هو الأميرُ الكبيرُ, قائِدُ الجُيوشِ, أبو الحسَنِ جَوهرُ بنُ عبد الله الروميُّ الصقلِّيُّ، قائد المعِزِّ الفاطميِّ, مِن نُجَباء الموالي. كان عاليَ الهِمَّة, نافِذَ الأمر. فتح مِصرَ للفاطميِّينَ فأنهى الحُكمَ الإخشيديَّ عليها لَمَّا تهيَّأَ له أخذُ البلاد بمُكاتبةٍ مِن أمراء مصر, عندما قَلَّت عليهم الأموالُ, اختَطَّ القاهِرةَ في اللَّيلةِ التي دخل فيها مِصرَ, والجامِعَ الأزهَرَ، كُلُّ ذلك قبلَ مجيءِ المعِزِّ الفاطميِّ إليها، ثمَّ لَمَّا تَمَلَّك العزيزُ أرسَلَه إلى فتح دمشق، لكنَّه انسحب لاستنجادِهم بالقرامِطةِ، فعُزِلَ عن القيادةِ إلى أن توفِّيَ. قال الذهبي: "كان جوهرٌ حسَنَ السيرةِ في الرَّعايا, عاقِلًا أديبًا, شُجاعًا مَهيبًا, لكِنَّه على نِحلةِ بَني عُبَيدٍ، التي ظاهِرُها الرَّفضُ, وباطِنُها الانحلالُ. وعُمومُ جُيوشِهم من البربَرِ، وأهلُ زعارةٍ وشَرٍّ لا سيَّما مَن تَزَندقَ منهم, فكانوا في معنى الكَفَرةِ, فكم ذاقَ المُسلِمونَ منهم من القَتلِ والنَّهبِ وسَبيِ الحريمِ، ولا سيَّما في أوائِلِ دَولتِهم, حتى إنَّ أهلَ صور استنجدوا بنصارى الرُّومِ لَمَّا لَحِقَهم من المغاربةِ مِن الظُّلمِ والجَورِ وأخْذِ الحَريمِ مِن الحَمَّامات والطُّرُقِ أمرٌ كبيرٌ"، فقاموا عليهم, وقَتَلوا فيهم فهربوا. توفِّيَ جَوهرٌ في هذه السَّنةِ في القاهرةِ، ودفن في الجامعِ الأزهر.
غَزَا مُسلِمُ بن سَعيد التُّرْكَ فعَبَر النَّهرَ وعاثَ في بِلادِهم ولم يَفتَح شَيئًا وقَفَلَ، فأَتْبَعَه التُّرْكُ ولَحِقُوهُ على النَّهرِ فعَبَر بالنَّاسِ ولم يَنالوا منه، ثمَّ غَزا بَقِيَّةَ السَّنَة وحاصَر افشين حتَّى صالَحُوه على سِتَّة آلافِ رَأسٍ، ثمَّ دَفَعوا إليه القَلعَة، ثمَّ غَزَا سَنَة سِتٍّ ومائة وتَباطَأ عنه النَّاسُ, ولمَّا قَطَع مُسلمٌ النَّهرَ وصار ببُخارَى أَتاهُ كِتابٌ مِن خالدِ بن عبدِ الله القَسْرِي بِوِلايَتِه على العِراق، ويَأمُره بإتمام غَزاتِه, فسارَ إلى فَرْغانَة، فلمَّا وَصلَها بَلغَه أن خاقان قد أَقبَل إليه وأنَّه في مَوضِعٍ ذَكَروه، فارْتَحَل، فسار ثلاث مَراحِل في يَومٍ، وأَقبَل إليهم خاقان فلَقِيَ طائِفَة مِن المسلمين وأَصابَ دَوابَّ لِمُسلمِ بن سَعيد، وقُتِلَ أخو غَوْزَك وثار النَّاسُ في وُجوهِهِم فأخرجوهم مِن العَسْكَر، ورَحَل مُسلمٌ بالنَّاس فسار ثمانِيةَ أيَّام وَهُم مُطيفون بهم، فلمَّا كانت التَّاسِعَة أَرادوا النُّزولَ فشاوَرَ النَّاسَ، فأَشاروا عليه بالنُّزولِ وقالوا: إذا أَصبَحنا وَرَدْنا الماءَ، والماءُ مِنَّا غَيرَ بَعيدٍ. فنَزلوا ولم يَرفَعوا بِناء في العَسكَر، وأَحرقَ النَّاسُ ما ثَقُلَ مِن الآنِيَة والأَمْتِعَة، فحَرَقوا ما قِيمتُه ألف ألف، وأَصبَح النَّاسُ فساروا فوَرَدُوا النَّهْرَ وأَهلُ فَرْغانَة والشَّاش دُونَه، فقال مُسلِم بن سَعيد: أَعْزِمُ على كُلِّ رَجُلٍ إلَّا اخْتَرَطَ سَيفَه، ففَعَلوا وصارت الدُّنيا كُلُّها سُيوفًا، فتَرَكوا الماءَ وعَبَروا. فأَقام يَومًا ثمَّ قَطَع مِن غَدٍ واتَّبَعَهم ابنٌ لِخَاقان، فأَرسَل إليه حميد بن عبدِ الله، وهو على السَّاقَة: فقال له: قِفْ لي فإنَّ خَلفِي مائتي رَجُل مِن التُّرْك حتَّى أُقاتِلَهم. وهو مُثْقَلٌ جِراحَةً، فوَقَف النَّاسُ وعَطَف على التُّرْكِ فقاتَلَهم، وأَسَر أَهلَ الصُّغْدِ وقائِدَهم وقائِدَ التُّرْك في سَبعَة ومَضَى البَقِيَّةُ، ورَجَع حُميد فرُمِيَ بنُشَّابَة في رُكْبَتِه فمات. وعَطِشَ النَّاسُ، وكان عبدُ الرَّحمن العامِري حَمَل عشرين قِرْبَة على إبِلِه فسَقاها النَّاسَ جُرَعًا جُرَعًا، اسْتَسْقَى مُسلمُ بن سَعيدٍ، فأَتوه بإناءٍ، فأَخَذه جابِرٌ أو حارِثَة بن كَثير أخو سُليمان بن كَثير مِن فِيهِ، فقال مُسلمٌ: دَعوه فما نازَعَنِي شَرْبَتِي إلَّا مِن حَرٍّ دَخَلَهُ. وأتوا خُجَنْدَة، وقد أَصابَهم مَجاعةٌ وجَهْدٌ، فانْتَشَر النَّاسُ.
هو أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ عَبَّاد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني الوزيرُ المشهورُ بكافي الكُفاة، وزَرَ لمؤَيَّد الدولة بن رُكنِ الدولة بن بُوَيه. هو أوَّلُ مَن سُمِّيَ بالصَّاحِبِ؛ لأنَّه صَحِبَ مُؤَيَّد الدولة من الصِّبا، وسَمَّاه الصاحِبَ، فغَلَب عليه، ثمَّ سُمِّيَ به كلُّ مَن وَلِيَ الوَزارةَ بعده، وقيل: لأنَّه كان يصحَبُ أبا الفضل بن العَميدِ، فقيل له صاحِبُ ابن العميد، ثم خُفِّفَ فقيل: الصاحب. أصلُه من الطالقان، وكان نادرةَ دَهرِه وأعجوبةَ عَصرِه في الفضائِلِ والمكارم. أخذ الأدبَ عن الوزيرِ أبي الفضل بن العميدِ، وأبي الحُسَين أحمد بن فارس. وقد كان مِن العِلمِ والفضيلة والبراعةِ والكرمِ والإحسان إلى العُلَماءِ والفُقراء على جانبٍ عَظيمٍ، وكان صاحِبَ دُعابةٍ وطُرفةٍ في رُدودِه وتَعليقاتِه. لَمَّا توفِّيَ مُؤيدُ الدولة بُوَيه بجرجان في سنة 373، وَلِيَ بعده أخوه فَخرُ الدولة أبو الحسن، فأقَرَّه على الوزارة، وبالغ في تعظيمِه. قال الذهبي: "بقي في الوزارة ثمانيةَ عشَرَ عامًا، وفتح خمسينَ قلعة، وسَلَّمَها إلى فخر الدولة، لم يجتَمِعْ عشرةٌ منها لأبيه. وكان الصاحِبُ عالِمًا بفنون كثيرةٍ مِن العلم، لم يُدانِه في ذاك وزيرٌ، وكان أفضَلَ وُزَراءِ دَولةِ بني بُوَيه الديلمة، وأغزَرَهم عِلمًا، وأوسَعَهم أدبًا، وأوفَرَهم محاسِنَ". سمع الحديثَ مِن المشايخِ الجيادِ العوالي الإسنادِ، وعُقِدَ له في وقتٍ مَجلِسٌ للإملاءِ فاحتفَلَ النَّاسُ لحُضورِه، وحضره وجوهُ الأُمَراءِ، فلمَّا خرجَ إليهم لَبِسَ زِيَّ الفقهاء وأشهد على نَفسِه بالتَّوبةِ والإنابةِ ممَّا يعاينه مِن أمورِ السُّلطانِ، وذكَرَ للنَّاسِ أنَّه كان يأكُلُ مِن حين نشأ إلى يَومِه هذا من أموالِ أبيه وجَدِّه ممَّا وَرِثَه منهم، ولكِنْ كان يخالِطُ السُّلطانَ، وهو تائِبٌ ممَّا يُمارِسونَه، واتخذَ بناءً في داره سمَّاه بيت التوبة، ووضَعَ العُلَماءُ خطوطهم بصِحَّة تَوبتِه، وحين حدَّث استملى عليه جماعةٌ لكثرةِ مَجلسِه، توفي بالري وله نحوُ ستين سنة، ونُقِلَ إلى أصبهان، وله كتابُ المحيط في اللغة. قال عنه الذهبي: "كان شيعيًّا جَلدًا كآلِ بُوَيه، وما أظنُّه يَسُبُّ، لكِنَّه معتزليٌّ، قيل: إنَّه نال مِن البُخاريِّ، وقال: هو حَشْويٌّ لا يُعَوَّلُ عليه" .
كانت عَصماءُ بِنتُ مَرْوانَ مِن بني أُمَيَّةَ بنِ زَيدٍ، زَوجةُ يَزيدَ بنِ زَيدِ بنِ حِصنٍ الخَطْميِّ، تَعيبُ الإسلامَ وتُؤذي رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتُحرِّضُ عليه.
وكانت تَطرَحُ المَحايِضَ في مسجِدِ بني خَطْمةَ؛ فأهدَرَ رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَمَها، فنَذَر عُمَيرُ بنُ عَديٍّ لئن رَجَعَ رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بَدرٍ إلى المدينة ليَقتُلَنَّها، وقد فعل رضي الله عنه وأرضاه.
فلمَّا رَجَع عُميرٌ وَجَد بَنيها في جماعةٍ يَدفِنونَها. فقالوا: يا عُمَيرُ، أنتَ قَتَلْتَها؟ قال: "نَعَم، فكيدوني جَميعًا ثم لا تُنظِرونِ، فَوَالَّذي نَفسي بيَدِه لو قلتُم بأجمَعِكُم ما قالَت لضَرَبتُكُم بسَيفي هذا حتَّى أموتَ أو أقتُلَكُم". فيومَئذٍ ظَهَر الإسلامُ في بني خَطْمةَ، وكان يَستخفي بإسلامِه فيهم مَن أسلَمَ، فكان أولُ مَن أسلَمَ مِن بني خَطْمةَ عُمَيرَ بنَ عَديٍّ، وهو الذي يُدعَى القارِئَ.
سُمِّيَتْ حَجَّةَ الوَداعِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَدَّعَ النَّاسَ فيها، ولم يَحُجَّ بعدَها، وسُمِّيَتْ حَجَّةَ الإسلامِ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ لم يَحُجَّ مِنَ المدينةِ غيرَها، وسُمِّيَتْ حَجَّةَ البَلاغِ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ بلَّغَ النَّاسَ شَرْعَ الله في الحَجِّ قَولًا وفِعلًا، ولم يكنْ بَقِيَ مِن دَعائِمِ الإسلامِ وقَواعِدِهِ شيءٌ إلَّا وقد بيَّنَهُ عليه السَّلامُ، فلمَّا بيَّنَ لهم شَريعَةَ الحَجِّ ووَضَّحَهُ وشَرحَهُ أَنزلَ الله عزَّ وجلَّ عليه وهو واقِفٌ بِعَرفةَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وعندما أَعلنَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَزمَهُ على الحَجِّ في هذا العامِ قَدِمَ المدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، كُلُّهُم يَلتَمِسُ أن يَأْتَمَّ بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويَعملَ مِثلَ عَملِهِ. وخرَج مِنَ المدينةِ لِخمسٍ بَقِينَ مِن ذي القَعدةِ. وقد وقعَت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في مَسيرِهِ هذا ورُجوعِهِ أَحداثٌ كَثيرةٌ.
لمَّا حَصرَ أهالي أفريقية المَهدِيَّة سَيَّرَ إليها صاحِبُ صِقِلِّية عِشرينَ شِينِيًّا –سُفن كبيرة- فيها الرِّجالُ والطَّعامُ والسِّلاحُ، فدَخَلوا البلدَ، وأَرسَلوا إلى العَربِ وبَذَلوا لهم مالًا لِيَنهَزِموا، وخَرَجوا من الغَدِ، فاقتَتَلوا هُم وأَهلُ زَوِيلةَ، فانهَزَمَت العَربُ، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ وأَهلُ صفاقس يُقاتِلون الفِرنجَ بِظَاهِرِ البلدِ، وأَحاطَ بهم الفِرنجُ، فانهَزَم أَهلُ صفاقس ورَكِبوا في البَحرِ فنَجوا، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ، فحَمَلَ عليهم الفِرنجُ فانهَزَموا إلى زَويلةَ، فوَجَدوا أَبوابَها مُغلَّقَة فقاتَلوا تحتَ السُّورِ، وصَبَروا حتى قُتِلَ أَكثرُهم ولم يَنجُ إلا القليلُ فتَفَرَّقوا، ومَضَى بَعضُهم إلى عبدِ المؤمنِ، فلمَّا قُتِلُوا هَرَبَ مَن بها مِن الحُرَمِ والصِّبيانِ والشُّيوخِ في البَرِّ، ولم يُعرِّجوا على شيءٍ مِن أَموالِهم، ودَخلَ الفِرنجُ زَوِيلةَ وقَتَلوا مَن وَجَدوا فيها من النِّساءِ والأَطفالِ، ونَهَبوا الأَموالَ، واستَقَرَّ الفِرنجُ بالمَهدِيَّة إلى أن أَخَذَها عبدُ المؤمن منهم.
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
استطاعت كلٌّ من القوات الفرنسية والإنجليزية التمكُّنَ مِن السيطرة على بلاد الشام مِن الدولة العثمانية بما يتَّفِقُ مع اتفاقية سايكس بيكو، وقامتا بتحريضِ الأمير فيصل بن الحسين على ارتكابِ مذبحةٍ ضِدَّ الجنود العثمانيين المنسحِبين نحو الشمال.
كَثُرَت فِتَنُ الخَوارِج والحُروب معهم وازداد أمرُهم قُوَّةً، فقد بايعوا لِشَبيب بن يَزيد بعدَ صالِح بن مُسَرِّحٍ، وكان شَبيب قد هَزَمَ جيشَ الحَجَّاج ثمَّ هَرَب شَبيب إلى المدائن وقَوِيَ أمرُه حتَّى سار إليه الحَجَّاجُ بِنَفسِه كما سَيَّرَ عبدُ الملك جيشًا مِن الشَّام إليه والتَقى الطَّرفان في مَقتلةٍ عظيمة قُتِلَ فيها الكثيرُ مِن أصحابِ شَبيب، ممَّا اضْطَرَّهُ للهُروب إلى ناحِيَة جِسْرٍ على نهرِ دُجَيْل بالأهواز، فكَبا جَوادُ شَبيب فسَقَطَ في النَّهرِ وغَرِقَ مِن كَثرَةِ الحَديدِ عليه، فكانت هذه بِمَثابَةِ إخْماد فِتْنَتِهِم في العِراق.
أخذ الرَّشيدُ بولاية العهدِ مِن بعده لولَدِه محمَّد بن زبيدة وسمَّاه الأمين، وعمُرُه إذ ذاك خمسُ سنين، وقد كان الرشيد يتوسَّمُ النجابةَ والرَّجاحة في عبد الله المأمون، ويقول: والله، إنَّ فيه حزمَ المنصور، ونُسُك المهديِّ، وعِزَّة نفسِ الهادي، ولو شئتُ أن أقولَ الرابعةَ مني لقُلتُ، وإني لأقَدِّمُ محمَّد بن زبيدة، وإنِّي لأعلَمُ أنَّه مُتَّبِعٌ هواه، ولكن لا أستطيعُ غيرَ ذلك، ثمَّ لَمَّا حج علَّقَ هذا الكتاب في جوفِ الكعبة، كنوعٍ مِن التثبيتِ لهذا العهدِ، فلا يستجرئُ أحدٌ على نقضِه.
سار عسكَرُ دِمشقَ مع مُقَدَّمِهم الأميرِ بزاوش إلى طرابلس الشَّام، فاجتمع معه من الغُزاةِ المُتطَوِّعة والتركمان أيضًا خَلقٌ كثير، فلَمَّا سَمِعَ القُمص- كبيرُ القَساوِسة- صاحِبُها بقُربِهم مِن ولايتِه، سار إليهم في جُموعِه وحُشودِه، فقاتَلَهم وانهزم الفرنجُ وعادوا إلى طرابلسَ على صورةٍ سَيِّئةٍ، وقد قُتِلَ كثيرٌ مِن فُرسانِهم وشُجَعانِهم، فنهب المسلمونَ مِن أعمالهم الكثيرَ، وحَصَروا حِصنَ وادي ابنِ الأحمر فمَلَكوه عَنوةً ونَهَبوا ما فيه، وقَتَلوا المُقاتِلةَ، وسَبَوا الحريمَ والذُّريَّة، وأسَروا الرِّجالَ فاشتَرَوا أنفُسَهم بمالٍ جَليلٍ، وعادوا إلى دِمشق سالِمينَ.
أقبل فيصل بن تركي هاربًا مِن مصر وقَدِمَ على أبيه في الرياض فاستبشر به والِدُه، وصار فيصل الساعِدَ الايمان لوالده في إدارة الدولة، وقد كان فيصل من ضمن المنقولين إلى مصر سنة 1234 ومعه أسرته، وهم إخوانُه وعددهم أربعةٌ، وأخواتُه اثنتان، ووالدته، وثمانٍ مِن جواريه، وسبعةٌ من عبيدِه وخَدَمِه، وكان مجموعُ من نفى إبراهيم باشا إلى مصرَ مِن آل سعود وآل الشيخ 351 بموجِبِ البيان الذي أرسله إبراهيمُ لوالده في مصر، والجبرتي ذكر أنَّ الذين وصلوا إلى مصر 285 فردًا؛ مما يعني تخلُّفَ عَدَدٍ منهم، وهَرَبَ بعضِهم.
عن عُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ أنَّه سألَ وَحْشِيًّا قاتلَ حَمزةَ، ألا تُخبِرُنا بِقتلِ حَمزةَ؟ قال: نعم، إنَّ حَمزةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بنَ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ ببَدرٍ، فقال لي مولايَ جُبيرُ بنُ مُطْعِمٍ: إن قَتلتَ حَمزةَ بِعَمِّي فأنت حُرٌّ، قال: فلمَّا أن خرج النَّاسُ عامَ عَيْنَيْنِ، وعَيْنَيْنُ جبلٌ بِحِيالِ أُحُدٍ، بينه وبينه وادٍ، خرجتُ مع النَّاسِ إلى القِتالِ، فلمَّا أن اصْطَفُّوا للقِتالِ، خرج سِباعٌ فقال: هل مِن مُبارِزٍ؟ قال: فخرج إليه حَمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ، فقال: يا سِباعُ، يا ابنَ أُمِّ أَنْمارٍ مُقَطِّعَةِ البُظورِ، أَتُحادُّ الله ورسولَهُ صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثمَّ شَدَّ عليه، فكان كأَمسِ الذَّاهبِ، قال: وكَمَنْتُ لِحَمزةَ تحتَ صَخرةٍ، فلمَّا دَنا مِنِّي رَميتُهُ بِحَربَتي، فأضعُها في ثُنَّتِهِ حتَّى خَرجتْ مِن بين وَرِكَيْهِ، قال: فكان ذاك العهدُ به، فلمَّا رجع النَّاسُ رجعتُ معهم، فأَقمتُ بمكَّةَ حتَّى فَشا فيها الإسلامُ، ثمَّ خَرجتُ إلى الطَّائفِ، فأَرسلوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رسولًا، فقِيلَ لي: إنَّه لا يَهيجُ الرُّسُلَ. قال: فخَرجتُ معهم حتَّى قَدِمتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رآني قال: «آنت وَحْشِيٌّ؟». قلتُ: نعم. قال: «أنت قَتلتَ حَمزةَ؟». قلتُ: قد كان مِنَ الأمرِ ما بَلغكَ. قال: «فهل تَستَطيعُ أن تُغَيِّبَ وَجهَك عَنِّي» قال: فَخرجتُ فلمَّا قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فخرج مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ، قلتُ: لأَخرُجَنَّ إلى مُسَيْلِمَةَ، لَعَلِّي أقتُلُه فأُكافِئَ به حَمزةَ، قال: فخرجتُ مع النَّاسِ، فكان مِن أَمرهِ ما كان، قال: فإذا رجلٌ قائمٌ في ثَلْمَةِ جِدارٍ، كأنَّهُ جَمَلٌ أَوْرقُ ثائِرُ الرَّأسِ، قال: فَرمَيْتُه بِحَربَتي، فأَضعُها بين ثَدييهِ حتَّى خَرجتْ مِن بين كَتِفَيْهِ، قال: ووثبَ إليه رجلٌ مِنَ الأنصارِ فضَربهُ بالسَّيفِ على هامَتِهِ.