هو المَلِكُ المنصور، حاجِبُ الممالك الأندلسيَّة، أبو عامر، محمَّدُ بن عبد الله بن أبي عامر مُحمَّد بن وليد المعافري القَحطاني القُرطُبي، قَدِمَ قُرطبةَ شابًّا لطلَبِ العِلمِ والأدَبِ، وكان عنده هِمَّةٌ عاليةٌ، وكَّلَتْه زوجةُ الحاكِمِ المُستنصِر صبحَ البكشنجية أمورَها وإدارةَ ضياعِها وبَقِيَ يترقَّى حتى تولَّى الشُّرطةَ والإشرافَ على الأموالِ، ثمَّ صار وكيلًا لوليِّ العَهدِ هشامٍ، فلمَّا تسَلَّمَ هِشامٌ المؤيَّد المُلكَ وكان صَغيرًا تدبَّر الأمورَ كُلَّها وضبَطَها أشَدَّ ضَبطٍ, فكان القائِمَ بأعباءِ دَولةِ الخليفةِ المروانيِّ المؤيَّدِ باللهِ هِشامِ بنِ الحَكَمِ أميرِ الأندلُسِ، استُخلِفَ المؤيَّدُ وهو ابنُ تِسعِ سنينَ. فكانت مقاليدُ الأمورِ إلى الحاجِبِ ابنِ أبي عامرٍ, الذي استمالَ الأمراءَ والجَيشَ بالأموالِ، ودانَت لهيبتِه الرِّجالُ، وتلقَّبَ بالمنصورِ، واتخذَ الوُزراءَ لنَفْسِه، أمَّا المؤيَّدُ فكان معه صورةً بلا معنًى، بل كان مَحجوبًا لا يجتَمِعُ به أميرٌ ولا كَبيرٌ، بل كان أبو عامرٍ يَدخُلُ عليه قَصرَه، ثمَّ يخرجُ فيقولُ: رسمَ أميرُ المؤمنينَ بكذا وكذا، فلا يخالِفُه أحَدٌ، وإذا كان بعد سَنةٍ أو أكثَر، أركَبَه فَرَسًا، وجعل عليه بُرنُسًا، وحولَه جواريه راكبات، فلا يعرِفُه أحدٌ مِن بينهِنَّ، يخرُجُ يتنَزَّهُ في الزَّهراءِ، ثمَّ يعودُ إلى القَصرِ على هذه الصِّفةِ. كان ابنُ أبي عامرٍ مِن رجالِ الدَّهرِ: رأيًا وحَزمًا، ودَهاءً وإقدامًا. عَمَد أوَّلَ تغَلُّبِه على الدَّولةِ إلى خزائنِ كُتُبِ الحَكَم المُستنصِر، فأبرز ما فيها من تصانيفِ الأوائِلِ والفَلاسِفة- حاشا كتُبِ الطِّبِّ والحسابِ- بمَحضَرٍ من العُلَماءِ، ثمَّ أمرَ بإفرازِ ما فيها وأمَرَ بإحراقِها، فأُحرِقَت، وطُمِرَ بعضُها؛ فعَلَ ذلك تحبُّبًا إلى العوامِّ، وتقبيحًا لِمَذهَبِ الحَكَم. وكان لابنِ أبي عامرٍ مَجلِسٌ في الأسبوعِ يجتَمِعُ إليه فيه الفُضَلاءُ للمُناظرةِ، فيُكرِمُهم ويحتَرِمُهم ويَصِلُهم، ويُجيزُ الشُّعَراءَ، وكان بطلًا شُجاعًا، حازِمًا سائِسًا، غزَّاءً عالِمًا، جَمَّ المحاسِنِ، كثيرَ الفُتوحات، عاليَ الهِمَّة، دام في المملكةِ نَيِّفًا وعشرينَ سَنةً، وكان كثيرَ الغَزوِ للفِرنجة، بلَغَت غَزَواتُه خِلالَ حُكمِه نيِّفًا وخمسينَ غَزوةً، انتصر فيها كلِّها، وكثُرَ السَّبيُ أيامَه, حتى بِيعَت بنتُ عَظيمٍ مِن عُظَماءِ الرُّومِ ذات حُسنٍ وجمالٍ بعشرين دينارًا. دانت له الجزيرةُ, وأَمِنَت به وبعَدلِه وبحُبِّه للجِهادِ والغَزوِ، توفِّيَ بأقصى الثُّغورِ مَبطونًا في مدينةِ سالمٍ في إحدى الغَزَواتِ عن 66 عامًا، ولَمَّا توفِّيَ الحاجِبُ المنصورُ ابنُ أبي عامرٍ، قام في مَنصِبِه ابنُه الملَقَّبُ بالمظَفَّرِ: أبو مروانَ عبد الملك بن محمَّد. وجرى على مِنوالِ والِدِه، فكان ذا سَعدٍ عَظيمٍ، وكان فيه حَياءٌ مُفرِطٌ يُضرَبُ به المَثَلُ، ومع ذلك كان مِنَ الشُّجَعانِ المذكورينَ، فدامَت الأندلُس في أيَّامِه في خيرٍ وخِصبٍ وعِزٍّ إلى أن مات في صَفَر سنة 399. وقام بتدبيرِ دولةِ المؤيَّدِ باللهِ الناصِرُ عبدُ الرَّحمنِ أخو المظَفَّرِ المَعروفُ بشنشول.
هو السلطان أحمد الأول بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول. ولد في 12 جمادى الثانية سنة 998 (18 ابريل سنة 1590م) تولى السلطنة بعد أبيه ولم يتجاوز سنه الرابعة عشرة إلَّا بقليل, وقام بحجز أخيه مصطفى بين الخدم والجواري. كانت أركانُ الدولة في بداية حكمه غيرَ ثابتة، فنارُ الحرب مستعرة مع النمسا غربًا, ومع الصفويين شرقًا؛ حيث كانت الحرب معهم شديدة الوطأة؛ لتولي الشاه عباس الصفوي قيادتها، مما جعلها أعظمَ من كافة الحروب السابقة, فاضطربت أحوالُ الولايات الشرقية عمومًا، وسعت كلُّ أمة من الأمم المختلفة النازلة بها للحصول على الاستقلال، وكان من أهَمِّ الحركات حركةُ الأكراد بقيادة رجل كردي يلقَّب بجان بولاد، والأمير فخر الدين المعني الثاني الدرزي، وغيرهما، لكنْ قيَّض الله للدولة في هذه الشدة الوزير مراد باشا الملقب بقويوجي الذي عُيِّن صدرًا أعظم، وكان قد تجاوز الثمانين؛ ليكون عونًا وعضدًا للسلطان الفتى، فتقلد مع كِبَرِ سِنِّه ووَهَنِ قواه قيادةَ الجيوش وحارب الثائرين بهمَّة ونشاط زائِدَينِ، فانتصر على فخر الدين الدرزي, وجان بولاد الكردي، واستمال قلندر أوغلي أحد زعماء الثورة في الأناضول، وقبض على آخر يدعى أحمد بك وقتله بعد أن فرَّق جنده بالقرب من قونية، وفي سنة 1608 م انتصر على من بقِيَ من العصاة بقرب وان، وفي السنة التالية قَتَل آخر زعماء الثورة المدعو يوسف باشا الذي كان استقَلَّ بصاروخان ومنتشا وآيدين, وبذلك عادت السكينة وساد الأمن بهمَّة هذا الشجاع الذي لُقِّب بسيف الدولة عن استحقاق, وازدادت في أيام السلطان أحمد العلاقاتُ السياسية مع دول الإفرنج، فجددت مع فرنسا العقود والعهود القديمة مع بعض زيادات طفيفة، وفي سنة 1609 جُدِّدت مع مملكة بولونيا- بولندا- الاتفاقات التي أُبرِمَت معها في زمن السلطان محمد الثالث، وأهمُّ ما بها تعهُّد بولونيا بمنع قوزاق الروسية من الإغارة على إقليم البغدان، وتعهُّد الدولة العلية بمنع تتار القرم من التعدي على حدودها، وفي سنة 1612م تحصلت ولايات الفلمنك على امتيازات تجارية تضارع ما مُنحِتَه كلٌّ من فرنسا وإنكلترا, والفلمنك هم الذين أدخلوا في البلاد الإسلامية استعمالَ التبغ (الدخان) فعارض المفتي في استعمالِه وأصدر فتوى بمنعِه، فهاج الجند واشترك معهم بعضُ مُستخدَمي السراي السلطانية، حتى اضطروه إلى إباحته! وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة توفي السلطان أحمد ودُفِن عند جامع سلطان أحمد، وكانت مدة حكمه أربعة عشر عامًا, ولصِغَرِ سِنِّ ابنه عثمان الذي لم يتجاوَزْ ثلاث عشرة سنةً من عمره خالف السلطانُ أحمد العادة المتَّبَعة من ابتداء الغازي عثمان الأول بتنصيب أكبر الأولاد أو أحدهم مكان والده، فأوصى بالمُلكِ من بعده لأخيه مصطفى الأول.
أرادت إيطاليا إقامةَ مملكةٍ لاتينية في ليبيا؛ لإعادتها كما كانت في عهدِ الرومان، ولتأمينِ استيطانِ ثلاثة ملايين إيطالي فيها؛ ومن أجل ذلك: (أقدَمَ الإيطاليون على ارتكابِ آلافِ المجازر الوحشيَّة بدون مُوجِبٍ سوى الانتقامِ مِن المسلمين واستئصالِ شأفتِهم من طرابلس وبرقة، ولَمَّا كانت أراضي الجبل الأخضر من برقة هي أجودَ قطعةٍ مِن برِّ طرابلس، وفيها المياه الجاريةُ، والعيونُ الصافية، والغاباتُ الملتَفَّة، والمروج الخصبة؛ فقد توجَّهت أنظار الإيطاليين إلى استعمارها قبل غيرها، وقاموا بإجلاء القبائِلِ العربية الساكنة في الجبل الأخضر وما جاوره عن أراضيهم، وجمعوا منهم ثمانين ألفَ نسمةٍ رجالًا ونساءً وأطفالًا، وساقوهم إلى صحراء سِرْت في الأراضي الواقعة بين برقة وطرابلس على مسافةِ عشرة أيام من أوطانهم الأصلية، وأنزلوهم في معاطِشَ ومجادِبَ لا يمكِنُ أن يعيش بها بشر، فمات عددٌ كبير منهم جوعًا وعطشًا، وماتت مواشيهم كلُّها مِن فَقدِ الكلأ والماء. وكان أهالي طرابلس وبرقة يزيدون على المليون ونصف المليون قبل الغزو الإيطالي. ولم تمضِ فترةٌ طويلة، حتى انخفض هذا العدد إلى سبعمائة ألفِ نسمة. وبلغ عددُ السكَّان الذين أعدمهم الإيطاليون شنقًا من أهالي طرابلس وبرقة خلال فترة الاحتلال عشرين ألفَ نسمةٍ، وكثيرًا ما شنقوا أناسًا بمجرَّد إرادة قائد، أو مجردِ رغبة ضابط صغير. وقد وقع لهم أنهم شنقوا نساءً بعد أن جرَّدوهن من ثيابِهن وأبقوهن عارياتٍ عِدَّةَ أيام! كما وقع أَّنهم كانوا يسلكون ستين أو سبعين شخصًا في سلسلة واحدة، ويحبسونهم على هذه الصورة مدةً إلى أن يموتوا. وجنَّد الإيطاليون من أهالي الجبل الأخضر برقة كلَّ الرجال من سنِّ البلوغ إلى الخامسة والأربعين لِيُحاربوا بهم إخوانهم. ثم عَمَدوا إلى الأحداث من فوق 4 سنوات حتى 12 سنة، فأخذوهم قهرًا من أحضان آبائهم وأمهاتهم، في يومٍ تشيبُ مِن هوله الأطفالُ، ودفعوهم إلى إيطاليا لأجل تربيتِهم وتنشئتِهم في النصرانية. واغتصبوا النساءَ وقتلوا منهن الكثيراتِ ممَّن دافعْنَ عن شرفِهنَّ حتى النهاية. وكان نحوًا من مِئَتي امرأة من نساء الأشراف، قد فرَرْن إلى الصحراء قبل وصول الجيش الإيطالي إلى الكفرة، فأرسلت القيادةُ الإيطالية قوةً في إثرِهنَّ لمطاردتهن حتى قبضوا عليهنَّ وسَحبوهن إلى الكفرة، حيث خلا بهنَّ ضباط الجيش الإيطالي واغتصبوهن. وقد هتكوا عِرضَ سبعين أسرة شريفة من أشراف الكفرة، الذين كانت الشمس تقريبًا لا ترى وجوه نسائهنَّ من الصونِ والعفاف. ولما احتجَّ بعض الشيوخ على هتك أعراضِ السيدات المذكورات، أمر القائدُ الإيطالي بقَتلِهم. ثم استباح الإيطاليون الزاويةَ السنوسية بالكفرة -المسماة بالتاج- وأراقوا الخمور فيها، وداسوا المصحفَ الشريف بالأقدام. وحملوا الشيخ سعد (شيخ قبيلة الفوائد)، وخمسة عشر رجلًا معه من الشيوخ، وقذفوا بهم من الطائراتِ على مشهد من أهلهم، حتى إذا وصل أحدُهم إلى الأرض وتقطع إربًا، صَفَّق الإيطاليون طرَبًا، ونادوا بالعربِ قائلين: (ليأتِ محمد هذا نبيُّكم البدوي الذي أمركم بالجهاد، وينقذُكم من أيدينا)!
وُلد حافظ سليمان الأسد في 6 أكتوبر 1930م، في مدينةِ القِرداحةِ بمحافظة اللاذقيَّةِ، لأسرةٍ كانت تعمَلُ في فلاحة الأرض، أتمَّ تعليمَه الأساسي في مدرسة قريته التي أنشأها الفرنسيون، عندما أدخلوا التعليم إلى القرى النائية، وكان أولَ مَن نال تعليمًا رسميًّا في عائلته، ثم انتقلَ إلى مدينة اللاذقيَّةِ، حيث أتمَّ تعليمَه الثانوي في مدرسة جول جمال، ونال شهادة الفرع العلمي، لكنَّه لم يتمكَّنْ من دخول كلية الطب في الجامعة اليسوعية ببيروت، كما كان يتمَنَّى لتردِّي أوضاعِه المادية والاجتماعية؛ لذا التحَقَ بالأكاديمية العسكرية في حمصَ عامَ 1952م، ومن ثَمَّ التحقَ بالكلية الجويةِ؛ ليتخرَّجَ فيها برُتْبة ملازم طيار عامَ 1955م، ليُشاركَ بعدَها ببطولة الألعاب الجويةِ ويفوزَ بها.
التحقَ بحزب البعث عامَ 1946م عندما شُكِّل رسميًّا أولُ فرعٍ له في اللاذقيَّة، كما اهتمَّ بالتنظيمات الطلابيةِ، حيث كان رئيسَ فرعِ الاتحاد الوطني للطلبةِ في محافظة اللاذقيَّةِ، ثم رئيسًا لاتحادِ الطلبةِ في سوريا.
بعدَ سُقوطِ حُكمِ أديب الشيشكلي، واغتيال العقيد عدنان المالكي، انحسَمَ الصراعُ الدائرُ بينَ الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزبِ البعثِ العربي الاشتراكي لصالح البَعثيِّين، ممَّا سمحَ بزيادة نشاطهم، وحُصولهم على امتيازاتٍ استفاد منها هو، حيث اختير للذهاب إلى مصرَ للتدرُّب على قيادة الطائرات النفَّاثة، ومن ثَمَّ أُرسل إلى الاتحاد السوفيتي؛ ليتلقَّى تدريبًا إضافيًّا على الطيران الليلي بطائرات ميغ 15، وميغ 17، والتي كان قد تزَوَّد بها سلاحُ الجوِّ السوري.
انتقل لدى قيامِ الوَحْدةِ بين سوريا، ومصرَ معَ سِربِ القتالِ الليلي التابعِ لسلاحِ الجوِّ السوري للخدمةِ في القاهرة.
لم يتقبَّلْ مع عددٍ من رِفاقه قرارَ قيادة حزب البعث بحلِّ الحزب عام 1958م، استجابةً لشروط عبد الناصِرِ لتحقيق الوَحْدة، فقاموا بتشكيل تنظيمٍ سريٍّ عامَ 1960م، عُرف باللجنة العسكرية (هي التي حكَمَت سوريا فيما بعدُ).
بعدَ أن استولى حزبُ البعث على السُّلْطة في انقلابِ 8 مارس 1963م، فيما عُرف باسمِ ثورة الثامنِ من آذار، أُعيد إلى الخدمة من قِبَل صديقِه ورَفيقِه في اللجنة العسكرية مدير إدارة شؤون الضباط آنذاكَ المقدمُ صلاح جديد، ورُقِّيَ بعدَها في عام 1964م من رتبه رائد إلى رتبة لواء دَفْعةً واحدةً، وعُيِّنَ قائدًا للقوَّات الجوية والدفاع الجوي، وبدأت اللجنة العسكرية بتعزيز نفوذِها، وكانت مُهمَّتُه توسيعُ شَبكة مُؤيِّدي وأنصار الحزب في القوات المسلَّحة.
تولَّى منصبَ رئاسة مجلس الوزراء، ووزير الدفاع في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1970م، ثم ما لبِثَ أنْ حصَلَ على صلاحيَّات رئيس الجمهورية في 22 شباط/فبراير 1971م، ليثبتَ في 12 آذار/مارس 1971م رئيسًا للجمهورية العربية السورية، واستمرَّ في رئاسة سوريا حتى وفاته إثْرَ غَيبوبةٍ استمرت يومَينِ، بسبب مرضِ سرطان الدم الذي كان يُعاني منه منذُ سنواتٍ، وخلَفَه في رئاسة الجمهورية ابنُه بشَّار الأسد.
اجتمَع المسلمون في القادِسيَّة ثلاثون ألفًا بقِيادةِ سعدِ بن أبي وقَّاص بعدَ أن أَمَّرَهُ عُمَر بن الخطَّاب بَدَلَ خالدِ بن الوَليد، مكَث سعدٌ في القادِسيَّة شهرًا يَبُثُّ السَّرايا في كلِّ الجِهاتِ، ويأتي بالغَنائِم، فأَمَّر يزدجردُ رُسْتُمَ على جيشٍ كثيفٍ مِن مائةٍ وعشرين ألفًا، ومِثلِها مِن المَدَدَ، فبعَث سعدٌ إليه مَن يَدعوه للإسلامِ وحاوَل الفُرْسُ أن يغروا المسلمين، فطلبوا إرسالَ أكثرِ مِن رجلٍ فأتاهُم رِبْعِيٌّ، ثمَّ حُذيفةُ بن مِحْصَنٍ، وأخيرًا أتاهُم المُغِيرةُ ولم تنفع في شيءٍ، فبدأ القِتالُ بعدَ الظَّهيرةِ وبَقِيَت المعركةُ ثلاثةَ أيَّام، وفي اليومِ الرَّابع اشْتدَّ أَثَرُ الفِيَلَةِ على المسلمين، ثمَّ في هذا اليومِ هَبَّتْ رِيحٌ شديدةٌ على الفُرْسِ أزالت خِيامَهم فهربوا وقُتِلَ رُستمُ قائدُهم، وتَمَّتْ الهزيمةُ على الفُرْسِ، وقُتِلَ منهم ما لا يُحْصى، ثمَّ ارتحلَ سعدٌ ونزَل غَربيَّ دِجْلة، على نهرِ شير، قُبالةَ مَدائنِ كِسرى، ودِيوانِه المشهورِ، ولمَّا شاهَد المسلمون إيوانَ كِسرى كَبَّروا وقالوا: هذا أبيضُ كِسرى، هذا ما وَعَدَ الله ورسولُه. واسْتُشْهِدَ مِن المسلمين ألفٌ وخمسمائةٍ، وقُتِلَ مِن الفُرْسِ عشرون ألفًا، وغَنِمَ المسلمون الكثيرَ، وقِيلَ: إنَّها كانت في سَنَةِ خمسةَ عشرَ.
هو أمينُ الأُمَّةِ عامرُ بن عبدِ الله بن الجَرَّاح رضِي الله عنه، اشْتَهَر بكُنْيَتِه, أبي عُبيدةَ، أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، شَهِدَ بدرًا وأُحُدًا والمَشاهِدَ كُلَّها مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو مِن السَّابقين إلى الإسلامِ، وهاجَر إلى الحَبَشةِ وإلى المدينةِ أيضًا، وكان يُدْعى: القويَّ الأمينَ، آخَى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين أبي طَلحةَ الأنصاريِّ، كان مِن القُوَّادِ الفاتحين زَمَنَ عُمَر، حيث عَيَّنهُ قائدًا لِجُيوشِ الشَّام بعدَ عَزْلِ خالدِ بن الوَليد، وكان عُمَرُ يُجِلُّهُ كثيرًا حتَّى قِيلَ: إنَّ عُمَر قال: لو كان أبو عُبيدةَ حَيًّا لاسْتَخْلَفْتُه, وقال عُمَرُ لأصحابِه يومًا: تَمَنَّوْا. فقال رجلٌ أَتَمَنَّى لو أنَّ لي هذه الدَّارَ مَملوءةٌ ذهبًا انْفقتُه في سَبيلِ الله عزَّ وجلَّ. ثمَّ قال: تَمَنَّوْا. فقال رجلٌ: أَتَمَنَّى لو أنَّها مملوءةٌ لُؤْلُؤًا وزَبَرْجَدًا أو جَوْهرًا أُنْفِقُه في سَبيلِ الله عَزَّ وجلَّ وأَتَصدَّقُ به. ثمَّ قال: تَمَنَّوْا. فقالوا: ما نَدري يا أميرَ المؤمنين. فقال عُمَرُ: أَتَمَنَّى لو أنَّ هذا الدَّارَ مملوءةٌ رِجالًا مِثلَ أبي عُبيدةَ بن الجَرَّاحِ. تُوفِّيَ في طاعون عَمْواس على المشهورِ.
انْتدَب ثلاثةٌ مِن الخَوارجِ، وهُم: عبدُ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ المُراديُّ، والبَرْكُ بن عبدِ الله التَّميميُّ، وعَمرُو بن بكرٍ التَّميميُّ، فاجتمعوا بمكَّةَ، فتَعاهَدوا وتَعاقَدوا لَيَقْتُلَنَّ هؤلاء الثَّلاثةُ: عَلِيَّ بن أبي طالبٍ رضِي الله عنه، مُعاويةَ بن أبي سُفيانَ، وعَمرَو بن العاصِ، ويُريحوا العِبادَ منهم، فقال ابنُ مُلْجِمٍ: أنا لِعَلِيٍّ. وقال البَرْكُ: أنا لِمُعاويةَ، وقال الآخرُ: أنا أَكْفِيكُم عَمْرًا، فتَواثَقوا أن لا يَنكُصوا، واتَّعَدوا بينهم أن يَقَعَ ذلك ليلةَ سبعَ عشرةَ مِن رمضانَ، ثمَّ تَوجَّه كلُّ رجلٍ منهم إلى بلدٍ بها صاحِبُه، فقَدِمَ ابنُ مُلْجِمٍ الكوفةَ، وبَقِيَ ابنُ مُلْجِمٍ في اللَّيلةِ التي عزَم فيها على قَتْلِ عَلِيٍّ يُناجي الأشعثَ بن قيسٍ في مَسجدِه حتَّى طلَع الفجرُ، فقال له الأشعثُ: ضَحِكَ الصُّبحُ، فقام وشَبِيبٌ فأخَذا أَسْيافَهُما، ثمَّ جاءا حتَّى جلَسا مُقابِلَ السُّدَّةِ التي يَخرُج منها عَلِيٌّ، فضرَب عَلِيًّا بسَيْفِه المَسمومِ على رَأسِه، فلمَّا قُتِلَ أَخَذوا عبدَ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ وعَذَّبوهُ فقَتَلوهُ. وكانت مُدَّةُ خِلافةِ عَلِيٍّ خمسَ سنين، فجَزاهُ الله عن المسلمين خيرًا، ورضِي عنه وأَرضاهُ، وهو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ.
همَّت الرُّوم بما لم ينالوا من طلَبِ الثغور، فنكَثوا العهدَ، فتجهَّزَ الحكَمُ بن هشامٍ إليهم حتى جاز جبلَ السارة شماليَّ طليطلة، ففرَّت الرومُ أمامه حتى تجمَّعوا بسمورة، فلما التقى الجمعانِ، نزل النصرُ وانهزم الكفرُ، وتحصَّنوا بمدينة سمورة، وهي كبيرة جدًّا، فحصرها المسلمون بالمجانيق، حتى افتَتَحوها عَنوةً، وملكوا أكثَرَ شوارعِها، واشتغل الجندُ بالغنائم، وانضمَّت الرومُ إلى جهة من البلد، وخرجوا على حمية، فقتلوا خلقًا في خروجهم، فكانت غزوةُ الحكَمِ من أعظم المغازي، لولا ما طرأ فيها من تضييعِ الحَزْم، فقد رامت الرومُ السِّلْم، فأبى عليهم الحكَمُ، ثم خرج من بلادهم خوفًا من الثلوجِ، فلمَّا كان العامُ الآتي، استعدَّ أعظَمَ استعداد، وقصَدَ سمورة، فقتل وسَبى كلَّ ما مر به، ثم نازلها شهرينِ، ثم دخلوها بعد جَهدٍ، وبذلوا فيها السَّيفَ إلى المساء، ثم انحاز المسلمونَ، فباتوا على أسوارها، ثم صَبَّحوهم من الغد، لا يُبقُونَ على مُحتَلِمٍ. فقُتِلَ في سمورة ثلاثمائة ألف نفس، فلما بلغ الخبَرُ مَلِك روميَّة، كتبَ إلى الحكَمِ يرغَبُ في الأمان، فوضع الحكَمُ على الرُّوم ما كان جده عبدالرحمن الداخل وضع عليهم، وزاد عليهم أن يجلِبوا من ترابِ مدينةِ روميَّة نفسِها ما يُصنَعُ به أكوامٌ بشرقيَّ قُرطبة؛ صَغارًا لهم، وإعلاءً لِمَنارِ الإسلام.
قامت الحربُ بين إسماعيلَ بنِ أحمدَ الساماني وعمرو بن الليث بنِ يعقوبَ الصَّفار؛ وذلك أنَّ عمرَو بنَ الليث لَمَّا قَتلَ رافِعَ بن هرثمة وبعث برأسِه إلى الخليفةِ، سأل منه أن يُعطِيَه ما وراء النهرِ مضافًا إلى ما بيده من ولاية خُراسان، فأجابه إلى ذلك فانزعج لذلك إسماعيلُ بنُ أحمد الساماني نائبُ ما وراء النهر، وكتب إليه: إنَّك قد وُلِّيتَ دنيا عريضةً فاقتَنِعْ بها عمَّا في يديَّ مِن هذه البلاد، فلم يقبَلْ، فأقبل إليه إسماعيلُ في جيوشٍ عظيمةٍ جدًّا، فالتقيا عند بلخ فهُزِمَ أصحابُ عمرو، وأُسِرَ عمرٌو، فلما جيء به إلى إسماعيلَ بنِ أحمد قام إليه وقبَّلَ بين عينيه وغسَلَ وجهَه وخلع عليه وأمَّنَه وكتب إلى الخليفةِ في أمره، ويُذكَرُ أنَّ أهلَ تلك البلاد قد مَلُّوا وضَجِروا من ولايته عليهم، فجاء كتابُ الخليفة بأن يتسَلَّمَ حواصِلَه وأموالَه فسَلَبَه إيَّاها، فآل به الحالُ بعد أن كان مطبخُه يُحمَلُ على ستِّمائةِ جمل إلى القيدِ والسَّجنِ، ومن العجائب أنَّ عَمرًا كان معه خمسونَ ألف مقاتل لم يُصَب أحدٌ منهم ولا أُسِر سواه وحده، وهذا جزاءُ مِن غلب عليه الطَّمعُ، وقاده الحِرصُ حتى أوقعه في ذُلِّ الفَقرِ، وهذه سنَّةُ الله في كل طامعٍ فيما ليس له، وفي كلِّ طالبٍ للزيادةِ في الدُّنيا.
هو الأميرُ الكبيرُ, قائِدُ الجُيوشِ, أبو الحسَنِ جَوهرُ بنُ عبد الله الروميُّ الصقلِّيُّ، قائد المعِزِّ الفاطميِّ, مِن نُجَباء الموالي. كان عاليَ الهِمَّة, نافِذَ الأمر. فتح مِصرَ للفاطميِّينَ فأنهى الحُكمَ الإخشيديَّ عليها لَمَّا تهيَّأَ له أخذُ البلاد بمُكاتبةٍ مِن أمراء مصر, عندما قَلَّت عليهم الأموالُ, اختَطَّ القاهِرةَ في اللَّيلةِ التي دخل فيها مِصرَ, والجامِعَ الأزهَرَ، كُلُّ ذلك قبلَ مجيءِ المعِزِّ الفاطميِّ إليها، ثمَّ لَمَّا تَمَلَّك العزيزُ أرسَلَه إلى فتح دمشق، لكنَّه انسحب لاستنجادِهم بالقرامِطةِ، فعُزِلَ عن القيادةِ إلى أن توفِّيَ. قال الذهبي: "كان جوهرٌ حسَنَ السيرةِ في الرَّعايا, عاقِلًا أديبًا, شُجاعًا مَهيبًا, لكِنَّه على نِحلةِ بَني عُبَيدٍ، التي ظاهِرُها الرَّفضُ, وباطِنُها الانحلالُ. وعُمومُ جُيوشِهم من البربَرِ، وأهلُ زعارةٍ وشَرٍّ لا سيَّما مَن تَزَندقَ منهم, فكانوا في معنى الكَفَرةِ, فكم ذاقَ المُسلِمونَ منهم من القَتلِ والنَّهبِ وسَبيِ الحريمِ، ولا سيَّما في أوائِلِ دَولتِهم, حتى إنَّ أهلَ صور استنجدوا بنصارى الرُّومِ لَمَّا لَحِقَهم من المغاربةِ مِن الظُّلمِ والجَورِ وأخْذِ الحَريمِ مِن الحَمَّامات والطُّرُقِ أمرٌ كبيرٌ"، فقاموا عليهم, وقَتَلوا فيهم فهربوا. توفِّيَ جَوهرٌ في هذه السَّنةِ في القاهرةِ، ودفن في الجامعِ الأزهر.
اجتمعت الفرنجُ وملوكُها وقمامصتها وجنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمرُ على المسلمين واشتدَّ خوفُهم، وكاتَبَ طغتكين أتابك دمشق أمراءَ التركمان من ديار بكر وغيرها وجمعهم، وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج، واستخلف بها ابنَه تاج الملوك بوري فكان بها، كلما جاءت طائفة أحسن ضيافتَهم وسَيَّرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتالُ، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابُه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسَه ولحقهم وتبعهم الفرنجُ وبقي التركمان لم يقدِروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة، فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجِلَهم ليس له منعٌ ولا حامٍ، حملوا على الرجَّالة فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكرَ الفرنج وخيامَهم وأموالَهم وجميع ما معهم، وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يُحصى كثرةً، فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالِمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتَهم قتلى وأموالهم منهوبة تمُّوا منهزمين لا يلوي الأخُ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كلُّ واحدةٍ منهما من صاحبتِها.
وَفَدَ لدمشق رجلٌ من بلاد التتار يقال له الشيخُ براق الرومي- كان في الأصل مريدًا لبعض الشيوخِ في البلاد الروميَّة- في تاسع جمادى الأولى، ومعه جماعةٌ من الفقراء نحو المائة لهم هيئةٌ عجيبةٌ، وعلى رؤوسِهم كلاوت لباد مقصَّصة بعمائِمَ فوقها، وفيها قرونٌ من لباد شبه قرون الجاموس فيها أجراسٌ، ولِحاهم مُحَلَّقة دون شواربهم خلافًا للسنَّة، ولُبسُهم لبابيدُ بيضاء، وقد تَقَلَّدوا بحبالٍ منظومة بكعاب البقر، وكلٌّ منهم مكسور الثنية العُليا، وشيخُهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدامٌ وجرأة وقوَّةُ نفس وله صولة، ومعه طبلخاناه- فرقة الطبول والأبواق- تدق له نوبة، وله محتَسِبٌ على جماعته يؤدِّبُ كُلَّ من ترك شيئًا من سُنَّتِه بضرب عشرينَ عصًا تحت رجلَيه، وهو ومن معه ملازِمونَ التعبُّدَ والصلاة، وأنه قيل له عن زِيِّه، فقال: أردتُ أن أكونَ مَسخرةَ الفُقراءِ، وذكر أن غازان لما بلغه خَبَرُه استدعاه وألقى عليه سَبُعًا ضاريًا، فزجره فهرب منه السَّبُع، فجَلَّ في عين غازان ونثر عليه عشرة آلاف دينار، وطلب دخولَ مصرَ لكِنَّه مُنِعَ من ذلك، فسار إلى القدسِ، ثم رجع إلى بلاده لأنَّه لم يلقَ قَبولًا في دمشق، وبراق هذا أصلُه من الروم.
هو الأميرُ الكبير الأمير سيفُ الدين جوبان بن تلك بن تداون المغولي نائبُ السلطانِ أبي سعيدِ بن خربندا المغولي مَلِك التَّتار، وجوبان هذا هو الذي ساق قناةَ الماء الواصِلةَ إلى المسجد الحرام، وقد غَرِمَ عليها أموالًا جزيلة كثيرة، وله تربةٌ بالمدينة النبوية، ومدرسةٌ مشهورة، وله آثارٌ حَسَنة، وكان جيِّدَ الإسلامِ، له همَّة عالية، وقد دبَّرَ الممالِكَ في أيام السلطان أبي سعيد مُدَّةً طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مَسكَه والتخلُّصَ منه فقَتَل ابنه خواجا رمشتق في السنة الماضية، وفر ابنُه الآخر دمرداش هاربًا إلى سلطان مصر، ثمَّ قَتَلَ أبو سعيد نائبَه جوبان بعد ابنه بقليلٍ، وكان من أسباب قتل جوبان أنَّه كان يريد أن يتفَرَّد بالمُلكِ مِن دون أبي سعيدٍ، فقد أصبح كلُّ شَيءٍ في يَدِه من أمرٍ ونهيٍ، وولَّى أولادَه الإقطاعاتِ والولاياتِ، فكان هذا من أسبابِ حَنَق أبي سعيد عليه وقَتْلِه، ففي يوم الجمعة آخِرَ شَهرِ ربيع الآخر من السنة التالية أُنزِلَ الأميرُ جوبان وولده من قلعة المدينة النبوية وهما ميِّتان مُصبران في توابيتِهما، فصُلِّيَ عليهما بالمسجد النبويِّ، ثم دفنا بالبقيعِ عن مرسومِ السلطان، وكان مرادَ جوبان أن يُدفَنَ في مدرسته، فلم يُمكَّنْ من ذلك.
على الرغم من فشل محاولات البرتغال من بناء مدينة لهم في ثغور المغرب على ساحل البريجة سنة 907 بسبب مقاومة المسلمين لهم, إلا أنهم خططوا للعودة إلى هذا الموضع فانتهوا إليه هذا العام وتحيَّنوا غفلة أهل البلاد وشرعوا في بناء حصن مربع على كل ربعٍ منه برج وثيق، ودأبوا في العمل ليلًا ونهارًا، فلم تمض مدة يسيرة حتى فرغوا منه وامتنعوا على المسلمين به، ثم شرع البرتغال بعد الفراغ من هذا الحصن في إدارة سور المدينة على أوثق وجه وأحكمِه, ثم أداروا خارج السور خندقًا فسيحًا وجعلوا عمقَه أربعة عشر شبرًا بحيث بلغوا به الماء، وإذا فاض البحر ملأ ما بين جوانبه واتخذوا للمدينة ثلاثة أبواب أحدها للبحر، واثنان للبر، وجعلوا أمامهما قنطرتين بالعمل الهندسي بحيث تُرفعان وتُوضعان وقت الحاجة إلى ذلك, فصارت المدينة بهذا كلِّه في غاية المناعة، وجعلوا داخل المدينة خمس حارات وسمَّوا كل حارة باسم كبير من قدمائهم على عادتهم في ذلك. واتخذوا بها أربع كنائس واتخذوا المخازن والأهراء للاختزان وسائر المرافق, وأوطنوها بأهلِهم وعيالهم، وكان فيها جماعة من أشرافهم وذوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وغيرها، وكانوا يعدون فيها أربعة آلاف نفس ما بين المقاتِلة والعيال والذرية، وكانوا يأملون الاستيلاءَ منها على مراكش.
هو القائد العثماني خيرُ الدين خضر بن يعقوب بن يوسف أحدُ أكبرِ قادة الأساطيل العثمانية، وأحد رموزِ الجهاد البحري، لقَّبه السلطان سليم الأول بخير الدين باشا، وعُرِف لدى الأوروبيين ببربروسا، أي: ذي اللحية الحمراء، ولِدَ سنة 871 ويذكَرُ أن والده يعقوب أصلُه من بقايا الفاتحين المسلمين الأتراك الذين استقرُّوا في جزيرة مدللي إحدى جزر الأرخبيل، وأمه سيدة مسلمة أندلسية كان لها الأثرُ على أولادها في تحويل نشاطِهم شطرَ بلاد الأندلس التي كانت تئِنُّ في ذلك الوقت من بطش الإسبانِ والبرتغاليين، عاش هو وأخوه عروج في جربة التونسية، وجعلاها مركزًا لعملياتهم العسكرية في البحر المتوسط، والتصدي للقراصنة الصليبيين, فحقَّق هو وأخوه عروج باشا كثيرًا من الانتصارات ضِدَّ النصارى القراصنة، ثم تحالف خير الدين مع العثمانيين لمواصلة نشاطه الجهادي المميَّز، وقد أُعجِب به السلطان العثماني سليمان القانوني حتى عيَّنه أميرَ البحار، وخاض مع العثمانيين كثيرًا من الحروب البحرية الهامَّة، خاصةً في سواحل شمال إفريقيا والسواحل الأوروبية, ثم عُيِّنَ واليًا على الجزائر، وكان شعلةً من النشاط في القتال والجهاد البحري, فاكتسب شهرةً واسعة حتى في أوروبا التي أصبحت تخافُه, وتنسِبُ كلَّ شر يصيبها إلى خير الدين بربروسا. توفي في الجزائر.