ثارت الأتراك بالمَلِك جلالِ الدَّولة البويهي ليأخُذوا أرزاقَهم، وأخرجوه من دارِه، ورسَموا عليه في المسجِدِ، وأُخرِجَت حريمُه، فذهب في اللَّيلِ إلى دار الشَّريفِ المرتضى فنزلها، ثمَّ اصطلحت الأتراكُ عليه وحَلَفوا له بالسَّمعِ والطاعة، وردُّوه إلى دارِه.
اقتَسَم أصحابُ الأطرافِ والرُّؤَساءُ حُكمَ بلادِ الأندلُسِ، وصاروا طوائِفَ مُتناحِرةً، فقُرطبةُ استولى عليها أبو الحَسَنِ بنُ جهور، وكان مِن وزراء الدَّولة العامريَّة، وبقِيَ كذلك إلى أن مات سنةَ خمسٍ وثلاثين وأربعِمِئَة، وقام بأمِرِ قُرطبةَ بَعدَه ابنُه أبو الوليد مُحمَّدُ بنُ جهور، وأمَّا إشبيليَّةُ فاستولى عليها قاضيها أبو القاسمِ مُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ عَبَّاد اللخمي. لَمَّا انقَسَمَت مملكةُ الأندلُسِ، شاع أنَّ المؤيَّدَ هشامَ بنَ الحَكَمِ الذي اختفى خبَرُه قد ظهر وسار إلى قلعةِ رباح، وأطاعه أهلُها، فاستدعاه ابنُ عَبَّاد إلى إشبيليَّة، فسار إليه وقام بنَصرِه، وأمَّا بطليوس فقام بها سابورُ الفتى العامريُّ، وتلقَّبَ سابور بالمنصورِ، ثم انتَقَلت من بعدِه إلى أبي بكر مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسلَمةَ، المعروفِ بابنِ الأفطس، وتلَقَّبَ بالمظَفَّر، وأصلُ ابنِ الأفطَسِ مِن بربر مِكناسة، وأمَّا طُلَيطِلةُ فقام بأمْرِها ابنُ يعيشَ، ثمَّ صارت إلى إسماعيلَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عامر بنِ ذي النون، وتلَقَّب بالظَّافِرِ بحَولِ الله، وأصلُه من البربَرِ، ثمَّ ملَكَ بعدَه ولَدُه يحيى بنُ إسماعيلَ، ثُمَّ أخَذَت الفِرنجُ منه طُلَيطِلةَ في سنة 477، وصار هو ببلنسيَّة، وأقام هو بها إلى أن قتَلَه القاضي ابنُ جحاف الأحنف. وأمَّا سَرقَسطة والثَّغرُ الأعلى، فصارت في يدِ مُنذِرِ بنِ يحيى، ثمَّ صارت سَرقَسطة وما معها بعدَه لوَلَدِه يحيى بنِ مُنذِر بن يحيى، ثم صارت لسُليمانَ بنِ أحمَدَ بنِ مُحمَّد بن هود الجذاميِّ، وتلقَّبَ بالمُستعين بالله، وأمَّا طرطوشة فوَلِيَها لَبيبُ بنُ الفتى العامريِّ. وأمَّا بلنسيَّة فكان بها المنصورُ أبو الحَسَنِ عبدُ العزيز المغافري، ثم انضاف إليه المريةُ، ثمَّ مَلكَ بعدَه ابنُه مُحمَّدُ بنُ عبدِ العزيز، ثم غَدَرَ به صِهرُه المأمونُ بنُ ذي النُّون، وأخَذَ المُلكَ مِن محمَّدِ بنِ عبدِ العزيز في سنة 457. وأمَّا السَّهلةُ فمَلَكَها عَبُّود بنُ رزين، وأصلُه بربري. وأمَّا دانية والجزائرُ فكانت بيَدِ المُوفَّقِ بنِ أبي الحُسَينِ مُجاهِد العامريِّ. وأمَّا مرسيَّةُ فوَلِيَها بنو طاهرٍ، واستقامت لأبي عبدِ الرَّحمنِ منهم، إلى أن أخَذَها منه المُعتَمِدُ بنُ عباد. ثمَّ عصى بها نائبُها عليه، ثمَّ صارت للمُلَثَّمين. وأمَّا المرية فمَلَكَها خيران العامريُّ، ثم ملك المريةَ بعدَه زُهَيرٌ العامريُّ، واتسَعَ مُلكُه إلى شاطبة، ثمَّ قُتِلَ وصارت مملكَتُه إلى المنصورِ عبدِ العزيز بن عبد الرَّحمنِ المنصورِ بنِ أبي عامر، ثمَّ انتقَلَت حتى صارت للمُلَثَّمينَ, وأمَّا غِرناطةُ فمَلَكَها حبوسُ بنُ ماكس الصِّنهاجيُّ, وأمَّا مالقة فمَلَكَها بنو عليِّ بنِ حَمُّود العَلَويُّ، فلم تَزَلْ في مَملكةِ العَلَويِّينَ يُخطَبُ لهم فيها بالخِلافةِ، إلى أن أخَذَها منهم باديسُ بنُ حبوس صاحِبُ غرناطة. فهذه صورةُ تَفَرُّقِ ممالكِ الأندلُسِ، بعد ما كانت مُجتَمِعةً لخُلَفاءِ بني أمَيَّةَ.
لما أوقع الطاغية صاحب قشتالة بالمسلمين في الزقاق، كثرت غاراته في بلاد المسلمين بالأندلس، وكثرت غاراتهم أيضًا على بلاد قشتالة، وكان ألفونسو قد قام بأمر أخيه دون، وكان عارفًا بالحروب والمكايد، شجاعًا، دَربًا، شديد البأس، فجمع لحرب المسلمين، ونزل على أشقيرة -تجاه مالقة - أول ذي الحجة، فلم يستنجد أبو الحجاج يوسف بن يوسف بن محمد بن إسماعيل بن نصر ابن الأحمر -صاحب غرناطة- عساكر فاس كما هي العادة، بل رأى أن في عسكره كفاية، وجهَّز أخويه محمدًا وعليًّا على عسكر الأندلس، وقد جمع أهل القرى بأسرها، وخرجوا من غرناطة في ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، ونزلوا على حصن أرشذونة -وهو على ستة أميال من أشقيرة- حتى تكاملت الجموع في الثامن والعشرين، ثم ساروا في ليلة التاسع والعشرين وعسكروا تجاه العدو، بسفح جبل المدرج، فما استقَرَّت، وقد أعجبتهم أنفسهم بهذه الدار حتى زحف العدو لحربهم، فثاروا لقتاله، وقد أعجبتهم أنفسهم، واغتروا بكثرتهم، وتباهوا بزينتهم، ولم يراقبوا الله في أمرهم، فما أحد إلا ومعه نوع من المعاصي كالخمر والأحداث، فلما اشتد القتالُ في الليل، انهزم العدو بعد ما قتل من المسلمين عشرة فرسان، ولما كان أول يوم من محرم سنة ثلاث عشر، نادى أخو السلطان في العسكر بالنفقة، وكانت نفقة السفر قد أُخِّرت عن وقتها؛ لئلا يأخذها العسكر ولا يشهدوا الحرب، وجُعِلت عند حضور الجهاد، فهَمَّ في أخذ النفقة، وإذا بالعدو وقد أقبل عند طلوع الشمس، فخرجت المطوعة وقاتلتهم، وأقام العسكر بأجمعهم لأخذ النفقة، وعلم العدو بذلك فرجعوا كأنهم منهزمين، والمطوعة تتبعُهم، وتنادي في العسكر: يا أكالين الحرامِ، العامةُ هزمت النصارى، وأنتم في خيامكم جلوس، فلما وصل العدو إلى معسكرهم وقفوا للحرب، وقد اجتمع جميع رجالة المسلمين طمعًا في الغنيمة، فإذا العدو وقد خندق على معسكره ورتَّب عليه الرماة، فسُقِط في أيديهم، ووقفوا إلى الظهر في حيرة، فخرج أمراء الطاغية عند ذلك من جوانب الخندق، وحملوا على المسلمين، فقتَلوا من قاتلهم، وأسروا من ألقى منهم سلاحه، حتى وصلوا مخيَّم المسلمين، فركب طائفة من بني مرين وبني عبد الواد، وقاتلوا على أطراف خيمهم قليلًا، وانهزموا هم وجميع أهل الأندلس، بحيث خرج أخوا السلطان بمن معهما مشاة إلى الجبل على أقدامهم، فأحاط العدو بجميع ما كان معهم، وأكثروا من القتل فيهم، وكانت عدة من قُتل من المعروفين من أهل غرناطة خاصة مائة ألف إنسان، سوى من لم يُعرَف، وسوى أهل أقطار الأندلس؛ بحرِها وبَرِّها، سهلها وجبلها؛ فإنهم عالم لا يحصيه إلا الله تعالى، وأقام النصارى ثلاثة أيام يتتبعون المسلمين، فيقتلون ويأسرون، وبعث الطاغية إلى أعماله يخبرهم بنصرته، فلما بلغ ذلك أهل أبدة وسبتة، وأهل حيان، خرجوا إلى وادي أش -وهو بيد المسلمين- ونزلوا قريبًا من حصن أرتنة، فاستغاث أهل الحصن بأهل غرناطة، فأمدوهم بعسكر، فصار النصارى إلى حصن مشافر، وقاتلوا أهله حتى أخذوا الربض، وشرعوا في تعليق الحصن، وإذا بعسكر غرناطة قد جاءهم في سابع المحرم، فأوقعوا بهم وقيعة شنعاء، أفنَوهم فيها، وأسروا منهم زيادة على ألف وخمسمائة، وعادوا إلى غرناطة بهم، فدخلوا في تاسعه، وبلغ ذلك الطاغية -وهو على حصار أشقيرة- فكف أصحابه عن الدخول بعدها إلى بلاد المسلمين، وأقام على الحصار ستة أشهر حتى ضَعُفت أحوال المسلمين بأشقيرة، ورفعوا كرائم أموالهم إلى حصنها، وتعلقوا به، فملك الطاغية المدينة بما فيها من الأزواد والأمتعة، ووقع مع هذا في المسلمين الوخم، فمات منهم جماعة كثيرة، فاضطرهم الحال إلى طلب الأمان؛ ليلحقوا ببلاد المسلمين بأموالهم فأمَّنهم ألفونسو على أن يخرجوا بما يطيقون حمله، فخرجوا بأجمعهم إلى معسكره، فوفى لهم، وجهز جميع المسلمين، وبعث من أوصلهم إلى غرناطة، فلم يفقد أحد منهم، ولا شراك نعل وأقام بأشقيرة من يثق به، وعاد عنها قافلًا إلى بلاده في أوائل جمادى الآخرة، فكانت هذه الحادثة من أشنع ما أصاب المسلمين بالأندلس!
بعد أن انتصر ملِكُ غرناطة أبو الوليد إسماعيل في موقعة ألبيرة قَوِيَ شأنُه أكثَرَ، فتعاقَبَت غزواتُه في أراضي النصارى وممتلكاتِهم، فزحف على مدينةِ بياسة الحصينة فحاصَرَها حتى استسلَمَت، ثمَّ استولى عَنوةً على مدينة مرتش وغَنِمَ منها الكثيرَ.
هو الفقيه الكبير، قاضي العراق، أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم - وهو بدري من السابقين المهاجرين- بن عبد العزى القرشي، ثم العامري. كان أبو بكر من علماء قريش، ولاه المنصور القضاء، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن صاحب النفس الزكية، وكان على صدقات أسد وطيء، فقدم على محمد بأربعة وعشرين ألف دينار، فلما قتل محمد، أُسر ابن أبي سبرة وسجن، ثم استعمل المنصور جعفر بن سليمان على المدينة، وقال له: إن بيننا وبين ابن أبي سبرة رحما، وقد أساء وأحسن، فأطلقه وأحسن جواره. وكان الإحسان أن عبد الله بن الربيع الحارثي قدم المدينة ومعه العسكر، فعاثوا بالمدينة، وأفسدوا. فوثب على الحارثي سودان المدينة والرعاع، فقتلوا جنده، وطردوهم، ونهبوا متاع الحارثي، ثم كسر السودان السجن، وأخرجوا ابن أبي سبرة حتى أجلسوه على المنبر، وأرادوا كسر قيده، فقال: ليس على هذا فوت، دعوني حتى أتكلم. فتكلم في أسفل المنبر، وحذرهم الفتنة، وذكرهم ما كانوا فيه، ووصف عفو المنصور عنهم، وأمرهم بالطاعة. فأقبل الناس على كلامه، وتجمع القرشيون، فخرجوا إلى عبد الله بن الربيع، فضمنوا له ما ذهب له ولجنده، ثم رجع ابن أبي سبرة إلى الحبس، حتى قدم جعفر بن سليمان، فأطلقه وأكرمه، ثم صار إلى المنصور، فولاه القضاء. قال ابن عدي: عامة ما يرويه أبو بكر غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث. قال ابن سعد: ولي القضاء لموسى الهادي، وهو ولي عهد، ثم ولي قضاء مكة لزياد بن عبيد الله. توفي ابن ابي سبرة ببغداد, وقد عاش ستين سنة، فلما مات، استقضي بعده القاضي أبو يوسف.
ارتحل زكرَوَيه من نهر المثنية يريد الحاجَّ، فبلغ السَّلمان، وأقام ينتَظِرُهم، فبلغت القافلةُ الأولى واقصةَ سابِعَ المحرَّم، فأنذرهم أهلُها وأخبَروهم بقرب القرامطة، فارتحلوا لساعتِهم، وسار القرامطةُ إلى واقصة، فسألوا أهلَها عن الحاجِّ، فأخبَروهم أنَّهم ساروا فاتَّهَمهم زكرويه، فقتل العلافةَ، وأحرق العلَف، وتحصَّن أهل واقصة في حِصنِهم، فحصرهم أيامًا ثم ارتحل عنهم نحو زبالة، ولقيَ زكرَوَيه القرمطيُّ قافلةَ الخراسانية بعُقبة الشيطان راجعينَ مِن مكة، فحاربهم حربًا شديدةً، فلما رأى شدةَ حَربِهم سألهم: هل فيكم نائبُ للسلطان؟ فقالوا: ما معنا أحَدٌ. قال: فلستُ أريدكم؛ فاطمأنُّوا وساروا، فلما ساروا أوقع بهم، وقتَلَهم عن آخِرِهم، ولم ينجُ إلَّا الشريد، وسَبَوا من النَّاسِ ما أرادوا وقَتَلوا منهم، وكتب من نجا من الحُجَّاج من هذه القافلةِ الثانية إلى رؤساءِ القافلة الثالثة من الحُجَّاج يُعلِمونهم ما جرى من القرامطة، ويأمرونَهم بالتحَذُّر، والعدولِ عن الجادَّة نحو واسط والبصرة، والرجوعِ إلى فيد والمدينةِ إلى أن تأتيَهم جيوش السلطان، فلم يسمعوا ولم يُقيموا، وسارت القرامطةُ مِن العَقَبة بعد أخذِ الحاجِّ، وقد طموا الآبار والبِرَك بالجِيَف، والأراب، والحجارة، بواقصة، والثعلبية، والعقبة، وغيرها من المناهِل في جميع طريقِهم، وأقام بالهيبر ينتظر القافلةَ الثالثة، فساروا فصادفوه هناك، فقاتَلَهم زكرويه ثلاثة أيام، وهم على غيرِ ماء، فاستسلموا لشدةِ العطش، فوضع فيهم السَّيفَ وقتلهم عن آخرهم، وجمع القتلى كالتَلِّ، وأرسل خلف المنهزمينَ مَن يبذلُ لهم الأمان، فلما رجعوا قتَلَهم، وكان نساء القرامطة يَطُفنَ بالماء بين القتلى يَعرِضْنَ عليهم الماء، فمن كلَّمَهنَّ قَتَلْنَه، فقيلَ إنَّ عدة القتلى بلغت عشرين ألفًا ولم ينجُ إلَّا من كان بين القتلى فلم يُفطَنْ له فنجا بعد ذلك، ومن هرب عند اشتغالِ القرامطة بالقتل والنهب، فكان من مات من هؤلاء أكثَرُ ممَّن سلم ومن استعبدوه، وكان مبلغُ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينارٍ.