لَمَّا قَدِمَ صالح بن علي العباسيُّ وأبو عون بجموعِهما إلى مصر في طلَبِ مروان بن محمد نزَلَت عساكرُهما الصَّحراءَ جنبَ جبل يشكُر، الذي هو الآنَ جامِعُ أحمدَ بنِ طولون، وكان فَضاءً. فلمَّا رأى أبو عون ذلك أمَرَ أصحابَه بالبناءِ فيه، فبَنَوا وبنى هو به أيضًا دارَ الإمارة، ومسجِدًا عُرِفَ بجامع العَسكر. وعَمِلَت الشرطةُ أيضًا في العسكر، وقيل لها: الشرطةُ العليا، فأصبَحَت كالعاصمةِ لمصرَ؛ لأنَّه قد صارت مسكنًا للأمراءِ بعد ذلك.
بلغ أبا جعفر المنصور ما فعله الدَّيلمُ بالمسلمين وقتْلُهم منهم مقتلةً عظيمةً، فوجَّه إلى البصرة حبيبَ بن عبد الله بن رغبان، وعليها يومئذ إسماعيلُ بن عليٍّ، وأمره بإحصاءِ كلِّ مَن له فيها عشرةُ آلاف درهم فصاعدًا، وأن يأخُذَ كلَّ من كان ذلك له بالشُّخوصِ بنَفسِه لجهاد الدَّيلم، ووجَّه آخر لمثل ذلك إلى الكوفة. ثم سيَّرَ أبو جعفر النَّاسَ من الكوفة والبصرة والجزيرة والموصل إلى غزو الديلم، واستعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفَّاح.
خالف العطافُ بنُ سفيانَ الأزديُّ الرشيدَ وتغلَّب على الموصِل، وكان من فرسانِ أهلِ الموصل، واجتمع عليه أربعةُ آلافِ رَجُلٍ، وجبى الخراجَ، وكان عامِلُ الرشيدِ على الموصل محمَّدَ بن العباس الهاشمي، وقيل: عبد الملك بن صالح، والعطاف غالِبٌ على الأمر كلِّه، وهو يَجبي الخراج، وأقام على هذا سنتين، حتى خرجَ الرشيدُ إلى الموصل فهدَمَ سُورَها بسَبَبِه, فأقسَمَ ليقتُلَنَّ من لَقِيَ مِن أهلِها، وكان العطاف قد سار عنها نحوَ أرمينيَّة، فلم يظفَرْ به الرشيدُ.
نَفَذَ الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ رَسولًا إلى السُّلطانِ ملكشاه والوَزيرِ نِظامِ المُلْكِ بِرسالةٍ مَضمونُها تتضمن الشَّكوَى من العَميدِ أبي الفَتحِ بن أبي اللَّيثِ، عَميدِ العِراقِ، وأَمرَهُ أن يُنهِي ما يجري على البلادِ من النُّظَّارِ، وقد جَرَى بينه وبين إمامِ الحَرَمينِ أبي المَعالي الجُوينيِّ مُناظرَةٌ بِحَضرَةِ نِظامِ المُلْكِ، وأُجِيبَ إلى جَميعِ ما التَمسَهُ، ولمَّا عاد أُهِينَ العَميدُ، وكُسِرَ عمَّا كان يَعتَمِدُه، ورُفِعَت يَدُه عن جَميعِ ما يَتعلَّق بحواشي الخَليفَةِ.
جمع بغدوين ملك الفرنج عسكرَه وقصد مدينةَ صور وحصرها، وأمر ببناء حصن عندها على تل المعشوقة، وأقام شهرًا محاصرًا لها فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار، فأخذها ورحل عن المدينة، وقصد مدينة صيدا، فحصرها برًّا وبحرًا ونصب عليها البرُجَ الخشب، فوصل الأسطول من مصر للدفع عنها، والحماية لمن فيها، وقاتلوا الفرنج، فظهر المسلمون عليهم، فبلغهم أن عسكر دمشق خارج في نجدة صيدا، فرحل الأسطول عائدًا إلى مصر بغير فائدة.
أرسل بركة خان المغولي رسلًا إلى السُّلطان الظاهر بيبرس يطلُبُ منه أن يتحالَفَ معه ضِدَّ هولاكو، وخاصَّةً أنه قد أسلَمَ ووقَعَ بينه وبين هولاكو من الخلافِ، فأكرم الظاهِرُ بيبرس الرسُلَ، ثمَّ أرسل هو بدوره رسلًا إلى بركة خان يعرِّفُه بموافقته على هذا الأمر مِن تحالُفِهما ضد هولاكو، وكتب الظاهِرُ إلى ملك شيراز وأهل تلك الديار، وإلى عرب خفاجة، يستحثُّهم على قتالِ هولاكو مَلَكِ التتار، وأن الأخبارَ قد وردت من البحرِ بكَسرِ الملكِ بركة له غيرَ مَرَّة.
لما أفضى الأمر إلى السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي المعروف بالبرتغالي أراد أن يأخذ بثأره من البرتغال الذين أسروه لسبع سنين فزحف إلى آصيلا وحاصرها وطال قتاله عليها ثم اقتحمها المسلمون عليهم اقتحامًا واقتتلوا في وسط الأزقة والأسواق يومين، ثم جاء المدد إلى البرتغال من طنجة وجبل طارق فقَوِيت نفوسهم وخرج المسلمون عنهم، لكن ما خرجوا حتى هدموها وأحرقوها ولم يتركوا لهم بها إلا الخربات، ثم جدَّ البرتغال في إصلاحها وأقاموا بها برهة من الدهر إلى أن رجعت للمسلمين.
قرَّرَ المحتلُّ الصِّهْيَوْنيُّ هدمَ المسجدِ العُمَريَّ الواقعَ في قرية أم طوبا جنوبَ مدينة القُدسِ، وذلك بدعوى البناء غير المرخَّص دونَ سابقِ إنذارٍ، والمسجد قديمٌ جدًّا وتاريخيٌّ، فقد تمَّ تَشييدُه قبلَ نحو 700 عامٍ، وتمَّ ترميمُه عامَ 1963م، ولكنَّه بَقيَ ضيقًا لا يتسعُ لأعداد المصلِّينَ المتزايدةِ، فتمَّت توسعتُه لاستيعاب هذه الأعداد، وأثار الأمرُ حفيظةَ أبناء القرية، وقرَّروا المرابطةَ في المسجد صغارًا وكبارًا لمنع تنفيذ هذا القرارِ.
قال خالدُ بنُ الوليدِ: لمَّا أراد الله عزَّ وجلَّ ما أَراد مِنَ الخيرِ قذَف في قلبي الإسلامَ وحضَرني رُشدي, وقلتُ قد شَهِدتُ هذه المواطِنَ كُلَّها على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فليس مَوطنٌ أَشهدُه إلَّا أَنصرِفُ وأنا أَرى في نَفْسي أنِّي في غيرِ شيءٍ وأنَّ محمَّدًا سيَظهرُ، فلمَّا خرَج رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الحُديبيةِ خَرجتُ في خيلِ المشركين فقمتُ بإزائِه في عُسْفانَ وتَعرَّضتُ له، فصلَّى بأصحابِه الظُّهرَ أمامَنا فهَمَمْنا أن نُغِيرَ عليه فلم نُمَكَّنْ منه, فصلَّى بأصحابِه صلاةَ العَصرِ صلاةَ الخَوفِ فوقع ذلك مِنَّا مَوقِعًا، وقلتُ: الرَّجلُ ممنوعٌ. فافْتَرقنا, فلمَّا صالح قُريشًا بالحُديبيةِ, ثمَّ دخَل رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكَّةَ في عُمرَةِ القَضاءِ طَلبَني فلم يَجِدْني، وكتَب إليَّ كِتابًا فيه: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم أمَّا بعدُ، فإنِّي لم أَرَ أَعجبَ مِن ذِهابِ رَأيكِ عنِ الإسلامِ وعَقلِكَ, ومِثلُ الإسلامِ يَجهلُه أَحدٌ؟. ثمَّ سأل عَنِّي, فقِيلَ: له يأتي الله به. فقال: ما مِثلُه جَهِلَ الإسلامَ, ولو كان يجعل نِكايتَهُ مع المسلمين على المشركين كان خيرًا له، ولَقَدَّمْناهُ على غَيرِه. فلما جاءَني كِتابُه نَشَطْتُ للخُروجِ، وزادني رَغبةً في الإسلامِ، وسَرَّني سُؤالُه عَنِّي, فلمَّا أَجمعتُ الخُروجَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَقِىيتُ عُثمانَ بنَ طلحةَ فعَرضتُ عليه الإسلامَ فأَسرعَ الإجابةَ، فخرج معي حتى انتهينا إلى الهَدةِ فوَجدْنا عَمرَو بنَ العاصِ بها, فقال: مرحبًا بالقومِ. فقُلنا: وبِكَ. قال: إلى أين مَسيرُكُم؟ قُلنا: الدُّخولُ في الإسلامِ، واتِّباعُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. فقال: وذاك الذي أَقدَمني. فاصْطحَبْنا جميعًا حتَّى دخَلنا المدينةَ, فلَبِسْتُ مِن صالحِ ثِيابي ثمَّ عَمدتُ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وقد أُخبِرَ بِنا فَسُرَّ بقُدومِنا, فما زال يَتَبَسَّمُ حين رآني حتَّى وَقفتُ عليه، فسَلَّمتُ عليه بالنُّبُوَّةِ فرَدَّ عليَّ السَّلامَ بوَجْهٍ طَلْقٍ، فقلتُ: إنِّي أَشهدُ أن لا إلَه إلَّا الله، وأنَّك رسولُ الله. فقال الحمدُ لله الذي هَداك، قد كنتُ أَرى لك عَقلًا رَجَوْتُ أن لا يُسْلِمَكَ إلَّا إلى خيرٍ. قلتُ: يا رسولَ الله قد رأيتَ ما كنتُ أشهدُ مِن تلك المواطنِ عليك، فادعُ الله يَغفِرُها لي. فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: الإسلامُ يَجُبُّ ما كان قَبلَهُ.
غَزَا مُسلِمُ بن سَعيد التُّرْكَ فعَبَر النَّهرَ وعاثَ في بِلادِهم ولم يَفتَح شَيئًا وقَفَلَ، فأَتْبَعَه التُّرْكُ ولَحِقُوهُ على النَّهرِ فعَبَر بالنَّاسِ ولم يَنالوا منه، ثمَّ غَزا بَقِيَّةَ السَّنَة وحاصَر افشين حتَّى صالَحُوه على سِتَّة آلافِ رَأسٍ، ثمَّ دَفَعوا إليه القَلعَة، ثمَّ غَزَا سَنَة سِتٍّ ومائة وتَباطَأ عنه النَّاسُ, ولمَّا قَطَع مُسلمٌ النَّهرَ وصار ببُخارَى أَتاهُ كِتابٌ مِن خالدِ بن عبدِ الله القَسْرِي بِوِلايَتِه على العِراق، ويَأمُره بإتمام غَزاتِه, فسارَ إلى فَرْغانَة، فلمَّا وَصلَها بَلغَه أن خاقان قد أَقبَل إليه وأنَّه في مَوضِعٍ ذَكَروه، فارْتَحَل، فسار ثلاث مَراحِل في يَومٍ، وأَقبَل إليهم خاقان فلَقِيَ طائِفَة مِن المسلمين وأَصابَ دَوابَّ لِمُسلمِ بن سَعيد، وقُتِلَ أخو غَوْزَك وثار النَّاسُ في وُجوهِهِم فأخرجوهم مِن العَسْكَر، ورَحَل مُسلمٌ بالنَّاس فسار ثمانِيةَ أيَّام وَهُم مُطيفون بهم، فلمَّا كانت التَّاسِعَة أَرادوا النُّزولَ فشاوَرَ النَّاسَ، فأَشاروا عليه بالنُّزولِ وقالوا: إذا أَصبَحنا وَرَدْنا الماءَ، والماءُ مِنَّا غَيرَ بَعيدٍ. فنَزلوا ولم يَرفَعوا بِناء في العَسكَر، وأَحرقَ النَّاسُ ما ثَقُلَ مِن الآنِيَة والأَمْتِعَة، فحَرَقوا ما قِيمتُه ألف ألف، وأَصبَح النَّاسُ فساروا فوَرَدُوا النَّهْرَ وأَهلُ فَرْغانَة والشَّاش دُونَه، فقال مُسلِم بن سَعيد: أَعْزِمُ على كُلِّ رَجُلٍ إلَّا اخْتَرَطَ سَيفَه، ففَعَلوا وصارت الدُّنيا كُلُّها سُيوفًا، فتَرَكوا الماءَ وعَبَروا. فأَقام يَومًا ثمَّ قَطَع مِن غَدٍ واتَّبَعَهم ابنٌ لِخَاقان، فأَرسَل إليه حميد بن عبدِ الله، وهو على السَّاقَة: فقال له: قِفْ لي فإنَّ خَلفِي مائتي رَجُل مِن التُّرْك حتَّى أُقاتِلَهم. وهو مُثْقَلٌ جِراحَةً، فوَقَف النَّاسُ وعَطَف على التُّرْكِ فقاتَلَهم، وأَسَر أَهلَ الصُّغْدِ وقائِدَهم وقائِدَ التُّرْك في سَبعَة ومَضَى البَقِيَّةُ، ورَجَع حُميد فرُمِيَ بنُشَّابَة في رُكْبَتِه فمات. وعَطِشَ النَّاسُ، وكان عبدُ الرَّحمن العامِري حَمَل عشرين قِرْبَة على إبِلِه فسَقاها النَّاسَ جُرَعًا جُرَعًا، اسْتَسْقَى مُسلمُ بن سَعيدٍ، فأَتوه بإناءٍ، فأَخَذه جابِرٌ أو حارِثَة بن كَثير أخو سُليمان بن كَثير مِن فِيهِ، فقال مُسلمٌ: دَعوه فما نازَعَنِي شَرْبَتِي إلَّا مِن حَرٍّ دَخَلَهُ. وأتوا خُجَنْدَة، وقد أَصابَهم مَجاعةٌ وجَهْدٌ، فانْتَشَر النَّاسُ.
هو الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله المحمدي، نائب قلعة دمشق، هو مملوك سودون بن عبد الله المحمدي المتوفي سنة 818، وعتيقه، وإليه يُنسَب بالمحمدي. واستمرَّ بخدمته إلى أن قتله المؤيد شيخ، واستمرَّ من جملة المماليك السلطانية إلى أن صار في الدولة الأشرفية برسباي خاصكيًّا، ورأَسَ نوبةَ الجمدارية مدةً طويلة. ثم أراد الأشرفُ أن يؤمِّرَه فامتنع وترك وظيفته أيضًا، وصار من جملة المماليك السلطانية على إقطاعه، ودام على ذلك إلى أن وثب الأتابك جقمق على الملك العزيز يوسف، فانضَمَّ سودون المحمدي إلى الملك العزيز، ولم يوافِق الأتابك جقمق، فعدَّها عليه جقمق إلى أن تسلطن فنفاه، ثم شُفِعَ فيه بعد أشهر، وكَتَبَ بعوده إلى القاهرة، وأنعم عليه بإمرةِ عشرة بسفارة خوند مغول بنت القاضي ناصر الدين البارزي زوجة الملك الظاهر جقمق، فإن سودون هذا هو زوج أختها لأبيها, فاستمرَّ سودون مدة ثم توجَّه إلى مكة المشرفة ناظرًا بها وشاد العمائر، كما كان توجَّه في الدولة الأشرفية برسباي. واستمر بمكة نحو السنتين أو أكثر، وعاد إلى القاهرة وأقام بها مدة يسيرة، واستقرَّ في نيابة قلعة دمشق في سنة 848، فتوجَّه إليها ودام بها إلى أن مات في صفر. قال ابن تغري بردي: "كان ديِّنًا خَيِّرًا، عفيفًا عن المنكرات والفروج، عاقلًا ساكنًا، إلا أنه كان قليل المعرفة كثيرَ الظن برأي نفسِه. من ذلك أنه لما توجه إلى مكة ليصلِحَ ما تشعَّثَ من حيطان الحرم، فلما وصل إلى مكَّةَ هدم سقْفَ البيت الشريف، ورفع الأخشابَ التي كانت بأعلى البيت وغيرَها، فمنعه أكابِرُ مكة من ذلك، فأبى، فقالوا له: هذا عليه كتابةٌ تمنع الطيرَ أن يقعُدَ بأعلى البيت، فلم يلتفِتْ إلى كلامهم، وهدم السقفَ واعتذر بأنه يدلِفُ المطرَ إلى داخل البيت، فرحل جماعةٌ من أهل مكة خوفًا من أن ينزل عليهم بلاء من الله، وصار البيت مكشوفًا أيامًا بغير كسوة إلى أن جَدَّد له سقفًا، فتَلِفَ ما صنعه أكثَرَ من السقف القديم، وتكرر منه هذا الفعل، فلم يُحمَدْ على ما فعل، وساءت سيرتُه بمكة لأجل ذلك، ونَقَم عليه كل أحد، وصار سقفُ البيت مأوًى للطيور، وأتعب الخدامَ ذلك؛ فإنهم صاروا كل قليل ينزلون من أعلى البيت بقُفَف من زبلِ الحمام وغيره، فما شاء الله كان، ونَدِمَ هو أيضًا على فعلته، فلم يُفِدْه الندم، وهو غير الأمير سودون بن عبد الله النوروزي المتوفى سنة 847.
سار عُقبةُ بن نافعٍ بعدَ أن وَلَّاهُ يَزيدُ أفريقيا في عَسكرٍ عَظيمٍ حتَّى دخَل مَدينةَ باغايَة وقد اجْتَمع بها خَلْقٌ كثيرٌ مِن الرُّومِ، فقاتَلوهُ قِتالًا شَديدًا وانْهزَموا عنه، وقَتَلَ فيهم قَتلًا ذَريعًا، وغَنِمَ منهم غَنائمَ كثيرةً، ودخَل المُنْهزِمون المدينةَ وحاصَرهُم عُقبةُ. ثمَّ كَرِهَ المُقامَ عليهم فسار إلى بلاد الزَّابِ، وهي بِلادٌ واسعةٌ فيها عِدَّةُ مُدُنٍ وقُرىً كثيرةٍ، فقصَد مَدينَتَها العُظْمى واسْمُها أَرَبَة، فامْتَنع بها مَن هناك مِن الرُّوم والنَّصارى، وهرَب بعضُهم إلى الجِبالِ، فاقْتَتَل المسلمون ومَن بالمدينةِ مِن النَّصارى عِدَّةَ دَفَعاتٍ، ثمَّ انْهزَم النَّصارى وقُتِلَ كثيرٌ مِن فِرسانِهم، ورحَل إلى تاهرت. فلمَّا بلَغ الرُّومَ خَبرُه اسْتَعانوا بالبَرْبَر فأجابوهم ونَصروهُم، فاجتمعوا في جَمْعٍ كثيرٍ والْتَقوا واقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا، واشْتَدَّ الأمرُ على المسلمين لِكَثرةِ العَدُوِّ، ثمَّ إن الله تعالى نَصرَهُم فانهَزمَت الرُّومُ والبَرْبَر وأَخذَهُم السَّيفُ، وكَثُرَ فيهم القَتلُ، وغَنِمَ المسلمون أَموالَهم وسِلاحَهُم. ثمَّ سار حتَّى نزل على طَنْجَة فَلَقِيَهُ بَطْرِيقٌ مِن الرُّومِ اسمُه يليان، فأَهْدَى له هَدِيَّةً حَسنةً ونزَل على حُكمِه، ثمَّ سأله عن الأندلُسِ فعَظُمَ الأمرُ عليه، فسأله عن البَرْبَر، فقال: هم كَثيرون لا يَعلَم عددَهُم إلَّا الله، وهم بالسُّوسِ الأَدْنى، وهم كُفَّارٌ لم يَدخلوا في النَّصرانيَّة، ولهم بَأسٌ شَديدٌ. فسار عُقبةُ إليهم نحوَ السُّوسِ الأَدْنى، وهي مَغرِبُ طَنْجَة، فانتهى إلى أوائلِ البَرْبَر، فلقوه في جَمعٍ كثيرٍ، فقَتَلَ فيهم قَتلًا ذَريعًا، وبعَث خَيْلَه في كُلِّ مكانٍ هربوا إليه، وسار هو حتَّى وصَل إلى السُّوسِ الأقصى، وقد اجتمع له البَرْبَر في عالمٍ لا يُحْصَى، فلَقِيَهم وقاتَلهُم وهَزمَهُم، وقَتَلَ المسلمون فيهم حتَّى مَلُّوا وغَنِموا منهم وسَبَوْا سَبْيًا كثيرًا، وسار حتَّى بلَغ ماليان ورأى البَحرَ المُحيطَ، فقال: يا رَبِّ، لولا هذا البَحرُ لمَضيْتُ في البِلادِ مُجاهدًا في سَبيلِك. ثمَّ عاد فنَفَرَ الرُّومُ والبَرْبَر عن طَريقِه خَوفًا منه، فلمَّا وصَل إلى مدينة طُبْنَة أَمَرَ أصحابَه أن يَتقدَّموا فَوْجًا فَوْجًا ثِقَةً منه بما نال مِن العَدُوِّ، وأنَّه لم يُبْقِ أحدًا يَخشاهُ، وسار إلى تَهُوذَة لِيَنظُرَ إليها في نَفَرٍ يَسيرٍ، فلمَّا رآه الرُّومُ في قِلَّةٍ طَمِعوا فيه، فأغلقوا بابَ الحِصْنِ وشَتَموهُ وقاتَلوهُ وهو يَدعوهُم إلى الإسلامِ فلم يَقبَلوا منه.
أمرَ محمَّدُ بنُ سليمان- الذي ولَّاه المكتفي قتالَ القرامطةِ- بمناهضةِ صاحِبِ الشامة القرمطيِّ الحسين بن زكرويه - المُدَّعي أنَّه أحمد بن عبد الله- فسار إليه في عساكِرِ الخليفة، حتى لَقُوه وأصحابَه بمكان بينهم وبين حماة اثنا عشرَ ميلًا، فقَدَّمَ القرمطيُّ أصحابَه إليهم، وبقِيَ في جماعةٍ مِن أصحابه، معه مالٌ كان جمعه، وسوادُ عَسكرِه، والتحمت الحربُ بين أصحاب الخليفةِ والقرامطة، واشتَدَّت وانهزمت القرامطةُ وقُتِلوا كلَّ قِتلةٍ، وأُسِرَ مِن رجالهم بشَرٌ كثير، وتفَرَّق الباقون في البوادي، وتَبِعَهم أصحابُ الخليفة،فلما رأى صاحِبُ الشامة ما نزل بأصحابِه، حمَّلَ أخًا له يكنَّى أبا الفضلِ مالًا، وأمره أن يلحَقَ بالبوادي إلى أن يظهَرَ بمكانٍ فيسيرَ إليه، ورَكِبَ هو وابنُ عمه المسمى بالمَدَّثر، والمطوق صاحبه، وغلام له رومي، وأخذ دليلًا وسار يريدُ الكوفة عرضًا في البريَّة، فانتهى إلى الداليَّة مِن أعمالِ الفُرات، وقد نفِدَ ما معهم من الزادِ والعَلَف، فوجَّه بعضَ أصحابه إلى الداليَّة المعروفة بدالية ابن طوق ليشتريَ لهم ما يحتاجونَ إليه، فدخلها فأنكروا زيَّه، فسألوه عن حالِه فكتَمَه، فرفعوه إلى متولِّي تلك الناحية الذي يُعرفُ بأبي خبزة خليفةِ أحمد بن محمد بن كشمرد، فسأله عن خبَرِه، فأعلمه أنَّ صاحِبَ الشامة خلْفَ رابيةٍ هناك مع ثلاثةِ نفَرٍ، فمضى إليهم وأخَذَهم، وأحضرهم عند ابنِ كشمرد، فوجَّهَ بهم إلى المكتفي بالرقَّةِ، ورجعت الجيوشُ مِن الطلب، وفي يوم الاثنين لأربعٍ بَقِينَ من المحرم أُدخِلَ صاحِبُ الشامة الرقَّة ظاهرًا على فالجٍ- وهو الجملُ ذو السَّنامينِ- وبين يديه المدَّثِّر والمطوق؛ وسار المكتفي إلى بغدادَ ومعه صاحبُ الشامة وأصحابُه، وخلَّفَ العساكِرَ مع محمد بن سليمان، وأُدخل القرمطيُّ بغدادَ على فيلٍ، وأصحابُه على الجمل، ثم أمرَ المكتفي بحَبسِهم إلى أن يَقدَمَ محمَّد بن سليمان، فقَدِمَ بغداد، وقد استقصى في طلَبِ القرامطة، فظَفِرَ بجماعةٍ من أعيانهم ورؤوسِهم، فأمر المكتفي بقَطعِ أيديهم وأرجُلِهم، وضَرْبِ أعناقهم بعد ذلك، وأُخرِجوا من الحبس، وفُعِلَ بهم ذلك، وضُرِبَ صاحب الشامة مائتي سوطٍ، وقُطِعَت يداه، وكُوِيَ فغُشِيَ عليه، وأخذوا خشبًا وجعلوا فيه نارًا ووضعوه على خواصِرِه، فجعل يفتَحُ عينه ويُغمِضُها، فلما خافوا موتَه ضربوا عنُقَه، ورفعوا رأسَه على خشبة، فكبَّرَ الناس لذلك، ونُصِبَ على الجِسرِ.
حضر لمصر في هذه السنة جاك بن ملك قبرص بعد أن توفِّيَ والده ونصبوا على عرش قبرص أخته عوضًا عنه، قيل: لأنه ولَدُ زنا، وقيل غير ذلك، ثم بقي في مصرَ على أمل أن يوليه السلطان عرش قبرص, وحضر كذلك جماعة من قبرص نيابة عن أخته وهي تطلب كذلك أن تبقى هي الملكة, وفي يوم الثلاثاء سادس شعبان وقع في مصر أمرٌ شنيع بسبب هذا الأمر، وهو أن السلطان جمع أعيان الفرنج القبارصة في الملأ بالحوش السلطاني، وأراد بقاء الملكة صاحبة قبرص على عادتها، وخلَعَ على قصَّادها أعيان الفرنج، واستقَرَّ تغري بردي الطياري مُسفرها، وعلى يده تقليدُها وخِلعتُها، وكان الفرنجي جاك أخوها حاضر الموكب، وقد جلس تحت مقدمي الألوف، فعز عليه ولاية أخته وإبقاؤها على ملك الأفقسية من جزيرة قبرص مع وجوده، فقام على قدميه واستغاث وتكلَّم بكلام معناه أنه قد جاء إلى مصر، والتجأ إلى السلطان، ودخل تحت كنَفِه، وله عنده هذه المدة الطويلة، وأنه أحقُّ بالملك من أخته، وبكى، فلم يسمع السلطان له، وصمَّم على ولاية أخته، وأمره بالنزول إلى حيث هو سكَنُه، فما هو إلا أن قام جاك وخرج من باب الحوش الأوسط، ثم خرج بعده أخصامُه حواشي أخته، وعليهم الخِلَعُ السلطانية، فمَدَّت الأجلاب أيديها إلى أخصام جاك من الفرنج، وتناولوهم بالضربِ والإخراق، وتمزيق الخِلَع، واستغاثوا بكلمة واحدة: أنهم لا يريدون إلا تولية جاك هذا مكان والِدِه، وعظُمَت الغوغاء، فلم يسع السلطان إلا أن أذعن في الحال بعزلِ الملكة وتولية جاك، فتولى جاك على رغم السلطانِ، بعد أن أمعن المماليك الأجلاب في سبِّ الأمير بردبك الدوادار الثاني، وقالوا له: أنت إفرنجي وتحامي للفرنج، فاستغاث بردبك، ورمى وظيفة الدوادارية، وطلب الإقالة من المشي في الخدمة السلطانية، فلم يسمع له السلطان، وفي الحال خُلِعَ على جاك، ورسم بخروج تجريدة من الأمراء إلى غزو قبرص، تتوجَّهُ مع جاك إلى قبرص، ثم في يوم الثلاثاء السابع عشر شوال سافر المجاهدون في بحر النيل إلى ثغر دمياط ومعهم جاك هذا ليساعدوه على تولي الملك مكان أخته، ثم في يوم الجمعة الثالث والعشرين محرم من السنة التالية حضر البعض من هناك وأخبر أنهم ساروا على ظهر البحر الملح يريدون السواحل الإسلامية، فهبت ريح عظيمةٌ شتَّتَت شملهم، وتوجهوا إلى عدة جهات بغير إرادة، وترك بجزيرة جماعة من المماليك السلطانية ومماليك الأمراء قوة لجاك صاحب قبرص.
هو عبد الله بن أحمد بن الوزير، وزير الإمام يحيى حميد الدين، وهو ثائِرٌ من دهاة اليمن وأعيانها وشجعانها، من أسرة علوية النسب هاشمية, ومن عُلَماء الزيدية من أهل صنعاء. ولد سنة 1302هـ بقرية بيت السيد، ودرس بهجرة بيت الوزير. كان من مستشاري الإمام يحيى حميد الدين وثقاته، أرسله سنة 1343هـ على رأس جيش لإخضاعِ جموعٍ مِن العصاة في الجوف شمال صنعاء، ووجَّهه إلى التهائم، فاستسلمت له باجل والحُدَيدة، وضبط موانئَ ابن عباس والصليف واللحية وميدي، وأرسله الإمام يحيي سفيرًا عنه إلى الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1353هـ فعاد بمعاهدة الطائف، وحجَّ في آخر هذه السنة التي حدثت فيها مؤامرة بعض اليمانيين لاغتيال الملك عبد العزيز. كانت له إمارةُ الحُدَيدة بضع سنوات، فاستقدمه الإمام يحيى إلى صنعاء فجعله عنده بمكانةِ رئيس الوزراء فاتَّسع نفوذه بين زعماء اليمن، من علماء وقواد وأمراء وقضاة، ولما مَرِض الإمام يحيى طَمِعَ في الملك، فاتصل ببعض الناقمين، فدبر له من قتله في ظاهر صنعاء سنة 1367 هـ، وأبرق إلى ملوكِ العرب ورؤسائهم يخبرُهم بأن الإمام يحيى قد مات وأنَّ الإمامة عُرِضَت عليه فاعتذر، ثمَّ اضطرَّه ضَغطُ الأمة إلى قبولها، وأنَّه نُصِّب إمامًا شرعيًّا وملكًا دستوريًّا، فارتاب ملوك العرب، فتريَّثوا في قَبول دعواه حتى انجلى لهم الأمرُ أن الإمام يحيى مات مقتولًا وأنَّ دَمَه في عنق ابن الوزير. وكانت البيعةُ قد عُقِدَت له في قصر غمدان، وتلقَّب بالإمام الهادي إلى الله، وألَّف مجلسا للشورى من ستين فقيهًا، جعل سيف الحق إبراهيم ابن الإمام يحيى رئيسًا له، وأرسل إلى سيف الإسلام أحمد- وهو كبير أبناءِ الإمام يحيى ووليُّ عهده- يدعوه إلى البيعة، ويهَدِّده إن تخلف. وكان سيف الإسلام أحمد في حجَّة يومئذ، فلم يجِبِ ابن الوزير، ودعا إلى نفسِه وإلى الثأرِ لأبيه، وعجز ابنُ الوزير عن إحكام أمرِه، فزحفت القبائِلُ على صنعاء تسلبُ وتنهَبُ. واعتصم هو بغمدان، وانتشرت الفوضى. وأبرق إلى ملوكِ العرب يستنصِرُهم لكِنَّهم لم يجيبوه، وما هي إلا 24 يومًا مدة ابن الوزير في الإمامة والملك (18 فبراير- 14 مارس 1948) حتى كان أنصار الإمام أحمد بن يحيى في قصر غمدان، يعتَقِلون ابن الوزير ومن حوله. وحملوا إلى حجة؛ حيث أمر الإمام أحمد بقتله وقتل وزيرِ خارجيته الكبسي، فقُتِلا بالسيف في صبيحة الخميس 29 جمادى الأولى 1367هـ