كان قبل سنتين أمَرَ تنكز نائبُ السلطان على دمشقَ بإجراء عينٍ إلى القدس، حيث قلَّ الماءُ فيها كثيرًا وبلغه ما فعله جابان بإجراءِ عَينٍ في مكَّةَ، فأراد أن يكون له أيضًا شَرَفُ ذلك، وفي هذه السنة كَمُلت العينُ التي أجراها الأمير تنكز بالقدس، بعد ما أقام الصنَّاعُ فيها مُدَّةَ سنة، وبنى لها مصنعًا- خزانًا- سعته نحو مائتي ذراع مرخَّم بين الصخرة والمسجد، وركَّب في الجبل مجاريَ نَقَب لها في الحَجَرِ حتى دخل الماءُ إلى القدس، فكان لها يومٌ مشهودٌ، وأنشأ تنكز بالقدسِ أيضًا خانكاه وحمام وقيسارية –سوق كبير- فعَمرَت القُدسُ.
هو الأمير المتوكل أبو عبد الله محمد الخامس بن الحسن الحفصي صاحب تونس، ومن الأعمال التي تنسب إليه المكتبة العبدلية التي أسسها بجامع الزيتونة, وبعد وفاته قام بالأمر بعده ابنه الحسن بن محمد خلفًا له مع وجود الابن الأكبر رشيد، فلجأ رشيد إلى خير الدين بربروسا حاكم الجزائر وطلب مساعدته لاسترداد تونس من أخيه المتغلب عليها، فاستأذن خير الدين السلطان العثماني سليمان، فأذن له وأمده بقوة من الجند، فاستعدَّ لامتلاكها واستطاع استعادتها في سنة 937.
بعد أن استقَرَّ الإمام فيصل بن تركي في الرياض وبايعه رؤساءُ القبائل وأمراء بلدان نجد، تطلع إلى الخليج، وبدأ باستعادة قَصرِ الدمام من آل خليفة حُكَّام البحرين، وجعل فيه قوةً سعودية، وحاول أكثَرَ مِن مرة ضَمَّ البحرين ولكِنَّه لم يتمكَّنْ من ذلك؛ بسبب التدخُّلات البريطانية التي كانت تخشى على مصالحِها ونفوذها، فعَمَدت إلى ضرب ساحل الأحساء، وانتهى الأمرُ بأن توسط سعيد بن سحنون حاكِمُ أبو ظبي بين الطرفين، على أساس أن تقوم البحرين بدفعِ الزكاة للدولة السعودية سنويًّا.
تنازلت الدولةُ العثمانية عن بناء القلاع بأراضي إمارة الجبَلِ الأسود الواقعة على شاطئ الأدرياتيكي إلى الشمالِ من ألبانيا، وكانت إمارةُ الجبل الأسود خاضعةً لحكم الدولة العثمانية، وأراد أميرُها الاستقلالَ بحُكمِها كما قام بمساعدة ثوَّار إقليم (الهرسك) ضِدَّ الدولة العثمانية التي ما لبث أن تمكَّنَت من القضاء تمامًا على جميع حركات التمَرُّد، وشرعت في بناء عِدَّةِ قلاع وحصون داخِلَ بلاد الجبل الأسود، فتدخَّلت الدولُ الأوربية لِثَنيِ الدولة العثمانية عن هذا الأمر، واضطرَّ السلطان العثماني إزاء ذلك إلى التخلِّي عن بناء هذه الحصونِ.
ظهرت فكرة محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي مع تزايد غطرسة الكنيسة الكاثوليكية واجتهادها في مراقبة ضمائر الناس في الدول التي كانت تحت سيطرتها، فكان بابا روما يكلف بعض الأساقفة بتعقب من كانت أفكاره مخالفة لتعاليم الكنيسة وطبق هذا النظام في البداية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا حيث كان يتجول مندوبو البابا في أنحاء البلاد لتقصي أخبار الناس واتهام كل مخالف بالكفر ثم القبض عليه ومعاقبته, وكانت تُعقَد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت بمثابة محاكم التفتيش المبدئية. ثم تحل المحكمة بعد مطاردة المتهمين والقضاء عليهم. وهكذا عذبت الكنيسة الكاثوليكية أجيالًا كاملة من المفكرين والعلماء في أنحاء أوربا بكل قساوة وبطرق إجرامية لا تمتُّ للإنسانية بصلة. كان الملك فرديناند ملك أراغوان والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة وقتذاك معنيين بالمتنصِّرين في الأندلس بصفة خاصة، آملين أن يأتي وقت يصبح فيه جميع سكان الأندلس من المسلمين مسيحيين مخلصين، وأجرت إيزابيلا مدرسة لأصول الدين لتعليمهم، ومع ذلك فقد احتفظ كثير منهم بعقيدته السالفة سرًّا ولقنوها أبناءهم. وسكنت كراهية الكاثوليك لليهود غير المعمَّدين إلى حين، بينما اشتد الحنق على "المسيحيين الجدد" ونشبت الفتن ضدهم في طليطلة (1467م) وبلد الوليد (1470م) وقرطبة (1472م) وسيجوفيا (1474م) وأصبحت المسألة الدينية عنصرية، ودبر الملك والملكة الوسائل التي تحول هذا المزيج المضطرب في الشعوب واللغات والمذاهب المتصارعة إلى وحدة منسجمة وسلام اجتماعي. ورأيَا أن خير وسيلة لبلوغ هذه الأهداف هي تأسيس محاكم التفتيش في إسبانيا. خاصة أن إيزابيلا التي عاشت في جو علماء الدين كانت تتبنى آراء دينية متشددة تجاه المخالفين للكاثوليكية من النصارى واليهود فضلًا عن المسلمين. ولعل فرديناند، الذي كان رجلًا صلبًا من رجال الدنيا قد ارتاب في بعض إجراءات هذه المحاكم، ولكن يبدو أنه اقتنع بأن توحيد العقيدة الدينية يجعل إسبانيا أيسر حكمًا، وأقدر في التغلب على أعدائها. ولقد أصدر البابا سكستوس الرابع، بناء على رغبة فردينان وإيزابيلا، قرارًا في هذه السنة 883 (أول نوفمبر 1478م) يفوض لهما أن يعينا ستة قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش؛ ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها. ووضعت الهيئة برُمَّتها بعد سنة 889 (1483م) تحت إمرة وكالة حكومية، ولم تمسَّ محاكم التفتيش في أول أمرها اليهود الذين لم يتنصروا، وإنما وجهت أهوالها إلى المتنصرين الذين يشكُّ أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو إلى الإسلام، وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وكان اليهودي غير المتنصر إلى سنة 900 (1492م) آمنًا على نفسه أكثر من المعمَّد، وطالب القس والرهبان والمتعبدون الإعفاء من التفتيش، ولكن مطالبهم رُفضت، وقاوم اليسوعيون تشريعَها نصف قرن، ولكنهم غُلبوا على أمرهم أيضًا, وكانت محاكم التفتيش تطالب بتعاون من جميع الموظفين المدنيين، وشرعت القوانين والإجراءات الخاصة بها. وكانت قبل أن تقيم قضاتها في مدينة من المدن تذيع في الشعب عن طريق منابر الكنائس منشورًا دينيًّا "يطالب كل من له علم بهرطقة أن يكشف عنها لرجال التفتيش, وشجع كل امرئ على أن يكون شاهدًا، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه، وكان البابا ستيكوس الرابع أصدر الموافقة على طلب الملكة إيزابيلا ملكة مملكة قشتالة بإنشاء محاكم تفتيش لتزيد من سلطانها باسم الدين النصراني, كما أصدر الملك أنريكي الرابع، ملك قشتالة، سنة 863 (1459م) أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المارقين المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وهكذا ابتدأ الاضطهاد الكنسي ضد اليهود المتنصرين فأحرق منهم الجمَّ الغفير قبل سقوط غرناطة. ولم تشمل هذه المحاكم آنذاك المسلمين أو المدجنين- المداهنين- بعدُ، بل أرسل سكتوس الرابع- بابا روما- مرسولًا كلفه بالتحقيق والقبض على الخارجين على الكنيسة ومعاقبتهم. فخاف الملكان فراندو وإيزابيلا أول الأمر على سلطتِهما ووقفا ضد هذه المحاولة البابوية، فأوقفا القساوسة من متابعة النصارى من أصل يهودي. لكن مقاومة الملكين الكاثوليكيين لم تدم طويلًا؛ إذ أرسلا سفيرهما إلى البابا سنة 1478 م في هذا الأمر. فأصدر البابا مرسومًا في شهر نوفمبر من سنة 1478 م بإنشاء محكمة التفتيش في قشتالة وتعيين المفتشين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين, وندب مفتشين إلى إشبيلية، عاصمة قشتالة آنذاك. وهكذا ابتدأت محاكم التفتيش عملها الجهنمي ضد المسلمين في إسبانيا. فكانت إجراءات هذه المحاكم تتم باسم الديانة الكاثوليكية وتقضي على المناوئين لها ولسياستها ومصادرة ممتلكاتهم، والأمر بتعذيبهم وإحراقهم، ثم انتقلت هذه المحاكم إلى غرناطة بعد سقوطها بيد الإسبان سنة 897 (1489م).
احتلَّ الفرنج حصن أفامية من بلد الشام، وسبب ذلك أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان صاحب حلب أرسل إلى صاحب مصر العُبيدي الإسماعيلي، وكان يميل إلى مذهبهم، يستدعي منهم من يسلِّم إليه الحصن، وهو من أمنع الحصون، فطلب خلف بن ملاعب الكلابي -كان متغلبًا على حمص- من صاحب مصر العبيدي أن يكون هو المقيم به، وقال: إنني أرغب في قتال الفرنج وأوثرُ الجهاد. فسلموه إليه وأخذوا رهائنه، فلما ملكه خلع طاعتَهم ولم يرعَ حقهم، وأقام بأفامية يُخيف السبيل، ويقطع الطريق، واجتمع عنده كثيرٌ من المفسدين، فكثُرت أمواله، ثم إن الفرنج ملكوا سرمين، وهي من أعمال حلب، وأهلها غلاة في التشيع، فلما ملكها الفرنج تفرَّق أهلها، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده، فأكرمه وأحبه ووثق به، فأعمل القاضي الحيلةَ عليه، وكتب إلى أبي طاهر، المعروف بالصائغ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان، ووجوه الباطنية ودعاتهم، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب، وأن يسلِّمَ أفامية إلى الملك رضوان، وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلًا من خيول الفرنج، وسلاحًا من أسلحتهم، ورؤوسًا من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويُظهروا أنهم غزاة ويَشكُوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارَقوه، فلقِيَهم طائفة من الفرنج فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذِنَ لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقَدِموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية، فلما كان في بعض الليالي نام الحرَّاس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، فقتله وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقُتِل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشكُّ أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتَني وأقمتَ معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئتَ. فأيِسَ ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصنًا، وضَمِن على نفسه حِفظَ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غيرُ قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله وملكه الفرنج، وقتلوا القاضيَ المتغلِّبَ عليه، وأخذوا الصائِغَ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام، هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل: إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة بعد وفاة رضوان.
هو الشيخ الإمام العالم القدوة المفتي شيخ الشافعية: فخر الدين، أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي، الشافعي. ولد سنة 550, وسمع من عميه؛ الصائن والحافظ، وتفقه على قطب الدين مسعود النيسابوري، وتزوج بابنته، وجاءه ولد منها، سماه مسعودًا. درَّس بالجاروخية، ثم بالصلاحية بالقدس، وبالتقوية بدمشق، فكان يقيم بالقدس أشهرًا، وبدمشق أشهرًا، وكان عنده بالتقوية فضلاء البلد، حتى كانت تُسمى نظامية الشام، ثم درس بالعذراوية سنة 593، وكان فخر الدين لا يَملُّ الشخص من النظر إليه، لحسن سمته، ونور وجهِه، ولطفه، واقتصاده في ملبسِه، وكان لا يفتُرُ من الذكر، استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال حتى أستخير الله تعالى، ثم امتنع من ذلك فشَقَّ على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيَه فقيل له: احمدِ الله الذي في بلادك مثل هذا, وكان قد خاف أن يُكرَه، فجهز أهله للسفر، وخرجت المحابر- طلبة العلم الذين يستملون- إلى ناحية حلب، فردها العادل، وعزَّ عليه ما جرى. قال أبو شامة: كان فخر الدين يتورع من المرور في زقاق الحنابلة لئلَّا يأثموا بالوقيعة فيه؛ وذلك لأن عوامهم يبغضون بني عساكر؛ لأنهم كانوا أعيان الشافعية الأشعرية" لما توفي الملك العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسِه منه، فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروخية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، كان زاهدًا عابدًا ورعًا، منقطعًا إلى العلم والعبادة، حسَنَ الأخلاق، قليل الرغبة في الدنيا، وقلَّ من تخلف عن جنازته. قال أبو شامة: "أخبرني من حضره قال: صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، وتوضَّأ، ثم تشهد وهو جالس، وقال: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، لقنني اللهُ حُجَّتي، وأقالني عثرتي، ورَحِمَ غُربتي، ثم قال: وعليكم السلام، فعلمنا أنَّه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتًا، غسله الفخر بن المالكي، وابن أخيه تاج الدين، وكان مرضه بالإسهال، وصلى عليه أخوه زين الأمناء، ومن الذي قدر على الوصول إلى سريره" وقال عمر بن الحاجب: "هو أحد الأئمة المبرزين، بل واحدهم فضلًا وقدرًا، شيخ الشافعية، كان زاهدًا ثقةً مجتهدًا، غزير الدمعة، حسنَ الأخلاق، كثير التواضع، قليل التعصُّب، سلك طريق أهل اليقين، وكان أكثر أوقاته في بيته في الجامع، ينشُرُ العلم، وكان مطرح الكلف، عرضت عليه مناصب فتركَها، ولد في رجب وتوفي فيه، وعاش سبعين سنة، وكان الجمع لا ينحصر كثرةً في جنازته، حدث بمكة ودمشق والقدس، وصنف عدة مصنفات". وقال القوصي: "كان كثير البكاء، سريع الدموع، كثير الورع والخشوع، وافر التواضع والخضوع، كثير التهجد، قليل الهجوع، مبرزًا في علمي الأصول والفروع، وعليه تفقهتُ وعرضت عليه (الخلاصة) للغزالي"، ودفن عند شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري.
هو السُّلطانُ الشهيدُ الملك المظفر، سيفُ الدين قطز محمود بن عبد الله التركي المعزي. كان أنبَلَ وأخَصَّ مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، ثم صار نائِبَ السلطنة لوَلَدِه المنصور, ثالثِ سلاطين دولة المماليك في مصرَ والشام. كان شابًّا أشقرَ وافِرَ اللحية, فارسًا شجاعًا بطلًا، سائِسًا، دَيِّنًا، حازمًا، حسَنَ التدبيرِ، محَبَّبًا إلى الرعيَّة. كثير الخير ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناسُ يحبُّونَه ويدعون له كثيرًا. هزم التتار، وطهَّر الشام منهم يومَ عين جالوت، وهو الذي كان قَتَلَ فارس الدين أقطاي الجمداري، ويقال: إن قطز ابن أخت السلطان خوارزم شاه جلال الدين، وإنه حُرٌّ واسمُه محمود بن ممدود. لما قُتِلَ أستاذُه المعز عز الدين أيبك قام في توليةِ ولده المنصور علي، فلما سَمِعَ بأمر التتار خاف أن تختَلِفَ الكلمة لصِغَرِ سِنِّ المنصور علي, ودعا إلى نفسه، فبويع في ذي القعدة سنة 657، ثم سار إلى التتار فجعل اللهُ على يديه نصرة الإسلام والمسلمين. وكان اجتماعه مع عدوه في العشر الأخير من رمضان يوم الجمعة، حيث كان فيه نصرُ الإسلام والمسلمين. قال ابن كثير: "لما كان يومُ المعركة بعين جالوت قُتِلَ جوادُه فترجَّلَ وبَقِيَ واقفًا على الأرض ثابتًا، والقتالُ يعمل في المعركة، وهو في موضِعِ القَلبِ، فلما رآه بعضُ الأمراء ترجَّل عن فرسه وحَلَف على السلطان ليركبَنَّها فامتنع، وقال لذلك الأمير: ما كنتُ لأحرِمَ المسلمينَ نَفعَك. ولم يزَلْ كذلك حتى جيءَ له بخيلٍ فرَكِبَه! فلامه بعض الأمراء وقال: يا خوند (يا سيد) لم لا ركبتَ فَرسَ فلان؟ فلو أنَّ بعض الأعداء رآك لقتلَكَ وهلك الإسلامُ بسَبَبِك، فقال: أمَّا أنا فكنتُ أروح إلى الجنة، وأمَّا الإسلامُ فله ربٌّ لا يضيعه، قد قُتِلَ فلان وفلان وفلان حتى عد خَلقًا من الملوك، فأقام للإسلامِ مَن يحفظُه غيرهم، ولم يضيِّع الإسلام", ولما قدم دمشقَ في شوال أقام بها العَدلَ ورتَّبَ الأمور، وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرِجَهم ويطرُدَهم عن حلب، ووعَدَه بنيابتِها فلم يفِ له لما رآه من المصلحةِ، فوقعت الوحشةُ بينهما, فلما فرَغ المظَفَّر من الشام ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الإسلامية في خدمته، كان الأميرُ ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتَّفَق مع جماعةٍ مِن الأمراء على قتله، فلما وصلَ بين القرابي والصالحيَّة ضرب دهليزه وساق خَلفَ أرنب، وساق معه أولئك الأمراءَ فشَفَعَ عنده ركن الدين بيبرس في شيءٍ فشَفَّعَه، فأخذ يده ليُقَبِّلَها فأمسَكَها وحمل عليه أولئك الأمراءُ بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرَسِه ورشقوه بالنشَّاب حتى قتلوه ودفن بالقصر، وكان قُتله يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة، وكانت مُدَّة ملكه من حين عَزَل ابنَ أستاذه المنصور عليِّ بن المعز التركماني إلى هذه المدة، وهي أواخِرُ ذي القعدة نحوًا من سنة، رحمه الله وجزاه عن الإسلامِ وأهله خيرًا.
هو الإمامُ قائِدُ الجنودِ سعود الكبير بن عبد العزيز بن محمد بن سعود ثالثُ حُكَّام الدولة السعودية الأولى، ولد بالدرعية سنة 1165هـ وتولى الحكمَ بعد وفاة والده سنة 1218هـ يعتبر عصر سعودٍ قِمَّةَ ازدهار الحكم السعودي في الدولة السعودية الأولى؛ فقد استطاع إخضاعَ الحجاز وعمان، وبلغ حوران من الشام. يصِفُ ابن بشر الإمامَ سعودًا وعهده بقوله: "أَمِنَت البلاد وطابت قلوب العباد, وانتظمت مصالحُ المسلمين بحُسن مساعيه وانضبطت الحوادث بيُمْنِ مراعيه.., وكان متيقظًا بعيد الهمة، يسَّر الله له الهيبةَ عند الأعداء والحِشمةَ في قلوب الرعايا ما لم يره أحد في وقته, وكانت له المعرفةُ التامة في تفسير القرآن، أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. وله معرفةٌ بالحديث والفقه وغير ذلك، بحيث إنه إذا كتب نصيحةً لبعض رعاياه من المسلمين ظهر عليه في حُسنِ نَظمِه ومضمونِ كلامِه عدمُ قصورٍ في الاطلاع على العلوم, وقد رأيتُ العجب في المنطوق والمفهوم.. فمن وقف على مراسلاتِه ونصائحه عرفَ بلاغتَه ووفورَ عِلمِه، وإذا تكلَّم في المحافل أو مجالِسِ التذكير بهر العقولَ مِمَّن لم يكن قد سَمِعه, وخال في نفسِه أنَّه لم يسمع مثله, وعليه الهيبةُ العظيمة التي ما سَمِعْنا بمثلها في الملوك السالفة. بحيث إنَّ ملوك الأقطار لا تتجاسَرُ مراجعة كلامه ولا ترمقُه ببصَرِها إجلالًا له وإعظامًا، وهو مع ذلك في الغاية من التواضع للمساكين وذوي الحاجة، وكثيرُ المداعبة والانبساط لخواصِّه وأصحابه, وكان ذا رأيٍ باهر وعقل وافر.. وكان ثبتًا شجاعًا في الحروب محبَّبًا إليه الجهاد في صِغَرِه وكبره، بحيث إنه لم يتخلَّفْ في جميع المغازي والحِجَج، ويغزو معه العلماء من أهل الدرعية.. وإخوانه وبنو عمه كلُّ واحد من هؤلاء بدولة عظيمة من الخيل والركاب والخيام والرجال وما يتبع ذلك من رحائِلِ الأمتاع والأزواد للضيفِ وغيره, وقام في الجهاد وبذَلَ الاجتهاد، وفتحَ أكثر البلدان في أيامِ أبيه وبعد موتِه، وأُعطي السعادةَ في مغازيه, ولا أعلَمُ أنه هُزِمَت له راية، بل نُصِر بالرعب في قلوب أعدائه، فإذا سمعوا بمغزاه ومعداه هرب كلٌّ منهم وترك أباه وأخاه وماله وما حواه" وكان له مجلس علم في الدرعية بعد طلوع الشمسِ يَحضُرُه جمعٌ عظيم، بحيث لا يتخَلَّفُ إلا النادر من أهل الأعمال يجلسون حِلَقًا كُلُّ حلقة خلفها حلقةٌ، لا يحصيهم العَدُّ، فإذا اجتمع الناسُ خرج سعود من قَصرِه ويجلس بجانِبِه الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو الذي يقرأ عليه، ومن الكتب التي تُقرأ عليه في هذا المجلس تفسيرُ ابن جرير الطبري، وابن كثير, وله مجالِسُ أخرى يُقرأ فيها عليه رياضُ الصالحين، وصحيح البخاري. توفي الإمام سعود ليلة الاثنين 11 جمادى الأولى من هذه السنة, عن عمر 74 سنة، وكانت ولايته عشر سنين وتسعة أشهر وأيامًا، وكان موته بعِلَّةٍ وقعت أسفل بطنه أصابه منها حَصَر بول, وكان قد أنجب 12 ولدًا وانقرضت ذريَّتُه سنة 1265هـ, وتولَّى بعده ابنه عبد الله خلفًا له.
نشأ محمود شاكر في بيتِ عِلمٍ؛ فأبوه كان شيخًا لعُلماء الإسكندرية، وتولَّى منصبَ وكيلِ الأزهر لمدة خمس سنواتٍ (1909م-1913م)، واشتغل بالعملِ الوطني، وكان من خُطباءِ ثورةِ 1919م، وأخوه العلَّامةُ أحمد شاكر واحدٌ من كِبار مُحَدِّثي العصر، وله مؤلَّفاتٌ وتحقيقاتٌ مشهورةٌ ومُتداوَلة.
انصرف محمود شاكر -وهو أصغرُ إخوتِه- إلى التعليم المدَني، فالتحق بالمدارس الابتدائية والثانوية، وكان شغوفًا بتعلُّمِ الإنجليزية والرياضيات، ثم تعلَّق بدراسة الأدب وقراءة عيونِه، وحفِظَ وهو فتًى صغيرٌ ديوانَ المتنبي كاملًا، وحضَرَ دروسَ الأدب التي كان يُلْقيها الشيخ المَرْصَفيُّ في جامعِ السلطانِ برقوق، وقرأ عليه في بيته: الكاملَ للمُبَرِّد، والحماسةَ لأبي تمَّامٍ، وبعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) من القسم العِلمي سنةَ 1925م فضَّلَ أنْ يَدرُسَ العربية في كلية الآدابِ.
وفي الجامعة استمعَ شاكرٌ لمحاضرات طه حسين عن الشِّعرِ الجاهلي، وهى التي عُرفت بكتاب "في الشِّعر الجاهلي"، وكم كانت صدمتُه حينَ ادَّعى طه حسين أن الشِّعرَ الجاهلي مُنتَحَلٌ، وأنه كذبٌ مُلفَّق، وضاعَف من شدَّةِ هذه الصدمة أنَّ ما سمِعَه من المحاضر الكبير سبَقَ له أنْ قرأه بحذافيره في مَجلَّة استشراقيةٍ بقلم المستشرِق الإنجليزي مرجليوث؛ فترك الجامعةَ غيرَ آسفٍ عليها وهو في السَّنة الثانية، ولم تُفلحِ المحاولاتُ التي بذلها أساتذتُه وأهلُه في إقناعه بالرُّجوع، وسافَرَ إلى الحجاز سنةَ 1928م مُهاجرًا، وأنشأ هناك مدرسةً ابتدائيةً عمِلَ مديرًا لها، حتى استدعاه والدُه الشيخ، فعاد إلى القاهرة.
وبعد عودته سنةَ 1929م، انصرفَ إلى قراءة الأدب ومطالعةِ دواوينِ شُعراءِ العربية على اختلافِ عصورهم، حتى صارتْ له مَلَكةٌ في تذوق الشعرِ، والتفرِقة بين نَظْمه وأساليبه، وبدأ ينشُرُ بعض قصائده الرومانسية في مَجلتَيِ "الفتح" و"الزهراء" لمحب الدِّين الخطيب، واتصل بأحمد تيمور، وأحمد زكي باشا، والخضر حسين، ومصطفى صادق الرافعي الذي ارتبط بصداقةٍ خاصةٍ معه، ولم يكُنْ شاكرٌ معروفًا بين الناس قبلَ تأليفه كتابه "المتنبي".
وفي ندواته الفِكرية في بيته كان يُعارضُ عبد الناصر عَلانيةً، ويسخَرُ من رجالات الثورة، ويستنكِرُ ما يحدُث للأبرياء في السجون من تعذيبٍ وإيذاءٍ، وكان يفعَل ذلك أمام زوَّاره، ومن بينهم مَن يشغَل منصب الوزارة، ونتيجةً لذلك لم يسلَمْ شاكرٌ من بطشِ السُّلْطة، فألقت القبضَ عليه سنةَ 1959م، وبَقيَ رَهنَ السجن 9 أشهرٍ، حتى تدخَّلت شخصياتٌ عربية، فأُفرج عنه، وعاد لمواصَلة نشاطه في تحقيق كتاب تفسير الطبريِّ الذي بدأ في نَشرِه من قبلُ، وانتظمت ندوته مرةً أُخرى، ثم أُلقيَ به في غياهبِ السجن سنتينِ وأربعةَ أشهرٍ من آخِرِ شهرِ أغسطس سنةَ 1965م، حتى آخرِ شهر ديسمبر سنةَ 1967م.
وفي أُخْريات عُمرِه نال جائزةَ الدولة التقديريَّة في الأدب سنةَ 1981م، ثم جائزةَ الملكِ فَيْصلٍ في الأدب العربي عامَ 1984م، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا في مجمَع اللُّغة العربية بدِمَشقَ، ثم بالقاهرة، وتُوفيَ يومَ الخميس الموافِقِ 3 من ربيعٍ الآخِرِ 1418ه.
عرَضَ السلطان محمد بن مراد الثاني على إمبراطور القسطنطينية أن يسلِّمَها كي لا تصابَ بأذًى ولا يحِلَّ بالأهالي النكبات، وتعهَّد السلطان بحمايةِ العقائد وإقامةِ الشعائر، فرفض الإمبراطورُ ذلك، فقام السلطانُ بمحاصرة المدينة من الجانب الغربي من البَرِّ بجنود يزيد عددهم على مائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن جهة البحر بمائة وثمانين سفينة بحرية، وأقام المدافِعَ حول الموقع، وكان من أهمِّها وأشهرها المدفعُ العظيم الذي صمَّمه له المجري أوربان خِصِّيصَى للسلطان، وهذا المدفَعُ كان يحتاج إلى سبعمائة شخص لجَرِّه، ويرمي كرة حجرية وزنها اثنا عشر رطلًا لمسافة ألف وستمائة متر، كما قام السلطان بنقل سبعين سفينة حربية إلى القرن الذهبي على ألواحٍ خشبية مسافة تقرُبُ من عشرة كيلومترات، وبهذا أحكم الحصارَ على القسطنطينية التي كان موقعُها يعطيها القوةَ؛ فهي محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات: مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محميًّا بسلسلة ضخمة جدًّا تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافةِ إلى ذلك فإن خطينِ من الأسوار كانت تحيطُ بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخلَّلها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاءٌ يبلغ عرضه 60 قدمًا ويرتفِعُ السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراجٌ يصل ارتفاعها إلى 60 قدمًا، وأمَّا السور الخارجيُّ فيبلغ ارتفاعُه قرابة خمس وعشرين قدمًا، وعليه أبراج موزَّعة مليئة بالجند، وبدأ الحصارُ يوم الجمعة السادس والعشرين ربيع الأول، ولكن كل المحاولات البحرية كانت تبوء بالفشل بسبب تلك السلاسل، أمَّا في البَرِّ فتمكنت المدافِعُ العثمانية من فتحِ ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنودُ العثمانيون بكلِّ بسالة محاولينَ اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحامَ الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقَوها عليها، ولكِنَّ المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاعِ عن الثغرة والأسوار، واشتَدَّ القتال بين الطرفين، وكانت الثغرةُ ضيقة وكثرةُ السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين، ومع ضيقِ المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتِحُ أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحيِّنين فرصة أخرى للهجوم، ثم لما رأى السلطان الفاتح أن المحاولات البحرية لا تجدي، أمر بنقل السفن الحربية برًّا إلى القرن الذهبي على الألواح الخشبية المدهونة بالزيت والدهون، وهذا العمل كان من معجزات ذلك الزمان في سرعته وكيفيته؛ حيث تم نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة مسافة ثلاثة أميال برًّا خلف هِضاب غلطة وصولًا إلى القرن الذهبي، وبهذا تمكَّنوا من الالتفاف على السلسلة, واستمر العثمانيون في دكِّ نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلُّق أسوارها، وفي الوقت نفسِه انشغل المدافِعونَ عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدَّمُ من أسوار مدينتهم وردِّ المحاولات المكثفة لتسلُّق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم، كما وضع العثمانيون مدافِعَ خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاوِنة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة؛ مِمَّا عرقل حركةَ سُفُن الأعداء وأصابها بالشَّللِ تمامًا وحاول العثمانيون بكلِّ طريقة الدخول فحاولوا حفرَ الأنفاق تحت الأسوار لكنَّها كانت تبوء بالفشلِ، وحاولوا صنع أبراج خشبية أعلى من أسوار المدينة دون كلل ولا تعب، وكانت المدفعية العثمانية لا تنفكُّ عن عملها في دكِّ الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاءٌ كثيرة من السور والأبراج وامتلأت الخنادق بالأنقاض، وبقي الهجومُ مكثفًا وخصوصًا القصف المدفعي على المدينة، حتى إن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدامِ, وعند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857 (29 مايو 1435م) بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن شجَّع السلطانُ المجاهدين ووعدهم بالأعطيات، وانطلق المهاجمون وتسلَّقوا الأسوار وقاتلوا من عارضَهم، وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعينَ في باب أدرنة، ورفعت الأعلامُ العثمانية عليها، وتدفَّق الجنود العثمانيون نحوَ المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلامَ العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاعِ وخلع ملابِسَه حتى لا يُعرَفَ، ونزل عن حصانِه وقاتل حتى قُتِلَ في ساحة المعركةِ، ثم دخل السلطانُ كنيسة آيا صوفيا، ومنع أعمالَ السلب والنهب التي كانت قائمةً، ووصل إلى الكنيسة فأمر المؤذِّنَ أن يؤذِّنَ للصلاةِ وحوَّلها إلى مسجدٍ، وهو المسجِدُ المشهور في إسطنبول، وسمح السلطان للنصارى بتأدية شعائرهم وأعطاهم نصف كنائِسِهم محولًا النصف الآخر لمساجد، وأطلق على القسطنطينية اسمَ إسلامبول، وهي تعني: تخت الإسلام، أو مدينة الإسلام.
وَجَّهَ محمَّدُ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس الدُّعاة في الآفاق، وكان سَبَب ذلك أنَّ أبا هاشِم عبدَ الله بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة سار للشَّام إلى سُليمان بن عبدِ الملك، فلمَّا أَكرَمَه وقَضَى حَوائِجَه، ورَأَى مِن عِلْمِه وفَصاحَتِه ما حَسَدهُ عليه وخافه، فلمَّا أَحَسَّ أبو هاشِم بالشَّرِّ قَصَدَ الحُمَيْمَة مِن أَرضِ الشَّراةِ بالأردن، وبها محمَّدُ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، فنَزَل عليه وأَعْلَمَه أنَّ هذا الأَمْرَ صائِرٌ إلى وَلَدِه، وعَرَّفَه ما يَعمَل، وكان محمَّدُ بن عَلِيٍّ رَجُلًا طَموحًا، فحَمَل فِكْرَةَ إِزالَة مُلْكِ بني أُمَيَّة، وبَدَأ يَعمَل على تَنفيذِها. كان أبو هاشِم عبدُ الله بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة قد أَعلَم شِيعَتَه مِن أَهلِ خُراسان والعِراق عند تَرَدُّدِهِم إليه أنَّ الأمرَ صائِرٌ إلى وَلَدِ محمَّد بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، وأَمَرَهم بِقَصْدِه بَعدَهُ. فلمَّا مات أبو هاشِم قَصَدوا محمَّدًا وبايَعوهُ، وعادوا فدَعوا النَّاسَ إليه، فأَجابوهُم, وكان الذين سَيَّرَهُم إلى الآفاق جَماعةً، وأَمَرَهُم بالدُّعاء إليه وإلى أَهلِ بَيتِه، فلَقوا مَن لَقوا، ثمَّ انْصَرفوا بكُتُبِ مَن اسْتَجاب لهم إلى محمَّد بن عَلِيٍّ، فدَفَعوها إلى مَيْسَرة، فبَعَثَ بها مَيسَرةُ إلى محمَّدِ بن عَلِيِّ بن عبدِ الله بن عَبَّاس، فاخْتار أبو محمَّد الصَّادِق لِمحمَّدِ بن عَلِيٍّ اثْنَي عَشَر رَجُلًا نُقَباء، واخْتَار سَبعين رَجُلًا، وكَتَب إليهم محمَّدُ بن عَلِيٍّ كِتابًا ليكون لهم مِثالًا وسِيرَةً يَسِيرون بها.
كان مَقتلُ الخليفةِ المتوكِّلِ على الله على يَدِ وَلَدِه المنتَصِر، وكان سببُ ذلك أن المتوكِّلَ أمَرَ ابنَه عبدَ الله المعتَزَّ أن يخطُبَ بالناسِ في يومِ جمعة، فأدَّاها أداءً عظيمًا بليغًا، فبلغ ذلك من المنتَصِر كلَّ مبلغٍ، وحَنقَ على أبيه وأخيه، وزاد ذلك أنَّ المتوكِّلَ أراد من المنتَصِر أن يتنازلَ عن ولايةِ العهد لأخيه المعتَزِّ فرفض، وزاد ذلك أيضًا أنَّه أحضَرَه أبوه وأهانَه وأمَرَ بضَربِه في رأسِه وصَفْعِه، وصَرَّحَ بعَزلِه عن ولايةِ العَهدِ، فاشتَدَّ أيضًا حَنقُه أكثَرَ ممَّا كان، فلمَّا كان يومُ عيدِ الفِطرِ خطَبَ المتوكِّلُ بالنَّاسِ وعنده بعضُ ضَعفٍ مِن عِلَّةٍ به، ثم عدَلَ إلى خيامٍ قد ضُرِبَت له أربعةُ أميالٍ في مثلِها، فنزل هناك ثم استدعى في يومِ ثالثِ شَوَّال بنُدَمائِه على عادتِه في سَمَرِه، ثمَّ تمالأ ولَدُه المنتصِرُ وجماعةٌ مِن الأمراءِ على الفَتكِ به فدخلوا عليه ليلةَ الأربعاءِ لأربعٍ خَلَونَ مِن شَوَّال، وهو على السِّماطِ، فابتدروه بالسُّيوفِ فقَتَلوه، وكانت مدةُ خلافتِه أربعَ عشرةَ سَنةً وعَشرةَ أشهر وثلاثة أيام، ثم ولَّوا بعده ولَدَه المنتَصِر، وبعث إلى أخيه المعتَزِّ فأحضَرَه إليه فبايعه المعتَزُّ، وقد كان المعتَزُّ هو وليَّ العَهدِ مِن بعدِ أبيه، ولكِنَّه أكرَهَه، وخاف فسَلَّمَ وبايعَ، ومِن المعروفِ أنَّ الأتراكَ الذين كان قد قَرَّبَهم الواثقُ وجعَلَهم قوَّادَه الأساسيِّينَ قد حَقَدوا على المتوكِّلِ، فكان ذلك من أسبابِ تَمالُئِهم على قَتلِه، وباغتيالِ المتوكِّلِ يعتبَرُ العصرُ العباسيُّ الأوَّلُ قد انتهى، وهو عصرُ القُوَّة، وبدأ العصرُ الثاني- عصرُ الضَّعفِ والانحدارِ- بالمنتصرِ؛ وذلك لأنَّ الخِلافةَ أصبحت صورةً ظاهريَّةً، والحُكمُ الحقيقيُّ هو للقُوَّاد العسكريِّين.
هو أبو سعيدٍ الحسَنُ بنُ بهرام الجنابي القرمطي- قَبَّحه اللهُ- أخذ القرمطةَ عن حمدانَ بنِ قرمط, وهو رأسُ القرامطة، ظهر سنة 286 بالبحرين، فدعا الناسَ إلى مذهبِه القرمطي، واجتذب إليه اللُّصوصَ وقُطَّاعَ الطُّرُقِ، واشتَدَّ خَطَرُه، فاستولى على اليمامة وعمان وهَجَر والقَطيف، قاتَلَه جيشُ المعتَضِد فهَزَم الجيشَ وقَتَلَهم سوى قائِدِهم، ترَكَه ليُخبِرَ الخليفة بما رآه منه، كان موتُ أبي سعيد في الحمَّام، قتَلَه خادِمٌ صقلبيٌّ له كان قد أسَرَه فيمن أسَرَ، وكان شجاعًا قويًّا جَلْدًا, فحَسُنَت منزلتُه عنده حتى صار على طعامِه وشَرابِه. وكان الخادِمُ ينطوي على إسلامٍ، فلم يرَ أبا سعيدٍ يُصَلِّي صلاةً، ولا صام شهرَ رمضان. فأبغَضَه وأضمَرَ قَتْلَه، فخلَّاه وقد دخل حمامًا في الدار ووثب عليه بخِنجرٍ فذَبَحَه، ثم خرج ودعا بعضَ قُوَّادِ أبي سعيدٍ، فقال له: كَلِّم أبا سعيدٍ. فلمَّا دخل ذبَحَه، ثم استدعى آخَرَ، ففعل به كذلك حتى فعل ذلك بجماعةٍ مِن الكبارِ، ثم استدعى في الآخِرِ رجلًا، فدخل في أوَّلِ الحمام، فلما رأى الدماءَ تجري، أدبر مسرعًا وصاح، فصاح النساء واجتمعوا على الغُلامِ فقَتَلوه, دام حُكم أبي سعيد 16 عامًا, وقد خلَّف من الأموالِ شيئًا كثيرًا، فمن ذلك ألفُ ألفِ دينار، ومن آنية الذهب والفضة نحوُ مائة ألف دينار، ومن البقر ألف ثور، ومن الخيل والبغال والجمال ألفُ رأس, وكان قد عهِدَ بالأمر لابنه سعيدٍ، ولكنه كان ضعيفًا, فأوصى أبو سعيد أن يبقى سعيدٌ في الحكم حتى يكبر أخوه الأصغَرُ سُلَيمان أبو طاهرٍ، فيُسَلِّمُه الأمرَ، ففعل سعيد.
في السَّابِعِ من المحَرَّم قُرِئَ سجِلٌّ في جوامِعِ مِصرَ يأمُرُ الحاكِمُ العُبَيديُّ اليهودَ والنَّصارى بشَدِّ الزُّنَّار ولُبس الغيار، وشعارُهم السَّوادُ شِعارُ العباسيِّينَ، وقرئ سجِلٌّ في الأطعِمةِ بالمَنعِ مِن أكلِ المُلوخيَّةِ المُحبَّبة لِمُعاويةَ بنِ أبي سُفيان، والبَقلة المسمَّاة بالجرجيرِ المَنسوبة إلى عائشةَ رَضِيَ الله عنها، وفيه المنعُ مِن عَجنِ الخُبزِ بالرِّجلِ، والمنعُ مِن ذَبحِ البَقَرِ التي لا عاقبةَ لها إلَّا في أيَّامِ الأضاحي، وما سواها مِن الأيَّامِ لا يُذبَحُ منها إلَّا ما لا يصلُحُ للحَرثِ، وفيه التَّنكيرُ على النخَّاسينَ والتشديدُ عليهم في المَنعِ مِن بَيعِ العَبيدِ والإماءِ لأهلِ الذِّمَّة، وإصلاحُ المكاييلِ والموازينِ، والنَّهيُ عن البخس فيهما، والمنعُ مِن بَيعِ الفقاعِ وعَمَلِه البتَّةَ؛ لِما يُؤثَرُ عن عَليٍّ رَضِيَ الله عنه مِن كراهةِ شُربِ الفقاعِ، وضُرِبَ في الطُّرُقاتِ بالأجراس ونودِيَ أنْ لا يدخُل الحَمَّامَ أحَدٌ إلَّا بمِئزَرٍ؛ وأنْ لا تَكشِف امرأةٌ وَجهَها في طريقٍ ولا خَلْفَ جِنازةٍ، ولا تتبَرَّج. ولا يُباع شَيءٌ مِن السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ولا يَصطاده أحدٌ مِن الصَّيادينَ، فقد كان الحاكِمُ شابًّا متهَوِّرًا مُتقَلِّبَ المِزاجِ جِدًّا، يَمنَعُ اليومَ ما كان أباحَه بالأمسِ، ويُبيحُ اليومَ ما منَعَه بالأمسِ، فلم يكُنْ مِن الحُكَّامِ مَن هو أشَدُّ منه تذبذُبًا، وقد أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ، فقُتِلَ منها ما لا يُحصى، حتى لم يبقَ منها بالأزِقَّةِ والشَّوارِعِ شَيءٌ، وطُرِحَت بالصَّحراءِ وبشاطئِ النيلِ، وأمَرَ بكَنسِ الأزِقَّةِ والشَّوارِعِ وأبوابِ الدُّورِ في كلِّ مكانٍ، ففُعِلَ ذلك, ونودِيَ في القاهرةِ لا يَخرُج أحَدٌ بعدَ المَغرِب إلى الطَّريقِ ولا يَظهَر بها لِبَيعٍ ولا شِراءٍ فامتثَلَ النَّاسُ لذلك.