اجتَمَعت عَسكَرُ أتابك زنكي، صاحِبِ حَلَب وحَماة، مع الأميرِ أسوار نائِبِه بحَلَب، وقَصَدوا بلدَ الفِرنجِ على حين غفلةٍ منهم، وقَصَدوا أعمالَ اللاذقيَّة بَغتةً، ولم يتمَكَّنْ أهلُها مِن الانتقالِ عنها والاحترازِ، فنَهَبوا منها ما يزيدُ عن الوَصفِ، وقتلوا وأسَروا وفعلوا في بلدِ الفِرنجِ ما لم يَفعَلْه غَيرُهم، وكان الأسرى سبعةَ آلافِ أسيرٍ ما بين رجُلٍ وامرأةٍ وصَبيٍّ، ومِئة ألفِ رأسٍ مِن الدوابِّ ما بينَ فَرَسٍ وبَغلٍ وحِمارٍ وبَقَرٍ وغَنَم، وأما ما سوى ذلك مِن الأقمِشةِ والعَينِ والحُلِيِّ فيَخرُجُ عن الحَدِّ، وخَرَّبوا بلدَ اللاذقيَّة وما جاورها ولم يَسلَمْ منها إلَّا القليلُ، وخرجوا إلى شيزر بما معهم من الغنائِمِ سالِمينَ، مُنتصَفَ رَجَب، فامتلأ الشامُ مِن الأُسارى والدوابِّ، وفرح المُسلِمونَ فَرَحًا عظيمًا، ولم يَقدِرْ الفِرنجُ على فِعلِ شَيءٍ مُقابِلَ هذه الحادثة؛ عَجْزًا ووَهْنًا.
لَمَّا انتهى مَلِكُ الرُّومِ مِن احتِلالِ بزاعةَ وغَدْره بأهلِها، ارتحل إلى حلَب ونَزَل على قويق (نهر بحلب) فزحف المَلِكُ بجَيشِه ومعه الفرنجُ الذين بساحل الشام، على حَلَب من الغد في خَيلِهم ورَجِلِهم، فخرج إليهم أحداثُ حَلَب، فقاتلوهم قتالًا شَديدًا، فقُتِلَ مِن الرُّومِ وجُرِحَ خَلقٌ كَثيرٌ، وقُتِلَ بِطْريقٌ جَليلُ القَدرِ عندهم، وعادوا خاسرينَ، وأقاموا ثلاثةَ أيَّامٍ فلم يَرَوا فيها طَمَعًا، فرحلوا إلى قلعةِ الأثارب، فخاف مَن فيها من المُسلِمينَ، فهربوا عنها تاسِعَ شَعبانَ فمَلَكَها الرومُ وتَرَكوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ومعهم جمعٌ مِن الروم يَحفَظونَهم ويَحمُونَ القلعةَ وساروا، فلمَّا سَمِعَ الأميرُ أسوار بحَلَب ذلك رحل فيمن عنده من العسكَرِ إلى الأثارب، فأوقع بمَن فيها من الروم، فقتَلَهم، وخَلَّص السَّبيَ والأسرى وعاد إلى حَلَب.
بدأت سلسلة من المشاورات الثنائية بين مصر من جانب، وممثِّلي كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية والأردن واليمن من جانب آخرَ، وهي المشاورات التي أسفرت عن تبلور اتجاهين رئيسين بخصوص موضوع الوحدة العربية: الاتجاه الأول يدعو إلى ما يمكِنُ وصفه بالوَحدة الإقليمية الفرعية وقوامها سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب. والاتجاه الثاني يدعو إلى نوعٍ أعَمَّ وأشمل من الوحدة يظلِّلُ عموم الدول العربية المستقلة، وإن تضمَّنَ هذا الاتجاه بدوره رأيين فرعيين: أحدهما يدعو لوحدة فيدرالية أو كونفدرالية بين الدول المعنية، والآخر يطالب بصيغةٍ وسط تحقِّقُ التعاون والتنسيق في سائر المجالات وتحافِظُ في الوقت نفسه على استقلال الدول وسيادتها. وعندما اجتمعت لجنةٌ تحضيرية من ممثلين عن كلٍّ مِن سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر واليمن (بصفة مراقب) في الفترة 25/9 إلى 7/10/ 1944م رجحت الاتجاه الداعي إلى وحدة الدول العربية المستقلة بما لا يمَسُّ استقلالها وسيادتها. كما استقرت على تسمية الرابطة المجسِّدة لهذه الوحدة بـ "جامعة الدول العربية" وآثرَتْه على مسمى "التحالف" و"الاتحاد". وعلى ضوء ذلك تم التوصلُ إلى بروتوكول الإسكندرية الذى صار أوَّلَ وثيقة تخصُّ الجامعة، والذي نص على المبادئ الآتية: - قيام جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلةِ التي تقبَلُ الانضمام إليها، ويكون لها مجلِسٌ تمثل فيه الدول المشتركة في الجامعة على قدم المساواة. مهمةُ مجلس الجامعة هي: مراعاة تنفيذ ما تبرِمُه الدول الأعضاء فيما بينها من اتفاقياتٍ، وعَقدُ اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها، والتنسيق بين خططها السياسية تحقيقًا للتعاون فيما بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكِنة، والنظر بصفةٍ عامة في شؤون البلاد العربية. قرارات المجلِس مُلزِمة لِمن يقبلُها فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلافٌ بين دولتين من أعضاء الجامعة، ويلجأ الطرفان إلى المجلسِ لفَضِّ النزاع بينهما. ففي هذه الأحوال تكون قراراتُ المجلس مُلزِمة ونافذة. لا يجوزُ الالتجاء إلى القوة لفَضِّ المنازعات بين دولتين من دول الجامعة، كما لا يجوزُ اتِّباع سياسة خارجية تضرُّ بسياسة جامعة الدول العربية، أو أية دولة من دولها. يجوزُ لكل دولة من الدول الأعضاء بالجامعة أن تعقِدَ مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقاتٍ خاصةً لا تتعارَضُ مع نصوص هذه الأحكام وروحها. وأخيرًا الاعترافُ بسيادة واستقلال الدول المنظمة إلى الجماعة بحدودها القائمة فعلًا. كما اشتمل البروتوكول على قرار خاص بضرورة احترام استقلال لبنان وسيادته، وعلى قرارٍ آخَرَ باعتبار فلسطين ركنًا هامًّا من أركان البلاد العربية، وحقوق العرب فيها لا يمكن المساسُ بها من غير إضرارٍ بالسلم والاستقلال في العالم العربي، ويجِبُ على الدول العربية تأييدُ قضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيقِ أمانيهم المشروعة، وصون حقوقهم العادلة!! وأخيرًا نص في البروتوكول على أن (تُشكَّل فورًا لجنةٌ فرعية سياسية من أعضاء اللجنة التحضيرية المذكورة للقيام بإعداد مشروع لنظام مجلس الجامعة، ولبحث المسائل السياسية التي يمكن إبرامُ اتفاقيات فيها بين الدول العربية) ووقع على هذا البروتوكول رؤساءُ الوفود المشاركة في اللجنة التحضيرية، وذلك في 7/10/1944 باستثناء السعودية واليمن اللتين وقعتاه في 3/1/1945 و5/2/1945 على التوالي بعد أن تمَّ رفعُه إلى كلٍّ من الملك عبد العزيز آل سعود، والإمام يحيى حميد. ولقد مثَّلَ هذا البروتوكول الوثيقةَ الرئيسية التي وُضِع على أساسها ميثاقُ جامعة الدول العربية، وشارك في إعداده -أي الميثاق- كلٌّ من اللجنة السياسية الفرعية التي أوصى بروتوكول الإسكندرية بتشكيلِها، ومندوبي الدول العربية الموقِّعين على بروتوكول الإسكندرية، مضافًا إليهم مندوب عام كلٍّ من السعودية واليمن، وحضر مندوب الأحزاب الفلسطينية كمراقب. وبعد اكتمال مشروع الميثاق كنتاج لستة عشر اجتماعًا عقدتها الأطراف المذكورة بمقَرِّ وزارة الخارجية المصرية في الفترة بين 17/2 و3/3/1945 أُقِرَّ الميثاق بقصر الزعفران بالقاهرة في 19/3/1945 بعد إدخال بعض التنقيحات عليه. وفى 22/3/1945 تم التوقيعُ على ميثاق جامعة الدول العربية من قِبَل مندوبي الدول العربية عدا السعودية واليمن اللتين وقَّعتا على الميثاق في وقت لاحق. وحضر جلسة التوقيع ممثِّلُ الأحزاب الفلسطينية، وأصبح يوم 22 مارس من كل عامٍ هو يومَ الاحتفال بالعيد السنوي لجامعة الدول العربية.
بعدَ أن فَرَّ يزدجردُ مِن المدائنِ وسار بِاتِّجاهِ حُلوان، والْتَفَّ مَن الْتَفَّ حولَه خِلالَ مَسيرِه فأَمَّرَ عليهم مِهرانَ وأقاموا بجَلُولاء، وتَحَصَّنوا فيها، وحَفروا الخَنادِقَ حولَها، فبعَث سعدٌ إلى عُمَر يُخبِره بذلك، فأَمَرَهُ أن يُقيمَ بالمدائنِ، ويُرْسِل إليهم هاشمَ بن عُتبةَ بن أبي وَقَّاص، فسار إليهم هاشمٌ وحاصَرهُم، واشْتَدَّ القِتالُ، وكانت النَّجدات تَصِلُ إلى الطَّرفين حتَّى فتَح الله على المسلمين، وقد قتَلوا مِن الفُرْسِ الكثيرَ.
هو محمَّدُ بن مُسلِم بن عُبيدِ الله بن شِهاب الزُّهري، أوَّلُ مَن دَوَّنَ الحَديثَ، أَحدُ كِبارِ الحُفَّاظ والفُقَهاء، حَدَّث عن عَددٍ مِن الصَّحابة كَأَنَسٍ وابنِ عُمَر، وأَرسَل عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَحاديثَ كَثيرَة، كان مِن مَشاهير القُرَّاء، له مُؤَلَّفات في المَغازي والتَّاريخ والقُرآن، اسْتَقَرَّ في الشَّام وبَقِيَ إلى أن قِيلَ ليس في الدُّنيا له نَظير، تُوفِّي في قَريَةِ شَغْب أوَّل حُدودِ فِلَسطين مع الحِجاز، فرَحِمَه الله تَعالى وجَزاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خَيرًا.
كان أبو الخَطَّار لمَّا بايَعَ وُلاةَ الأندَلُس مِن قَيسٍ قد قال شِعرًا وعَرَّض فيه بِيَومِ مَرْج راهِط، وما كان مِن بَلاءِ كَلْبٍ فيها مع مَرْوان بن الحَكَم، وقِيام القَيْسِيِّين مع الضَّحَّاك بن قَيسٍ الفِهري على مَرْوان, فلمَّا بَلَغ شِعرُه هِشامَ بن عبدِ الملك عَلِم أنَّه رَجلٌ مِن كَلْبٍ، وكان هِشام قد استَعمَل على أفريقيا حَنضَلة بن صَفوان الكَلْبي سَنَة أربع وعشرين ومائة، فكَتَب إليه هِشامٌ أن يُوَلِّي الخَطَّارَ الأندَلُس، فوَلَّاه وسَيَّرهُ إليها.
أجمع أهلُ القصيمِ عدا بريدة والرس والتنومة على نقضِ عَهدِهم مع الدرعية، وأعلنوا الحربَ ضِدَّها، وتزعمت مدينةُ عنيزة هذا العصيانَ، وتعاهدوا أنَّ كلَّ أهلِ بلدٍ يقتلون في يومٍ محدَّدٍ مَن عندهم مِن الدعاةِ والمعلِّمين الذين أوفدَتْهم الدرعية للإرشادِ, وأرسلوا إلى صاحِبِ الأحساءِ سعدون بن عريعر يخبرونَه بأمرهم ويستحِثُّونه للقدومِ عليهم, فاستنفر في الحالِ العربان، فلما قرُبَ من القصيم قام كلُّ أهلِ بلدٍ وقتلوا مَن عندَهم من المعلِّمين والدُّعاة.
قَدِم الإمامُ الحافظ المتقِن قاضي قضاة الإسلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مِن مِصرَ على الإمام تركي بن عبد الله بعد أن بَقِيَ في مصر 9 سنوات منذ أن نفاه إليها إبراهيم باشا عام 1233، وكان معه ابنه عبد اللطيف صغيرًا, ففرح الإمامُ تركي به وأكرمه، واغتبط به المسلمون الخاصُّ والعامُّ، وبذل الشيخُ مِن نفسه للطالبين، فانتفع بعِلمِه كثيرٌ مِن المستفيدين.
الشَّيخُ عبدُ المَجيدِ الزِّندانيُّ مُؤَسِّسُ كُلٍّ مِن جامعةِ الإيمانِ باليَمَنِ، والهيئةِ العالميَّةِ للإعجازِ العِلميِّ في القرآنِ والسُّنةِ في مكَّةَ المكَرَّمةِ، كان -رحمه اللهُ- رئيسَ مجلِسِ شُورى حزبِ التَّجمُّعِ اليَمَنيِّ للإصلاحِ، تُوفِّي في إسطنبول، عن عُمرٍ ناهَز اثنين وثمانين عامًا، ودُفِن في إسطنبول بعدَ الصَّلاةِ عليه في مَسجِدِ السُّلطانِ محمَّد الفاتِح بحُضورِ الرَّئيسِ التُّركيِّ رَجَب طَيِّب أردوغان وعَدَدٍ مِنَ السِّياسيِّينَ والعُلَماءِ المُسلِمين، وجموعٍ مِنَ المُصَلِّين من مختَلِفِ الجِنسيَّاتِ.
هو العلَّامة فخر الدين, إمام الدنيا في عصره، أبو المعالي وأبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي القرشي التيمي البكري، الطبرستاني الأصل, الرازي المعروف بالفخرِ الرازي، ويقال له خطيبُ الريِّ، الفقيهُ الشافعي، المفسِّر المتكَلِّم, صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولين وغيرهما، أحد فقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار، له نحو من مائتي مصنَّف. ولد سنة 543, وقيل سنة أربعة وأربعين. حادَّ الذهن، كثير البراعة، قويَّ النظر في صناعة الطب، عارفًا بالأدب، له شعر بالفارسي والعربي، وكان ضخمَ البدن ربْعَ القامة، كبير اللحية، في صوته فخامة. اشتغل على والده الإمام ضياء الدين عمر، وبعد وفاة والده قصد الكمال السمناني، واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم، فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والعقيدة، فأُخرِجَ من البلد، فقصد ما وراء النهر، فجرى له أيضًا ما جرى بخوارزم، فعاد إلى الريِّ، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وله بنتان، ولفخر الدين ابنان، فمَرِضَ الطبيب فزوج بنتيه بابني الفخر، ولما مات الطبيب حصل الفخر على جميع أموالِه". وقد كان معظَّمًا عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء، والأمراء، والفقراء والعامة، وله في الوعظِ مرتبةٌ عالية يعظ باللسانين الفارسي والعربي، وكان يلحقه الوجدُ حالَ وعظه، ويحضُرُ مجلِسَه أرباب المقالات والمذاهب ويسألونه. ورجع بسببِه خلق كثير من الكرَّاميَّة وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقَّب في هراة بشيخ الإسلام. وقد وقع بينه وبين الكرَّاميَّة وقائع في أوقات متفرقة، وكان يبغضهم ويبغضونه، ويبالغون في الحطِّ عليه، ويبالغ هو أيضًا في ذمهم، وكان مع غزارة علمِه في فن الكلام يقول: من لزم مذهبَ العجائِز كان هو الفائز، وقد قيل في وصيته عند موته أنَّه رجع عن مذهب الكلامِ فيها إلى طريقةِ السَّلَف وتسليم ما ورد على وجهِ المراد اللائقِ بجلالِ الله سبحانه، وقد كان يصحب السلطانَ ويحب الدنيا ويتَّسِعُ فيها اتساعًا عظيمًا، حتى قيل: ملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكًا من الترك، وحشم وتجمل زائد، وعلى مجلسه هيبة شديدة. وليس ذلك من صفة العلماء؛ ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، كما قامت عليه شناعات عظيمةٌ بسبب كلمات كان يقولها. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي، وأبو شامة: "اعتنى الفخرُ الرازي بكتب ابن سيناء وشَرحِها. وكان يعظ وينال من الكرَّامية، وينالون منه سبًّا وتكفيرا، وقيل: إنهم وضعوا عليه من سقاه السمَّ فمات، وكانوا يرمونه بالكبائر. ولا كلامَ في فضله، وإنما الشناعاتُ قائمة عليه بأشياء؛ منها: أنه قال: قال محمد التازي، وقال محمد الرازي، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه، والتازي: هو العربي- وقيل كان يقول محمد البادي يعني العربي يريد به النبيَّ صلى الله عليه وسلم نسبة إلى البادية. ومنها أنه كان يقرر مسائل الخصوم وشبههم بأتمِّ عبارة، فإذا جاء بالأجوبة، قنع بالإشارة. ولعله قصد الإيجاز، ولكن أين الحقيقة من المجاز", ومن مصنفاته: وتفسيره الكبير في اثنتي عشرة مجلدة كبار سماه " "فتوح الغيب" أو "مفاتيح الغيب". وفسر الفاتحة في مجلد مستقل. وشرح نصف "الوجيز" للغزالي. وله كتاب " المطالب العالية " في ثلاثة مجلدات، ولم يتمه، وهو من آخر تصانيفه، وله كتاب "عيون الحكمة " فلسفة، وكتاب في الرمل، وكتاب في الهندسة، وكتاب " الاختبارات العلائية " فيه تنجيم، وكتاب " الاختبارات السماوية " تنجيم، وكتاب " الملل والنحل "، وكتاب في النبض، وكتاب " الطب الكبير "، وكتاب " التشريح " لم يتمه، وصنف ترجمة الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافَق عليها، ويُنسَب إليه أشياء عجيبة، وغيرها من المصنفات وهي كثيرة. قال ابن خلكان: "وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفُه في البلاد ورُزِقَ فيها سعادة عظيمة؛ فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتبَ المتقدمين، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبِه، وأتى فيها بما لم يُسبَق إليه". قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة في " تاريخه:"انتشرت في الآفاق مصنفات فخر الدين وتلامذته، وكان إذا ركب مشى حوله نحو ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء، وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه، وكان شديدَ الحرص جدًّا في العلوم الشرعية والحكمية، وكان طلاب العلم يقصدونَه من البلاد على اختلاف مطالبِهم في العلوم وتفنُّنِهم، فكان كلٌّ منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه منه. قرأ الحكمة على المجد الجيلي بمراغة، وكان المجد من كبار الفضلاء وله تصانيف. قلت (الذهبي): يعني بالحكمة: الفلسفة". ومن تلامذته مصنف " الحاصل " تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي، وشمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي، والقاضي شمس الدين الخويي، ومحيي الدين قاضي مرند, ولَمَّا أثرى الفخر الرازي، لازم الأسفارَ والتجارة، وعاملَ شهاب الدين الغوري في جملةٍ من المال، ومضى إليه لاستيفاء حقِّه، فبالغ في إكرامه، ونال منه مالًا طائلًا، ثم اتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتبِ، ولم يبلغ أحد منزلتَه عنده, وكان الفخر الرازي خطيبَ الري، وكان أكثَرُ مُقامه بها، وتوجه إلى خوارزم ومرض بها، وامتد مرضه أشهرًا، وتوفي يوم عيد الفطر بهراة بدار السلطنة. وكان علاء الملك العلوي وزير خوارزم شاه قد تزوج بابنته, ومن كلام فخر الدين قال: " فاعلموا أنني كنت رجلًا محبًّا للعلم، فكنت أكتبُ في كل شيء شيئًا؛ لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقًّا أو باطلًا، ولقد اختبرت الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفيةَ، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآنِ؛ لأنَّه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنَعُ عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات؛ فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءتِه عن الشركاء في القِدَم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقولُ به، وألقى الله به. وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح، المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنَّك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مدَّ به قلمي، أو خطر ببالي فأستشهد وأقول: إن علمتَ مني أني أردتُ به تحقيق باطل، أو إبطالَ حَقٍّ، فافعل بي ما أنا أهلُه، وإن علمتَ مني أني ما سعيتُ إلا في تقرير اعتقدت أنه الحق، وتصورتُ أنه الصدق، فلتكن رحمتُك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهدُ المُقِلِّ، فأغثني وارحمني، واستر زلتي وامح حوبتي، وأقول: ديني متابعةُ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، وأمَّا الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالحِ دعائه، على سبيل التفَضُّل والإنعام، وإلَّا فليحذف القولَ السيئَ، فإني ما أردت إلا تكثير البحثِ، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله".
في هذه الحادثةِ العظيمةِ رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنبياءَ، ورأى سِدرةَ المُنتهى وغيرَ ذلك مِنَ الآياتِ العظيمةِ، وفيها فُرِضتْ الصَّلواتُ الخمسُ، وهو أمرٌ تتَّفِقُ عليه رِواياتُ الصَّحيحينِ، وقد كذَّبتْ قُريشٌ وقوعَ حادثةِ الإسراءِ والمِعراجِ، وهذا أمرٌ اتَّفقتْ عليه رِواياتُ الصَّحيحينِ أيضًا، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيتُني في الحِجْرِ وقُريشٌ تسألُني عن مَسْرايَ، فسألَتني عن أشياءَ مِن بيتِ المَقدسِ لم أُثْبِتْها، فكُرِبْتُ كُربةً ما كُرِبْتُ مِثلَهُ قَطُّ». قال: " فرفعهُ الله لي أنظرُ إليه، ما يسألوني عن شيءٍ إلَّا أنبأتُهم به، وقد رأيتُني في جماعةٍ مِنَ الأنبياءِ، فإذا موسى قائمٌ يُصلِّي، فإذا رجلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كأنَّه مِن رجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عيسى ابنُ مريمَ عليه السَّلامُ قائمٌ يُصلِّي، أقربُ النَّاسِ به شَبَهًا عُروةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقفيُّ، وإذا إبراهيمُ عليه السَّلامُ قائمٌ يُصلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ به صاحبُكم - يعني نَفْسَهُ - فحانتِ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُم، فلمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قال قائلٌ: يا محمَّدُ، هذا مالكٌ صاحبُ النَّارِ، فَسلِّمْ عليه، فالتفَتُّ إليه، فبدأَني بالسَّلامِ ".
كانت بنو تميمٍ قد اختَلَفت آراؤُهم أيَّامَ الرِّدَّةِ؛ فمنهم من ارتدَّ ومَنَع الزَّكاةَ، ومنهم من بَعَث بأموالِ الصَّدَقاتِ إلى الصِّدِّيقِ، ومنهم من توقَّف لينظُرَ في أمرِه، فبينما هم كذلك إذ أقبَلَت سَجاحُ بنتُ الحارِثِ بنِ سُوَيدِ بنِ عقفانَ التَّغلِبيَّةُ من الجزيرةِ، وهي من نصارى العَرَبِ، وقد ادَّعَت النبُوَّة، ومعها جنودٌ مِن قَومِها ومن التَفَّ بهم، وقد عزموا على غَزوِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، فلمَّا مَرَّت ببلادِ بني تميمٍ دَعَتْهم إلى أمرِها، فاستجاب لها عامَّتُهم، ثمَّ قَصَدَت بجنودِها اليمامةَ؛ لتأخُذَها مِن مُسَيلِمةَ بنِ حَبيبٍ الكَذَّابِ، فهابه قومُها، وقالوا: إنَّه قد استفحَلَ أمرُه وعَظُمَ، فلمَّا سَمِعَ بمَسيرِها إليه خافها على بلادِه، فبَعَث إليها يستأمِنُها ويضمَنُ لها أن يُعطيَها نِصفَ الأرضِ الذي كان لقُرَيشٍ لو عَدَلَتْ، وراسَلَها ليجتَمِعَ بها في طائفةٍ مِن قَوِمه، فركِبَ إليها في أربعينَ مِن قَومِه، وجاء إليها فاجتَمَعا في خيمةٍ، فلما خلا بها وعَرَض عليها ما عَرَض من نِصفِ الأرضِ، وقَبِلَت ذلك، ثمَّ انثَنَت راجعةً إلى بلادِها، وذلك حين بلَغَها دُنُوُّ خالدٍ مِن أرضِ اليمامةِ، فكَرَّت راجعةً إلى الجزيرةِ بَعدَما قَبَضَت من مُسَيلِمةَ نِصفَ خَراجِ أرضِه.
هو خَلَفُ بنُ عَبَّاس الزهراوي الأندلُسيُّ، طبيبٌ وعالمٌ وخبيرٌ بالأدويةِ المُفرَدة والمُرَكَّبة، وكان طبيبَ البَلاطِ في عهدِ الحُكمِ الثَّاني الأُمويِّ، كان مِن أهلِ الفَضلِ والدِّينِ والعِلمِ، وعِلمُه الذي سبَقَ عِلمَ الطِّبِّ, وله تصانيفُ مَشهورةٌ في صناعة الطب، أفضَلُها كتابُه الكبيرُ المعروف "بالزهراوي" وله كتابٌ كبيرٌ مَشهورٌ كبيرُ الفائدة، سمَّاه كتاب "التَّصريف لِمَن عجَزَ عن التَّأليف" في 30 جزءًا. ذكرَه ابنُ حَزمٍ وأثنى عليه، وقال: "ولئِنْ قُلنْا: إنَّه لم يُؤَلَّفْ في الطِّبِّ أجمَعُ منه للقَولِ والعمَلِ في الطبائِعِ، لَنَصْدُقنَّ". وكان أكبَرَ جرَّاحي زمانِه، وهو أوَّلُ مَن ألَّفَ في الجِراحةِ، وأوَّلُ مَن استعملَ رَبطَ الشِّريانِ بخَيطِ الحرير، له اهتمامٌ بجراحة العيونِ، اخترع كثيرًا من الأدواتِ الجراحيَّةِ، وكان له الفَضلُ في معرفة كيفيَّةِ جراحةِ كثيرٍ مِن العمَليَّات، وصناعة الأدواتِ المُساعدة، وكان بارعًا كذلك بصُنعِ العقاقيرِ والأدويةِ، تُرجِمَت كتُبُه، واقتَبَس منه أطبَّاءُ أوربَّا، وقد استفادوا مِن عِلمِه كثيرًا وخاصَّةً مُختَرعاتِه، بل إنَّ بَعضَ اختراعاتِه يُستعمَلُ إلى اليومِ كما هو، وبعضُها عُدِّلَ قليلًا بما يلائِمُ صناعاتِ اليوم، وقد اختُلِفَ في موتِه، والراجح موتُه في هذا العام عن 79 عامًا.
هو الحافِظُ المُجَوِّدُ العلَّامة، مُحَدِّثُ أصبهان، أبو بكرٍ أحمَدُ بنُ موسى بن مَردَوَيهِ بنِ فَوْرَك بن موسى بن جعفر، الأصبهاني، المؤرِّخُ المُفَسِّرُ، مِن أهل أصبهان. مولِدُه سنة323. ويقالُ له ابنُ مَردَوَيهِ الكبير؛ لِيُمَيَّزَ عن حَفيدِه المحدِّثِ العالِمِ أبو بكرٍ أحمَدُ بنُ مُحمَّد بن أحمد بن مردويه. له عِدَّةُ تصانيفَ، منها: "التفسير الكبير"، و"التاريخ"، و"الأمالي" "الثلاثمئة مجلس"، و"المسند"، وكتاب "المُستخرَج على صحيحِ البُخاري"، بعُلُوٍّ في كثيرٍ مِن أحاديثِ الكِتابِ، حتى كأنَّه لَقِيَ البُخاريَّ. قال الذهبيُّ عنه: "كان مِن فُرسانِ الحَديثِ، فَهِمًا يَقِظًا مُتقِنًا، كثيرَ الحَديثِ جِدًّا، ومن نظَرَ في تواليفِه، عَرَفَ مَحَلَّه مِن الحفظ". قال أبو موسى: سَمِعتُ أبي يحكي عمَّن سَمِعَ أبا بكر بنَ مَرْدَوَيه يقول: "ما كتبتُ بعد العَصرِ شيئًا قَطُّ، وعَمِيتُ قبلَ كُلِّ أحدٍ- يعني من أقرانِه، وسَمِعتُ أنَّه كان يُملي حِفظًا بعدما عَمِيَ. ثم قال: وسَمِعتُ الإمامَ إسماعيلَ يقول: لو كان ابنُ مَردَوَيه خُراسانيًّا، كان صِيتُه أكثَرَ مِن صِيتِ الحاكِمِ". مات عن سبعٍ وثمانين سنةً
لَمَّا توقَّفَ الحجُّ مِن العِراقِ عِدَّةَ سَنَواتٍ مُتَتالياتٍ خَوفًا مِن الأعرابِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، قَصَد النَّاسُ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ بنَ سبكتكين وقالوا له: أنت سُلطانُ الإسلامِ وأعظَمُ مُلوكِ الأرض، وفي كلِّ سَنةٍ تَفتَحُ مِن بلادِ الكُفرِ ما تُحِبُّه، والثَّوابُ في فَتحِ طَريقِ الحَجِّ أعظَمُ، وقد كان الأميرُ بَدرُ بنُ حسنويه، وما في أمرائِك إلَّا مَن هو أكبَرُ منه شأنًا، يُسَيِّرُ الحاجَّ بمالِه وتدبيرِه عشرينَ سَنةً، فتقَدَّمَ ابنُ سبكتكين إلى قاضيه أبي مُحمَّدٍ الناصحي بالتأهُّبِ للحَجِّ، ونادى في أعمالِ خُراسان بالحَجِّ، وأطلق للعَرَبِ ثلاثينَ ألفَ دينارٍ سَلَّمَها إلى النَّاصحيِّ المذكورِ غيرَ ما للصَّدَقاتِ، فحَجَّ بالنَّاسِ أبو الحَسَن ِالأقساسي، فلمَّا بلغوا فيدَ حاصَرَتْهم العرَبُ، فبذل لهم القاضي النَّاصحي خمسةَ آلافِ دينارٍ، فلم يَقنَعوا وصَمَّموا على أخذِ الحافي، فرَكِبَ رأسَهم جَمَّازُ بنُ عديٍّ، وقد انضم عليه ألفا رجُلٍ مِن بني نبهان، وأخذ بِيَدِه رمحًا وجال حولَ الحاجِّ، وكان في السَّمَرْقنديِّينَ غُلامٌ يُعرَفُ بابنِ عَفَّان، فرماه بسَهمٍ فسَقَط منه مَيِّتًا وهَرَب جَمعُه، وعاد الحاجُّ في سلامةٍ.