كان العباسُ بنُ المأمون مع عَمِّه المعتَصِم في غزوةِ عَمُّورية، وكان عجيفُ بن عنبسة قد نَدَّمَه إذ لم يأخُذ الخلافةَ بعد أبيه المأمونِ، ولامَه على مبايعتِه عَمَّه المعتصِمَ ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمِّه وأخذِ البيعةِ من الأمراء له، وجهَّزَ رجلًا يقال له الحارِثُ السَّمَرقندي وكان نديمًا للعبَّاسِ، فأخذ له البيعةَ مِن جماعةٍ مِن الأمراء في الباطنِ، واستوثَقَ منهم وتقَدَّم إليهم أنَّه يلي الفتكَ بعَمِّه، فلما فتحوا عَمُّوريَّة واشتغل الناسُ بالمغانم، أشار عليه أن يقتُلَه، فوعده مَضِيقَ الدَّربِ إذا رجَعوا، فلما رجعوا فَطِنَ المعتَصِمُ بالخبَرِ، فأمر بالاحتفاظِ وقُوَّةِ الحَرَس وأخذَ بالحَزمِ، واجتهد بالعزمِ، واستدعى بالحارِثِ السَّمرقنديِّ فاستقَرَّه فأقَرَّ له بجُملةِ الأمر، وأخْذِ البيعةِ للعبَّاسِ بنِ المأمون من جماعةٍ مِن الأمراء أسماهم له، فاستكثَرَهم المعتَصِمُ واستدعى بابنِ أخيه العبَّاسِ فقَيَّده وغَضِبَ عليه وأهانه، ثم أظهَرَ له أنه قد رَضِيَ عنه وعفا عنه، فأرسَلَه مِن القيدِ وأطلق سراحَه، فلما كان من اللَّيلِ استدعاه واستحكاه عن الذي كان قد دبَّرَه من الأمر، فشرَحَ له القضيَّةَ، وذكر له القِصَّةَ، فإذا الأمرُ كما ذكر الحارِثُ السمرقندي. فلما أصبح استدعى بالحارثِ فأخلاه وسأله عن القضيَّة ثانيًا فذكَرَها له كما ذكرها أوَّلَ مَرَّة، فقال: وَيحَك، إنِّي كنتُ حريصا على ذلك، فلم أجِدْ إلى ذلك سبيلًا بصِدقِك إيَّأي في هذه القِصَّة. ثم أمر المعتَصِمُ حينئذٍ بابن أخيه العبَّاسِ فقُيِّدَ وسُلِّمَ إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقيَّة الأمراءِ الذين ذكرهم فاحتفظَ عليهم، ثم أخَذَهم بأنواعِ النِّقْمات التي اقتَرَحها لهم، فقتَلَ كُلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ لم يَقتُل به الآخرَ، ومات العباسُ بنُ المأمون بمنبج، فدفن هناك، وكان سبَبُ موتِه أنَّه أجاعه جوعًا شديدًا، ثم جيءَ بأكلٍ كثيرٍ، فأكلَ منه وطلَبَ الماءَ فمُنِعَ حتى مات، وأمر المعتَصِمُ بلَعْنِه على المنبرِ وسمَّاه اللَّعينَ.
سار محمَّدُ بن سليمان إلى حدودِ مِصرَ لحرب هارونَ بنِ خمارَوَيه بن أحمد بن طولون، وسببُ ذلك أنَّ محمَّدَ بنَ سُلَيمان لَمَّا تخلَّفَ عن المكتفي، وعاد عن محاربةِ القرامطة، واستقصى محمَّد في طلَبِهم، فلما بلغ ما أراد عزمَ على العودِ إلى العراق، أتاه كتابُ بدرٍ الحمامي غلامِ ابن طولون، وكتابُ فائق، وهما بدمشق، يدعوانِه إلى قصد البلاد بالعساكِرَ يُساعدانه على أخذها، فلما عاد إلى بغداد أنهى ذلك إلى المُكتفي، فأمره بالعَودِ، وسيَّرَ معه الجنود والأموال، ووجَّه المكتفي دميانة غلامَ بازمار، وأمره بركوبِ البحر إلى مصر، ودخول النيل، وقطْع الموادِّ عن مصر، ففعل وضَيَّق عليهم، وزحف إليهم محمَّدُ بنُ سليمان في الجيوش في البَرِّ، حتى دنا من مصرَ وكاتَبَ مَن بها من القوَّاد، وكان أوَّلَ من خرج إليه بدرٌ الحمامي، وكان رئيسَهم، فكَسَرهم ذلك، وتتابعه المُستأمَنة من قوَّاد المصريين، وفي بعض الأيام ثارت عصبيَّةٌ، فاقتتلوا فخرج هارون يسَكِّنُهم، فرماه بعضُ المغاربة بمزراق معه فقَتَله، فلما قُتِلَ قام عمُّه شيبان بالأمر من بعده، وبذلَ المالَ للجُند، فأطاعوه وقاتلوا معه، فأتَتهم كتُبُ بدرٍ يدعوهم إلى الأمانِ، فأجابوه إلى ذلك، فلما عَلِمَ محمد بن سليمان الخبَرَ سار إلى مصر، فأرسل إليه شيبانُ يطلُبُ الأمان، فأجابه، فخرج إليه ليلًا، ولم يعلَمْ به أحد من الجند، فلما أصبحوا قصَدوا داره ولم يجدوه، فبَقُوا حيارى، ولما وصل محمَّد مصرَ دخلها واستولى على دورِ طولونَ وأموالهم، وأخذَهم جميعًا وهم بضعةَ عشرَ رجُلًا فقيَّدَهم، وحبسهم واستقصى أموالَهم، وكتب بالفتحِ إلى المكتفي، فأمره بإشخاصِ آلِ طولون وترحيلِهم من مصر والشام إلى بغداد، ولا يَترُك منهم أحدًا ففعل ذلك، وعاد إلى بغداد، وولَّى معونةَ مصرَ عيسى النوشري، فكانت مدَّةُ الدولة الطولونية 38 عامًا مِن حكم أحمد بن طولون.
في السابع والعشرين ذي الحجة نزل الحاج بينبع، وقد استعدَّ من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل: متولي ينبع، وقد قدم الشريف عقيل بن وبير الحسني من القاهرة بصحبتهم بعدما خُلِع عليه بها في شوال من هذه السنة، واستقرَّ أمير ينبع شريكًا لعمه مقبل، بمالٍ التزم للدولة، فلما عَلِمَ مقبل بذلك نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها، وكان الحاج قد دخلوا ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها أن يستقر عقيل شريكًا له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان الأشرف برسباي بذلك، ومهما ورد المرسوم به اعتمده، ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجَّهوا نجابًا إلى السلطان الأشرف بكتبهم، وتركوا عقيلًا بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظَفِرَ به عمُّه، وقَيَّده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعدَّ الأمير جانبك وركب في جمع من المماليك وغيرهم ليلة الأحد الثامن والعشرين ذي الحجة، وطرقَ مقبلًا على حين غفلة، فكانت بينه وبين مقبل وقعة قتل فيها جماعة من أشراف بني حسن، وجُرِح كثير من العربان والعبيد، وانهزم مُقبِل، فمَدَّت المماليك أيديها، وانتهبت ما قدرت عليه، وسلبت النساء الشريفات ما عليهن، وساقوا خمسمائة وخمسين رجلًا، وثلاثين فرسًا، وأمتعة كثيرة، ومالًا جزيلًا، وعادوا من يومهم إلى ينبع، ومعهم عقيل قد خلصوه من الأسر ورحلوا، وقد أقام عقيل بينبع أميرًا، فلم يكن إلا ليالٍ حتى عاد مقبل، واحترب مع عقيل، فانهزم مُقبِل، وقُتِل بينهما جماعة.
جمع الشريفُ غالب صاحِبُ مكَّةَ جموعًا كثيرةً مِن باديتِه وحاضرته، واستعمل عليهم أميرًا الشريفَ ناصر بن يحيى، وسار من مكة، فلما بلغ خبرُهم الإمامَ عبد العزيز بن محمد بن سعود، أمر محمد بن حمود بن ربيعان ومن تبعه من عُربان عتيبة, وفيصل الدويش ومن تبعه من مطير, وربيع بن زيد أميرَ جميع الدواسر الحاضرة والبادية، وأمر أيضًا عربان السهول وعربان سبيع وعربان العجان وغيرهم من بوادي نجد؛ أمرهم جميعًا أن ينزلوا على هادي بن قرملة رئيس قحطان وعُربانه، فاجتمعت تلك البوادي والجنودُ قُرب الجمانية: الماء المعروف عند جبل النير في عالية نجد، وتلك العُربان يشربون من مياه قريبةٍ منها، ثمَّ إن الشريف ناصر سار بالجموع والعساكرِ العظيمةِ ومعهم مِدفَعٌ، ونزلوا على ماء الجمانية، واجتمع عليه كثيرٌ من عربان الحجاز بأموالها وعيالها، فالتقت الجنودُ على ماء الجمانية، والتحم القتال بين الفريقين واقتتلوا أشدَّ القتال، وكثُرَ القتلى في الفريقين، فقتل من الجميع نحو 100 رجل, فحمل هادى بن قرملة بمن معه على جنودِ الشريف ناصر، فولَّوا منهزمين على أعقابِهم، فلَحِقَهم أولئك البوادي والجنود يقتُلون ويَغنَمون، فقُتِلَ منهم نحوُ ثلاثمائة رجل, وغَنِمَ منهم إبلًا وأموالًا كثيرة, وخيمةَ الشريف ومِدفَعَه، وانهزم الشريف ومن معه إلى أوطانِهم، وتفَرَّقت عُربانه، وعُزِلت الأخماس وأرسلوها إلى الإمام عبد العزيز. وكان الإمامُ عبد العزيز قد بعث محمَّدَ بن معيقل ردءًا لابن قرملة وعونًا له, فانفضَّ الأمر وانقضى عند مجيئه, فحثَّ ابن معيقل السيرَ في أثر الشريف ناصر وعُربانه، وأدرك بني هاجر وهم على الماء المعروف بالقنصلية قرب بلد تربة، فشَنَّ عليهم الغارةَ وقاتلهم، فانهزموا وقَتَل منهم 40 رجلًا، وأخَذَ جميعَ أموالِهم.
هو إبراهيمُ بنُ مُحمَّد بن عرفة الأزدي، إمامُ النَّحوِ، كان فقيهًا حافظًا، جالس الملوكَ والوزراء، أتقن حفظَ السِّيَر، سُمِّيَ نِفطَوَيه؛ لأنَّه كان دميمَ الِخلقةِ شديدَ السُّمرةِ، ولأنَّه كان يؤيِّدُ مَذهَبَ سِيبويهِ فلَقَّبوه نفطويه، له مصنَّفاتٌ؛ منها: غريب القرآن، وأمثال القرآن، والرد على من قال بخَلْقِ القرآن، وغيرها، توفِّيَ عن 79 عامًا في بغداد، وصلى عليه البربهاري إمامُ الحنابلةِ في وَقتِه.
ركب السلطان في ثالث جمادى الآخرة، بمائتي فارس من غير سلاح، وأغار على حصن الأكراد وصَعِدَ الجبل الذي عليه حصن الأكرادِ ومعه قدر أربعين فارسًا، فخرج عليه عدة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم وقتل منهم جماعةً، وكسر باقيَهم وتبعهم حتى وصل إلى خنادقهم، وقال يستخف بهم: خلوا الفرنجَ يخرجوا، فما نحن أكثَرُ من أربعين فارسًا، وعاد إلى مخيمه، ورعى الخيولُ مروجَها وزروعَها.
هو الإمامُ العلَّامةُ شَيخُ الإسلام تقيُّ الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المصري المنفلوطي، المالكيُّ الشافعي، أحَدُ الأعلام وقاضي القضاة, المعروفُ بابن دقيق العيد. وُلِدَ يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة 625 بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، تفقَّهَ على والده بقوص, وكان والِدُه مالكيَّ المذهب، ثم تفقَّه على الشيخ عزِّ الدِّين بن عبد السلام الشافعي، فحقَّق المذهبَين، وأفتى فيهما، سَمِعَ الكثير ورحل في طلب الحديثِ وخرج وصَنَّفَ فيه إسنادًا ومتنًا مُصَنَّفات عديدة، فريدةً مفيدة، وانتهت إليه رياسةُ العلم في زمانه، وفاقَ أقرانه ورحل إليه الطَّلَبةُ ودرَّسَ في أماكن كثيرة، ولي قضاءَ الديار المصرية، وكان وقورًا قليل الكلام غزيرَ الفوائِدِ كثيرَ العُلومِ، فيه ديانةٌ ونزاهة، وله شعرٌ رائق، كما كان بارعًا في الفقه والأصول، له مصنَّفاتٌ عديدة، منها: الإلمام في أحاديث الأحكام، وله إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، وله شرح الأربعين النووية، وغيرها، وله خُطَبٌ بليغة مشهورة، أنشأها لَمَّا كان خطيبًا بقوص. قال الذهبي في معجمه: "هو قاضي القضاة بالدِّيارِ المصرية، وشيخُها وعالِمُها، الإمامُ العلَّامة، الحافِظُ القدوة الوَرِع، شيخُ العصر. كان علَّامةً في المذهبين، عارفًا بالحديثِ وفنونه، سارت بمصنَّفاته الرُّكبان. ولي القضاءَ ثمانيَ سنين", وبسط السبكيُّ ترجمته في الطبقاتِ الكبرى قال: "لم ندرِكْ أحدًا من مشايخنا يختَلِفُ في أنَّ ابنَ دقيق العيد هو العالمُ المبعوثُ على رأس السَّبعمائة". وقال عنه ابنُ كثير في طبقاته: "أحدُ عُلماء وقته، بل أجلُّهم وأكثَرُهم عِلمًا ودِينًا، وورَعًا وتقشُّفًا، ومداومةً على العلم في ليلِه ونهاره، مع كِبَرِ السِّنِّ والشُّغلِ بالحكم. وله التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. برع في علومٍ كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه على أقرانِه وبرز على أهل زمانِه، رحلت إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على عِلمِه ووَرَعِه وزُهدِه الاتِّفاق". توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصُلِّيَ عليه يوم الجمعة بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى.
كان الأميرُ أقسنقر السلاري في نيابتِه لا يَرُدُّ قصَّةً تُرفَعُ إليه، فقصده الناسُ مِن الأقطار وسألوه الرِّزقَ والأراضيَ التي أنْهَوا أنها لم تكنْ بيَدِ أحَدٍ، وكذلك نيابات القلاع وولايات الأعمالِ والرواتب وإقطاعات الحلقة. فلم يرُدَّ أحدًا سأله شيئًا من ذلك سواءٌ كان ما أنهاه صحيحًا أم باطلًا. فإذا قيل له: هذا الذي أنهاه يحتاجُ إلى كَشفٍ، تغَيَّرَ وَجهُه وقال: ليش تقطع رزق الناسِ؟ فإذا كتَبَ بالإقطاعِ لأحدٍ وحضَرَ صاحِبُه مِن سَفَرِه أو تعافى مِن مَرَضِه وسألَه في إعادتِه، قال له: رحْ خذ إقطاعَك، أو يقول له: نحن نعَوِّضُك. ففسدت الأحوالُ ولا سيَّما بالمملكة الشاميَّة، فكتب النوابُ بذلك للسُّلطانِ، فكَلَّمه السلطانُ فلم يرجِعْ وقال: كلُّ من طلب مني شيئًا أعطيتُه وما أردُّ قَلمي عن أحدٍ، بحيث إنَّه كانت تُقَدَّمُ له القصَّةُ وهو يأكُلُ فيترُكُ أكلُه ويكتُبُ عليها من غيرِ أن يعرِفَ ما فيها، فأغلظَ له بسَبَبِ ذلك آقسنقر الناصري أمير أخور. واتَّفَق مع ذلك أنَّه وشى به أنه يباطنُ للنَّاصِرِ أحمد ويواصِلُ كُتُبَه إليه، فقرر أرغون العلائي مع السلطانِ مَسْكَه، فمُسِكَ هو وحاشيتُه، وفي يوم الجمعة ثاني عَشَرِه خَلَعَ السلطانُ آقسنقرَ السلاري. وكان العلائيُّ قد قرَّرَ مع السلطانِ أن يَعرِضَ على الأمراءِ نيابةَ السلطنة، فأوَّلُ مَن عُرِضَت عليه الأميرُ بدر الدين جنكلي بن البابا فامتنع، فقالوا بعده للأميرِ الحاج آل ملك الجوكندار، فأظهر البِشْرَ وأجاب لها إن قُبِلَت شُروطُه، فلما طلع الأميرُ الحاج آل ملك لصلاة الجمعةِ على العادة اشترط على السلطانِ ألَّا يفعَلَ شَيئًا في المملكة إلَّا برأيه وأنه يَمنَعُ الخمرَ مِن البيعِ ويُقيمُ مَنارَ الشَّرعِ، وأنَّه لا يُعارَضُ فيما يفعَلُه، فقَبِلَ السلطان شروطَه ولبس الأميرُ الحاج آل ملك تشريفَ النيابة بجامِعِ القلعة بعد صلاة الجمعة. وأنعم عليه السلطانُ زيادةً على إقطاعِ النيابة بناحيتي المطرية والخصوص ومتحَصَّلهما أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم. وفي يوم السبت ثالث عَشَرِه: خلع السلطانُ علي منكلي بغا الفخري واستقَرَّ أمير جندار عوضًا عن بيغرا. وفيه فتح شباك النيابة وجَلَس فيه الأمير الحاج آل ملك للمُحاكَماتِ.
بدَأ المُختارُ بن أبي عُبيدٍ الثَّقفيُّ بالدَّعوَةِ لابنِ الحَنَفيَّة ظاهرًا؛ ولكنَّه تَبَيَّنَ أنَّه يدعو لِنَفسِه، فقد كَوَّنَ حوله جيشًا قاتَل فيه عُبيدَ الله بن زيادٍ، وكان المُختارُ يُصانِع ابنَ الزُّبير حينًا لِيَتَقَوَّى به على جُيوشِ عبدِ الملك بن مَرْوان، وحصلت مَعركةٌ بين جَيشِه وجَيشِ الشَّام عند نَهْرِ الحازر، قُتِلَ فيها ابنُ زيادٍ، والحُصينُ بن نُميرٍ، وشُرَحْبيل بن زيادٍ، ثمَّ حصل اقْتِتال بين المُختارِ وبين مُصعَبِ بن الزُّبير، والْتَقى الطَرَفان وهُزِمَ المُختارُ وتَراجَع إلى الكوفَةِ، وقُتِلَ فيها وانْتَهت فِتْنَتُه بذلك.
أفسد الأكرادُ والعرَبُ بأرض المَوصِل وطريقِ خُراسان، وكان عبدُ الله بن حَمدان يتولَّى الجميعَ وهو ببغداد، وابنُه ناصر الدولة بالموصِل، فكتب إليه أبوه يأمُرُه بجمع الرجال، والانحدارِ إلى تكريت، ففعل وسارَ إليها، فوصل إليها في رمضانَ، واجتمعَ بأبيه، وأحضر العَرَب، وطالبهم بما أحدثوا في عمَلِه بعد أن قتَلَ منهم، ونكَّلَ ببعضهم، فردُّوا على الناس شيئًا كثيرًا، ورحل بهم إلى شَهرزور، فوطئَ الأكراد الجلالية فقاتلهم، وانضاف إليهم غيرُهم، فاشتدَّت شَوكتُهم، ثمَّ إنَّهم انقادوا إليه لَمَّا رأوا قوَّته، وكفُّوا عن الفساد والشرِّ.
طرد الخليفةُ الرَّجَّالةَ وهم المُشاة من الجيش الذين كانوا بدارِ الخلافةِ عن بغداد، وذلك أنَّه لَمَّا رَدَّ المُقتَدِر إلى الخلافة شَرَعوا ينفسونَ بكلامٍ كثيرٍ عليه، ويقولون: من أعان ظالِمًا سَلَّطَه اللهُ عليه، ومن أصعد الحِمارَ على السَّطحِ يقدِرُ أن يُطيحَه، فأمر بإخراجِهم ونفيِهم عن بغداد، ومن أقام منهم عُوقِبَ، فأُحرِقَت دورٌ كثيرةٌ مِن قراباتِهم، واحتَرَق بعضُ نسائهم وأولادهم، فخرجوا منها في غايةِ الإهانةِ، فنزلوا واسِطَ وتغَلَّبوا عليها وأخرجوا عامِلَها منها، فرَكِبَ إليهم مؤنِسٌ الخادِمُ فأوقع بهم بأسًا شديدًا، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، فلم يَقُم لهم بعد ذلك قائمةٌ.
قام أهلُ صور بالثَّورةِ على الحاكِمِ الفاطميِّ لَمَّا لَحِقَهم مِن جُندِه المغاربة البَربرِ الظُّلمُ والجَورُ، وأخذ الحريم من الحَمَّامات والطُّرُق, فقام أهلُ صور عليهم, بعد أن استنجَدوا بالإمبراطورِ البيزنطيِّ باسيل الثاني، فأمَدَّهم بأسطول. فقتلوا المغاربةَ البَربرَ، فأرسل جيشُ ابنِ الصمصامة جيشًا مِن مصر بقيادةِ أبي عبد الله الحسن بن ناصر ومعه ياقوت الخادِمُ, كما أرسل الحاكِمُ أسطولًا إلى طرابلسَ، فحاصر الجيشُ مدينةَ صور واشتبَكَ أسطولُ الحاكِمُ بالأسطولِ البِيزنطيِّ في معركةٍ عنيفةٍ كانت نتيجتُها هزيمةَ البيزنطيِّينِ والقضاءَ على ثورةِ أهلِ صورٍ.
كان الطَّاعونُ ببِلادِ الهِندِ والعَجَمِ، وعَظُمَ إلى الغاية، وكان أكثَرُه بغُزنة وخراسان وجرجان والريِّ وأصبهان ونواحي الجَبَل إلى حلوان، وامتَدَّ إلى المَوصِل والجزيرة وبغداد، ثمَّ امتَدَّ إلى شيراز، وتَبِعَه غلاءٌ شديد، واستسقى النَّاسُ فلم يُسْقَوا، وكان عامًّا في جميعِ البلادِ، وكَثُرَ المَوتُ، فدُفِنَ في أصبهانَ في عِدَّةِ أيَّامٍ أربعونَ ألفَ مَيِّتٍ، وكَثُرَ الجُدريُّ في النَّاسِ فأُحصي بالموصِلِ أنَّه مات به أربعةُ آلاف صبي، ولم تخْلُ دارٌ مِن مصيبةٍ لعُمومِ المصائِبِ وكثرةِ الموت، وممَّن أُصيبَ بالجُدريِّ الخليفةُ القائِمُ بأمرِ اللهِ ثمَّ سَلِمَ.
انتَظَمَت جَميعُ بلادِ المُسلِمين في الأندلسِ تحت مُلْكِ يوسفَ بنِ تاشفين، وانقَرضَ عَهدُ مُلوكِ الطَّوائفِ منها أَجمَع كأنْ لم يكُن، واستَولَى على العَدوَتَينِ، وتَسَمَّى بأَميرِ المسلمين، وخاطَبَ المُستَنصِر العبَّاسيَّ الخَليفةَ لِعَهْدِه ببغداد، وبَعثَ إليه عبدَ الله بنَ محمدِ بنِ العَربِ على يَدِ المعافري الإشبيلي ووَلَدَه القاضي أبا بكرٍ، فتَلَطَّفا في القَولِ وأَحسَنا في الإبلاغِ، وطَلَبا من الخَليفةِ أن يَعقِدَ له على المَغربِ والأندَلسِ، فعَقَدَ له وتَضَمَّن ذلك مَكتوبُ الخَليفةِ بذلك مَنقولًا في أَيدِي الناس، وانقَلَبا إليه بتَقليدِ الخَليفةِ وعَهْدِه على ما إلى نَظَرِه مِن الأَقطارِ والأَقاليم.
تكامَلَ استيلاءُ التتر على إقليم أرمينية وخلاط وسائر ما كان بيد الخوارزمي، فوصلوا إلى شهزور فاهتَمَّ الخليفة المستنصر بالله غايةَ الاهتمام، وسيَّرَ عِدَّة رسل يستنجد الأشرفَ مِن مصر، ويستنجد العربان وغيرهم، وأخرج الخليفةُ الأموال، فوقع الاستخدام في جميع البلاد لحركة التتر، فندب الخليفةُ صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكِرَ مِن عنده، فساروا نحوهم فهربت منهم التتار وأقاموا في مقابلتهم عدةَ شهور، ثم تمَرَّض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل، وتراجَعَت التتار إلى بلادِها.