هو أمير المؤمنين أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم عبد الله بن القادر القرشي الهاشمي العباسي البغدادي. مولده في شعبان سنة 486 في أيام جده المقتدي، وخُطب له بولاية العهد وهو يرضع، وضُرِبت السكة باسمه, وكان له خطٌّ بديع، ونثر صنيع، ونظم جيد، مع دين ورأي، وشهامة وشجاعة، وكان خليقًا للخلافة، قليل النظير. قال ابن النجار: إن المسترشد كان يتنسك في أول زمنه، ويلبس الصوف ويتعبد، وختم القرآن وتفقَّه، لم يكن في الخلفاء من كَتَبَ أحسن منه، وكان يستدرك على كتَّابه، ويُصلح أغاليطَ في كتبهم، وكان ابن الأنباري يقول: "أنا ورَّاق الإنشاء ومالك الأمر يتولى ذلك بنفسِه الشريفة, وهو ذو شهامة وهيبة، وشجاعة وإقدام، ولم تزل أيامه مكدرة بتشويش المخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك ومباشرته إلى أن خرج فكُسِر وأُسِر، ثم استُشهِد على يد الملاحدة، وكان قد سمع الحديثَ". وكان سبب قتله لما أَسر السلطان مسعود المسترشد بالله وأنزله في خيمة، ووكل به من يحفظه، وقام بما يجِبُ من الخدمة، وترددت الرسل بينهما في الصلح وتقرير القواعد على مالٍ يؤديه الخليفة، وألَّا يعود يجمع العساكر، وألَّا يخرجَ من داره. فأجاب السلطان إلى ذلك، وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبقَ إلا أن يعود إلى بغداد. فوصل الخبر أن الأمير قران خوان قد قَدِمَ رسولًا من السلطان سنجر، فتأخَّر مسير المسترشد لذلك، وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه، وفارق الخليفة بعض من كان موكلًا به، وكانت خيمته منفردة عن العسكر، فقصده أربعة وعشرون رجلًا من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه، وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثَّلوا به فجدعوا أنفه وأُذنيه وتركوه عريانًا، فقُتِل معه نفر من أصحابه، منهم أبو عبد الله بن سكينة، وكان قتلُه يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة، وبقي حتى دَفَنه أهل مراغة. وأما الباطنية فقُتِل منهم عشرة، وقيل: بل قُتِلوا جميعهم، فكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يومًا، ولما قتل المسترشد بالله بويع ولده أبو جعفر المنصور، ولُقِّب الراشد بالله، وكان المسترشد قد بايع له بولاية العهد في حياته، وجُدِّدت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، وكتب السلطان مسعود إلى بك أبه الشحنة ببغداد فبايع له، وحضر الناس البيعة، وحضر بيعته أحد وعشرون رجلًا من أولاد الخلفاء.
ورد الخبَرُ في أول رجب بحركة خدابندا (ويقال له خربندا) وسبب ذلك رحيلُ بعض الأمراء إليه هاربين من السلطان الناصر منهم قراسنقر وغيره وإقامتُهم عنده، وتقويةُ عَزمِه على أخذ الشام، وكان السلطانُ تحت الأهرام بالجيزة، فقَوِيَ عزمُه على تجريد العساكر، ولم يزل هناك إلى عاشِرِ شعبان، فعاد إلى القلعة، وكتب إلى نوَّاب الشام بتجهيز الإقامات، وعرض السلطانُ العسكر، وترحَّلوا شيئًا بعد شيء، من أوَّل رمضان إلى الثامن عشر منه، حتى لم يبقَ بمِصرَ أحد من العسكر، وخرج السلطانُ في ثاني شوال، ونزل مسجِدَ تبر خارج القاهرة، ورحل في يوم الثلاثاء ثالثَه، ورتَّب بالقلعة سيف الدين أيتمش المحمدي، فلما كان ثامنه قَدِمَ البريد برحيل التتر ليلة سادس عشر رمضان من الرحبة، وكان من أمرهم فيها أنَّه لما وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يومًا وقاتلهم نائبُها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالًا عظيما، ومنعهم منها، فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خِدمةِ السلطان خربندا ويُهدُوا له هدية ويطلبون منه العفوَ، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدَوا له خمسةَ رؤوس خيل، وعشرة أباليجَ سكر، فقَبِلَ ذلك, وأخذ الرحبةَ منهم بالأمان وعَفَا عن أهلها ولم يسفِكْ فيها دمًا، وبات بها ليلة الأربعاء في الخامس والعشرين من رمضان, فلما أصبح ارتحل وترك لأهلِ الرحبة أشياءَ كثيرةً مِن أثقال مناجيق وغيرها وكان معه يومئذٍ قرا سنقر والأفرم وسليمان بن مهنا، وكان أهلها قد حلفوا لخربندا فلمَّا ارتحل عنها واستقر الأمر التمس قاضيها ونائبُها وطائفةٌ حلفت لخربندا عَزْلهم من السلطانِ لمكان اليمينِ له فعَزَلهم, وكانت بلادُ حلب وحماة وحمص قد أجلَوا منها وخَرب أكثَرُها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودَقَّت البشائر وتَرَكت الأئمَّةُ القنوت، وخَطَب الخطيبُ يوم العيد وذكَّر الناسَ بهذه النعمة، وكان سبب رجوع التتر قِلَّة العَلَف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانِهم خربندا بالرجوعِ الرشيد وجوبان،، وعودهم إلى بلادِهم بعدما أقاموا عليها من أول رمضان، ففَرَّق السلطانُ الناصر العساكِرَ في قانون وعسقلان، وعزم على الحَجِّ، ودخل السلطانُ دمشق في التاسع عشر، وخرج منها ثاني ذي القعدة إلى الكرك، ويذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان مِمَّن قَدِمَ ورجع إلى دمشق بصُحبةِ السلطان، فكان يومًا مشهودًا خرج الناس لرؤيتِه.
بعَث النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ أَميرًا على الحَجِّ بعدَ انْسِلاخِ ذي القَعدةِ لِيُقيمَ للمسلمين حَجَّهُم -والنَّاسُ مِن أهلِ الشِّركِ على مَنازِلهم مِن حَجِّهِم- فخرَج أبو بكرٍ رضِي الله عنه ومَن معه مِنَ المسلمين، وقد بعَث عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلِيًّا رضي الله عنه بعدَ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه لِيكونَ معه، ويَتوَلَّى علِيٌّ بِنَفْسِه إبلاغَ البَراءةِ إلى المشركين نِيابَةً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِكونِهِ ابنَ عَمِّهِ، مِن عَصَبَتِهِ، قال أبو هُريرةَ: بعَثَني أبو بكرٍ في تلك الحَجَّةِ في مُؤَذِّنين يَومَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بمِنًى: أن لا يَحُجَّ بعدَ العامِ مُشركٌ، ولا يَطوفَ بالبيتِ عُريانٌ. قال حُميدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: ثمَّ أَردَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، فأَمَرهُ أن يُؤَذِّنَ ببَراءَة. قال أبو هُريرةَ: فأَذَّنَ مَعَنا علِيٌّ في أهلِ مِنًى يَومَ النَّحْرِ: لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبيتِ عُريانٌ.
لمَّا رأى المسلمون مُطاوَلةَ الرُّومِ لهم بالشَّام اسْتمَدُّوا أبا بكرٍ، فكتَب إلى خالدِ بن الوَليد يأمُرهُ بالمَسيرِ إليهم وبالحَثِّ، وأن يَأخُذَ نِصفَ النَّاس ويَسْتخلِفَ على النِّصفِ الآخرِ المُثَنَّى بن حارِثةَ الشَّيبانيَّ، ولا يَأْخُذَنَّ مَن فيه نَجْدَةٌ إلَّا وَيَتْرك عند المُثَنَّى مِثْلَهُ، وإذا فتَح الله عليهم رجَع خالدٌ وأصحابُه إلى العِراقِ. اتَّجَه خالدٌ مِن العِراقِ إلى الشَّام وفتَح عددًا مِن المُدُنِ، وصالَح بعضَها، وصل شَرقِيَّ جَبَلِ حَوْرانَ، ثمَّ تَدْمُرَ، ثمَّ القَرْيَتينِ مِن أَعمالِ حِمْصَ، ثمَّ قاتَل غَسَّانَ في مَرْجِ راهِطٍ وانتصر عليهم، ثمَّ سار إلى بُصْرى الشَّامِ وكانت أوَّلَ مدينةٍ افتتَحها مِن بِلادِ الشَّامِ حتَّى بلَغ جموع المسلمين في اليرموك، وكان ممَّا مَرَّ به خالدٌ مع جَيْشِهِ مَفازَة بين قُراقِر وسُوَى لا ماءَ فيها ولا كَلَأ، الدَّاخِلُ فيها مَفقودٌ، والخارِجُ منها مَولودٌ، لكنَّ خالدًا استعان بدَليلٍ يُقال له: رافِعُ بن عُميرَةَ الطَّائيُّ، ساعَدهُ على تَجاوُزِ المَفازةِ بسَلامٍ مع جَيشٍ قِوامُه تِسعةُ آلافِ مُقاتلٍ.
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
هو العبَّاسُ بن عبدِ المُطَّلِب بن هاشمِ بن عبدِ مَنافٍ، أبو الفَضلِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن أكابرِ قُريشٍ في الجاهِليَّةِ والإسلامِ، وجَدُّ الخُلفاءِ العبَّاسيِّين رضِي الله عنه. كان مُحسِنًا لِقومِه، سَديدَ الرَّأيِ، واسعَ العَقلِ، مُولَعًا بإعْتاقِ العَبيدِ، كارِهًا للرِّقِّ، اشْتَرى 70 عبدًا وأَعتَقَهم، وكانت له سِقايةُ الحاجِّ، وعِمارةُ المسجدِ الحرامِ -وهي أن لا يَدَعَ أحدًا يَسُبّ أحدًا في المسجدِ ولا يَقولُ فيه هَجْرًا- أَسلَم قبلَ الهِجرَةِ وكتَم إسلامَه، وأقام بمكَّةَ يَكتُب إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبارَ المشركين، ثمَّ هاجَر إلى المدينةِ، وشَهِدَ وَقعةَ "حُنين" فكان ممَّن ثبَت حين انْهزَم النَّاسُ، وشَهِدَ فَتحَ مكَّةَ، وعَمِيَ في آخرِ عُمُرِهِ، وكان إذا مَرَّ بعُمَرَ في أيَّام خِلافَتِه تَرَجَّلَ عُمَرُ إجلالًا له، وكذلك عُثمانُ، وكانت وَفاتُه في المدينةِ عن عشرةِ أولادٍ ذُكورٍ سِوَى الإناثِ، وله في كُتُبِ الحديثِ 35 حديثًا تَقريبًا، وإليه تُنْسَبُ الدَّولةُ العبَّاسيَّة التي حَكَمت ما يَزيد عن خمسةِ قُرونٍ.
هو أبو عبدِ الرَّحمن مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان الأُمَويُّ القُرشيُّ، مِن أصحابِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأحدُ كُتَّابِ الوَحْي، سادِسُ الخُلفاءِ في الإسلامِ، وأوَّلُ مُلوكِ المسلمين، ومُؤَسِّسُ الدَّولةِ الأُمويَّة في الشَّام، وُلِدَ بمكَّة وتَعَلَّم الكِتابَةَ والحِسابَ، أَسلَم مُعاوِيَةُ رضي الله عنه يومَ الفَتحِ، وقِيلَ: في عُمرَةِ القَضاءِ وكان يَكتُم إسلامَهُ خَوفًا مِن أَبيهِ، وقد اسْتَعمَله رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على كِتابَةِ الوَحْي، واسْتَعمَلَه على الشَّامِ الخُلفاءُ: عُمَرُ، وعُثمانُ، وبَقِيَ على الشَّام في خِلافَة عَلِيٍّ بغَيرِ رِضاهُ، فبَقِيَ كذلك قُرابةَ العِشرين سنة، ثمَّ تَمَّ له الأَمْرُ بعدَ تَنازُلِ الحسنِ بن عَلِيٍّ له، وبَقِيَ خَليفَةً مُدَّةَ تِسعةَ عشرَ عامًا وأَشْهُر، فتَح الله له فيها الكثيرَ مِن البِلادِ، واشْتُهِرَ بالحِكمَةِ في سِياسَتِه للنَّاس، ومُداراتِه لهم، وكان قد عَهِدَ لابنِه يَزيدَ قبلَ مَوتِه، وبعَث في البِلادِ لِيأخُذوا له ذلك، وتُوفِّي في دِمشقَ وصلَّى عليه الضَّحَّاكُ بن قيسٍ، ودُفِنَ فيها، جَزاهُ الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
خَرَج إليون مِن القُسطنطينيَّة ومعه مائةُ أَلفِ فارِس، فأُخبِرَ بذلك البَطَّال وهو عبدُ الله الأنطاكي فأَخبَر البَطَّالُ أَميرَ عَساكِر المسلمين بذلك، وكان الأَميرُ مالِك بن شَبيب، وقال له: المَصلَحةُ تَقتَضِي أن نَتحَصَّن في مَدينَة حَرَّان فنَكُون بها حتَّى يَقدُم علينا سُليمانُ بن هِشام بالمَدَد، فأَبَى عليه ذلك ودَهمَهم الجَيشُ، فاقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا والأَبطالُ تَحومُ بين يدي البَطَّال ولا يَتَجاسر أَحدٌ أن يُنَوِّه باسمِه خَوفًا عليه مِن الرُّوم، فاتَّفَق أن ناداهُ بَعضُهم وذَكَر اسمَه غَلَطًا منه، فلمَّا سمع ذلك فِرسانُ الرُّوم حَمَلوا عليه حَملةً واحِدةً، فاقْتَلعوه مِن سَرْجِه بِرِماحِهم فأَلقوه إلى الأَرضِ، ورَأى النَّاسَ يُقتَلون ويُأسَرون، وقُتِلَ الأميرُ الكَبيرُ مالِكُ بن شَبيب، وانكَسَر المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخَراب فتَحَصَّنوا فيها، وانطَلَق ليون إلى المسلمين الذين تَحَصَّنوا فحاصَرَهم، فبينما هم في تلك الشِّدَّةِ والحِصار إذ جاءَتهُم البُرُدُ بِقُدومِ سُليمان بن هِشام بالمَدَدِ، ففَرَّ ليون في جَيشِه هارِبًا راجِعًا إلى بِلادِه -قَبَّحَهُ الله- فدَخَل القُسطنطينيَّة وتَحصَّن بها.
هو السَّيِّدُ أبو الحسن العلوي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والِدُ الإمام علي بن موسى الرضا, المدنِيُّ، ولد سنة ثمان وعشرين ومائة بالمدينةِ ثم نزلَ بغداد,َ لقب بالكاظِمِ لكَظمِه عمَّن أساء إليه، كان مجتهدًا في العبادةِ كريمًا، قيل: إنَّ سبَبَ سَخَطِ الرشيدِ عليه هو أنَّ الرشيدَ لَمَّا زار قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: السَّلامُ عليك يا عمَّاه يفتَخِرُ بذلك، فقال موسى: السَّلامُ عليك يا أبتِ. فقال الرشيدُ: هذا هو الفَخرُ يا أبا الحسَنِ, ثم لم يزَلْ ذلك في نفسِه، فحَنقَ عليه حتى استدعاه في سنة تسعٍ وسبعين وسجَنَه فأطال سَجنَه، وقيل: بل لأنَّه سَمِعَ أنَّ النَّاسَ يبايعونَ له فحَمَله معه إلى البصرةِ وحَبَسَه عند واليها عيسى بن جعفرٍ، ثمَّ نقَلَه إلى الفضلِ البرمكي، ثمَّ حَوَّله إلى السندي بن شاهك، إلى أن مات عنده ودُفِنَ في بغداد.
كان الأمينُ قد أرسل عبدالملك بن صالح بن عليٍّ إلى الشام ليجمَعَ له الجُندَ، لكنَّه توفي في الرقَّة، فتولى أمرَ الجُندِ الحُسينُ بن علي بن ماهان، فعاد بهم إلى بغداد، ورفض القدومَ على الأمين الذي أرسلَ إليه من يُحضِرُه، فاقتتل الطرفانِ وانهزم الجمعُ الذين أرسَلَهم الأمين، فخلَعَ الحُسَينُ الأمينَ يومَ الأحدِ لإحدى عشرة ليلةً خلَت من رجب، وأخذ البيعةَ للمأمونِ مِن الغدِ يوم الاثنين، فلما أصبح الناسُ يوم الأربعاء طلبوا مِن الحُسين بن عليٍّ أُعطِياتِهم واختلفوا عليه، وصار أهل بغداد فرقتينِ؛ فِرقةً مع الأمينِ، وفرقةً عليه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فغلب حزبُ الخليفة، وأسَروا الحُسَين بنَ علي بن عيسى بن ماهان وقَيَّدوه، ودخلوا به على الخليفة ففكُّوا عنه قيودَه، ثم إنَّ الأمينَ عفا عن الحسين وولَّاه الجُندَ وسَيَّرَه إلى حلوان، فلما وصل إلى الجِسرِ هرب في حاشيتِه وخَدَمِه، فبعث إليه الأمين من يرُدُّه، فرَكِبَت الخيولُ وراءه فأدركوه فقاتَلَهم وقاتلوه، فقتلوه لِمُنتَصف رجب.
لَمَّا جاء الخبَرُ أن المأمونَ بايع لعليِّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسين بالولايةِ مِن بعده؛ وذلك أن المأمون رأى أنَّ عليًّا الرضا خيرُ أهل البيت، وليس في بني العباس مثلُه في عِلمِه ودينِه، فجعله وليَّ عهده من بعده- اختلفوا فيما بينهم، فمِن مجيبٍ مبايعٍ، ومِن آبٍ ممانعٍ، وجمهورُ العباسيِّين على الامتناعِ من ذلك، وقام في ذلك ابنا المهديِّ إبراهيم ومنصور، فلما كان يوم الثلاثاءِ لخَمسٍ بَقِينَ مِن ذي الحجة فأظهر العباسيونَ البيعةَ لإبراهيم بن المهدي، ولقبوه بالمُبارك- وكان أسودَ اللون- ومِن بعده لابنِ أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي، وخَلَعوا المأمون. فلمَّا كان يومُ الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحِجَّة أرادوا أن يَدعُوا للمأمونِ ثم من بعده لإبراهيمَ فقالت العامة: لا تدعُوا إلَّا إلى إبراهيم فقط، واختلفوا واضطربوا فيما بينهم، ولم يُصَلُّوا الجمعةَ، وصلَّى الناسُ فرادى أربعَ ركعاتٍ.
كان إبراهيم بن محمَّد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب المعروف "بابن الصوفي العَلَوي" قد ظهر بمصر سنة ست وخمسين، فدعا لنفسه ثم هرب إلى الواحات، ثم عاد هذا العام، فدعا الناسَ إلى نفسه، فتَبِعَه خلق كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فوُجِّه إليه جيش عليهم قائد يعرف بابن أبي الغيث، فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمري، فلما وصل العَلَوي إلى العُمري التقيا، فكان بينهما قتالٌ شديد، أجْلَت الوقعةُ عن انهزام العلوي، فولى منهزمًا إلى أسوان، فعاث فيها وقطع كثيرًا من نَخلِها. فسيَّرَ إليه ابن طولون جيشًا، وأمرهم بطلبه أين كان، فسار الجيش في طلبه، فولى هاربًا إلى عيذاب، وعبَرَ البحر إلى مكَّة، وتفَرَّق أصحابه، فلما وصل إلى مكة بلغ خبَرُه إلى واليها فقبض عليه وحبَسَه، ثم سيَّرَه إلى ابن طولون، فلما وصلَ إلى مصر أمر به فطِيفَ به في البلد، ثم سجَنَه مُدَّة وأطلقه، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
هو سُلطان بُخارى وسَمَرقند وابنُ سلاطينِها, أبو القاسِمِ نوحُ بنُ منصور بنِ نوحِ بنِ عبد الملك بن نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. تمَلَّك نوحٌ خُراسانَ وغزنةَ وما وراء النهر, ولَمَّا توفِّيَ الأميرُ نوحُ بنُ منصور الساماني اختَلَّ بموته مُلكُ آل سامان، وضَعُف أمرُهم ضعفًا ظاهِرًا، وطَمِعَ فيهم أصحابُ الأطراف، فزال مُلكُهم بعد مدَّةٍ يسيرة. ولَمَّا توفِّيَ نوحٌ بعد أنْ حَكَم اثنتين وعشرينَ سنةً. قام بالمُلْك بعده ابنُه أبو الحارِثِ مَنصورٌ، وبايعه الأمراءُ والقُوَّادُ وسائِرُ النَّاسِ، وفَرَّقَ فيهم بقايا الأموال، فاتَّفقوا على طاعته، وقام بأمرِ دولتِه وتدبيرِها بكتوزون. بَقِيَ أبو الحارث في الحُكمِ سنة وتسعة أشهر, ثم قَبَض عليه الأمراءُ ومَلَّكوا أخاه عبدَ الملك, فقَصَدَهم السلطانُ محمود بن سبكتكين, فالتقاهم وهَزَمَهم إلى بخارى، ثمَّ انقَرَضت دولةُ السَّامانيَّة.
هو الحافِظُ أبو عبد الله مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ عبد الله بن محمد الصوري، أحَدُ علماء الحديثِ؛ طلب الحديثَ بنَفسِه على الكِبَرِ، ورحَلَ في طلبه إلى الآفاق. كان من أعظَمِ أهل الحديث هِمَّةً في الطلب وهو شابٌّ، ثم كان من أقوى النَّاسِ على العمَلِ الصالحِ عزيمةً في حالِ كِبَرِه. كان صوَّامًا يَسرِدُ الصومَ إلَّا يومَيِ العيدينِ وأيام التشريق، وكان مع ذلك حَسَن الخُلُق جميلَ المعاشرة، محبًّا للشِّعرِ، وقد ذهبت إحدى عَينيه، وكان يكتُبُ بالأخرى المجَلَّدَ في جزءٍ. قال أبو الحسن الطيوري: "يقال إنَّ عامَّةَ كُتُبِ الخطيبِ سوى التاريخِ مُستفادةٌ مِن كُتُبِ أبي عبد الله الصوري، لَمَّا مات ترك كتبَه اثني عشر عِدلًا عند أخيه، فأخذ الخطيبُ بعض تلك الكتب فحوَلَّها في كتُبِه", وكان سبَبُ مَوتِه أنَّه افتصد فوَرِمَت يدُه، وقيل إنَّ ريشةَ الفاصد كانت مسمومةً لِغَيره فغَلِطَ ففَصَده بها، فكانت فيها منيَّتُه، فحُمِلَ إلى المارستان فمات به، ودُفِنَ بمقبرة جامع المدينة، وقد نَيَّف على الستين.
سار سُليمانُ بن قتلمش، صاحِبُ قونية وأقصرا وأَعمالِها من بلادِ الرُّومِ، إلى الشم الشام، فمَلَكَ مَدينةَ أنطاكية من أرضِ الشامِ، وكانت بَيَدِ الرُّومِ من سَنةِ 358هـ، وسَببُ مُلْكِ سُليمانَ المدينةَ أن صاحِبَها الفردوس الرُّوميَّ كان قد سار عنها إلى بِلادِ الرُّومِ، ورَتَّبَ بها شِحْنَةً – مَسؤول عن ضَبْطِ المدينة-، وكان الفردوس مُسيئًا إلى أَهلِها، وإلى جُنْدِه أيضًا، فاتَّفقَ ابنُه والشِّحْنَةِ على تَسليمِ البَلدِ إلى سُليمانَ بن قتلمش، وكاتَبوهُ يَستَدعونه، فرَكِبَ البحرَ وأَخذَ البلدَ في شعبانَ، فقاتَلهُ أَهلُ البلدِ، فهَزَمهم مَرَّةً بعدَ أُخرى، وقَتلَ كَثيرًا من أَهلِها، ثم عَفَا عنهم، وتَسلَّم القَلعةَ المعروفة بالقسيان، وأَخذَ من الأَموالِ ما يُجاوِز الإحصاءَ، وأَحسنَ إلى الرَّعِيَّةِ، وعَدَلَ فيهم، وأَمرَهم بعِمارَةِ ما خُرِّبَ، ومَنعَ أَصحابَه من النُّزولِ في دُورِهم ومُخالَطَتِهم، ولمَّا مَلَكَ سُليمانُ أنطاكية أَرسلَ إلى السُّلطانِ ملكشاه يُبَشِّرُهُ بذلك، ويَنسُب هذا الفَتحَ إليه لأنَّه من أَهلِه، وممَّن يَتولَّى طاعتَه، فأَظهرَ ملكشاه البِشارةَ به، وهَنَّأَهُ الناسُ.