه من القباب والمشاهِدِ التي على القبور، والمواضِعَ الشركية, ثم أقام سعود قريبًا من شهر رتَّب أئمة المساجِدِ وأمَرَهم بالمواظبة على الصلواتِ وإقامة الجُمَع والجماعات، ونادى بإبطال جميعِ المعاملات الرِّبوية وما خالف الشَّرعَ، ورتب الدروسَ وجعل فيهم علماءَ مِن قَومِه يعلِّمونهم التوحيد, وكان أهلُ الأحساء قد أبطنوا الغدرَ ونَقْضَ العهد، وقَتْلَ العلماء المعَلِّمة وأميرَهم وصاحِبَ بيت المال، وكانوا نحوًا من 30 رجلًا, فأجمعوا على ذلك فقتلوا أميرَهم محمد بن حملي، وقتلوا البقية وجرُّوهم في الأسواقِ، وفعلوا بهم أفعالًا قبيحةً, واستولى زيدُ بن عريعر على الأحساءِ.
بعث الإمامُ سعود سَريَّةً قليلة إلى عمان لتعَلِّمَ أهلها فرائض الدين والاطلاع على أحوالهم, فلما وصلوا هناك فغذا قيسُ بن أحمد المسمى ابن الإمام رئيس سحار وجميع باطنة عمان وابن أخيه سعيد بن سلطان رئيس مسقط ومعهم من الجنود نحو عشرة آلاف رجل سائرين على النواحي التي تليهم من رعية الإمام سعود، الذين كان يرأسُهم من جهة سعود سلطانُ بن صقر بن راشد صاحِبُ رأس الخيمة، فأرسل إلى من يليه من أهل عُمان، فاجتمع عنده نحو ثلاثة آلاف رجل, فالتقى الجمعان: جمعُ قيس وجمع سلطان عند خوير بين الباطنة ورأس الخيمة، واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم جمعُ قيس هزيمةً شنيعةً وقُتِلَ قيس وهلك من قومِه خَلقٌ كثير بين القتل والغرق في البحر, ثمَّ بعد هذه الوقعة أرسل ابن قيس إلى الإمام سعود وسلطان بن صقر، وطلبَ المبايعةَ على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، وبايع على ذلك وبذل مالًا كثيرًا وشوكةً من الحرب, وصار جميعُ عمان تحت ولاية الإمام سعود
لَمَّا بلغ نور الدين محمودًا وفاةُ أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل، ومُلك ولده سيف الدين غازي الموصِلَ والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمرِ معه، وتحكُّمه عليه؛ أنِفَ لذلك وكَبِرَ لديه وعَظُمَ عليه، وكان يُبغِضُ فخر الدين؛ لما يبلغه عنه من خشونةِ سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي ومُلكِهم، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبر الفرات، عند قلعة جعبر، مُستهَلَّ المحَرَّم، وقصد الرقةَ فحصَرَها وأخذها، ثم سار إلى الخابور فمَلَكَه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمَعُ العساكر، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحِبُ حصن كيفا، وكثُرَ جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيقَ وملَكَها، وسَلَّمَها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتُبُ الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعةَ، ويَحُثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، وكان سيفُ الدين غازي وفخر الدين قد سيَّرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد، يستنجده على عمه نور الدين محمود، فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرُّضِ للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسُّلطان، فلا تقصِدْها، فلم يلتفت إليه، فأقام نور الدين على الموصِل، فعزم مَن بها من الأمراء على مجاهرةِ فخر الدين عبد المسيح بالعِصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم ذلك، فأرسل فخر الدين إلى نور الدين بتسليمِ البلَدِ إليه على أن يُقِرَّه بيد سيف الدين، ويطلُب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرطَ أنَّ فخر الدين يأخذُه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعًا يُرضيه، فتسَلَّم البلد ثالث عشر جمادى الأولى، ودخل القلعةَ من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف ألَّا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولَمَّا ملكها أطلقَ ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالمِ، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميعُ بلاده من الشام ومصر، واستناب في قلعة الموصل خصيًّا له اسمه كمشتكين، ولقَّبَه سعد الدين، وأمر سيف الدين ألَّا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحَكَّمَه في البلاد وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين بن أخيه قطب الدين، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًا، واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّرَ اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
في سنةِ سبع وتسعين مَلَك غياث الدين وأخوه شهابُ الدين ما كان لخوارزم شاه محمَّد بنِ تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها، وعادا عنها بعد أن أقطعا البلادَ، فلمَّا بلغ خوارزم شاه خبَرُ عودة العساكر الغوريَّة عن خراسان، ودخول شهاب الدين الهندَ، أرسل إلى غياثِ الدين يعاتِبُه ويُهَدِّدُه، فغالَطَه غِياثُ الدين في الجواب لتمديدِ الأيامِ بالمُراسلاتِ، ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكِرِ؛ فإن غياث الدين كان عاجزًا بسَبَبِ إصابته بداء النقرس، فلما وقفَ خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسَلَ إلى علاء الدين الغوري، نائب غياث الدين بخراسان، يأمُرُه بالرحيل عن نيسابور، ويتهَدَّدُه إن لم يفعل، فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك، ويُعَرِّفُه ميل أهلِ البلد إلى الخوارزميين، فأعاد غياث الدين جوابَه يقوِّي قَلْبَه، ويَعِدُه النصرةَ والمنع عنه، وجمع خوارزم شاه عساكِرَه وسار عن خوارزم نصفَ ذي الحجة سنة 597، ومَلَك خوارزم شاه مدينةَ مرو، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين، فحصره، وقاتله قتالًا شديدًا، وطال مقامُه عليها، وراسله غيرَ مَرَّة في تسليم البلد إليه، وهو لا يُجيبُ إلى ذلك انتظارًا للمَدَدِ مِن غياث الدين، فبقي نحو شهرين، فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلُبُ الأمانَ لِنَفسِه ولمن معه من الغوريَّة، وأنه لا يتعَرَّضُ إليهم بحَبسٍ ولا غيره من الأذى، فأجابه إلى ذلك، وحَلَف لهم، وخرجوا من البلد وأحسَنَ خوارزم شاه إليهم، ووصَلَهم بمال جليل وهدايا كثيرة، وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصُّلحِ بينه وبين غياث الدين وأخيه، فأجابه إلى ذلك. ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس، وبها الأمير زنكي، فحصره أربعين يومًا، وجرى بين الفريقينِ حروبٌ كثيرة، فضاقت الميرةُ على أهل البلد، لا سيما الحَطَب، فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلُبُ منه أن يتأخَّرَ عن باب البلد حتى يخرُجَ هو وأصحابه ويترك البلَدَ له، فراسله خوارزم شاه في الاجتماعِ به ليُحسِنَ إليه وإلى من معه، فلم يجِبْه إلى ذلك، واحتج بقُربِ نَسَبِه مِن غياث الدين، فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكِرِه، فخرج زنكي فأخذ من الغَلَّات وغيرها التي في المعسكَرِ ما أراد لا سيما من الحَطَب، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمرُ، فنَدِمَ حيث لم ينفَعْه الندم؛ ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونَه، فلما أبعد خوارزم شاه سار محمَّد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغوريَّة، وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يُعَرِّفُه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعِجَ إذا سَمِعَ الغلبة، وسمع الخوارزميون الخبَرَ، ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقِيَ محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ، وأخذ خراجَها وما يجاورها، فسَيَّرَ إليهم خوارزم شاه عسكرًا مع خاله، فلَقِيَهم محمد بن جربك وقاتَلَهم، فلمَّا سَمِعَ خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى غياثِ الدين في الصلح، فأجابه عن رسالتِه مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني، ومرغن من قرى الغور، فقبض عليه خوارزم شاه.
لَمَّا فَرَغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعِدَها، وقرَّرَ أقطاعها وولاياتها، أجمعَ على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقَه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمانُ شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقامِ بها وإقطاع جميع بلادِ الموصل، وأخذ غِلالَها ودَخْلَها، وإضعاف الموصل بذلك؛ إذ عَلِمَ أنه لا يمكنه التغلبُ عليها، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسُلُ بينه وبين عز الدين مسعود، صاحِبِ الموصل، وصار مجاهدُ الدين قايماز يراسِلُ ويتقرب، وكان قولُه مقبولًا عند سائر الملوك؛ لما علموا من صِحَّتِه، فبينما الرسلُ تتردد في الصلح، إذ مَرِضَ صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائدًا إلى حران، فلَحِقَه الرسل بالإجابة إلى ما طَلَب، فتقَرَّر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يُسَلِّمَ إليه عز الدين مسعود شهرزور وأعمالَها وولاية القرابلي، وجميعَ ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطُبَ له على منابِرِ بلاده، ويَضرِبَ اسمَه على السكة، فلما حَلَفَ أرسل رسُلَه فحلف عزُّ الدين له، وتسَلَّموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمِها، ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضًا، وأَمِنَت الدنيا، وسَكَنَت الدهماء، وانحسَمَت مادةُ الفِتَن.
كان بنو وطاس فرقة من بني مرين غير أنهم ليسوا من بني عبد الحق، ولما دخل بنو مرين المغرب واقتسموا أعماله كان لبني وطاس بلاد الريف، فكانت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم، وكان بنو الوزير من بني وطاس يتطلعون إلى الرياسة ويسعون في الخروج على بني عبد الحق، وقد تكرر ذلك منهم، ثم أذعنوا إلى الطاعة وراضوا أنفسهم على الخدمة، فاستعملهم بنو عبد الحق في وجوه الولايات والأعمال واستظهروا بهم على أمور دولتهم، فحَسُن أثرهم لديها وتعدد الوزراء منهم فيها، ولم يزل السرور متربعًا بين أعينهم لذلك والرياسة شامخة بأنوفهم، ولما كانت دولة السلطان أبي عنان واستولى على بجاية عقد عليها لعمر بن علي الوطاسي من بني الوزير فثار عليه أهلها, ثم ولِيَ والد محمد الشيخ أبو زكريا يحيى بن زيان الوطاسي الوزارة للسلطان عبد الحق، وتولى بعده ابنه يحيى فقتله السلطان عبد الحق في جماعة من عشيرته لما رأى منافستهم له في الحكم, وفرَّ أخوه أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي إلى الصحراء وبقي متنقلًا في البلاد حتى تمكن من جمع الأتباع حوله وهو في الصحراء ودخل بهم آصيلا، وتمكن من حكمها, ثم زحف على فاس وتمكن من دخولها وتمت البيعة له سنة 896.